لا مفر من الصمود والحوار١

لم ترَ مصر طول تاريخها، حتى في أيام المماليك، وضعًا ثقافيًّا أسوأ مما عليه الآن، فعلى الأقل، حفظت مصر التراث الإسلامي في عهد المماليك في الموسوعات الكبيرة، فيما يسمى بعصر الشروح والمخلصات. أما الآن، وبالرغم من النهضة التي بدأناها منذ مائتي عام، والمكاسب الضخمة التي حصلنا عليها: العقل والحرية من الإصلاح الديني (الأفغاني ومحمد عبده)، والطبيعة والتقدم في الفكر العلماني (شبلي شميل وفرح أنطون)، والوطن والدستور في الفكر القومي (الطهطاوي ولطفي السيد) … فإننا خسرنا ما كسبناه، خاصة في العقد الأخير، فانتهى الإصلاح الديني إلى محافظةٍ عقائدية شعائرية صورية، وانتهى الفكر العلماني إلى وقوعٍ في الوهم والخرافة والاستكانة والخنوع، وانتهى الفكر القومي إلى وقوعٍ في النظم الثيوقراطية والأبوية القديمة.

انتهى الإبداع نهائيًّا من حياتنا الثقافية، إلا بعض ومضات من أدبائنا الشبان، تبقى من خلالها روح الأمة؛ فالإبداع مشروطٌ بالحياة الثقافية الطبيعية، حيث تسود التيارات الثقافية والعلمية، يقارن بينها الفنان أو الأديب أو المفكر أو العالم، ثم يختار في حريةٍ تامة، ينفعل بها جميعًا، يؤيد واحدًا ويرفض الباقي، أو يرفضها جميعًا ويشق له تيارًا خاصًّا، ذلك لا يأتي إلا في جو الحرية الفكرية والحياة الديمقراطية، وهما لا يتوافران في مجتمعاتنا الحالية.

هذا بالإضافة إلى ارتباط المبدع بالقضايا المصيرية للبلاد، فلا إبداع من منازلهم، ولا خلق من مواكب المتفرجين المصفقين. ولما كانت القضايا الوطنية المصيرية — مثل الحرب والسلام والرأسمالية والاشتراكية — حكرًا على السلطة السياسية، لا يتطرق إليها المواطنون، فإن مصادر الإبداع قد تم القضاء عليها. وأصبح المبدعون بلا وطن، هائمون على وجوههم في الطرقات وعلى المقاهي وفي المنتديات يبكون حظهم.

بل إننا فقدنا الحماس لعمل أي شيء.

والترجمات الزاهرة التي قام بها الطهطاوي وتلاميذه، والبعثات التي أرسلها محمد علي، نكصنا عنها، وظللنا نترجم بلا تخطيطٍ وبلا هدف مقصود، وألفنا عن طريق الترجمة غير المباشرة، والسرقات وعدم ذكر المصادر، وجمع المعلومات وترتيبها وتنسيقها، فلا هي ترجمة أمينة كما كنا نفعل في الماضي، ولا هو تأليف مبدع كما ينبغي أن يكون. وفي رؤيتنا للواقع، غابت التحليلات النظرية التي تعتمد على أسسٍ ثقافية، بل وابتلعت هموم الدنيا عقولنا، وركبنا الواقع بدلًا من أن نسوده نحن. وبالتالي عشنا بلا ثقافة … إبداعًا، أو نقلًا، أو رؤية.

ومع ذلك، فإنه يمكن رصد أربعة اتجاهات ثقافية، تظهر بين الحين والآخر في حياتنا العامة والخاصة؛ الأول: الاتجاه الديني المحافظ الذي تتبناه الدولة، والذي يظهر في الدين العقائدي الشعائري، والذي تغلب عليه الصورة دون المضمون … وهو الطريق السهل الذي يعطي للناس تحقيقًا سريعًا لمتطلبات الإيمان، ويترك الطريق الصعب … طريق تحقيق النظام الاجتماعي والسياسي الديني، أعني قضيتَي العدالة الاجتماعية والحرية.

والثاني: الاتجاه العلماني التقدمي الذي ترفضه الدولة، والذي أصبح محاصرًا من السلطة ومحصورًا عند الشعب، وكأنه صرخةٌ في غير وادٍ، نظرًا لعدم تأصيله في تراث الأمة.

والثالث: الاتجاه الوطني التقدمي الذي ورثناه من ثوراتنا الأخيرة، والذي بدأ يخبو ويتحول إلى اتجاهٍ مضاد، والذي ظل حتى في أوقات ذروته شعارات وأماني.

والرابع: هو اليسار الإسلامي الذي يحاول صياغة قضايا المساواة والحرية ابتداءً من تراث الأمة، داعيًا إلى تحريك الجماهير وتحذيرها على المدى الطويل، خاصةً بعد فشل الاتجاهات الثلاثة الأولى.

أما أزمة الحريات في مجتمعاتنا الحالية، فإنها ليست وليدة القوانين الاستثنائية والاستفتاءات الشعبية، ولكن تمتد جذورها إلى تراثنا الطويل، الذي يكفر جميع فرق المعارضة باستثناء فرقةٍ ناجية واحدة، وهي الحكومة، وتبرير العقل للمعطيات دون تحليلها، وسيادة الرؤى الإلهامية دون الحوار العقلي بين البدائل، وحرفية التفسير، والبدايات اللغوية والنصوص التي تغفل معطيات الواقع، وسلطوية التصور، وهرمية البنيان النفسي لشعورنا. كل ذلك — في الواقع — يحتاج إعادة بناء حتى يمكن تجاوز أزمة الحريات. وقد عرضنا ذلك في مقالنا «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر.»٢

وبالنسبة لتطبيع العلاقات الثقافية مع إسرائيل فإن العلاقات الثقافية هي نتيجة للعلاقات السياسية؛ فالثقافة هي سياسة على مستوى النظر، والسياسة ثقافة على مستوى العمل. وبالتالي فإن ما يحكم طبيعة العلاقات الثقافية، هو نفسه الذي يحكم طبيعة العلاقات السياسية. وعلى ذلك، فسيأتي المثقفون والعلماء من الجانب الآخر بنيَّة تحديثنا وتعليمنا وتثقيفنا، وليس بنيَّة الحوار المتكافئ بين الطرفين، مما يسبب عند جماهيرنا عقدة «الخواجة» من جديد.

ومع ذلك، فإن مخاطر تطبيع العلاقات الثقافية تتمثل في كل حياتنا، وستفرز الصهيونية ثقافتها بيننا، يعاونها في ذلك الاستعمار والرأسمالية، فمثلًا ستعتقد جماهيرنا بأن الجهاد لن يؤدي إلى شيء، وأن الحرب خاسرة بالضرورة. وبالتالي تضيع روح النضال، وتظل شعوبنا تستجدي حقوقها من الأقوياء، والفصال فيها والتجارة عليها والتنازل عنها شيئًا فشيئًا، حتى نتخلى عنها بفعل الزمن، ونتحول إلى أقليةٍ في دارنا نتمثل حضارة الأقوياء.

ستفرز الصهيونية في حياتنا قيمها؛ فالصهيونية وسيلة تحديث لنا، حركة تحررية للشعوب المضطهدة حتى ننسى عنصريتها وعسكريتها وعدوانها وتوسعها. نقبل الصهيونية أخيرًا كفكرة، حتى تتم صهينة العالم العربي من خلالها، وتكون بديلًا عن القومية العربية في المنطقة.

وسيدخل الاستعمار أيضًا مع الصهيونية لإثبات فشل مشروعنا القومي الذي وضعناه بعد ثوراتنا الأخيرة العربية: معاداة الاستعمار والصهيونية والقضاء على الإقطاع والرجعية والرأسمالية. وبالتالي ننهي تعاوننا مع حركات التحرير العالمي، ونغير أحلافنا من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الرأسمالي، أو الرجوع إلى الحليف التقليدي في الغرب، وإلى اقتصادنا التقليدي في الرأسمالية، وتعمُّنا قيم الغرب الاستهلاكية، وتضيع هويتنا القومية، ويضيع ما حاولناه منذ طلعت حرب من محاولات إنشاء اقتصاد قومي وصناعة قومية. سينبهر شبابنا بإسرائيل الحديثة بعد تبادل الزيارات طلابًا وأساتذة وبعثات، وتكون إسرائيل نموذج التحديث في العالم العربي، وتذهب إليها العقول المهاجرة والعمالة، وتأخذ رأس المال والخبرات، وتكون الصهيونية هي الحليف الطبيعي لنا.

لقد حاولت الصهيونية ابتلاع الأرض — أرض فلسطين — ثم تحاول الآن القضاء على الشعب — شعب فلسطين — بسياسة المستوطنات في الضفة الغربية وغزة والقدس، واستئصال شعب فلسطين من جنوب لبنان، كما تحاول القضاء على مجرد الاسم، والآن تحاول تصدير البديل: إسرائيل والصهيونية، تحاصر مصر وتعزلها عن العالم العربي؛ فهي وإسرائيل هما جزيرتا الحضارة وسط الشعوب الهمجية كما قال أحد كتابنا، ويفتخر كاتبٌ آخر بأن جذوره إسرائيلية، ويدافع كاتبٌ ثالث عن اليهود في التاريخ، بأنه ليس صاحب الأنف المقوس والصوت الأخنف والصلعة البيضاء، وليس كل يهودي هو «شيلوك» شكسبير. وهكذا آتت العلاقات الثقافية الطبيعية أكُلها بيننا من قبل أن تبدأ رسميًّا.

هناك ضرورة لاستمرار الروافد الثقافية للنهضة التي بدأت منذ مائتي عام؛ فالإصلاح الديني يستطيع أن يربط بين العقيدة والثورة، بين التوحيد والتحرر، بين الحياة الأبدية ومقاومة الصهيونية، بين الروح والبدن، حتى يتحول الإسلام في حياتنا إلى فلسفةٍ للمقاومة والصمود، ويستطيع الفكر العلماني إعادة تحريك دعواه إلى العلم والتقدم والاشتراكية والحرية؛ فهي أفكارٌ ما زلنا نتخوف منها ونكفرها. ويستطيع ما حاوله لطفي السيد والطهطاوي من تأسيس للأمة والدستور، ودعوة لقيام الدولة الحديثة؛ أن يعيد ما خسرناه، وأن يبين لنا أن الدولة ليست إرهابًا وتسلطًا وإدارة فردية وقهرًا وطغيانًا وضياعًا لحقوق الناس.

لا مفر أمامنا إلا إجراء حوار حول الوحدة الوطنية ضد التسلط الثقافي وواحدية الطرف في الرأس؛ حوار بين اليمين واليسار، بين الاتجاهات الدينية والاتجاهات العلمانية، بين الإخوان والماركسيين، ويدخل كطرفين في الحوار ثورة يوليو؛ التي حاولت تطوير الواقع متجاوزة الأيديولوجيتين المعروفتين، واليسار الإسلامي؛ الذي قد يكون في النهاية بوتقة الحوار الوطني وخلاصته.

ولا مفر أمامنا إلا من تحمل مسئولية الثقافة ضد الحرفية، وضد إيقاع المثقفين في التخصص المهني، وكأنهم آلات إنجاز أو خبراء أجانب، وضد التكسب وعمليات التجارة وأساليب البغاء في حياتنا الثقافية، وضد الهجرة إلى الخارج، ونزيف عقل الأمة في العالم العربي أو في أوروبا وأمريكا؛ فالمقاومة في الداخل وليس في الخارج، وتغيير الأمر الواقع خطوة أفضل من عشرات المجلات وجرائد المعارضة في العواصم الأجنبية، وضد الهجرة إلى الداخل والانزواء والانطواء، والاكتئاب والإحباط واليأس والجنون والانتحار.

لا مفر أمامنا إلا من الصمود الذاتي داخل الدوائر الضيقة، والقيام بمبادراتٍ فردية في نشر محاولات الإبداع للأدباء والمفكرين الشبان. وإن ما ظهر حتى الآن مثل «الفكر المعاصر» و«كتابات» و«اليسار الإسلامي» — عن قريب — لبوادر خير، وعادةً تبدأ الثقافة في الازدهار في أحلك اللحظات التي تمر بها الأمم، وفي أقصى ساعات الهزائم، فإذا ما عجزت الجيوش والنظم استطاعت الأقلام والعقول.

١  كتاب الموقف الغربي، ١٤٠١ﻫ/١٩٨١م.
٢  المستقبل العربي، يناير ١٩٧٩م وأيضًا الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، (٢) الدين والتحرر الثقافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥