قبل الانتفاضة وبعدها١
لشدَّما هو أقسى على النفس عندما يشعر المفكر العربي أن الأحداث قد سبقته، وأن دوره يأتي بعد الأحداث لينظر لها بفكره الثوري، ويزايد عليها لعله يستطيع أن يكون له دورٌ وسط الأحداث التي طالما كان يرجو قيادتها، وهو الآن يشعر أنه قد تخلَّف عنها. فإذا فعل فإنه لا يزيد على التنظير التقليدي؛ إما بنظرية في الثورة ضد الاحتلال الصهيوني والإمبريالية العالمية باسم فلسطين مرة، وباسم العروبة مرة ثانية، وباسم الإسلام مرة ثالثة، وهو ما عرفه الجميع من قبل، وطالما سمعنا وتحدثنا من قبل عن الوطنية والعروبة والإسلام ولم تحدث ثورة.
ومع ذلك، وبالرغم من هذا الإحساس بالذنب أمام الأطفال والنساء والشيوخ: أنهم سبقوا المفكرين، وقاموا بالثورة قبل التنظير لها، وبالرغم من الإحساس بالتقصير النظري، أننا لا نملك إلا المفاهيم التقليدية للثورة بعد أن قامت بها الجماهير في الأراضي المحتلة، وأننا ما زلنا قاصرين عن الإبداع الثوري في العمل والنظر؛ بالرغم من هذا كله فإنني أحاول أن أتجاوز هذا الحصار النفسي، وأدلي بهذا الاعتراف أمام النفس، وأقدم هذه الشهادة للتاريخ، ليس إبراءً للذمة أو تكفيرًا عن الذنب، ولكن عقدًا للنية على الاجتهاد، وعقد للعزم على أن تكون الانتفاضة ليس فقط الطريق إلى دولة فلسطين المستقلة، ولكن أيضًا بداية صحوة الفكر العربي، وتمدينه لنفسه وإدراكه لمدى قدراته على الفهم والإبداع.
تدل هذه الانتفاضة، ما قبلها وما بعدها على عدة حقائق على النحو الآتي:
-
(١)
أسقطت الانتفاضة نظريتين شائعتين سادتا الفكر السياسي في المنطقة؛ الأولى: استمرار الاحتلال العسكري طالما كانت له القوة المسلحة، وطالما سكنت الجماهير وتأقلمت معه، وتعودت عليه، وأصبح جزءًا من حياتها اليومية، حتى مع سياسة تهجير الشباب خارج البلاد، والاستيلاء على الأراضي بالقوة، وإدماج الباقي في النشاط الاقتصادي للنظام العنصري. والثانية التثوير من الخارج عن طريق المقابلات والزيارات والمفاوضات الجانبية والرسائل المتبادلة ولجان التنسيق والنداءات والوعود، وهي كلها بلا مضمون، تحركات بلا واقع يسندها، فلا مفاوضات بين الشعوب الواقعة تحت الاحتلال ومحتليها إلا تحت ضغط المقاومة وخسائر العدو، كما كان الحال في فيتنام والجزائر. ثم بدأت الانتفاضة الفعلية على أرض الواقع، وتحركت جماهير الشعب الفلسطيني لتبين أنها أصدق من النظريتين السابقتين؛ فلا الاحتلال استمر، ولا التثوير من الخارج قد تم.
-
(٢)
قامت جماهير الشعب الفلسطيني بالانتفاضة من الأطفال والشباب والنساء والشيوخ، وليس جيش التحرير الفلسطيني والمنظمات الفدائية الفلسطينية؛ مما يدل على أن جيش الشعب ما هو إلا بلورة لنضال الشعب. بدأت الانتفاضة بالحجارة لا بالرصاص، وبالزجاجات لا بالمدفع الرشاش، يحملها الأطفال والنساء والشيوخ لا رجال المقاومة، وعلى نواحي الطرقات وفوق أسطح المنازل لا من الكمائن وعن طريق حرب العصابات؛ فالشعب يثور على أرضه، ولا احتلال للأرض إلا فوق الأجساد. وبالتالي سقط تصور إعطاء أرض بلا شعب إلى شعبٍ بلا أرض، وثبت صحة تصور «إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق.»
-
(٣)
وأمام هذه الحركة الشعبية انهار الجند المدجج بالسلاح الذي تعوَّد على مقاتلة جند مثله، وبما له من عدةٍ وعتاد لم يتصور مرةً أنه سيقاتل طفلًا أو امرأة أو شيخًا بلا سلاح. وبالتالي يتحول إلى شرطة أمن، وظيفته المحافظة على نظامٍ وليس الدفاع عن أرضٍ وسلامة دولة. أصبحت الترسانة العسكرية للعدو بلا هدف أو غاية، دبابة في مواجهة طفل، وطائرة في مواجهة قرية، ومدفع مصوب إلى صدر امرأة. والحجارة في وجه الجندي وفوق رأسه، امتهان لكرامة المقاتل الشريف، ودعوة إلى النزال بين ندَّين غير متكافئين. عنف الاحتلال يقابله لا عنف المقاومة، حديدٌ تقابله حجارة، فانهار السلاح أمام نزع السلاح، وبهت العدو الذي تعوَّد على السيطرة على السماء بسلاحه الجوي ونقل المعركة إلى أرض غيره، بأن أتته السيطرة على الأراضي المحتلة ومن داخل حدود الغزو والاحتلال. ثم يأتي دور الحوار، الطفل والمرأة والشيخ يحاورون الجند، ويتوجهون إلى معتقداتهم العنصرية بعد أن تم «غسيل المخ» على مدى أربعة عقود، وتهتز قناعات جنود الاحتلال وهم يواجهون خصمًا من نوعٍ جديد؛ جندي في مواجهة مواطن، سلاح في مواجهة برهان، فيتزعزع منطق الصهيونية والاحتلال، وتبدو العنصرية والعدوان واضحين للعيان، وتنهار المعنويات بعد أن بطل السلاح. فتحت الانتفاضة بذلك طريق نضال الشعوب ليس فقط أمام الاحتلال الخارجي بل أمام قهر الداخلي. وها هو شعب بورما الآن يسير في نفس الطريق الذي خطته الانتفاضة، مواطنٌ يقنع جنديًّا بأن يكون طليعة التحرر الشعبي لا أداة لقمع السلطة.
-
(٤)
ليست الثورة ضد الاحتلال نظرية ثورية وطنية أو قومية أو إسلامية أو ماركسية، بل هي فعلٌ ثوري تنصهر فيه الأيديولوجيات النظرية، وتتوحد في العمل الثوري الموحد؛ فالانتفاضة وحدةٌ وطنية تتحقق بالفعل، تعطي الأولوية للعمل على النظر، وللفعل على القول، وللموقف على الشعار. حدث ذلك تلقائيًّا وبدافعٍ وطني طبيعي دون نظرية مسبقة في الوحدة الوطنية أو الجبهة الوطنية أو الائتلاف الوطني، وكان ذلك أيضًا هو الفعل الثوري لأبي جهاد، شهيد الانتفاضة الذي رفض أن يشتت جهوده في معارك نظرية، وآثر أن يكون الشعب كله صفًّا واحدًا في مواجهة الاحتلال.
-
(٥)
استطاعت الانتفاضة أن تبني المؤسسات الثورية بفضل القيادة الموحدة للانتفاضة، سواء في تنسيق العمل الثوري وتنظيم الإضرابات أو في تكوين نواة الاقتصاد الثوري المستقل عن النشاط الاقتصادي لنظام الاحتلال، فأصبحت الانتفاضة ليس مجرد حركة شعبية بل بناء في السياسة والإجماع والاقتصاد والتاريخ. واستمرت الانتفاضة وقاربت على عشرة أشهر وما زالت مستمرة، بالرغم من مراهنة الاحتلال على سرعة قمعها وتصفيتها وطرد قادتها. وما زالت الانتفاضة قادرة على إبداع أساليب ثورية جديدة، كان أحدها فك الارتباط القانوني والإداري مع المملكة الأردنية، حتى تعود القضية إلى أصحابها، وينتهي الخيار الأردني التي راهن عليه حزب العمل، وينقشع اللبس عن ازدواجية التمثيل وازدواجية الهوية، ويبدأ الخيار الفلسطيني والتمثيل الواحد والهوية الفلسطينية، شعبًا وقيادة، دولةً وعاصمة.
-
(٦)
وكانت إحدى ثمرات الانتفاضة بداية التفكير الجدِّي في الوقت المناسب للإعلان عن الدولة الفلسطينية المستقلة. فقد استطاعت الانتفاضة أن تبني مؤسسات الدولة من القاعدة إلى القمة: الوحدات المنتجة، التنظيمات الجماهيرية، أجهزة الإعلام، اللجان الشعبية، القيادة الموحدة … إلخ. لطالما كثرت النداءات من قبل لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولم تجد إلا آذنًا صماء، ولكن بعد الانتفاضة ظهر بناء الدولة ومؤسساتها الشعبية والدستورية، ولم ينقصها إلا الإعلان والاعتراف الدولي؛ فالمضمون يسبق الشكل ويفرضه، والشكل وحده لا يعطي مضمونًا. وأخذت قرارات القمة خاصة مقررات مؤتمر فاس مضمونها بعد أن كانت مجردات قرارات مثل سابقتها. واستطاعت المنظمة أن تطور ميثاقها من دولةٍ فلسطينية ديمقراطية علمانية يعيش على أرضها كل من يشاء، بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته إلى دولةٍ فلسطينية في الأراضي المحتلة عاصمتها القدس، وطبقًا لقرار التقسيم في الأمم المتحدة عام ١٩٤٨م والذي أقر شرعيًّا ودوليًّا بإنشاء دولة فلسطين المستقلة على أرضها.
-
(٧)
لقد هزت الانتفاضة المجتمع الإسرائيلي، وأخذ النظام العنصري على غزة. فقد استعد العدو بالسلاح، وانتظر المعركة على أرض الغير، ولكن الانتفاضة هذه المرة أتته من الداخل كحركةٍ شعبية غير مسلحة، فحاصرت النظام، ووضعته في مأزقٍ تاريخي أمام شعبه المهاجر القادم من وراء البحار تحقيقًا لأسطورة الميعاد التي تحطمت على أرض الواقع. وبالتالي قويت الحركات الداعية إلى السلام وازدادت مراجعات الصهيونية لنفسها، وعلت الأصوات المنادية بحقوق شعب فلسطين من داخل الأراضي المحتلة قبل ١٩٤٨م، وزادت الجماعات الرافضة للنظام العنصري للصهيونية، ودبت في الجليل الأعلى روح المقاومة والنضال، وعادت إلى أذهانهم ذكريات فلسطين العربية قبل قيام دولة الاحتلال.
-
(٨)
أثرت الانتفاضة على الساحة العربية، فوحدت العرب بعد أن فرقتهم الحروب الإقليمية والنزاعات الطائفية ومعارك الحدود والتخوين المتبادل بين الأنظمة عبر أجهزة الإعلام. لم يستطع أي نظامٍ عربي وأد الجنين الجديد، بل اجتمع العرب على حمايته؛ فقد يكون هو المخلص لهم من أحزانهم وكروبهم. توقفت حرب الخليج؛ هذا النزيف الداخلي في جسد الأمة، وقاربت الحرب الأهلية اللبنانية على النهاية، وبدأت التجمعات الإقليمية العربية في الظهور في المغرب العربي بعد ظهورها في المشرق العربي، ولجان التنسيق في قلب العالم العربي بين مصر والأردن والسودان والمغرب، وتعود مصر الآن تدريجيًّا إلى مكانها الطبيعي في قلب الأمة العربية، كي تنهي أسوأ عقدين في تاريخها الحديث، وتمسكت الشعوب العربية بأملٍ جديد بعد أن أضناها اليأس، وعمها العجز.
-
(٩)
وأصبح الرأي العام العالمي أكثر قبولًا لحقوق شعب فلسطين أكثر من أي وقتٍ مضى، بعد أن شاهد العالم كله تكسير أصابع الفلسطينيين وأذرعهم، وتشييع جماهير شعب فلسطين شهداءهم ورفع أعلام فلسطين على أعمدة النور وأسطح المنازل، وحوار النساء مع جنود الاحتلال، ورمي الأطفال بالحجارة، وخروج الشيوخ حفاة من المخيمات مع الأبناء وكأنهم يبعثون من جديد، ودفاع الأمهات عن الأطفال ضد ضرب جنود الاحتلال. والغرب لا يعرف إلا لغة الواقع، ولا يسمع إلا أقوال المنتصر. وبالرغم من تصور أجهزة الإعلام العربية — خشية من تحركات الجماهير — أن تعم الانتفاضة العواصم العربية، وأن تتحول المنطقة كلها إلى انتفاضاتٍ متكررة. فلقد حاصرت الانتفاضة أجهزة الإعلام العربية واضطرتها حياءً إلى أن تلحق — ولو إلى حدٍّ قليل — بأجهزة الإعلام الغربية تنقل عنها أخبار الانتفاضة.
وكما كانت معركة الكرامة إثر هزيمة ١٩٦٧م ميلادًا للمقاومة الفلسطينية، فإن الانتفاضة بعد عشرين عامًا ميلاد جديد للدولة الفلسطينية.