مخاطر السلام١
ليس السلام بضعة كيلومترات هنا أو هناك، أو انسحابًا كليًّا أو جزئيًّا من هذه المنطقة أو تلك، وليس اتفاقًا أو إعلانًا أو بيانًا في هذا اليوم أو ذاك، وليس زيارة أو مبادرة أو استقبالًا في هذه المدينة أو تلك، هنا أم هناك، وليس السلام مناطق عازلة وأخرى منزوعة السلاح والثالثة محددة السلاح، وليس تحجيمًا للجيش المصري أو تحديدًا لأنواع أسلحته أو إقامة نقاط للمراقبة ووضعًا لقواتٍ دولية تابعة للأمم المتحدة، أو تشكيل دوريات مشتركة ونقاط حراسة؛ إنما السلام شيءٌ أهم من ذلك وأعمق وأدخل في روح الأمة وتحديدًا لوعيها؛ السلام جزءٌ من تاريخ الأمة، وتحديد لمستقبلها، وبيان لهويتها، وإظهار لرسالتها، وحكم عليها بالحياة أو الموت.
إن ما قيل من أن المشكلة بيننا وبين إسرائيل هي في جوهرها مشكلةٌ نفسية، وأن الحواجز بيننا وبينها هي في صميمها حواجز نفسية، إنما هو أخذ لوجهة نظر الصهيونية. فبالنسبة لنا تعني إسرائيل ملايين من الكيلومترات المحتلة، وملايين من الشعوب مشردة، وما تعيش عليه مهددٌ بالضياع. ولكن بالنسبة للآخر السلام هو قبول الصهيونية كفكرةٍ في أذهان العرب، والاعتراف بهذا الكيان كجزءٍ طبيعي من المنطقة. وبالتالي تحويل العلاقة بيننا وبين الآخر على هذا المستوى الذي يعني بالنسبة للعدو التسليم بأيديولوجيته وتقبُّلها، والذي يعني بالنسبة لنا مبادرة شجاعة ولفتة كريمة وإظهارًا لحسن النوايا والرغبة في السلام. وما يعنيه السلام بالنسبة للعدو حقيقة، وما يعنيه بالنسبة لنا مجرد مظهر يكشف العدو حقيقته. وإن استبدالنا في لغتنا السياسية إسرائيل بالصهيونية وعدم ذكرنا للصهيونية وذكرنا لإسرائيل لهو اعترافٌ مبدئي بالدولة ذات السيادة، وقبولٌ ضمني بالأيديولوجية التي تمثلها، في حين أن الصهيونية بالنسبة لنا تمثل أيديولوجية معارضة ومناقضة حتى ولو لم تتمثل في دولة، حتى ولو كانت فكرة أتت إلينا من الفضاء الخارجي دون أن يكون لها أي ركيزة في الأرض.
لم تعد الصهيونية تطلب الأرض؛ فقد حصلت على أضعاف ما كانت تتمناه في بدايتها، بل قادرة على أن تحصل على المزيد، ولم تعد تطمع في القضاء على الشعب، شعب فلسطين؛ فقد تم تشريد نصفه واحتلال النصف الآخر، وهي قادرةٌ على أن تشرد المزيد من الشعوب العربية في الأقطار المجاورة، ولم يعد هدفها هو القضاء على اسم فلسطين، حتى ولو كان اسمًا لفندقٍ أو لهيئةٍ أو لمنظمةٍ، أو اسمًا لندوة أو لقاء أو لجنة أو حتى شعارًا لعلمٍ أو لنشيد. أصبح الهدف هو تصدير الصهيونية للذهن العربي، وهو الذي تعوَّد على الاستيراد والتصدير في محنته الأخيرة، من أجل الاعتراف بها وقبولها وجعلها بديلًا عن القومية العربية في المنطقة ووريثتها في التاريخ!
والسلام المطروح الآن أمام شعوبنا هو من هذا الشكل الأخير من أشكال الاستعمار، تبنته الصهيونية، وهو استعمارٌ جديد أيضًا من دولةٍ صغرى بمساعدة الدول الكبرى من أجل احتواء الشعوب التاريخية التي يظل رصيدها في تراثها موطن تحررها، ومصدر أيديولوجيتها، ومثبت هويتها؛ فالاستعمار يتلون ويتشكل طبقًا للظروف، كالحية ذات الرءوس المتعددة، إذا قطعت إحداها ظهرت أخرى. وقد يظل الأمر كذلك حتى يتم تحجيم الغرب، وردُّه داخل حدوده بالقضاء على عنصريته الدفينة التي جعلته محور العالم، ومركز ثقله، والنموذج الأوحد لحضاراته، وبعودة الشعوب التاريخية في الصين والهند وإيران ومصر إلى أخذ مكانها الطبيعي في دورة التاريخ الجديدة. وقد يعود الغرب إلى ما كان عليه من حياةٍ طبيعية لقبائل متوحشة تأكل بعضها بعضًا، ويعود إلى شريعة الغاب.
وقد قامت صحافتنا أخيرًا بالتنبيه المفتعل على هذا الخطر فيما سمته بمعركة «التحدي الحضاري مع إسرائيل» ذرًّا للرماد في العيون، وإظهارًا لعضلاتنا الحضارية كما كنا من قبل نُظهر قوانا العسكرية، في مظاهر إعلامية، وعدنا إلى ما كنا فيه من رفضٍ لإسرائيل على مستوى المبدأ، وقبول لها على مستوى الواقع، نقوم بمعركة التحدي الحضاري مع إسرائيل، ونسهل لها عملية الغزو الحضاري لنا. وتلك هي مخاطر السلام.
أولًا: القضاء على روح النضال
تتمثل مخاطر السلام على روح النضال لدى الشعوب. فقد أخذنا بالسلام ما لم نأخذه بالحرب، وما خسرناه بالحرب كسبناه بالسلام. الحرب طريقٌ مسدود يؤدي إلى مزيدٍ من الخسائر، في حين أن السلام طريقٌ مضمون يؤدي إلى كثيرٍ من المكاسب. فتتخلى الشعوب عن الجهاد، وهو أمرٌ إلهي وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ. ولا عجب أن اتخذت الثورة الإيرانية آية وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [٤: ٩٥] شعارًا لها. وكأن محمدًا لم يحارب، وكأن الشعوب لم تحارب، وكأن الحرب بدعة، وكأن هناك حربًا تكون هي آخر الحروب، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [٢: ١٥١]، ويتم تشويه الحروب عمدًا بأنها السبب في الأزمات الاقتصادية، وأن السلاح يؤدي إلى الجوع بالضرورة، في حين أن السلام يجلب الرخاء وأن الحرب دمار وقتل ويتم وترمل، وأن السلام حمامة وغصن وحياة وحب وتعايش وإخاء، وأن الحرب همجية ووحشية في حين أن السلام تحضرٌ ومدنية … والقتال فرضٌ في الإسلام حتى في الأشهر الحرام يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [٢: ٢١٧]، والقتال أمرٌ إلهي يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [٨: ٩٥]، صحيحٌ أن الحرب بها خسائر ولكنها خسائر متبادلة إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، بالإضافة إلى أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
وجيلًا بعد جيل، بعد تغيير كتب التربية الدينية والقومية، وتغيير كتب التاريخ والجغرافيا، تضيع منا روح النضال، وتخمد فينا روح المقاومة، وتضيع منا إرادة الصمود، وتنتهي الشعوب إلى الاستسلام لهزائمها، وقبول مقاديرها، وتفرض عليها سياسة الأمر الواقع التي طالما حاول الاستعمار فرضها على الشعوب، حتى لا تتحرك وتأخذ مصائرها بأيديها من جديد، في حين أن هزائم الشعوب قد ولدت فيها روح النضال، وقوَّت فيها روح المقاومة، فيتحول العدو الخارجي إلى تحدٍّ حضاري. حدث ذلك في تاريخ بني إسرائيل قديمًا بعد الأسر البابلي، فما كان من كتابها وشعرائها ومفكريها ورواتها إلا أن حفظوا روح الأمة وتراثها رمزًا لمقاومتها وعدم اندثارها، وسجَّلوه فيما سُمي فيما بعد بالتوراة أو الكتاب المقدس أو العهد القديم «تناخ». وحدث ذلك أيضًا عندنا إثر هجمات التتار وغزوات المغول، فحفظت الأمة تراثها في الموسوعات الضخمة التي ورثناها من العصر المملوكي، عصر الشروح والملخصات، وكنا إلى عهدٍ قريب ونحن في قمة الهزيمة قد عبَّرنا عن روح الصمود باللاءات الثلاث: «لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف»، التي أصبحت الآن موضع سخرية أو استهزاء. إن الهدف هو هزيمة روح الأمة، وكسر شوكتها، وضياع كرامتها، وإهانة شعوبها، وركوب قلبها، والنزول إلى أحياء الحسين والأزهر من تل أبيب للشراء من خان الخليلي، قلب الأمة وحفاظ تراثها، وكأننا أصبحنا متحفًا وذكريات يحملها السائح الأوروبي الجديد معه، ورؤية القادة الجدد الأهرامات، وركوبهم الترام، ورفضهم السكنى في الضواحي دون قلب المدينة حتى تكون المدينة فيما بعد بلا قلب وبلا حرمات. وطالما ذكر عبد الناصر من قبل ما قاله اللنبي قائد الجيوش البريطانية إلى القدس: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»، أو ما قاله القائد الفرنسي جورو في دمشق أمام قبر صلاح الدين: «ها قد عدنا إليك يا صلاح الدين»، والآن يقول حكامنا الصهاينة الجدد: «ها قد عدنا إليك يا قاهرة المعز». ولا عجب أن يهدى إلينا «دلالة الحائرين» لموسى بن ميمون، ونحن نفرح به دون أن نعي المقصود به: كانت حضارتنا نحن اليهود في عقر داركم وإليها ستعود. ولا عجب أيضًا أن يعلن حكامنا الصهاينة الجدد فتح حدود مصر من داخل إسرائيل، ورفضهم اعترافنا بهم، وهو الاعتراف الذي طالما تمنَّوه؛ فلهم اليد العليا، والمعركة لديهم معركة كبرياء. فإذا ما انتهت روح المقاومة والنضال سلكت الشعوب، كي تأخذ حقوقها، أسلوب الأخذ والعطاء وطريق التجارة والفصال، وضاعت منها روح المبادئ التي لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها. تتحول الشعوب إلى شعوبٍ تجارية، تبيع كل شيء، وتضيع منها عناصرها التاريخية الثابتة، في حين قد استطاعت المقاومة عن طريق الثبات على مبادئها. وقد استطاعت الصهيونية أن تحصل على ما تريد عن طريق التشبث بأهدافها وعدم التنازل درجة واحدة عن متطلبات أمنها. وقد انتصرت رسالات الأنبياء في التاريخ أيضًا عن طريق عدم التنازل عنها «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته»، أو كما يقول القرآن: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [٣: ١٧٣]. ولقد اتصفت جميع الثورات الكبرى في التاريخ بالجذرية، وإلا تحولت الشعوب إلى أقلياتٍ تستجدي حقوقها وتصبح مهددة بالقمع أو الاستئصال.
حينئذٍ تبدأ الشعوب في المساومة على حياتها من موقف الضعيف أمام القوي، وتستعمل أسلوب الاستجداء العاجز، واستثارة نخوة الغالب وإنسانيته وعدالته، وتستمر في الاستجداء حتى يأنف منها الأصدقاء ويزداد احتقار الأعداء لها، بالرغم من مظاهر الترحيب وعبارات المجاملات، ويرمون لها بالفتات الذي تفرح به، وتعتبره انتصارًا لها. واستردادًا للعزة القومية تستنصر القوى الكبرى، تستنصر الشعوب المحبة للسلام، ولكن الأولى لا تعرف إلا لغة القوة، والثانية لا تملك من القوة شيئًا، وقوتها معنوية أكثر منها فعلية. في الواقع السياسي لا يتغير شيئًا إلا بالقوة الفعلية. وقد حذر من قبل «إقبال» من أسلوب الشحاذة والشكاية والاستجداء، وخطورته على حياة الأفراد والشعوب، وسمَّاه «فلسفة السؤال»، وفي نفس الوقت نردد: «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى»!
ثانيًا: نهاية مشروعنا القومي
وسيوحي السلام لشعوبنا بأن ثوراتنا العربية الأخيرة، التي قامت كردِّ فعلٍ على هزيمتنا في فلسطين في ١٩٤٨م قد انتهت، وأنها كانت عاجزة عن تحرير فلسطين، بل إن مزيدًا من الأراضي قد ضاع في عهدها، وأنها كانت سببًا في انتكاسات الأمة. وبالتالي نتوب عما قمنا به، والتوبة الصادقة كما يقول الصوفية تقتضي الندم على ما فات، وترك الذنب في الحال، وعدم العودة إلى مثله في المستقبل! تحدث لدينا عقدة الذنب بأننا سلكنا الطريق الخطأ! وما كان أجدانا أن نقبل قرار التقسيم في ١٩٤٧م، أو قبول الاستسلام بعد هزيمة ١٩٦٧م؛ فالثورة طريقٌ مسدود، فورةٌ سرعان ما تنطفئ، يسلبها منا القادة ثم لا يستطيعون الصمود. لذلك كان المطلب في كل اعتداءٍ علينا تحريرنا من الطغمة الثورية التي سببت لنا الهزائم وخربت الديار، وهدمت المدن، وشردت المواطنين! وبالتالي تنتهي روح الثورة من الشعوب، وتكون الثورة العربية التي كانت رائدة الثورة في العالم الثالث، تكون تلك الثورة الأم قد تمت تصفيتها وإدانتها واعتبارها خطأ لا بد من التكفير عنه، واستثناء في تاريخ أمة هادئة الطبع، ترفض العنف والغضب، وتكرم الضيف، وتحب الجار، وتسامح المعتدين.
ولما كان لكل أمةٍ مشروعها القومي، فلا يوجد شعب إلا وله رسالة بها يحيى وبدونها يموت؛ فالشعوب السلافية تقوم على حب الأرض والدفاع عن روسيا الأم (إيفان الرهيب)، والشعوب الجرمانية تعتز بروحها وثاقتها ولغتها (فشتة)، والشعب الأنجلوسكسوني يعتز بديمقراطيته ودساتيره ومجالسه النيابية (كرومويل)، والشعب الفرنسي يفخر بوطنيته وثورته (جان دارك ونابليون)؛ فإننا صغنا مشروعنا القومي في مبادئ الثورة الستة ثم في «الميثاق الوطني»، يقوم على مناهضة الاستعمار والرأسمالية والصهيونية والرجعية، ويحقق آمال الأمة في الحرية والاشتراكية والوحدة. يعني السلام بالنسبة للعدو ونحن وراءه إنهاء مشروعنا القومي. فقد أيدنا الاستعمار في مطالبنا على مائدة المفاوضات، وأعلنا بأن الرأسمالية لم تعد جريمة، فليكسب كل منا ما يشاء ويدفع ضرائبه للدولة أو يتهرب منها، وأن العمل ليس وحده مصدر الثروة، وأدركنا أخيرًا أن الصهيونية أقامت دولةً متحضرة ندخل معها في علاقاتٍ طبيعية، ونغمض أعيننا عما تفعله في جنوب لبنان وعن احتلالها لفلسطين، وبيعها لأراضيها وتشريد شعبها. تمزق العالم العربي أربًا، وانعزلت مصر قلبه النابض، واكتشفت أنها خسرت في حروب العرب الرجال والأموال، وأن ما أنفقته في معارك العرب كان أولى بها أن تنفقه للبناء والتعمير. أما حرياتنا فلا يجوز لها المساس بالكيان الصهيوني أو الاعتراض عليه، وإلا اعتبر ذلك معاديًا لاتفاقيات السلام، ودعوة للمشاغبة، وبثًّا للكراهية بين أولاد العم. وبالتالي ينتهي مشروعنا القومي، ونصبح شعوبًا بلا هدف، وتصبح الصهيونية هي الصوت الوحيد المسموع في المنطقة، تحل محل القومية العربية، وتكون مفتاح القوى في الشرق الأوسط ومركز الثقل فيه، وتقوم بدور مصر التاريخي حتى ولو بدت مصر في أعقابها كحليفٍ ومساعد لها.
فإذا ما تم ذلك انتهى دورنا في تأييد حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، تلك التي بدأناها وأيدناها وقويناها وأصبحت جزءًا من فخرنا في حياتنا المعاصرة، بل تحولنا إلى حركة تحرر مضادة ترى في حروب التحرير استعمارًا جديدًا وتدخلًا سوفييتيًّا وصراعًا أيديولوجيًّا بين القوى الكبرى. وقد كان في القاهرة إبان المد الثوري العربي أكثر من ثلاثمائة ممثل لحركات المقاومة ولمنظمات التحرير في أفريقيا، فينتهي دور القومية العربية كرائدة لحركات التحرر في العالم، وتسبقنا شعوبٌ أخرى تأخذ منا الريادة، فلا نحن أصبحنا ثورة وطنية ولا نحن أصبحنا قوةً كبرى يثار عليها، بل أصبحنا ثورة مضادة نهدم ما بنيناه بأيدينا ونتخذ من أعداء الأمس حلفاء اليوم.
وهنا أيضًا ينتهي التعاون المشترك مع المعسكر الاشتراكي الذي كان الحليف التاريخي لمعظم حركات التحرر الوطني يمدها بالتأييد المادي والمعنوي، بل إننا نعاديه، ونعتبره لا يقل استعمارًا وهيمنة عن الاستعمار الغربي الرأسمالي التقليدي، ونصِفه بأنه أصبح زعيم الثورة المضادة في العالم، يمنع تزويد السلاح، ويرفض إعادة جدولة الديون، ويريد دوران العالم الثالث في فلكه، وربطه بالمعاهدات والأحلاف، يعادي القوميات، ويثير الانقلابات، ويجند العملاء. وهذا لا يعني أن المعسكر الاشتراكي خارج دائرة النقد، وأن الدول الاشتراكية لا تؤثِر أحيانًا مصالحها الخاصة كدولٍ على دورها التاريخي كثورات، ولكن نقد الثورة للثوار شيء ونقد الثورة المضادة للثوار شيءٌ آخر. وهكذا نصبح بلا حلفاء، ونقطع جسورنا، وحلفاؤنا الجدد يؤيدوننا بالكلمات والنوايا الحسنة، وجسورنا الجديدة لم يمر عليها عتاد بعد.
ثالثًا: الغرب كحليفٍ طبيعي
ولما كان السلام سيأتي بفضل تدخُّل الاستعمار وبمعاونته فإن الغرب وهو موطن الاستعمار الأول يصبح حليفًا طبيعيًّا لنا؛ فقد ناصرَنا في قضايانا المصيرية، وأرجع إلينا أرضنا وأحيا لنا شبابنا، وأرجع البسمة إلى وجوه أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا. نصبح جزءًا من الغرب، ويصبح الغرب مرجعنا الأول. لقد استرددنا أرضنا سلمًا بمعاونة الغرب وخسرناها حربًا بمعاونة الشرق! ثم نقع في «التغريب» بأيدينا، تغريب وعينا القومي. ولما كان الغرب نفسه هو الحليف الطبيعي للولايات المتحدة الأمريكية، فإننا أيضًا نصبح حليفًا لها، وهي التي تملك بناصية مصيرنا القومي، وبيدها ٩٩٪ من أوراق اللعبة في المنطقة، وهي التي بيدها مفتاح الحياة والموت لنا ولأعدائنا!
ثم نتبنَّى نظام الغرب الاقتصادي، وتصبح الرأسمالية النظام الأصلح لنا. والواقع أن الغرب لم ينصِّب نفسه مدافعًا عن قضايانا، إلا بعد أن اطمأن إلى أننا أصبحنا من حلفائه الاقتصاديين، فتأتي رءوس الأموال الأجنبية، وتفتح الشركات العالمية فروعًا لدينا، ويفرض البنك الدولي شروطه، ويطالب برفع الدعم عن الأسعار، وتعفى شركات الانفتاح من الضرائب لمدةٍ معينة، ويتم الاستيراد والتصدير بلا قيود، ونعود من جديدٍ إلى اقتصاد ما قبل طلعت حرب، وتكون أقصى أمانينا لأجيالٍ قادمة تكوين اقتصاد وطني، وإلغاء المعاهدة مع بريطانيا الجديدة، ومقاومة المستعمرين الجدد، وكأن التاريخ لا يمثل بالنسبة لنا تراكمًا حضاريًّا. نعود كما بدأنا، ونبدأ كي ننتهي ثم نعود من جديد دون أن نكسب خبرة، أو نتعلم من دروس التاريخ، ودون أن يبقى لدينا رصيد سياسي ومخزون تاريخي يسمح لنا برؤية المستقبل حتى لا تتكرر أخطاؤنا. وفي نفس الوقت نفخر بأننا حضارة سبعة آلاف سنة، وما حققته الصهيونية أخيرًا من إعادة دولة بني إسرائيل، هو في الحقيقة تراكمٌ طويل من خبراتهم التاريخية عبر آلاف السنين.
ثم نستورد مع النظام الرأسمالي مشاريع الغرب وقيمه الحضارية، فتنشأ لدينا أنماطٌ جديدة من الحياة، نقلد بها غيرنا. فمجتمع الرفاهية لا يقدر عليه إلا الأغنياء؛ أي الأقلية المترفة في مجتمعاتنا، وزيادة الإنتاج تتطلب قدرةً على الإنتاج، لا نملك مواردها ولا أساليبها. ويبقى لنا زيادة الاستهلاك أي امتصاص اقتصادنا الوطني وابتلاعه أولًا بأول بلا عائد ولا ادخار. وتفرض قيم الاستهلاك نفسها علينا مع رغبةٍ زائدة في النهم والثراء ومظاهر الغنى وأساليب البذخ عند الطبقات التي انقلبت من الفقر إلى الغنى دون جهد وبلا وقت وبغير أهلية، وتنتهي الأمة كما وصف ابن خلدون. يصدِّر الغرب مشروعه القومي — أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدرٍ ممكن من الاستهلاك لأكبر قسطٍ ممكن من الرفاهية — بعد أن ثبت فشله لديه بعد أزمة الطاقة، وسيطرة الشعوب المتحررة على مواردها الأولية وثرواتها الطبيعية، وأزمة الحضارة الغربية ذاتها التي تعبِّر عنها ثورة الشباب وانحرافهم ووقوعهم في حلقات الذكر أو غرز الحشيش أو انضمامهم إلى جماعات الرفض العلني أو السري.
وأخيرًا، تضيع هويتنا القومية، ونتخلى عن تاريخنا الطويل، ونستأصل جذورنا بأيدينا، ويأمن الاستعمار مخاطر ثقلنا التاريخي ويقظة وعينا القومي التي يشوهها الغرب بدراساته الأنثروبولجية عن المأثورات الشعبية والحضارات القديمة وأشكال التخلف وبدايات الإنسان، وتكون روحنا قد أصبحت أسيرة حتى يُقضى عليها بالموت بطيئًا، ونكون أمام مجتمعٍ يعض بالنواجذ على هويته في الطعام والشراب، في المسكن والملبس، في العادات والتقاليد، يفخر بنقاء عنصره دون اختلاط الأنساب، ويعتز باستمراره عبر التاريخ بالرغم من حياة الجيتو بين الشعوب.
رابعًا: الصهيونية كنموذج للتحديث
فإذا ما استطاع السلام أن يبرز محاسن العدو وأسلوبه في الحياة، وزراعته للصحراء، وبنائه للمستعمرات، وتعميره للخراب، وإقامته المدن الجديدة، وإنشائه القرى السياحية، وتخطيطه الموانئ على السواحل، واستخراجه ثروات الأرض، أصبحت الصهيونية نموذجًا لتحديث مجتمعاتنا، نرسل إليها البعثات، ونجلب منها الخبراء، ونبعث إليها الأفواج السياحية، ونستقبل منها الوفود. وما استطاعت الصهيونية القيام به من قبل في أفريقيا على أنها نموذج للتحديث وقاومناه، قامت به الصهيونية لدينا في عقر دارنا وفي قلب العالم العربي وقبلناه. فبدل أن كان الغرب نموذجًا للتحديث حلَّت الصهيونية القريبة محله. إن أقصى ما نستطيع أن نعطيه هي السواعد الفتية، والأيدي العاملة، والمواد الخام، والأسواق والأموال. أما الفن وأساليب الإنتاج والعلم كل ذلك تقوم به الصهيونية فتكون بالنسبة لنا الروح ونكون بالنسبة لها الجسد. هي مصدر الخبرة ونحن مادتها، ولا حياة لنا بدونها. ونعود إلى دور رجال المال الأجانب وخبراء الغرب في حياتنا المعاصرة. ونعود من جديد إلى المطالبة بالخبرة الوطنية التي نفخر بها كل يوم في جامعات الغرب ومعاهده ومستشفياته ومؤسساته ومعامله.
فإذا ما تمت المقارنة بين حياتنا وحياتهم، وفقرنا وغناهم، وتخلُّفنا وتقدمهم، وهمجيتنا وتحضُّرهم، وجهلنا وعلمهم، وخيانتنا وولائهم، نشأ لدينا الإحساس بالدونية، وأصبح أقصى مطمح لنا في الحياة هو اللحاق بهم وتقليدهم والوصول إلى مستواهم. يصبح ما لديهم مقياسًا لسلوكنا ومعايير لقيمنا. وبالتالي يضيع ما ناضلنا من أجله منذ فجر النهضة العربية من اعتزازٍ بالتراث، وإثبات للهوية، ودفاع عن القومية، ونصبح ضحايا العنصرية الحضارية، ونؤكد في أنفسنا العجز، ونرى بأعيننا ما روجه الغرب عن الصدمة الحضارية أو الفجوة الحضارية، وأن الفجوة بيننا وبينهم تتسع أكثر فأكثر كلما مر الزمان؛ لأن معدل لحاقنا بالتكنولوجيا المتطورة أبطأ بكثيرٍ من معدل إنتاج الغرب لها. وبالتالي فالزمان والتاريخ بالنسبة لنا يعنيان مزيدًا من التأخر؛ فالعالم يتقدم إلى الأمام ونحن نتقدم إلى الوراء. ولما كانت الصهيونية جزءًا من العالم ومحركه الأول بأموالها وعبقريتها أصبحنا نحن خارج العالم بفقرنا وجهلنا.
فإذا ما تم ذلك قبلنا الصهيونية كفكرة، ورأيناها كما ادَّعت الصهيونية دائمًا حركة تحرر للشعب اليهودي. فقد استطاعت تجميع اليهود من الشتات وإقامة دولة، وكسب ثلاثة أو أربعة حروب، وأدركنا أن ما كان يروج بيننا من أن الصهيونية حركةٌ استيطانية توسعية عسكرية عنصرية، كان دعابةً همجية ضد شعوبٍ متحضرة. وبالتالي يضيع أكبر مانع كان يحفظنا من الغزو الصهيوني وهو الاعتقاد، وهو ما تسعى إليه الصهيونية الآن بعد أن استولت على الأرض، أرض فلسطين، وشردت الشعب، شعب فلسطين، ومحت الاسم، اسم فلسطين. ويكون أكبر انتصار حققناه لها يضمن لها البقاء. لن تحتاج الصهيونية بعد ذلك إلى جيوشٍ وأساطيل بعد أن رأينا العربي الإسرائيلي واليهودي الإسرائيلي يعيشان سويًّا، ونسينا وضع اليهود الشرقيين داخل الدولة الصهيونية الذين يكونون أكثر من ٦٠٪ من السكان، والذين يعيشون على هامش الحياة دون سلطة أو تمثيل في المجالس النيابية أو في السلطة التنفيذية، أو في قيادات الجيش أو طلابًا وأساتذة في الجامعات، نسينا أن اليهودي لا يكون كذلك إلا إذا كان بولنديًّا أو روسيًّا أو أمريكيًّا.
وأخيرًا، تتم صهينة العالم العربي ككل، وتصبح الصهيونية بديلًا عن القومية العربية. تأخذ الصهيونية تاريخنا وتشكل حاضرنا وتصنع مستقبلنا، وتحقق حلم الصهيونية القديم بأن تكون الحضارة العربية والإسلامية جزءًا من الحضارة اليهودية، كما هو واضحٌ في دائرة المعارف اليهودية، وأن تكون الحضارة اليهودية هي ممثل الحضارات السامية كلها، ونموذجها الأوحد. ويدافع كلٌّ منا عن الصهيوني المضطهد، ويقول كتابنا ورؤساء تحرير صحفنا إن اليهودي ليس ذلك الأحدب الظهر، المقوس الأنف، الأصلع الرأس، الأخنف الصوت، المرابي الذي صوَّره شكسبير في شخص شيلوك، ولكنه إنسانٌ حسن المظهر والهندام، حسن المعاشرة، دمث الأخلاق. لا تصبح القدس المدينة التي كان العرب يتبولون على حوائطها كما يقول أحد كتابنا، بل المدينة الجميلة الحديثة النظيفة بعد أن استولى عليها اليهود. بل ويفتخر بعض قادتنا وكتابنا، بأن لكلٍّ منهم أصلًا يهوديًّا، وكان مجهولًا لديه من قبل واكتشفه بعد السلام، عن طريق الأم أو عن طريق الزوجة، حتى يتم الرباط بالدم عن طريق الرحم؛ فاليهودي هو من تكون أمه يهودية، وينشأ في رحمٍ يهودي.
تلك هي مخاطر السلام، في بساطةٍ ووضوح، وبحماس الطالب إن لم يكن بعلم الأستاذ؛ فالأمن المطلوب ليس هو الأمن العسكري بل الأمن الحضاري، وها نحن قد أعطيناه لهم، جيل السلام.