عبد الناصر والدين١
يظهر ناصر هذه الأيام وكأنه كان حلم حياتنا. فقد استطاع لأول مرة في تاريخنا الحديث منذ محمد علي صياغة مشروعنا القومي، الذي تمثَّل في مبادئ الثورة الستة، والذي تحقق على مدى ثمانية عشر عامًا، فأعطى المنطقة واقعًا وكيانًا مناهضًا للاستعمار والصهيونية والرأسمالية، ومؤداه استقلال الإرادة الوطنية للشعوب وسيطرتها على وسائل الإنتاج، ومؤسسًا حركة عدم الانحياز التي أصبحت تمثل مستقبل العالم، تمده بقيمٍ جديدة في التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.
وبالرغم مما عاناه البعض منا أثناء تحقيق مشروعنا القومي، رغبةً في المزيد من العدالة الاجتماعية أو مطالبة منا بالمشاركة في صنع الوقار، وتأسيس نظام ثوري شعبي يساند القيادة، إلا أننا في هذه الأيام وبالمقارنة بما يحدث الآن، نعتبر معاناتنا القديمة وكأنها لا شيء بالنسبة لمآسينا الحالية وانقلابنا على أنفسنا، وإقامتنا مشروعًا مضادًّا يتحالف مع الاستعمار، ويستسلم للصهيونية، وتتشابك مصالحه مع الرأسمالية العالمية. أصبح كل من يقاوم الرأسمالية العالمية عميلًا للاشتراكية الدولية، وكل من يرفض الاستسلام للصهيونية مغامرًا رافضًا متاجرًا بالحروب، وكل من يناهض الاستعمار مأجورًا للمعسكر الاشتراكي ويعمل لحساب الشيوعية، وكل من يتحدث عن معاناة الجماهير كافرًا ملحدًا!
كما يظهر الدين لنا هذه الأيام وكأنه قد أصبح الدعامة الأولى للثورة المضادة نظرًا لغياب أي تنظيرٍ لها؛ فالطبقة الحاكمة التي بيدها المال والسلطة ليست في حاجةٍ إلى تنظير، بل وتدرك سذاجة المنظِّرين الجدد وسطحيتهم ونفاقهم وجبنهم، لم يبقَ إلا اللجوء إلى الدين لتدعيم الثورة المضادة وإضفاء الشرعية عليه؛ فالدين يدعو إلى التوازن بين الدنيا والآخرة وعلى الفقراء المحرومين ألا يشغلوا أنفسهم بهموم الدنيا؛ فالآخرة خيرٌ وأبقى. كما يدعو إلى التوازن بين الفرد والمجتمع، فعلى الأغنياء أن يقووا من فرديتهم وأنانيتهم ضد النزعات الاجتماعية. كما يدعو إلى التوازن بين العنصر المادي والعنصر الروحي، فعلى الفقراء أن ينعموا بالروح الباقية بدلًا من المادة الفانية التي يعكف عليها الأغنياء!
أصبح الدين في أيامنا مجموعة من الشعائر والطقوس، وإطالة اللحى، وتمتمة الشفاه، وتسبيل العينين، وبناء المساجد، وإنارة المآذن، والإعلان على الصلوات الخمس في أجهزة الإعلام، ولبس الحجاب حتى يحيد الشعور الديني عن البناء الاجتماعي ومظاهر الظلم والفساد وأشكال التسلط والطغيان. أصبح الدين في أيامنا دعوة إلى تطبيق الشرع، وإقامة الحدود، ووضع مادة في الدستور تجعل الشريعة مصدرًا أساسيًّا للتشريع، وإيقاف بيع المشروبات الروحية في شهر رمضان في الأماكن العامة على المصريين وحدهم دون العرب والأجانب تشجيعًا للسياحة! كما أصبح دعوة لتطبيق الحدود قطع اليد ورجم الزاني على صغار الناس وإفساح المجال للمضاربات والرشاوى والعمولات بلا حدود، وانتشار قيم الاستهلاك والانحلال وتجارة الرقيق الأبيض، وكلها مزايدات كلامية وتعمية على ما يدور في الواقع من اختلاس وحرائق ونهب لثروات الشعوب، وتبرئة للذمة للتستر على أسباب الجرائم الحقيقية في النظام الاجتماعي. أصبح الدين في أيامنا مجموعةً من العقائد النظرية يؤمن بها الإنسان، ولا ينتج عنها أثرٌ عملي في الحياة الاجتماعية، كل من خرج عليها يكون كافرًا، وذلك لمنع حرية الفكر والاجتهاد وحتى لا ينكشف المضمون الاجتماعي للعقيدة فيثور الناس. أصبح الدين شيئًا والسياسة شيئًا آخر، وعدنا إلى المقالة الإبليسية القديمة التي روَّج لها الاستعمار، ودَعت إليها الرجعية. أصبح الدين مجموعة من القيم السلبية مثل الصبر والرضا والقناعة والتسليم والمحبة تدعو الناس إلى الاستكانة والرضوخ والاستسلام، والخروج من حلبة الصراع الاجتماعي، وقبول الأمر الواقع، وانتظار الفرج القريب؛ فالإيمان يدعو إلى القبول والتسليم بلا تفكير أو اعتراض، والأصالة تحتم التصدي للنظم الاشتراكية المستوردة، والصلابة تقف في مواجهة مخاطر الانقلابات وتغيير النظم الاجتماعية.
(١) الدين والثورة (١٩٥٢-١٩٥٣م)
لقد قام الضباط الأحرار بالثورة التي سبقهم إليها رجال الدين. فثورة الجيش وثورة العلماء ثورة واحدة. لقد وقف رجال الدين أمام نابليون، ونادوا إلى الجهاد، وقاوموا الحملة الفرنسية، ثم قام عرابي متسلحًا بروح الأزهر مدافعًا عن حقوق الوطن، ثم اشترك العلماء في ثورة ١٩١٩م، وقاد رجال الدين المظاهرات. لذلك كان هدف الاستعمار هو القضاء على الجيش وعلى الأزهر، قمع الضباط الأحرار ورجال الدين. ففي مصر قوتان: قوة الجيش وقوة العلماء، وكان هدف الاستعمار دائمًا تسريح جيش مصر والقضاء على هيبة العلماء، وتشويش الدين وإفساد نظم التعليم. لقد كان دور العلماء دائمًا هو توجيه السياسة المصرية. فقد قام السيد عمر مكرم بتنصيب محمد علي واليًا على مصر، وارتفع صوت محمد عبده ينادي بالإصلاح الديني، كما ارتفع صوت لطفي السيد مناديًا بأن تكون مصر للمصريين، ودعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة؛ فالدين والوطنية والمجتمع كله روافد ثورية واحدة لأن الدين ثورة وطنية اجتماعية.
ولكن لسوء الحظ استغلت الدولة العثمانية الدين ضد مصلحة الجماهير، ومن أجل تثبيت دعائم الظلم والطغيان، وبث الرشوة وإفساد الضمائر، وتدعيم حكم الأقلية المسيطرة ضد غالبية الشعب المطحون، حتى عاش الشعب أسود فترات الظلم والطغيان تحت ستار الدين. ثم أتى الاستعمار فأيد نظام الاستبداد واعتبر مع السلطان كل ثائر من رجال الدين أو رجال الجيش خارجًا على الدين. لذلك لم يكتفِ الضباط الأحرار في مصر بقول «يا رب يا متجلِّي، اهلك العثمانلي»، ولكنهم كانوا يرون أن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر وذلك من أجل الثورة، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ …، تلك المهمة التي شاءها القدر لهم. كما استطاع الإسلام أن يقف في مواجهة الحملات الصليبية قديمًا وهي الشكل القديم للاستعمار. واستطاع أيضًا الوقوف أمام الغزوات الاستعمارية حديثًا، وهي الشكل الحالي للحملات الصليبية.
لقد أتى الإسلام برسالةٍ تحرر للإنسانية جمعاء من الذل والعبودية والمادية. تلك هي روحانية الإسلام لا الروحانية العرجاء الصماء التي تعبر عن العجز والنفاق، «إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة.» فالدين توجيهٌ للإنسان وثورة للجماهير، يقوم على الحرية، «فإن هذه القيم لا بد أن تعكس نفسها في ثقافةٍ وطنية حرة تفجر ينابيع الإحساس بالجمال في حياة الإنسان الفرد الحر. إن حرية العقيدة الدينية يجب أن يكون لها قداستها في حياتنا الجديدة الحرة.» فالدين ليس تكفيرًا وتفتيشًا في الضمائر واتهامًا للأبرياء، بل ثقافة وطنية حرة واجتهادٌ مفتوح والتزام بأهداف الأمة، «إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية، استهدفت شرف الإنسان وسعادته. وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته.» فالدين ثورةٌ إنسانية، ورجال الدين هم الثوار وليسوا بائعي الفتاوى وفقهاء السلطان، «إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف، ومحاولات الرجعية أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية.» فالدين في حقيقته ثورة ولكن النظم الرجعية تحيله إلى ثورةٍ مضادة، «لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقديمة، ولكن الرجعية التي أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها، أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكي توقف تيار التقدم.
وتعود القيم الثورية في الإسلام للظهور بعد ثورة اليمن في سبتمبر ١٩٦٢م، وتظهر قيم الحرية والتحرر بالإضافة إلى النظام الجمهوري الجديد، حكم الشعب بالشعب والقيم الاشتراكية الجديدة؛ فقد كانت معركة الإسلام والاشتراكية في أوجها. لقد قامت ثورة ٢٣ يوليو في مصر وهي تحمل شعارات الإسلام التي خرج بها إلى العالم أول مرة وأولها الحرية، حرية الفرد وحرية الوطن. فقد حرر الإسلام كما حررت الثورة الفرد من سيطرة الإقطاع ورأس المال وكل أشكال السيطرة. لقد عادت الثورة تثبت دعائم الإسلام التي قوضتها الخلافة، وحررت المسلمين من الاستعمار البريطاني. ثم قامت ثورة اليمن فحررت العلماء الأحرار والضباط الأحرار من السجون والمعتقلات. قامت ثورة اليمن للقضاء على الرق والعبودية بالقضاء على حكم الأئمة الذين اتخذوا الدين ستارًا للإقطاع والتسلط، في حين أن رسالة الإسلام رسالة الحرية والمساواة. لقد انتشر الإسلام من اليمن في أرجاء الأرض، ولكن نظام الأئمة عزل اليمن، فقامت الثورة لتعيد إلى اليمن رسالته في الحرية والتضامن، رسالة الإسلام الأولى. لقد حرر الإسلام اليمن من الرق والعبودية والإقطاع، ولكن نظام الإقطاع قضى على ما أتى به الإسلام، ثم جاءت الثورة وأعادت إلى اليمن رسالته الأولى. فقد قام محمد بن عبد الله للقضاء على الإقطاع والاستبداد والإطاحة بكم الأسر؛ أسر بني سفيان وقريش. كان حكم الأئمة مشابهًا للحكم العثماني، كلاهما باسم الدين وتحت ستاره، وكلاهما تكاتف مع الاستعمار في الإرهاب وقطع الرءوس والاعتقال.
ورسالة الإسلام أن يكون الأمر شورى، لا إمامة ولا ملكية، بل جمهورية يشعر فيها كل فرد بحقه في الحرية والحياة، له الحق في أن يكون رئيسًا للجمهورية إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، لم يكن حكم الأئمة قائمًا على الشورى، بل على مبدأ الحكم الفردي والسيطرة والتحكم، حكم السيف وقطع الرقاب، ولكن ثورة اليمن أعادت إليه حكم الشورى، حكم الإسلام الممثل في مجلس الأمة والحركات الشعبية، وحق كل فرد في التعبير الحر عن رأيه. وعلى هذا النحو تُرسى دعائم الإسلام. لم يورِّث الإسلام الأمة ابنًا عن أبٍ أو أبًا عن جد، ولكنه نادى بأن يكون الحكم للشعب، لا أن تكون الولاية وراثية. لقد حكم المسلمين بعد النبي أبو بكر وعمر لأن المسلمين اختاروهما وبايعوهما؛ فالإسلام يعني المساواة بين الجميع أو حق كل فر د في الحكم إذا ما اختاره الناس، بغض النظر عن حسبه ونسبه وعائلته وقبيلته، يكفي أنه مسلم له حق الحرية والمساواة.
والنظام الجمهوري هو الذي تتحقق فيه هذه المبادئ الإسلامية عادة، كالشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبادئ التي قامت من أجلها الثورة في الديمقراطية والمساواة؛ فالجمهورية تعني اختيار الشعب بإرادته الحرة الحاكم الذي يتولى شئونه، ويمكن لكل مسلمٍ أن يتصدى للحاكم كما تصدى المسلمون لعمر، وقالوا له: «والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوَّمناه بسيوفنا»، ليس بالإسلام كهنوت يحكم بالحق الإلهي؛ إذ يستطيع الشعب أن يعزل الحاكم إذا انحرف عن مصلحة الشعب وإرادته.
ولما كانت الثورة في حاجةٍ إلى البذل والعطاء، فإن الإسلام يوفر لها ما تريد بما قدمه للناس من قيم الجهاد والتضحية التي تتضح في عيد الفطر وعيد الأضحى؛ فالصائم يضحي بمأكله وشرابه في سبيل الإحساس بالآخرين. وإبراهيم ضحى بابنه طاعة لله وتنفيذًا لأمره. وحياة الرسول كلها تضحية وجهاد في حربه للمشركين حتى فتحه مكة. والإنسان هو الذي حمل الأمانة بعد أن أبتها السماوات والأرض والجبال، والمسلم هو الذي عقد تجارةً مع الله للجهاد في سبيله؛ فالإسلام جهاد، وما فُرضت العبادات في الإسلام إلا لتقوية النفس، وإعدادها لخوض المعارك دفاعًا عن الوطن إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. وتتحقق أماني الشعوب بالأعمال وليس بالأماني والمنى. وقد أعطت المسيحية أيضًا درس الجهاد والشهادة والتضحية في حياة المسيح والحواريين والمؤمنين، وما لاقوه جميعًا من اضطهاد الرومان. طريق الجهاد إذن هو طريق الأنبياء وطريق الثوار، طريق العمل والفداء، كما جاهد محمد والمسيح وقد كان باستطاعة الله تأييدهما ونصرهما. وما قام به الضباط الأحرار إن هو إلا جزء من الجهاد.
ولما ترك المسلمون الجهاد واستسلموا للذل والطغيان غزاهم الاستعمار. وبالتالي لن يتحقق تحرير المسلمين إلا بالجهاد وتوحيد الأمة ضد تفككها من أجل مواجهة الاستعمار، والقضاء على المنافقين في الأمة من الأمراء والسلاطين، مثل يوسف خنفس في مصر والجلاوي في المغرب. إن تحرر المسلمين من الاستعمار البريطاني لهو الجهاد الذي نادى به الإسلام، الجهاد في سبيل الوطن وفي سبيل الله لا ابتغاء الشهرة بل ابتغاء مرضاة الله. رسالة الدين رسالة الجهاد في مواجهة بريطانيا، التي تآمرت على المسلمين في جميع أنحاء العالم، وتآمرت على العرب لأنها اعتقدت أن ذل العرب ذل للإسلام. وقد كُتب الجهاد على جنود مصر من أجل الحق الإلهي للإنسان العربي في أن يحيا بالحرية والعدل. ولم تتردد مصر في إرسال أبنائها لدفع العدوان الرجعي الاستعماري على ثورة اليمن؛ لأن الثورة في مصر تؤمن بعزة العرب جميعًا كأساسٍ لعزة الإسلام، «إن جبال اليمن تحمل قبسًا من نفس الشعلة المقدسة التي يحج إليها المسلمون في عرفات.» نفس الروح العظيمة التي أجرت بها العناية الإلهية قدرة البشر على التضحية من أجل العقيدة وفاء للرسالة، رسالة الإنسانية والتحرر. لقد عاهد جيش مصر على هذه الأرض المقدسة على طرد بريطانيا من عدن ومن كل الجنوب العربي، وعلى نصرة دين الله ومساعدة الإخوة الذين يكافحون الاستعمار في جنوب اليمن. إن رسالة مصر نحو الإخوة العرب والمسلمين هو شد الأزر والمساعدة على أن يُرسوا في بلادهم دعائم الإسلام الحقيقية. لقد جاءت الثورة المصرية لمساعدة الثورة اليمنية ورد اعتداء الرجعية والاستعمار عليها تنفيذًا لأمر الله. لم تحارب الثورة المصرية في بلدٍ غريب بل في بلدٍ شقيق. إن جنود مصر حضروا إلى اليمن واستشهدوا في سبيل الله من أجل رسالة الإسلام، لا من أجل منفعة بل من أجل مبدأ، وسارعوا لملاقاة الله من أجل رفعة راية الحرية وهي راية الإسلام، جزاؤهم عند الله وليس عند الناس، كما خرج الجنود الأوائل طلبًا للاستشهاد في سبيل الله.
وإذا كان الجهاد الأصغر هو الجهاد ضد الاستعمار من أجل تحقيق الاستقلال، فإن الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، جهاد ضد التخلف والفقر، جهاد التنمية والتغير الاجتماعي، الأول ثورة ضد الاستعمار الأجنبي، والثاني ثورة ضد الفقر والجوع والجهل والمرض؛ فالجهاد ثورتان: ثورة سياسية وثورة اجتماعية، وهو ما حققته الثورة المصرية رائدة الثورات العربية.
(٢) الدين والسلطة (١٩٥٤-١٩٥٥م)
لقد كان من سوء الطالع صدام الثورة المصرية مع الإخوان المسلمين في بداية المد الثوري في ١٩٥٢م، وفي بداية الانحسار الثوري في ١٩٥٦م. كانت العلاقة بين الثورة والإخوان علاقة وطيدة من خلال اتصالات ناصر بحسن البنا، ووجود بعض الضباط الأحرار من الإخوان مثل عبد المنعم عبد الرءوف، ومساهمة الإخوان ليلة الثورة وبعدها في تأييد الثورة والدفاع عنها. وقد حدث الصراع على السلطة حتى قبل الثورة عندما طلب عبد المنعم عبد الرءوف انضمام حركة الضباط الأحرار إلى الإخوان، حتى تؤمن الجماعة حياة الضباط ومستقبلهم في حالة فشل الثورة. ولما رفض ناصر لأن الوطنية لا ترهن بموضوعاتٍ شخصية استقال عبد المنعم عبد الرءوف قبل الثورة بعدة أشهر من حركة الضباط الأحرار. وفي أول يوم لقيام الثورة طلب الضابط أبو المكارم عبد الحي رئيس التنظيم الإخواني بالجيش أسلحةً لتوزيعها على الإخوان تأييدًا للثورة، ولكن رفض ناصر بالرغم من قبوله مبدأ التعاون معهم. ولم تحلَّ الجماعة طبقًا لقانون حل الأحزاب، ولكن حدث الصدام بعد ذلك حينما رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة إلا بشروطٍ ثلاثة: الأول ألا يصدر قانون إلا إذا أقره الإخوان، والثاني لا يصدر قرار إلا إذا أقر الإخوان. وقد رفض ناصر هذين الشرطين لأن الثورة ترفض أية وصاية عليها، وهناك فرق بين الوصاية والتعاون. والثالث طلب الإخوان أن يفرض ناصر الحجاب، وأن يغلق المسارح والسينما، وأن يتحول ناصر إلى حاكمٍ بأمر الله، في حين أن ذلك موكولٌ لرب كل أسرة، وهو شرط في ظاهره تطبيق الإسلام وفي حقيقته أيضًا فرض الوصاية على الثورة. وهنا يبدو الصراع على السلطة بين الثورة والإخوان، بين الشرعية الثورية والشرعية الدينية. كان يكفي عقد حوار بين الشرعيتين حتى تتحقق الوحدة الوطنية في ضمير الأمة وفي وعيها القومي بين الدين والثورة، ولكن ذلك لم يحدث حتى الآن؛ فقد كانت الثورة في السلطة، وكان الإخوان يريدون التغيير عن طريق السلطة، «لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
ومن هنا جاء اتهام الإخوان بالأطماع الشخصية وبالحقد، وبأنهم كانوا ضحية الحزبية البغيضة. حاولوا هدم الثورة من أجل السلطة، مع أن الثورة أخرجتهم من السجون وحققت للجميع العزة القومية. خدع الإخوان الناس باسم الدين وعادَوا الثورة وأصبحوا يمثلون العهد البائد، الحزبية والملكية. احتكروا تفسير الدين ووقعوا فريسة التصعب وتآمروا ضد رجال الثورة الذين يعبرون عن أماني الشعب؛ فالثورة تمثل شعب مصر، ولا يمكن ترك الإسلام حكرًا على فئةٍ تتستر وراءه للخداع والتضليل وانتهاز الفرص. لذلك كون الإخوان جهازًا مسلحًا للانقضاض على الحكم، بالرغم مما يرفعونه من شعار الديمقراطية. لقد أسس حسن البنا هذا النظام لمحاربة الملك والأحزاب، ولكن القيادة الجديدة للإخوان حلَّته وأقامت نظامًا سريًّا بديلًا عنه، ليست مهمته مقاومة الإنجليز والاستعمار بل لمقاومة حكام مصر الوطنيين، وللوقوف ضد الشعب والسيطرة على الجيش والشعب والشباب، وللقيام بعملياتٍ إرهابية للقضاء على الحياة الديمقراطية في البلاد.
وكما هادن الإخوان القصر هادنوا الإنجليز واتصلوا بمستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية. وقد كان ناصر في حقيقة الأمر يعلم بأمر هذه المفاوضات التي رفض فيها الإخوان ما قبِله رجال الثورة في المعاهدة. كان الإخوان يمثلون تيارًا شعبيًّا وليسوا في الحكم، وكان رجال الثورة في الحكم وما زالوا في البحث عن سندٍ شعبي. وإذا كانت قيادات الإخوان قد سجلت أسماءها في سجل التشريفات واعتبرته وليَّ الأمر ولم تعارض إباحية الملك، فإن الملك كان يعتبرهم ألدَّ أعدائه بدليل اغتياله لمرشدهم حسن البنا.
وقد اتهم ناصر الإخوان بأنهم أيضًا أعوان الصهيونية والرجعية العربية. فقد كانت إذاعات إسرائيل والعواصم الرجعية العربية تروج لهجوم الإخوان على الثورة، وكانت السعودية تؤيد الإخوان ضد الثورة. وكان الحلف المركزي الاستعماري يؤيدهم كذلك. والحقيقة أن جهاد الإخوان ضد الصهيونية في فلسطين مشهود، وتعاونهم مع السعودية تعاون الأحلاف ضد الثورة المصرية التي يصارعونها السلطة. لم يتجاوز الإخوان حدود الشعارات الدينية ولم يملئوها بمضمونٍ سياسي، في حين أن الثورة حققت المضمون دون الشعارات. فإذا كان القرآن هو الدستور فإن ذلك يعني خلع الملك والقضاء على الفساد والظلم الاجتماعي وتحقيق الجلاء، وهو ما حققته الثورة.
وقد بلغت قمة المأساة فيما يسمى بحادث المنشية بعد الصراع حول اتفاقية الجلاء. وللحقيقة والتاريخ أن اتفاقية الجلاء كانت تمثل أقل من المطالب الوطنية؛ إذ كانت تسمح بعودة قوات الاحتلال إلى قناة السويس في حالة الحرب. ولم يتحقق الجلاء بالفعل إلا بعد تأميم قناة السويس في ١٩٥٦م. ولكن نقد الإخوان للاتفاقية في ذلك الوقت كان أقرب إلى المطالب الوطنية. ولكن ناصر أخذ عليهم أسلوب الاغتيالات والتغرير بمحمود عبد اللطيف وأمثاله من الفقراء الذين يدافع عنهم ناصر. كما أخذ عليهم الغدر به بعد تعاونهم معه وإيثارهم نجيب عليه. والإسلام كما هو واقعٌ من سيرة الرسول اتفاق الظاهر والباطن، السر والعلن، «وذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا»، وكما قال القرآن: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
(٣) الدين والوحدة (١٩٥٨–١٩٦٠م)
يظهر موضوع الوحدة الوطنية بين عنصرَي الأمة الأقباط والمسلمين داخل مصر أو خارجها بين المسيحيين والمسلمين في لبنان في ١٩٥٨م، على أنه الدرع الوحيدة التي تحمي الشعب من الطائفية التي يغرسها الاستعمار ويتلاعب بها لإحداث الفرقة والقضاء على وحدة الشعب. والحقيقة أن الطائفية في مصر ليس لها أي أساسٍ في مجتمعٍ ثوري يقوم على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، كلٌّ على قدر جهده، وكلٌّ له فرصة مساوية في العمل. فلا توزع الأعمال على أساسٍ طائفي، والترقيات بالأقدمية أو الكفاءة، والأجور على مستوى العمل، وليس كما تروج أجهزة الدعاية الغربية من أن الاشتراكية في مصر تقوم على أساسٍ طائفي، ويدخل الطلاب الجامعات على أساس المجموع وليس على أساس الدين. والمادة الرابعة والعشرون من الدستور تنص على أن المصريين أمام القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. ولقد أراد الاستعمار في سوريا أيضًا التلاعب بالطائفية ولكن استشهد المسلم والمسيحي كلاهما دفاعًا عن استقلال سوريا. كما حاول الاستعمار في مصر تقسيم الطبقة العاملة بالاستعانة بفلول الرجعية. تقوم الوحدة الوطنية إذن بين المسلمين والمسيحيين على مبادئ الثورة؛ فالإسلام والمسيحية كلاهما ثورة قامتا على المحبة والمساواة وتكافؤ الفرص، وهي المبادئ التي نادت بها جميع الأديان. لقد عملت الأديان للفقراء والمساكين والعامة، واستنكرت الاستعباد والاستغلال. كان المسيح ضد الاستعباد الروماني. وكافح محمد بن عبد الله ضد الاستعباد القبلي. اعترف الإسلام بأهل الكتاب وأعطاهم حقوقهم. وفي فلسطين في ١٩٤٨م حارب المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب. ولم تفرق قنابل الأعداء في ١٩٥٦م بين المسلم والمسيحي. ولكن التعصب والجهل يثيرهما رجلٌ فيردُّ عليه آخر؛ حوادث فردية قليلة وليست ظاهرة عامة، وتاريخ مصر خالٍ منها، والوحدة الوطنية بين عنصرَي الأمة هي الأساس كما بان ذلك في ثورة ١٩١٩م.
ثم ظهر موضوع الإسلام والوحدة الوطنية أثناء الثورة اليمنية. فقد قامت الثورة للتوحيد بين الشعب بعد أن فرَّقه الأئمة، لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ. لقد رفعت الثورة شعار الوحدة الوطنية حتى تفوِّت على الاستعمار تفرقته بين أبناء الوطن الواحد تحت ستار الحزبية أو الطائفية؛ فالكل عرب لا فرق بينهم؛ لأن كل فرد يعرف واجبه وهدفه وهو الحرية والاستقلال. إن الإسلام يقتضي تضامنًا ووحدة بين الأشقاء والعمل من أجل عزة العروبة. كما ينادي الإسلام بالتعاون على البر والتقوى ليس فقط الأبناء والآباء بل بالأمة كلها. وتقوى الله في جميع الأمور تعني التخلص من الأنانية والفردية، كما تعني رفض ألاعيب الاستعمار ونبذ لغة المال، وتعني ثالثًا بناء البلاد من أجل صالح الأبناء في الحاضر والمستقبل. تلك هي تعاليم الإسلام الواضحة. وطريق الوحدة الوطنية هو طريق العفو، والعفو من تعاليم الإسلام، فعندما دخل النبي مكةً منتصرًا لم ينتقم من أعدائه، بل قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» حتى تتحقق الوحدة الوطنية ويجمع شمل العرب.
وقد ظهر الإسلام في معارك الوحدة العربية في ١٩٥٨م بعد اتحاد مصر وسوريا وتكوين الجمهورية العربية المتحدة. دخل الإسلام المعركة على نحوٍ تاريخي عن طريق استرجاع الحروب الصليبية أو مظاهر الاستعمار في صوره القديمة، وتوحيد المسلمين تحت قيادة صلاح الدين الذي وحد مصر وسوريا. لقد انتهز الاستعمار الأوروبي في ذلك الوقت تفكك الأمة العربية، واستطاع باسم الحملات الصليبية — وهي شكل مقنَّع للاستعمار تحت ستار الدين — أن ينفذ إلى الوطن العربي. ورغم ضعف العرب هبُّوا للدفاع عن أراضيهم، واتحدت الأمة لمواجهة الغزو الاستعماري، وكان النصر حليف القومية العربية. واستمرت الحرب ثمانين سنة، استطاع الصليبيون في أول الأمر احتلال فلسطين وبيت المقدس وتفرقة الأمة العربية وقطع الطريق بين مصر والشام. تقدَّم نحو مصر، إلى الشرقية وبلبيس على أبواب القاهرة، فكان اتحاد مصر وسوريا هو سبيل النصر؛ فقد أرسل السلطان نور الدين محمود — السلطان السوري — جيشه ليحارب مع جيش مصر ضد الغزاة. ثم اتحدت مصر وسوريا مرةً أخرى تحت قيادة صلاح الدين ليصد الغزو الصليبي ضد سوريا بعد ذلك بربع قرن، وانتصر صلاح الدين في معركة حطين. فكانت الوحدة هي الدرع التي تحطمت عليها موجات الغزاة. كما استطاعت الوحدة بين مصر وسوريا قبل ذلك صد هجمات التتار التي وصلت حتى بغداد، واستولى عليها هولاكو ثم توجه إلى سوريا، فقامت مصر لتحارب مع سوريا وهزمت جيوش التتار في عين جالوت. لم ينخدع المسيحيون العرب بالحملات الصليبية لأنهم كانوا يؤمنون بالقومية العربية وباستقلال أراضيهم التي نشئوا عليها، فوقفوا جنبًا إلى جنب بجوار إخوانهم المسلمين يدافعون عن أوطانهم، وفطنوا إلى تستُّر الحملات الصليبية بالدين. فقد غيرت إحدى هذه الحملات طريقها إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تحمي المسيحية في الشرق فدمروها ونهبوها واحتلوها. فكانت وحدة المسلمين والمسيحيين سبيل النصر.
والآن يعيد التاريخ نفسه، فلا سبيل إلى تحرير الأراضي العربية من الصهيونية العالمية إلا بوحدة مصر وسوريا والوحدة العربية. ولم تكن مصادفةً أن دخل الجنرال اللنبي قائد الجيوش البريطانية إلى القدس وقال: «اليوم انتهت الحروب الصليبية». ولم تكن مصادفة أيضًا حين وصل القائد الفرنسي جورو إلى دمشق، ووقف أمام قبر صلاح الدين قال: «ها قد عدنا إليك يا صلاح الدين». لقد هُزم العرب في ١٩٤٨م لأنهم كانوا سبعة جيوش عربية، ولو كانوا جيشًا واحدًا مثل جيش صلاح الدين لكان النصر حليفهم. إن الانتداب البريطاني على فلسطين لهو الصليبية الجديدة من أجل القضاء على القومية العربية. لقد قامت أساطيل بريطانيا من قبل في ١٨٠١م ثم ١٨٠٧م لغزو الأمة العربية وفشلت، ثم عادت الجيوش البريطانية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أواخر الحرب العالمية الأولى. ولم يخرج الاستعمار البريطاني حتى ١٩٤٨م قبل أن يسلم الجزء الأكبر من فلسطين إلى الصهيونية عميل الاستعمار الأول في المنطقة. وأخيرًا مكنت الإمبريالية الأمريكية في ١٩٦٧م الصهيونية من الجزء الباقي من القدس وفلسطين، وساعدت إسرائيل على تنفيذ أكبر مؤامرة للصهيونية والاستعمار في تاريخ الأمة العربية. ولكن تاريخ الأمة العربية شاهدٌ على أنها قادرة على الصمود والعزم على التحرر.
(٤) الدين والاشتراكية (١٩٦١–١٩٦٤م)
الإسلام دينٌ اشتراكي، حقق أول تجربة اشتراكية في العالم، وأسس في أول أيامه أول دولة اشتراكية، وكان محمد بن عبد الله رئيس أول دولة اشتراكية وأول من طبق سياسة التأميم في حديثه المشهور: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار.» وفي قولٍ آخر يضاف الملح، وهي المقومات الأساسية للمجتمع في ذلك الوقت التي لا يجوز ملكيتها لفرد. وقد عاش النبي ولم يملك شيئًا، ولم يأخذ شيئًا من أموال المسلمين، ولم ينصِّب نفسه ملكًا، ومات ولم يترك شيئًا بل باع ثوبه وتصدق به. لم يكن ملكًا ولا أميرًا من ملوك وأمراء اليوم الذين يملكون الملايين ويكنزون في بنوك فرنسا وسويسرا.
ثم استمرت الدولة الإسلامية الاشتراكية الأولى أيام أبي بكر وعمر. فقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة لأن الامتناع عن الزكاة ردة عن الإسلام؛ فالزكاة حق المال. كانت حروب الردة نموذجًا للثورة الاجتماعية، ثورة الفقراء ضد الأغنياء، ثورة من لا يملكون ضد من يملكون، ونموذج اشتراكية الثورة حتى تزول الفوارق بين الطبقات، وحتى تقام العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين الناس. صحيحٌ أن النبي عفا عن قومه بعد فتح مكة، في قوله المشهور: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولكنه أيضًا رفض العفو عن المنافقين بقوله إن المنافقين يُقتلون ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة. وقد نصَّت جميع الأديان على العدالة الاجتماعية وعلى الزكاة. الزكاة في الإسلام ربع العشر من المال الموجود آخر كل عام، فلو عاش الإنسان أربعين أو خمسين عامًا لمثلت الزكاة ثروةً طائلة يمكن استخدامها لصالح الجماعة. الزكاة أساسٌ من أسس الاشتراكية. لذلك لم يكن في الدولة الإسلامية الأولى فقراء أو عجزة، بل كان هناك تكافل اجتماعي. كما حرم الإسلام الربا حتى لا يتحكم الغني في رقاب الناس وينتهز فرص حاجاتهم. وهو ما عملته الثورة بالقضاء على الربا في السلفيات الزراعية. أما عمر فقد أمم الأرض ووزعها على الفلاحين، كما أخذ الأرض من الإقطاعيين في العراق، ووزعها على المعدمين. رفض عمر أن تكون هناك طبقية أو فقر، ولم يملك شيئًا مما تملكه ملوك الرجعية الحالية.
«الاشتراكية شريعة العدل، وشريعة العدل شريعة الله». والإسلام دين المساواة والعدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص. يدعو الإسلام إلى قسمة الربح مع الآخرين، وأخذ حقوق الفقراء من أموال الأغنياء. والإسلام لا يسمح بوجود فقراء في مجتمعٍ غني. الإسلام دين العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى». ينص الدين على تكافؤ الفرص «إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحياة وفي الحرية. إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان؛ إذ يبدأ كل فردٍ حياته أمام خالقه الأعظم صفحة بيضاء، يخط فيها ما يشاء باختياره الحر. لا يرضى الدين بطبقة تورث عقاب الفقر والجهل والمرض لغالبية الناس وتحتكر ثواب الخير لقلةٍ منهم. إن الله جلت حكمته وضع الفرص المتكافئة أمام البشر جميعًا أساسًا للعمل في الدنيا وللحساب في الآخرة.» والغني الذي يمتلك الأموال الضخمة في مجتمعٍ فقير لا يمكن أن يكوِّن ثروته عن طريق العمل بل عن طريق الاستغلال. الدين عمل، وكان النبي يعمل بيديه، ولم يكن الدين تجارة أو العمل استغلالًا. الدين والاشتراكية إذن سواء، نادى كلٌّ منهما بالمساواة وتكافؤ الفرص ورفع مستوى المعيشة وتذويب الفوارق بين الطبقات. كان نصف في المائة يملكون نصف الدخل القومي، فقضت الثورة على هذا التوزيع غير العادل، وأصبح الدخل القومي موزعًا على الشعب، بعد أن قضت الثورة على الطبقة الرأسمالية والإقطاعية، وبهذا طبقت الثورة مبادئ الإسلام. بل إن الإسلام والاشتراكية مُتفقان من حيث المنهج؛ فكلاهما يتم تطبيقه بالتدريج، فيما يسمى بمرحلة التحول الاشتراكي. وقد أرشد القرآن إلى حكمة التدريج لأنه لم يحرم الخمر من أول مرة؛ فقد ذكر أولًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، ثم ذكر ثانيًا: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وذكر ثالثًا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ.
ولكن رجال الدين يشوهون الدين، ويصدرون الفتاوى لصالح الإقطاع بعد أن يقبضوا الثمن، يؤيدون الملكية الفردية ويحرِّمون المساس بها «بعض المشايخ يروح يخبط ديك رومي أو خروف عند الإقطاعيين، ويطلع يدي فتوى أن الملكية لا يمكن أن نقرب لها أو نمسَّها، إنهم لا يفكرون إلا في بطونهم، وهم بذلك أجراء للإقطاع والرأسمالية.» ليست مهمة رجال الدين الخطابة في المساجد، بل النزول إلى الأسواق والحياة العامة والتعرف على مشاكل الجماهير والعيش معهم، فرجل الدين لا يتاجر ولا يعجز بل يقول الحق ويعمل به.
كما أن أعداء الاشتراكية والإسلام من فلول الرجعية العربية تحاول الإساءة إلى الاشتراكية والإسلام معًا لحساب تحالف الإقطاع والرجعية والرأسمالية. والحقيقة أن الإسلام ضد الاستغلال وكنز الأموال وصرفها على الجواري. أموال المسلمين للمسلمين وليست للملوك والأمراء الذين يدعون تمثيل الإسلام. والحقيقة أنه لا يوجد ممثل للإسلام، ولا يوجد حامي حمى الحرمين أو أمير المؤمنين؛ لأن للكعبة ربًّا يحميها، أما العائلة المالكة فهي أكبر تشويه للإسلام في صحف الغرب. ليست الاشتراكية بديلًا عن الإسلام، وليس ناصر نبيًّا جديدًا لدينٍ جديد، بل الاشتراكية جوهر الإسلام وناصر محقق لرسالة الإسلام. ليست الاشتراكية إلحادًا كما تدَّعي الرجعية بل إن الرجعية هي الإلحاد واغتصاب لأموال المسلمين. ليست الاشتراكية هي اشتراكية النهب والأولاد والأموال، بل استرداد الأموال المغتصبة من الشعب وردها إلى الشعب. الاشتراكية احترام للعائلة والدين والوطن. ليست الاشتراكية شيوعية أو ماركسية لينينية؛ لأنها تؤمن بالدين والرسل وتؤمن بالله، تقوم على أسسٍ روحية وليس على الأساس المادي وحده. ليست الاشتراكية تعدِّيًا على حقوق الله؛ فالعدالة الاجتماعية ليست من وضع الله وتدبيره كما تقول الرجعية، بل هي من صنع البشر نتيجة لأوضاعهم الاجتماعية؛ وإلا فلماذا وزارة العدل؟ الجنة ليست للفقراء، فليأخذها الأغنياء ويتركوا دنياهم إلى الفقراء. ليست الاشتراكية صدقة كما تقول الرجعية من أن الدين يطالبنا بالصدقة؛ فالحقيقة أن الدين لا يطالب بالصدقة فقط؛ فالمال مال الله، ومال الله مال الشعب، لا يوضع في البنوك الأجنبية بل يُستثمر داخل البلاد وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. إنهم يستحسنون الاشتراكية شعرًا ويستهجنونها نظامًا، فعندما يقول شوقي: «الإشتراكيون أنت إمامهم»، وتغني أم كلثوم «أنصفت أهل الفقر من الغنى»، تنبسط أساريرهم ويصفقون بأيديهم، ولكنهم يعادونها كنظامٍ اجتماعي يهدد مصالحهم، ويستعيد ثرواتهم المسلوبة من الشعب. الإسلام والاشتراكية إذن صنوان.
(٥) الدين وعدم الانحياز (١٩٦٥-١٩٦٦م)
لقد كان لمصر دورها في الحفاظ على الحضارة الإسلامية، وعرفت الإسلام الحضاري وليس الإسلام الصوري الشعائري، «وكان للفتح الإسلامي ضوءًا أنار هذه الحقيقة وأنار معالمها، وصنع لها ثوبًا جديدًا من الفكر والوجدان الروحي في إطار التاريخ الإسلامي. وعلى هدى من رسالة محمد قام الشعب المصري بأعظم الأدوار دفاعًا عن الحضارة الإنسانية.» هذه هي رسالة مصر، بؤرة الإسلام ومركز إشعاعه الحضاري. وقد حفظت مصر التراث الحضاري الإسلامي، وجعلت من الأزهر حصنًا للمقاومة ضد عوامل الضعف والتخلف التي فرضتها الخلافة العثمانية استعمارًا ورجعية باسم الدين، والدين منها براء، «فمصر مركز الثقل الإسلامي وضمان استمرار تراثه». وليس عبثًا أن الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي — الذي أغار عليه المغول الذين اكتسحوا عواصم الإسلام القديمة — تراجع إلى مصر، وأوى إليه في مصر، وأنقذته عندما ردَّت غزو المغول على أعقابه في عين جالوت.
وحول هذه البؤرة الإسلامية في مصر ينسج ناصر دوائره الثلاث منذ «فلسفة الثورة» حتى «الميثاق الوطني»، الدائرة العربية والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية؛ فالدائرة العربية أهم الدوائر «وقد امتزجت هذه الدائرة معنا أيضًا بالدين، فنقلت مراكز الإشعاع الديني في حدود عواصمها من مكة إلى الكوفة ثم إلى القاهرة، ثم جمعها الدين في إطارٍ ربطته كل هذه العوامل التاريخية والمادية والروحية.» أما الدائرة الأفريقية والتي تشير أيضًا إلى تداخلها مع الدائرة الآسيوية فيما عرف بعدُ باسم العالم الأفريقي الآسيوي، فإنها في حقيقة الأمر الكيان السياسي المعاصر للدائرة الثالثة وهي الدائرة الإسلامية «أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالمًا إسلاميًّا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ». إنها الدائرة التي تشد العالم الإسلامي كله وتربطه برباطٍ روحي وتوجهه نحو غايةٍ واحدة. «ثم تبقى الدائرة الثالثة التي تمتد عبر قارات ومحيطات، والتي قلت إنها دائرة إخوان العقيدة والذين يتجهون معنا، أينما كان مكانهم تحت الشمس، إلى قبلةٍ واحدة، وتهمس شفاههم الخاشعة بنفس الصلوات.» ويرى ناصر الحج رمزًا سياسيًّا لما يمكن أن يكون عليه ثقل العالم الإسلامي ومدى فاعليته وإيجابيته وترابطه، حينما يتجه إلى الكعبة كل عام المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي، «لا يجب أن يصبح الذهاب إلى الكعبة تذكرة دخول الجنة بعد عمرٍ مديد، أو محاولة ساذجة لشراء الغفران بعد حياةٍ حافلة. يجب أن تكون للحج قوة سياسية ضخمة، ويجب أن تهرع صحافة العالم إلى متابعة أنبائه، لا بوصفه مراسم وتقاليد تصبح صورًا طريفة لقراء الصحف، وإنما بوصفه مؤتمرًا سياسيًّا دوريًّا يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها وتجارها وشبابها، ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطًا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معهم حتى يحين موعد اجتماعهم من جديدٍ بعد عام. يجتمعون خاشعين ولكن أقوياء، متجردين من المطامع لكن عاملين، مستضعفين لله ولكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم، حالمين بحياةٍ أخرى ولكن مؤمنين أن لهم مكانًا تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة.» ويقول ناصر أيضًا: «وحين أسرح بخيالي إلى ثمانين مليونًا من المسلمين في إندونيسيا، وخمسين مليونًا في الصين، وبضعة ملايين في الملايو وسيام وبورما، وما يقرب من مائة مليون في الباكستان، وأكثر من مائة مليون في منطقة الشرق الأوسط، وأربعين مليونًا داخل الاتحاد السوفييتي، وملايين غيرهم في أرجاء الأرض المتباعدة، حين أسرح بخيالي إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدةٌ واحدة، أخرج بإحساسٍ كبير بالإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاونٌ بين هؤلاء المسلمين جميعًا، تعاونٌ لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصيلة بالطبع، ولكن يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة.»
الإسلام إذن حكمةٌ سياسية عالمية شاملة تضم ملايين المسلمين في آسيا وأفريقيا. وبالتالي تكون الحركة الأفريقية الآسيوية في جوهرها حركة إسلامية، ويكون مؤتمر القارات الثلاث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مؤتمرات ذات أهدافٍ واحدة في التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية؛ نظرًا لأن ظروف الكاثوليك الرومان في أمريكا اللاتينية مشابهة لظروف المسلمين في آسيا وأفريقيا. جمعهم وحدة الموقف والهدف، وهي وحدة الإسلام الحقيقية. كما أن حركة عدم الانحياز في جوهرها حركةٌ إسلامية «لا شرقية ولا غربية»؛ لأنها تقوم على رفض الصراع بين القوى العظمى، وأن تكون الشعوب المتحررة حديثًا خارج مناطق النفوذ والأحلاف وأشكال الاستعمار الجديد. هذا الترابط الإسلامي يتم على أساسٍ شعبي وليس على أساسٍ حكومي. وإذا كان هناك خلافٌ بين الحكومتين المصرية والإيرانية فإنه خلاف حكومات وليس خلاف شعوب مسلمة.
ولا يوجد تعارض بين هذه الدوائر الثلاث، تربطها معاملاتٌ وثيقة بين مصر والعالم العربي والعالم الإسلامي من خلال البعثات الأزهرية. لا يوجد تعارض بين القومية العربية والأمة الإسلامية، فكلاهما يشارك في معارك التقدم والثورة والدعوة إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. هذا التضامن الإسلامي الذي يجمع الدوائر الثلاث إنما يتم لوجه الله غير متجهٍ للسياسة الأمريكية أو البريطانية. وهنا يتصدى ناصر للحلف الإسلامي باعتباره حلفًا إنجليزيًّا أمريكيًّا استعماريًّا تحت ستار الدين يأخذ أوامره من لندن وواشنطن. بدأت الفكرة بعد ١٩٥٧م بعد بداية حركة التحرر العربي إثر تأميم قناة السويس وضرب الأحلاف العسكرية في المنطقة. وكان الهدف إحياء حلف بغداد القديم بعد خروج العراق ودخول تركيا وباكستان وإيران من أجل حصار العالم العربي وإعادته تحت مناطق النفوذ؛ فالأسماء واحدة: مؤتمرٌ إسلامي، تجمعٌ إسلامي، رابطةٌ إسلامية، تكتلٌ إسلامي، مؤتمر ذروة إسلامي … والهدف واحد: عودة الاستعمار إلى المنطقة عن طريق اللف حول العالم العربي من خلال العملاء حكام السعودية وإيران والأردن وتونس. لقد قاد هؤلاء معركة الحلف الإسلامي لضرب القوى الرجعية لهذا الغرض. كان الهدف أيضًا تخفيف الضغط على إسرائيل بدليل أن إيران وتركيا معترفتان بإسرائيل. لم يكن الهدف فلسطين وتحرير فلسطين، بل الدفاع عن إسرائيل والاعتراف بها واتهام ناصر بمعاداة الحلف بأنه يدافع عن زعامته في المنطقة. لم يكن الهدف مقاومة الإلحاد لأن مقاومة الإلحاد تتم بالدين لا بالسياسة، والحلف الإسلامي حلفٌ سياسي وليس تكتلًا دينيًّا؛ لأنه يجمع رؤساء الدول وليس رجال الدين. وهل شاه إيران وبورقيبة دعاة للإيمان، شاه إيران الفارسي النعرة وبورقيبة الذي جعل إجازة العيد يومًا واحدًا، وأفتى بالإفطار في رمضان. وبصرف النظر عن الصلة بين الدين والسياسة وتوحيد الإسلام بينهما وبين فتاوى علماء تونس وشرعيتها، فإن يبقى أن الحلف الإسلامي حلفٌ استعماري تحت ستار الدين، كان يهدف إلى حصار القومية العربية وإيقاف حركة التحرر العربي.
(٦) الدين والصمود (١٩٦٧–١٩٧٠م)
ظهر موضوع الإيمان بوضوحٍ بعد هزيمة ١٩٦٧م في فكر ناصر من أجل الصمود في المعركة وتقوية الروح المعنوية للشعب والجيش وإذكاء إرادة الصمود في الأمة. وليس السبب في ذلك التربية الدينية بل التربية السياسية من أجل بث الأمل في النصر، بعد أن استشرى روح الهزيمة في النفوس. كان موضوع الإيمان في أول الثورة مرتبطًا برفض الإلحاد والردة والإثارة الجنسية. كما ظهر ضد أخطار الشيوعية الممثلة في حكم العراق والبعث السوري؛ فالشعب المصري شعبٌ مؤمن، ولكنه أصبح بعد هزيمة ١٩٦٧م الدرع الواقية لروح الإسلام، وارتبط بالقدرية؛ وذلك أن الهزائم قدر الأمم، والإيمان بالقضاء والقدر يجعل الإنسان صابرًا مجاهدًا قادرًا على الصمود وعاملًا وآملًا بالعدل الإلهي وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وكان «الميثاق الوطني» قد صاغ من قبل في خمس ضمانات للعمل الثوري وهي: إرادة التغيير الثوري، الطليعة الثورية، الوعي العميق بالتاريخ، الفكر المفتوح على كل التجارب الإنسانية، والضمان الخامس «إيمانٌ لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان في كل زمان ومكان.» فالإيمان ضمانٌ للعمل الثوري وليس خنوعًا واستسلامًا ورضى وقبولًا. وقد أكد بيان ٣٠ مارس نفس المعنى بربطه العناية الإلهية بصلابة الجماهير الثورية حتى يتحقق النصر ويتجاوز الشعب مرارة الهزيمة. وقد حدد البرنامج خطة عمل تقوم على دعائم ثلاث: التحرر والنصر والتجديد والتجدد للثورة. وجعل الثانية تدعيم القيم الروحية والأخلاق. وحدد مهام المرحلة القادمة في ست مهام: تثبت دور قوى الشعب في بناء الدولة الحديثة، التنمية الشاملة، إطلاق القوى الخلاقة، تلاحم الشعب والجيش، وجعل أيضًا المهمة الرابعة العمل على تدعيم القيم الروحية والخلقية. وبالتالي يمكن تحقيق النصر، ويكون حينئذٍ نصر الله «ولتعمل إرادة الحق فوق كل إرادةٍ لأنها جزءٌ من إرادة الله.»
ولكن لا يعني ذلك حربًا دينية ضد إسرائيل؛ فقد عاش العرب، يهودًا ومسيحيين ومسلمين في فلسطين منذ آلاف السنين، بل لقد رفض بعض اليهود مغادرة مصر إلى إسرائيل وآثروا البقاء في وطنهم؛ فاليهود في مصر مصريون وفي الدول العربية عرب. العرب واليهود شعوبٌ ساميَّة، والتشابه بينهما أكثر من الاختلاف، وموسى مولودٌ في مصر، فكيف يكون العرب معادين للسامية؟! ولقد طردت إسرائيل الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، أكثر من مليون لاجئ، ومن ثم يجب أن يتعايش الجميع على أرض فلسطين بصرف النظر عن الدين، فإن لم تتحقق هذه الرؤية المستقبلية الشاملة فإن تحرير الأرض المقدسة من الصهيونية يصبح حتمية مقدسة، وجزءًا من الإيمان بالله والشرف المهان بواقع الاحتلال وحرق المسجد الأقصى. إن الحرب في الإسلام ليست من أجل الحرب كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، ولكنها من أجل العدالة والحرية ودفعًا للأذى والاضطهاد أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ.
وكانت معركة الإيمان والصمود آخر المعارك التي خاضها ناصر باسم الدين. يُظهر لنا ناصر هذه الأهداف وكأنها حلم حياتنا. فقد صاغ مشروعنا القومي وعبَّر عن مصالح الجماهير، وما زال كامنًا في روح شعبنا ينتظر الانطلاق، فتعود «الناصرية الشعبية» ويعود مشروعنا القومي لمناهضة الاستعمار والصهيونية الرأسمالية، ولتحقيق أمانينا القومية في الحرية والاشتراكية والوحدة.