الدين والثورة في الثورة العرابية١
إن مهمة هذا البحث دحض الفرية التي تجعل من عرابي درويشًا جاهلًا بالدين خارجًا على الشريعة، وأن دروشته سبب هزيمته أمام جيوش الاحتلال.
أولًا: مقدمة
الدين لدى الشعوب التاريخية في مصر والهند والصين وفارس أو فيما يسمى بدول القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، هو مصدر قيمها، ومنبع فكرها، وأصل تراثها، وموجِّه سلوكها، تلجأ إليه ساعة الشدة، وتتجه نحوه في اللحظات الحاسمة من تاريخها. وهو أيضًا عامل في تقدمها أو تأخرها طبقًا للوظيفة التي يؤديها فيها، وطبقًا لاستعمال مختلف الطبقات الاجتماعية له. تثور به الجماهير، وتتحكم به السلطة، تواجه به الشعوب في مقاومتها المحتل الأجنبي، ويستغله المحتل الأجنبي من خلال السلطة الدينية طلبًا لطاعة الجماهير وانصياع الأمة.
لقد دخل شعب مصر في الإسلام لأنه رأى فيه تحريرًا له من تسلط الرومان واحتلال الأجنبي. ثم ارتبط الإسلام بتاريخها وحياتها وقوت يومها وعاداتها وتقاليدها، حتى استعمله السلطان والخليفة والوالي تأييدًا لسلطته وطلبًا لطاعته، يلقي عليه علماء الأزهر الرداء في أغلب الأحيان ونادرًا ما يخلعونه عنه. وقد قام غالبية الأمة بالدور الأول: الدين تأييدًا للسلطة وتثبتًا للوضع القائم، وقامت الأقلية بالدور الثاني: الدين في مواجهة السلطة وثورة على الوضع القائم.
ومنذ بداية النهضة الحديثة في مصر منذ محمد علي كان الدين مصدر التيارات الثلاثة الرئيسية فيها؛ الأول: الإصلاح الديني الذي بدأه الأفغاني، حيث كان الدين ثورة ضد الاستعمار الخارجي والتخلف الداخلي في مظاهره المختلفة من طغيانٍ وفقر وفتور. والثاني: التيار العلماني العلمي الذي بدأه شميل لولا أنه ظن العلم والعقل والحرية والدستور والمدنية والعمران والتقدم ضد الدين وليس لبَّ الدين. والثالث: التيار الليبرالي لتأسيس الدولة الحديثة والذي بدأه الطهطاوي، حيث ظهر الدين دعامة الدولة الوطنية الحديثة بما فيها من زراعةٍ وصناعة، وبما تقوم عليه من حريةٍ ودستور وتعليم ونهضة عمرانية شاملة.
وبعد أن تجمعت الدول الأوروبية كلها لضرب مصر في شخص محمد علي، حتى لا يقوم في هذه المنطقة أي كيانٍ سياسي واقتصادي مستقل عن الشرق والغرب على السواء وبزعامة مصر، وحتى لا ينهض الشرق من جديد في مواجهة الغرب، بعد أن تحدث للغرب في تاريخه الحديث السيطرة على مقدرات العالم وثرواته ومركز قياداته في الشرق، وبعد أن عجز السلطان في تركيا عن الدفاع عن الأمة الإسلامية في مواجهة الصليبية، ألا وهو احتلال الشرق من جديد والممثل في مصر. بدأت مغامرات الغرب في مصر منذ افتتاح قناة السويس وإرهاق مصر بالديون في عصر إسماعيل، ثم فرض الرقابة المالية ثم تدخل الأجانب وقناصل الدول، ثم خلع إسماعيل وتنصيب ابنه توفيق تمهيدًا لاحتلال مصر كلها سواء وفَّت ديونها أم لم توفها، سواء حمت الأجانب أم لم تحمهم، سواء أوقفت إصلاحات الطوابي في الإسكندرية أم استمرت فيها؛ فالأسطول الأجنبي قائمٌ بمهمته في ضرب الإسكندرية واحتلال مصر مقرر في كلتا الحالتين. وسواء حشد ناصر جيش مصر دفاعًا عن سوريا أو لم يحشد؛ فهو في كلتا الحالتين فريسة للعدوان في ١٩٦٧م، وسواء عكَّر الحمَل على الذئب الماء أم لم يعكر فالذئب آكله لا محالة.
وفي هذه الفترة بعد انكسار مصر بعهد محمد علي وبداية وقوع مصر تحت سيطرة الدول الكبرى في عصر إسماعيل ثم في عهد ابنه توفيق بدأت مقدمات الثورة العرابية، وظهر الدين في وظيفتيه الأساسيتين: دين الثورة ودين الخيانة، دين الأنبياء ودين الكهنة، دين الشعوب ودين الحكام، دين الوطنية ودين الاستعمار، دين الفقراء ودين الأغنياء، دين المقاومة ودين الاستسلام، دين التحرر ودين الاستعباد. كان دين الثورة هو الدين الذي فهمه عرابي وصحبه، وزعماء الثورة العرابية السبعة وبعض علماء الأزهر، وكان دين الخيانة هو دين السلطان والخديوي والإنجليز وبعض مشايخ الأزهر.
ولما أراد دين الخيانة تشويه دين الثورة اتهم عرابي وصحبه بالدروشة، وأنهم قاموا ليلة معركة التل الكبير بالذكر حتى الصباح، فأصبح الجند متعبين، فلم يستطيعوا مقاومة الإنجليز أهل اليقظة والدراية، وأصحاب العلم والمعرفة، دون ذكر لخيانة علي يوسف الشهير بخنفس، وإعطائه خطة جيش مصر الوطني بخط يد عرابي إلى جيوش الاحتلال. وإذا صح أن عربي قد استدعى عددًا من رجال الطرق الصوفية أو أنهم هم الذين جاءوا إليه، فأرسلهم إلى الفرق يستحثونها ويستنهضونها على القتال حماسةً لله وللدين والوطن، أو أنه قرأ الأدعية مع بعض رجال الدين في خيمته، فإن ذلك لا يعني أنه ترك الجهاد واعتمد على النصر من عند الله، دون أن يعدَّ العدة لذلك ويأخذ بالأسباب؛ فالدين يعطي الجند روحهم ويشحذ هممهم ويقوي روحهم المعنوية بالأغاني والأناشيد الوطنية والموسيقى العسكرية. وقد أقيمت للحملة الإنجليزية أيضًا الصلوات في كنائس إنجلترا وباركها كبير الأساقفة مع عددٍ من رجال الدين، ولم يتهمها أحدٌ بالدروشة أو الاتكال على الله، كما اتهم أنه خلط بين الدين والسياسة أو أنه عصى السلطان مولاه كما يعصي العبد سيده، كما أفتى السلطان وقرر الخديوي بناء على طلب الإنجليز.
إن مهمة هذا البحث هي دحض هذه الفرية التي تجعل من عرابي درويشًا جاهلًا بالدين عاصيًا للخليفة خارجًا على الشريعة، وأن دروشته سبب هزيمته أمام جيوش الاحتلال، وبيان أن الدين كان منبع الثورة ومنطلقها وأن الثورة غاية الدين وهدفه النهائي.
ثانيًا: الدين بداية الثورة ومنطلقها
كانت ثورة عرابي تنبع من الدين وتحكمها الشريعة. وكان الدين بداية الثورة ومنطلقها، ومفجر شرارتها الأولى. ويظهر الدين كبذرةٍ للثورة في ثقافة عرابي وتربيته الدينية واستشهاده بالقرآن والحديث، أو بالتاريخ الإسلامي وبمواطن البطولة والفداء فيه. كما يظهر في التزامه بالولاء للخلافة الإسلامية ولوحدة الأمة الإسلامية بالرغم من عيوبها، ودفاعه عن الجامعة الإسلامية. كما يظهر أخيرًا في دور مشايخ الأزهر في الثورة سواء من ثار على الطغيان والاحتلال مع عرابي باسم الدين، أو من اعتدل وأخذ موقفًا وسطًا ثم تراجع باسم الإصلاح، أو من خان واستسلم وأفتى بالعصيان باسم الإنجليز.
(١) الثقافة والتربية الدينية
وكان أبوه شيخ قرية رزنة أو أحد مشايخها، ويذكر عرابي أيضًا في مذكراته أنه كان شيخًا جليلًا، رئيسًا لعشيرته، عالمًا نقيًّا تقيًّا موصوفًا بالعفة والأمانة، رتَّب درسًا في الفقه في المسجد للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء، ليتفقه الناس في الدين ولتصحَّ عبادتهم.
تعلَّم عرابي القرآن الشريف وبعض العلوم الدينية في المكتب الذي أنشأه والده، ثم في الجامع الأزهر، ثم العلوم العسكرية فيما بعد. اختاره سعيد باشا ياورًا له في زيارته إلى المدينة المنورة. ولما انتدب إلى الحجاز لإشرافه على قلاع البحر الأحمر أنشأ مكتبًا لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم.
وكان متصفًا بالإيمان الشديد بالله وبتأييده للمؤمنين الصابرين. فبعد القبض على عرابي وزميليه إثر العريضة الموجهة إلى رياض بمطالب الضباط الوطنيين انزعج علي فهمي على نفسه وأولاده الصغار، وكاد أن يرمي نفسه من النيل فشجعه عرابي متمثلًا قول الشافعي:
كما تمثَّل بأبياتٍ أخرى للسيدة زينب. وما هي إلا لحظة حتى جاء العساكر والضباط من أنصار الحركة الوطنية وأفرجوا عنه.
وكان شديد التقوى والإيمان، فبعد تأليف وزارة شريف إثر مظاهرة عابدين، وطلب الوزارة من عرابي السفر إلى رأس الوادي، سار عرابي بطريق الحسينية حتى بلغ مسجد الحسين، ووقف الآلاي مُقابلًا للمسجد تعظيمًا وإجلالًا لسبط الرسول. ودخل عرابي المقام مع الضباط وأمر بوضع بيرق الآلاي على الضريح الشريف. كما أنه في خضم المعركة مع الإنجليز كان يبغي تأمين الحجاج إلى الحجاز عبر السويس، والحفاظ على المحمل الشريف وكسوة الكعبة.
ونظرًا لثقافته الدينية فقد كان عرابي يفسر الحوادث التي يمر بها تفسيرًا دينيًّا ويحكم عليها بمنظور العقيدة والشريعة. فكان يرى أن كل شر حلَّ بمن آذوه من الشراكسة مثل خسرو باشا وعثمان رفقي انتقامٌ من الله. ولكنه كان يرفض القتل غيلة والقصاص دون حكمٍ شرعي. ولقد نهر عرابي — وهو ناظر للجهادية — عبد الله فكري عندما سأل عن قتل الخديوي، قائلًا له: إننا لا نقتل أحدًا بغير حكمٍ شرعي. وفي رسالةٍ بلغت إلى جلادستون تصوير لآراء عرابي على أنها ليست تكرارًا للعبادات المتداولة في أوروبا الحديثة، ولكنها تقوم على أساس معرفة بالتاريخ والتقاليد الحرة للفكر العربي، تلك التقاليد الموروثة عن الإسلام.
وكان في حياته الخاصة حتى في أحلك لحظته في سجنه وفي منفاه، وبعد عودته متمسكًا بإيمانه وبصلاته. لم يجدوا في السجن معه إلا تميمة لحفظ أبنائه من الصرع. وكانت مسبحته لا تفارقه. يدعو الله لزملائه أن يلهمهم الشجاعة. يرفع يديه لله شاكرًا ومصليًّا له. وكان أول ما فعله عرابي بعد سماع الحكم عليه بالنفي وعودته إلى سجنه أن صلى لله شاكرًا وأطال سجوده، ولما علم أن مكان نفيه جزيرة سرنديب فرح واستبشر. وقد حدَّث عرابي بلنت عما يذكره التاريخ القديم من قصة هبوط آدم، وكيف أنه حل بهذه الجزيرة فصارت تُعرف جنة آدم، كما ذهبت حواء إلى الحجاز فصارت تعرف بجنة حواء، وكان يقول: «إني أخرج من مصر، بستان الدنيا، لأذهب إلى سرنديب، جنة آدم.» ولما توفي عبد العال حلمي رأى عرابي من كراماته اجتماع أسراب الطير فوق نعشه، تسير بسير الجنازة حتى وُوري التراب!
وفي سرنديب، عاش بين المسلمين العرب أو الهنود وكان محطَّ أنظارهم، يزور أضرحتهم؛ مثل ضريح السيد شهاب الدين، ويؤم مساجدهم، وهم يحتفون به باستيراد الطرابيش، ويطلق مدفع بجوار المسجد عندما يصلي فيه يوم الجمعة من كل أسبوع، يفتتح مدارسهم كما افتتح مدرسة ميردانة الإسلامية التي بناها المسلمون على نفقتهم.
وبعد عودته من المنفى، شكر الله، وسارت المركب «باسم الله مجريها ومرساها»، وقبل أرض الكنانة، كنانة الله العزيز الحكيم، وصلى ولهج بأنواع الدعاء إلى الله سبحانه وشكر له عودته سالمًا بعد مرور تسعة عشر عامًا مكرهًا ذاق فيها ألم الفراق وألم الغربة، وكان يصلي الجمعة في جامع الرماح بالناصرية أو بالسيدة زينب أو بالحسين وهو بلحيته البيضاء يشع من وجهه علامات الإيمان والورع، والمسبحة لا تفارقه. وكان يرى مصادرة أملاكه وأمواله لا تتفق مع العدالة ولا مع حكم الشرع، ويكرر حديث «مال المسلم على المسلم حرام». كان يتلو القرآن في أواخر أيامه، ويحرص على أن يؤدي أبناؤه الصلوات في أوقاتها، وكان يؤمهم، ويحرِّم على الذكور منهم التحلي بالذهب، ويحبذ لهم الاحتشام والجد. غضب لأن أحد أبنائه حلق لحيته ولم يرضَ عنه حتى أطلقها. وقد قرأ عليه أحد أبنائه «نهج البلاغة» وهو غلام. وقد صدَّر مذكراته كما يفعل أئمة الإعلام ومشايخ الإسلام بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله قائلًا: «الحمد لله الناشر في الخلق فضله، الباسط فيهم بالجود يده، نحمده في جميع أموره، ونستعين به على رعاية حقوقه، ونشهد ألَّا إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بأمره صادعًا، وبذكره ناطقًا، فأدى أمينًا، ومضى رشيدًا، وخلَّف فينا راية الحق، مَن تقدَّمها مرَق، ومن تخلَّف عنها زهق، ومن لزمها لحق، أحمده تعالى الذي جعل الحمد ثمنًا لنعمائه، ومعاذًا من بلائه، وسبيلًا إلى جناته، وسببًا لزيادة إحسانه، والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وسراج الأمة، وإمام الأئمة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم، وعلى آل بيته مصابيح الظُّلَم، وعِصَم الأمم، ومنائر الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة، صلاة تكون أداءً لفضلهم، ومكافأة لعملهم، وجزاء لطيب فرعهم وأصلهم ما أنار فجر وهدى نجم.»
(٢) الخلافة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية
وصفت الدول الأوروبية الدولة العثمانية بأنها الرجل المريض الذي لا يأس من شفائه حتى يموت وتُقطَّع أوصاله، فتستولي كل دولةٍ أوروبية على جزءٍ من الغنيمة. وقد تم ذلك والرجل المريض ما زال حيًّا يرزق، فاقتُطِعت تونس والجزائر والمغرب والهند، وآن الأوان لاقتطاع مصر والشام والحجاز، وكانت آسيا الشرقية قد تم اقتطاعها من قبل على يد هولندا والبرتغال منذ سقوط غرناطة ١٤٩٢م. ولقد تبعنا نحن هذا الوصف للدولة العثمانية ولم نحاول إعادة كتابة تاريخها من منظورٍ إسلامي ووطني. فقد كانت الدولة العثمانية بالرغم من كل عيوبها رمزًا للوحدة الإسلامية، تقف في مواجهة مطامع الدول الأوروبية رمزًا للتحدي وإثباتًا للهوية الإسلامية ضد التغريب والتميع في الآخر. تتعلق بها قلوب المسلمين في مصر والهند، وتحافظ على فلسطين ضد بدايات الغزو الصهيوني.
وقد حاول عرابي ما لم ننتبه إليه حتى الآن؛ أن يقوم بثورةٍ وطنية في مصر، وفي نفس الوقت المحافظة على الوحدة الإسلامية سواء سُميت الخلافة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية، وهي الأسماء الجديدة التي ورثتها مصر تحت تعاليم السيد جمال الدين الأفغاني.
ومع ذلك، حافظ عرابي على حرية الحركة في أرض مصر وعلى استقلال البلاد في إطار الوحدة الإسلامية. لقد أساء الأتراك حكم مصر واضطهدوا أنصار الحركة الدستورية والمنادين بالحرية في بلادهم. لذلك لا يجب على القسطنطينية أن تتدخل في شئون مصر. هناك فرق بين الحكومة العثمانية وبين السلطة الدينية للسلطان؛ فهو كأمير للمؤمنين تجب له الطاعة والإجلال إذا عدل. يقول عرابي:
(٣) دين الثورة والمقاومة
كان الدين عند عرابي ثورة ضد الظلم ومقاومة للأجنبي وجهادًا ضد أعداء الأمة، أعداء الحرية والاستقلال في الداخل والخارج. وكان يمثل ذلك الفهم الثوري للدين مع عرابي خطيب الثورة السيد عبد الله النديم، والشيخ عليش، والشيخ حسن العدوي وغيرهم من علماء الأزهر الشرفاء، وكانوا كلهم تحت أثر أفكار السيد جمال الدين الأفغاني.
ففي كتاب عرابي لجلادستون يقول: «نحن الجند الآن في وضعٍ كالذي كان فيه أولئك العرب الذين أجابوا الخليفة عمر حين سألهم في شيخوخته عما إذا كانوا راضين عن حكمه، وعما إذا كان فيه قد استقام على طريق العدالة. قالوا: يا ابن الخطاب، إنك استقمت على الطريق حقًّا؛ ولهذا أحببناك، ولكنك لست تعلم أننا كنا قريبين منك، وكنا على أهبةٍ لو أنك سلكت سبيلًا معوجًّا لنردك إلى الطريق السوي بسيوفنا.» كان الدين لديه هو المعارضة عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسوةً بالصحابة. لقد قامت الحكومات الإسلامية على المبادئ وليس على الأشخاص. فيقول الخليفة الأول:
«يا أيها الناس، إني وُلِّيت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني»، ويقول لهم الخليفة الثاني: «من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه»، فيرد عليه أعرابي: «لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا»، ويقول الرسول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده.» لذلك كان الدين عند عرابي ثورة على الظلم، وعلى هذا الأساس فهِم ثورة المهدي في السودان عندما سئل عنه وهو في المنفى: هل هو المنتظَر عند المسلمين؟ فأجاب أن كل داعٍ إلى الخير والصلاح هو مهدي. لقد خشيت إنجلترا من ثورة المهدي على ستين مليونًا من المسلمين في الهند أن تجمع شتاتهم. ويرى عرابي أن مجرد وجود قائد إنجليزي على جيشٍ يكون من صالح المهدي؛ فإنه يحكم بكفر المصريين الذين يقاتلون المسلمين تحت قيادةٍ مسيحية، ويستبيح قتلهم بسبب هذه القيادة. وإذا استولى على أسلحة هذا الجيش وذخيرته فإنه يصبح قويًّا يُخشى جانبه. لقد اقترحت إنجلترا تعيين عرابي أميرًا على السودان تابعًا للتاج المصري للسيطرة على ثورة المهدي، ولكن هلكت حملة هس مما عطل الاقتراح. كما اقترحت أيضًا تعيين عرابي سفيرًا مؤقتًا إلى المهدي لرفع الحصار عن غوردون، على أن يُعزل توفيق ويعيَّن أمير غيره يستطيع الاتفاق مع المهدي، وأن النية متجهة إلى إعادة إسماعيل بشرط أن يكون عرابي رئيس وزرائه باعتباره زعيم مصر المختار. ولكن عرابي رفض العرض، وآثر الاستمرار في المنفى، ورفض العودة إلى الحكم تحت رياسة إسماعيل الذي لا تتفق آراؤه مع آراء الحركة الوطنية، ثم وُئد الاقتراح بعد مقتل غوردون بالخرطوم.
ولم يستسلم عرابي كما يروِّج المغرضون أنصار الخديوي والإنجليز، كما لم يضعف مشايخ الثورة. ويدافع عرابي عن تهمة الاستسلام بقوله: «وإذا تقطعت جميع الأسباب فكيف أُسلم نفسي؟! ألم تكن أرض الله واسعة فأهاجر فيها؟ أو لم أكن أتوجَّه إلى لندرة فأحتمي بها؟ إن في ذلك تذكرةً لمن يتذكر؛ فالحق والحق أقول إني لست بعاصٍ، وإنما قمت وقامت البلاد — أي الأمة المصرية — في طلب تحرير بلادها مع غاية الشرف وحفظ الناموس، لا لغايةٍ شخصية كما يفتري المبطلون، بل إني مكلَّفٌ بحفظ البلاد من طرف الحضرة السلطانية، حيث تبيَّن عظمة إخلاصي وسوء مقاصد الخديوي … ثم إني صرت قائد الجيش في المدافعة عن البلاد بوجه الشرع والقانون، وأمر الخديوي والمجلس أولًا وقرار الأمة ثانيًا، وليس بعد ذلك دليل ولا برهان.»
كما تثبَّت الشيخ حسن العدوي وقد شارف على الثمانين في المحاكمة، عندما سأله رئيسها إسماعيل أيوب ألم يوقع بخاتمه على قرارٍ يقضي بأن سمو الخديوي توفيق باشا يستحق العزل؟ استعاد الشيخ حميَّة الشباب واتكأ على المنضدة، وبسط يده ونظر في وجهه وقال: «لم أرَ الورقة، ولكنك إذا أحضرت إليَّ ورقة تحتوي على مثل هذا المعنى، فإني أبادر بالتوقيع عليها وختمها بخاتمي في حضورك الآن. إذا كنتم مسلمين تستطيعون أن تنكروا أن توفيق باشا قد خان بلاده وذهب إلى الإنجليز؟! لم يعد يصلح لأن يحكمنا.»
وقد راع درويش باشا مندوب السلطان دور المشايخ في الثورة، وأظهر دهشته ونفوره مما رأى من تحمُّس الناس وجرأتهم، وبخاصة علماء الأزهر الذين أظهروا عطفهم الشديد على عرابي ومبادئه. وقد ذهب وفدٌ كبير من العلماء إلى درويش يحملون مكتوبًا مُوقعًا عليه منهم ومن عددٍ عظيم من الناس، يطلبون فيه رفض الإنذار الأجنبي وبخاصة ما جاء فيه عن إبعاد عرابي. وأغلظ درويش في مخاطبة الشيخ الذي تكلم باسم العلماء وهو الشيخ محمد خضير، وحسب درويش أنه بذلك أخاف العلماء. فقد اجتمع طلاب الأزهر في اليوم التالي بسبب ما علموا من إهانة علمائهم، وتعددت الاجتماعات في جهاتٍ من المدينة، وبدأ الناس يُظهرون حنقهم وسخطهم على الوفد التركي، وبخاصة أن عددًا من الأعيان أرسلوا إليه يحتجون على مسلكه نحو رجال الدين.
وقال الشيخ علي المليجي في خطبةٍ له: «قد مرت بنا في الزمن السالف أيام غير صافية العيش للمسلم، وما ذاك إلا بعدم الحمية الإسلامية في حكامه الذين كانوا كالليل المظلم إذ كانوا منهمكين في ميادين حظهم الدنيوي وعن الدين غافلين. وقد ظهرت الآن البشائر بعز المسلمين وسطوتهم، حيث قد اعتدل حكام الوقت أيدهم الله بالأخذ في أسباب قوة الدين وردِّ ما ضاع من شوكتهم، باذلين الهمة في التوصل إلى ما يبعد الأمة عن التشويش ولما يكونون به آمنين. إذ قد شرع رئيس المجاهدين أحمد عرابي المؤيَّد بنصرٍ من عند ربه في المدافعة عن حوزة الأمة، وردِّ من كانوا في تشويشها أول سبب، وباع نفسه وجيشه للجهاد في سبيل الله.» وقال الشيخ محمود إبراهيم في خطبةٍ له بأسيوط: «أما بعد، فإن الإنجليز قد طاشت عقولهم وعميت بصائرهم فلم يحسنوا الضروريات، قاموا بسوق أموالنا وديارنا نفيسها، وساقوا إلينا من زيف المعارضات خسيسها، وقابلوا تحيَّتنا بخداع، وفتشوا أكنافنا لغدرٍ أضمروه ليوم النزاع. ونحن لما جبلنا عليه من محاسن الإيمان، وفَّينا لهم بعقد الذمة والأمان، فعاملناهم بالحسني، وجبرنا ما كان فيهم ضعفًا ووهنًا. فلما صحَّت أبدانهم وعمرت أوطانهم لم يقنعوا بذلك، بل طلبوا التصرف فينا تصرف المالك. فشاء الله أن يكون سعادة أحمد عرابي باشا هو المشار إليه في حديث «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». فإن البشائر دلَّت عليه ليمزق البغاة كل ممزق، ويحيي المندوب والمفروض للدين الموفق، وتموت البدع التي اسودَّ القطر بظلماتها، ويختفي بلاء الظالم بأرجائها، وحاشَ أن يجعل الله ديار أهل بيت نبيه في ذمة كافرين. جعل الله سعادة أحمد عرابي باشا وجنده الظافرين.» وفي خطبة الشيخ محمد أبي الفضل التي ألقاها في الجامع الحنفي بالقاهرة: «قد تميَّز الغثُّ من السمين، واستبان أن الإنجليز جاءوا محاربين، يريدون — لا أمكنهم الله — سلب الأموال وهتك الحُرم. وقد جاءوا بمكرٍ وخداع، يصطادون بشباكهم الأوطان من غير قتالٍ أو دفاع، كما هو ديدنهم القبيح في كل إقليم. فيقظ لذلك العقلاء والشجعان، وذبُّوا عن الأعراض والأوطان.» وفي خطبة الشيخ حميدة الدمنهوري: «أعدوا لأعدائكم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ما ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم، وكونوا لدين الله من المنتصرين، تفوزوا برضى المولى اللطيف الخبير، وقوموا لمحاربة أعداء الله وأعدائكم الطغاة البغاة، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. الجهاد فرض الآن علينا واجب؛ لدخول الأعداء في بلادنا محاربين. فمن أتى بواجب الجهاد أحرز فضله، ومن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له؛ فالسعيد من سارع إلى اغتنام الأجر من الله العلي الكبير.» ومن خطبةٍ أخرى للشيخ محمد أبو الفضل: «ومصرنا هذه قد كادت أن تكون دار حرب لا دار سلام؛ فقد أهين فيها الوطني وعظم اللئام، حتى صاروا رؤساء الدواوين، فطغوا وبغوا وحقَّ عليهم المثل السائر: وعلى الباغي تدور الدوائر، فحكموا بالبنود والقوانين، فعظُم البلاء واشتد، وزاد الكرب واحتد، وكان ما علمتم من الحركات، وكم لله في الحركات من بركات.» وقد نظم الشيخ أحمد سيف الباري قصيدةً جاء فيها:
ونظم الشيخ المرصفي قصيدةً أخرى جاء في مطلعها:
وقال بعضهم معرِّضًا بواسلي وسيمور قائد الحملة الإنجليزية على الإسكندرية في بيت السموأل:
وقد شارك الناس مشايخ الثورة وخطباءها وشعراءها. أصبح على لسان كل مصري نداء «الله ينصرك يا عرابي»، والتي أخذ برودلي شعارًا للثورة العرابية. وكانوا ينهضون إذا ما مر عرابي أمامهم ووقفوا على جانبَي الطريق، مرددين هذا الشعار مضيفين إليه عدة ألقاب مثل رئيس الحزب الوطني، قائد الجيش الوطني، حامي حمى الديار المصرية … إلخ. لم تحفل الأمة بعزل الخديوي لعرابي بل زادها تمسكًا به. وكان الناس والفلاحون والبدو وكان شبان القاهرة يمرحون في المدينة ليلًا يتغنون بمدح عرابي. وفي أي احتجاجٍ ذكرت فيه الحرب كان الناس يدعون الله طالبين النصر لعرابي، جامعين التبرعات للإخوة المجاهدين؛ إذ لم تكلِّف مقاومة الإنجليز الخزانة العامة مليمًا واحدًا، بل كانت التكاليف كلها من تبرعات الأهالي والأمراء الوطنيين، حتى أرملة سعيد أهدت عرابي خيمة زوجها مشفوعة بأصدق أمانيها أن يؤيده الله بنصره.
وكان النساء والصبية على خط السكة الحديدي يرددون أغنية أولها: يا مولانا يا عزيز، أهلك عساكر الإنجليز، ثم يهتف أحد الشباب: الله ينصرك، فتردد الجموع: يا عرابي.
وحتى اللحظة الأخيرة صمد مشايخ الثورة وقادتها. ويتضح ذلك في سؤال أحمد طلعت مدير المطبوعات في المحاكمات عن نشر جريدة الطائف التي يحررها النديم مقالات في الطعن على الخديوي، وإجابته بأن ذلك كان تعبيرًا عن القلق العام من مسلك الخديوي، وأنها عبَّرت عما يقوله الصِّبية في الشوارع، وفي سؤاله إذا كان يقرر ما في الصحيفة أجاب بأنه قد تقرر في المجلس العام الذي انعقد بوزارة الداخلية، والذي شهده العلماء والقواد والأعيان أن الخديوي خرج على الشرع المقدس. ولما كان أحمد طلعت مصريًّا فإنه لم يكن في وسعه الخروج على إجماع الناس ومعاقبة جريدة الطائف، مخالفًا ما في نفسه من اعتقادٍ وإجماع.
ولم يفتَّ في عضد مشايخ الثورة وعلمائها ما أصابهم من نفيٍ وتشريد. فقد قضى بتجريد عدد من العلماء من رتبهم وشارات شرفهم وامتيازاتهم، ومنهم الشيخ حسن العدوي وابنه الشيخ إبراهيم العدوي والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي والشيخ أحمد عبد الغني، ومع ذلك ظلوا على اتصالٍ بعرابي، فكانوا يرسلون إليه الكتب في المنفى. ولما انتهت مدة نفي الشيخ محمد خليل الهجرسي وهي خمس سنوات إلى الحجاز، وعرضت عليه الحكومة العودة إلى وطنه رفض حتى يعود عرابي وحتى يموت توفيق أو ينزل من عرشه. وكان إذا سمع عن أحدٍ من رجال الثورة الباقين انحرافًا عن مبادئها كتب إلى عرابي ليُسقطه من حسابه؛ مثل أمين الشمسي الذي كتب فيه الشيخ الهجرسي: «إنه أسيف على ضياع بعض أمواله، وتغيُّر بعض أحواله بسبب هذه المسألة، ولا أسف له على الهم الأكبر من ضياع القطر، وما حصل بأعظم رجال الدين في هذا الأمر؛ لأن أمثاله في خدمة الدنيا فقط. أسأل الله الكريم بجاه هذا النبي العظيم أن يردَّكم الردَّ الجميل مع الحظ والنصر والسعد الجزيل.» وظل الشيخ الهجرسي يزور عرابي بعد عودته من المنفى مع شاعر النيل حافظ إبراهيم.
(٤) دين الاعتدال والتراجع
وشارك في الثورة العرابية أولًا بعض مشايخ الأزهر؛ نظرًا لما رأوه في عرابي من اعتدالٍ أولًا وحرص على مصالح الأمة. وكان عرابي في ذلك الوقت في تصورهم ذا منهج إصلاحي مثل رياض باشا، ودستوريًّا مثل شريف باشا، حتى لقد اكتسب عرابي ثناء القناصل عليه لاعتداله. ولكن ما إن أصر مجلس النواب على مناقشة الميزانية تثبيتًا لسلطته ولحق الأمة؛ فالتنازل بداية لتنازلاتٍ أخرى، حتى بدأ مشايخ الاعتدال في التراجع.
وكان أكبر ممثل لدين الاعتدال والتراجع هو الشيخ محمد عبده، بعد أن انضم إلى الثورة العرابية ثم تراجع عنها. فكان له الأثر في تخفيف لهجة الصحف بعد وزارة شريف وتراجع الوطنيين عن لائحة مجلس النواب (خلاف لائحة ١٨٦٦م) وعدم النظر في الميزانية، ونشط في معاونة شريف قائلًا: «لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين، أفيصعب علينا أن ننتظر بضعة أشهر أخرى؟!»
وقد أعلن شريف مبدأ حكومته القائم على الاعتراف بحقوق السلطان والامتيازات التي حصلتها عليها مصر، والاعتراف بالخديوي حاكمًا دستوريًّا، والتسليم بقاعدة المراقبة الثنائية، ثم إنكار كل اتجاهٍ ثوري، ومنح الحرية الدينية والسياسية لجميع سكان البلاد، والسير على قاعدة الحكومة المسئولة أمام مجلسٍ نيابي.
وكان تأييده لوزارة رياض الإصلاحية من قبل نظرًا لأن رياض لم يكن يخالجه أدنى شك في سكون المصريين إلى الطاعة! وبالرغم من أن الشيخ محمد عبده كان من تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني، وكان داعيًا للشورى وللحكم الدستوري، إلا أنه كان يرى أن مصر لم تتهيأ بعد لذلك، وكان يميل إلى حكم رياض ويراه المستبد العادل الذي ينهض به الشرق، ولم تكن الثورة من رأيه، وكان قانعًا بالحصول على الدستور في ظروف خمس سنوات، فلم يوافق على عزل رياض — لذلك نقم على عرابي فيما بعد، ونفر من العسكريين — وأن نشر التعليم أولًا ليجعل الدستور يقوم على أساسٍ سليم. وفي القصيدة التي نظمها في السجن عن حادثة عزل رياض يقول الأستاذ الإمام:
ومحمد عبده بقصيدته هو المروِّج لهذه الشائعات عن عرابي «الدرويش»، التي تلقَّاها الاستعمار وأذاعها من بعده؛ إذ يقول:
وبناءً على طلب عباس حلمي الثاني كتب الأستاذ الإمام مذكراته عن عرابي، وأهداها إلى مليك مصر المعظَّم عباس حلمي باشا الأفخم، ويقول في مقدمتها: «هذا مقام الذاكر لنعمتك، العارف بقدر منَّتك، العاجز عن الإيفاء بحق شكرك، التالي في سرِّه وجهره لآيات حمدك، طوَّقتني إحسانًا لم أتأمَّله إذ أمرتني أمرًا ما كنت أتخيله، أمرت أن أكتب ما شهدت وما سمعت وما علمت وما اعتقدت في الحوادث العرابية من عهد نشأتها إلى عهد نهايتها …» وقد كُتبت هذه المقدمة أيام كانت صلة الإمام بالخديوي طيبة في أول الأمر، فلما دبَّ بينهما الخلاف أمسك عن إتمام تاريخ الثورة العرابية. وفي الأجزاء التي كتبها كان مرتفقًا بتوفيق، يتلمَّس له المعاذير. وبعد المنفى جمع بلنت بين عرابي ومحمد عبده بحديقة الشيخ عبيد، وشهد اللقاء علي فهمي، تعانق الزعيم والشيخ، ولكن عرابي أغلظ للإمام حين تشقَّق الحديث إلى الثورة وحوادثها، ولامه على مصانعة الخديوي في بعض ما كتب.
وقد شارك علي مبارك محمد عبده في دين الاعتدال والتراجع. فقد كان علي مبارك أحد أعضاء الوفد الذي أرسلته الجمعية العمومية إلى الإسكندرية عقب اجتماعها الأول. ولكن الخديوي عاد وأرسله ويقترح معه تأليف لجنة صلح خديعةً منه لعرابي. وكان جزاؤه إسناد وزارة الأشغال إليه بعد إقالة وزارة راغب أثناء الحرب. أما الآخرون مثل الشيخ الإمبابي والشيخ درويش التركي وسلطان باشا وربما أديب إسحاق (على ما ذكر عرابي في مذكراته) فإنهم كانوا بين دين الاعتدال والتراجع ودين الخيانة والاستسلام. والعجيب أن يدين محمد عبده سلطان باشا وهو المشارك معه في نفس الدين، دين الاعتدال والتراجع، ويذكر آية وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.
(٥) دين الخيانة والاستسلام
وكان يمثِّل هذا الدين بعض مشايخ الأزهر مثل الشيخ العباسي والشيخ الإمبابي والشيخ الإبياري، وبعض علمائه مثل الشيخ حمزة فتح الله، وبلغ الذروة في الفتوى التي استصدرها الإنجليز من السلطان بعصيان عرابي.
كان من مطالب الجند في مظاهرة عابدين عزل الشيخ العباسي، فتم عزله، ولكن بعد هزيمة عرابي أعاده توفيق شيخًا للجامع الأزهر بعد إقالة الشيخ الإمبابي، علاوةً على منصب الإفتاء، مع أن الشيخ الإمبابي بعد أن أرسل برقيةً إلى بلنت ينبئه فيها بوحدة الأمة عاد وتبرَّأ منها وأنكرها. لذلك استثنى درويش باشا رسول السلطان من غضبته على مشايخ الثورة الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر والشيخ العباسي والشيخ البحراوي والشيخ السادات الذين آثروا الانحياز للخديوي. وقد تمارض الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام كي لا يخرج في حضور درويش بين الخديوي والحزب الوطني. وقد ألبسه درويش الحلة العثمانية له ولبعض العلماء الذين لم يقفوا بجانب عرابي جزاءً لهم.
وقد آثر مهندس الثورة العرابية وباني استحكاماتها محمود فهمي الوقوع في الأسر لشدة ما هاله من منشور السلطان بعصيان عرابي. وفي ليلة التل الكبير، كان عرابي يؤدي صلاة الفجر عندما سمع صوت المدافع. وفي المعركة لم يكن هناك إلا الأهالي المتطوعون مع الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه الشيخ أحمد عبد الجواد. ولما امتنع الجند عن القتال بعدما قرءوا منشور «الجوائب» بالعصيان، ذكَّرهم عرابي بحماية الدين والعرض والشرف والوطن، ولكن ذلك لم يُجدِ نفعًا بل تفرقوا فرارًا، ومهما أراد منعهم من الفرار وحرضهم على الثبات والصبر على قتال العدو، وذكَّرهم بالشرف الإسلامي والعرض والوطن فإنهم كانوا يُلقون بأنفسهم في الترعة!
ودخل توفيق العاصمة مع الإنجليز ومعه سلطان باشا ورياض باشا وكبار المصريين من العلماء ورجال الدولة والأعيان، وتقدم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري من يدَي الخديوي ودعا له بالتأييد والنصر مع ترديد الحاضرين لدعائه، وأعطى السلطان النياشين للخونة التي كان مقررًا أن تُعطى لعرابي. وأول من حظي بالمثول محمد سلطان باشا رئيس الحزب الوطني السابق، والذي لُقِّب يومًا بأبي المصريين فأصبح من أعوان الخديوي والإنجليز، وأخذ جزاءه عملات ذهبية مزيفة محشوَّة بالرصاص. لقد كان سلطان من قبل يدعو إلى الرويَّة؛ أي عدم إسقاط الوزارة مثل محمد عبده، بعد استحكام الأزمة بين وزارة البارودي والخديوي إثر نزع رتبة عثمان رفقي ودعوة المجلس دون إذن من الخديوي. ولكن يبدو أن دين الاعتدال والتراجع قد تحوَّل إلى دين الخيانة والاستسلام عند البعض، كما تحول من قبل إلى دين الثورة والمقاومة إثر تقدُّم إنجلترا وفرنسا بمذكرةٍ تتعهد بالسلطان والخديوي ضد الحركة الوطنية، مما جعل المعتدلين من الوطنيين ينضمون إلى العسكريين.
وكذلك تحيز للشيخ حمزة شاعر المتحيزين إلى الأعداء وصنيعة المستبدين مصطفى باشا صبحي البوشناقي. قال في مطلع قصيدته التي سماها «صدق المقال في مثالب البغاة الجهال»:
وكذلك فعل اثنان من مرتزقة الأدباء: أديب إسحاق اللبناني طمعًا في الاستجداء، وهو تلميذ الأفغاني النجيب المدافع عن الوطنية والحرية والدستور. وقدري بك الشامي الذي كان مع درويش باشا حتى لا يرجع إلى بلاده خاوي الوفاض، وكذلك بشارة تقلا صاحب جريدة الأهرام الذي ظنه عرابي معه قبل الثورة، فإذا به يزوره في سجنه شامتًا ويقول: «أي عرابي، ماذا صنعت؟ وماذا حل بك؟»، ولم يردَّ عليه عرابي لأنه ذو وجهين، وكذلك شاعر الأمراء أحمد شوقي بقوله:
ويرى عرابي أن الشعراء يتَّبعهم الغاوون. فقد كان بعض الشعراء وعلى رأسهم الشيخ علي الليثي يؤيدون النهضة المصرية ويترنَّمون بها، ويحثُّون الناس على نصرتها والتمسك بمساعدة الجيش المصري. وقد جاء الشيخ علي الليثي إلى خط النار في كفر الدوار وقام في طائفةٍ من العلماء ومشايخ الطرق، يدعو الله بالنصر لعرابي وهم يؤمِّنون عليه، ويقول في دعائه: اللهم اشدد وطأتك عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، إنك على كل شيءٍ قدير. ثم جاء الشيخ بعد هزيمة الجيش المصري ودخول الإنجليز مصر، يعتذر للخديوي عن نفسه وأمثاله بقصيدةٍ قال فيها ستين بيتًا، وكلها مدح وتملق للخديوي توفيق منها:
وقد نسج على منواله الشيخ عبد الرحمن الإبياري قاضي الإسكندرية والشيخ محمد بسيوني، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، حبًّا في الإسكندرية وخوفًا من بطش الغالبين، وعبد الله باشا فكري الذي فكر في قتل الخديوي مرةً تقدم بقصيدةٍ يتنصَّل فيها من كل ما نُسب إليه ويطلب رضاه، منها:
فعفا عنه الخديوي وأرجع إليه معاشه وأطيانه. ولذلك كانت من ضمن الإصلاحات التي اقتُرحت على عرابي (وقد كان ذلك لسوء الحظ من اللورد دوفرين) انتخاب مشايخ البلاد بمعرفة الأهالي من الذين اشتهروا بالعفاف وحسن المعاملة، حيث إن كثيرًا من المشايخ الموجودين طُبعوا على سلب أموال الأهالي، ليُدلوا بها إلى الحكام في سبيل ترقيتهم واعتبارهم.
ثالثًا: الثورة نهاية الدين وغايته
كما أن الدين هو بداية الثورة ومنطلقها فإن الثورة أيضًا هي نهاية الدين وغايته؛ فالدين يشعل الثورة، والثورة تكون الصورة الجديدة للدين. الدين هو المنبع والثورة هي المصب؛ فالدين هو البداية والثورة هي النهاية.
وتكون العلاقة بين الدين والثورة أيضًا علاقة منهجية، فبينما يكون الدين مستنبطًا من النصوص الدينية من أعلى إلى أدنى، تكون الثورة مستقراة من الواقع من أدنى إلى أعلى. وفي هذه الحالة يكون الدين هو الغرض العلمي الذي تحققه الثورة وتجد صدقه في الواقع. ويخضع المنهج الاستنباطي الأولي لانتقاء النصوص طبقًا للمصلحة الشخصية للمفسر أو يؤَوِّل النصوص المعارضة له. بينما يخضع المنهج الثاني لوضع المفسر واختياره إحدى قوى الصراع دون الأخرى.
وقد ظهرت الثورة عند عرابي في الوطنية ومقاومة الأجنبي الدخيل أو المحتل. وفي الحرية والدستور والشورى والمجالس النيابية باسم الأمة فلاحيها وجيشها وأعيانها ووجهائها. ولولا هذا الاختيار الوطني لما أمكن للدين أن يتحول إلى ثورةٍ أو أن تكون الثورة المصب النهائي للدين.
(١) الوطنية
كان أهم ما يميز الثورة العرابية أنها ثورةٌ وطنية وأن رجالها هم رجال الحزب الوطني، وأن عرابي قد أخذ لقب زعيم الحزب الوطني. وقد لاحظ بلنت ذلك بقوله إنه لم يلاحظ في حديث عرابي كما هو الحال عند مدحت باشا حديثًا عن السكك الحديدية والترام والعمران، بل حديثًا عن النهضة القومية. وقد كانت الوطنية هي سبب حسن العلاقة بين عرابي وسعيد؛ فقد كان كلاهما يحب المصريين. وقد كانت خطبة سعيد في أحد المحافل في رأي عرابي أول حجارة في الحزب الوطني وشعاره «مصر للمصريين». وقد قال سعيد في هذه الخطبة ما يذكره عرابي على النحو الآتي: «أيها الإخوان، إني نظرت في أحوال هذا الشعب المصري من حيث التاريخ فوجدته مستعبدًا لغيره من أمم الأرض. فقد توالت عليه دول ظالمة كثيرة كالعرب الرعاة (الهكسوس) والآشوريين والفرس، حتى أهل ليبيا والسودان واليونان والرومان. هذا قبل الإسلام. بعده تغلَّب على هذه البلاد كثير من الدول الفاتحة كالأمويين والعباسيين والفاطميين من العرب ومن الترك والأكراد والشركس. وكثيرًا ما أغارت فرنسا عليها حتى احتلتها في أوائل هذا القرن في زمن بونابرت، وحيث إني أعتبر نفسي مصريًّا فوجب عليَّ أن أربِّي أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمةً صحيحة نافعة ويستغني بنفسه عن الأجانب. وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.» عمل عرابي مع الحركة الوطنية التي كان محورها منزل السيد البكري نقيب الأشراف. وقد كان رجالها من الناقمين على رياض، يجتمعون في أواخر عهد إسماعيل، ثم اجتمعوا سرًّا بعد ذلك في حلوان هربًا من العيون، وتألَّف منهم حزبٌ سُمي جمعية حلوان ثم صار يعرف بالحزب الوطني، وكان من أبرز رجاله محمد سلطان الذي خان وسليمان أباظة مدير الشرقية وحسن الشريعي مدير المنيا ومحمد شريف وإسماعيل راغب وعمر لطفي (الذي دبر حريق الإسكندرية بالتعاون مع الخديوي). وقد نشروا في أواخر ١٨٧٩م أول بيان سياسي طبعوا منه آلاف النسخ ووزعوه على الناس. وقد أوفد الحزب أديب إسحاق إلى أوروبا ليدافع عن مبادئ الوطنيين. فأنشأ في باريس جريدة القاهرة بعد أن عطل له رياض «مصر»، و«التجارة»، مدافعًا عن الدستور كقاعدةٍ للحكم والمبادئ الحرة وعاملًا على منع الأجانب من التدخل في شئون البلاد سياسيًّا وماليًّا. أصبح عرابي محور هذه الحركة، وكانت تهتف له في ميدان محطة مصر وهو في طريقه إلى رأس الوادي بعد مظاهرة عابدين، وخطب عرابي فيهم قائلًا: «أنا أخوكم في الوطنية، وها أنا ذا واقفٌ بين الأهل والخلان، وقد بلغكم ما طلبناه من قطع عرق الاستبداد وتحرير البلاد وأهلها.» وكان السيد حسن موسى العقاد قد نُفي من قبل إلى السودان لانتقاده قانون المقابلة، وكذلك تم تجريد الفريق شاهين باشا الوزير السابق من رتبه وألقابه لاتهامه بالاتصال بالوطنيين، ونُفي أحمد فتحي إلى السودان للعريضة التي كتبها بالمطالب الوطنية. بدأ رجال الحزب الوطني يخطبون ود عرابي، وبدت الأمة كلها ملتفة حوله. وقد بعث بلنت إلى بطرس باشا وأبي يوسف ومحمود الفلكي والشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله النديم رسالةً يقول فيها: «هل الحزب الوطني في جانب عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تدَّعي ذلك، إذا اختلفتم ضمنتكم أوروبا.» وقد تلقَّى بلنت برقيةً من الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر، شيخ الإسلام، بأن الخلاف قد سُوِّي بين الوزارة والخديوي، وأن الحزب الوطني راضٍ عن عرابي، وأن الأمة والجيش متحدان.
وقد لخص عرابي المطالب الوطنية في العريضة التي كتبها مع الضباط (بعد عزل عثمان رفقي ناظر الجهادية الشركسي أحمد عبد الغفار وعبد العال حلمي ووضع شركسيَّين مكانهما … شاكر طمازة وخورشيد نعمان)، وتقديمهما إلى رياض باشا شاكين تعصُّب عثمان رفقي لجنسه وإجحافه بحقوق الوطنيين. فقد ظن الشراكسة أنهم يملكون مصر، كما ملكها المماليك من قبل. وفي هذه العريضة يطلب عرابي أربعة مطالب:
-
(١)
عزل ناظر الجهادية وتعيين غيره من أبناء الوطن عملًا بالقوانين.
-
(٢)
تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية.
-
(٣)
إبلاغ الجيش العامل ١٨٠٠٠ تطبيقًا للفرمان السلطاني.
-
(٤)
تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للعمل والمساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن اختلاف الأجناس والمذاهب.
وهي نفس الإصلاحات التي ظل يطالب بها عرابي، حتى قبل المنفى والتي حدَّث فيها بلنت وهي:
-
(١)
ضرورة وجود مجلس نواب تام السلطة على أساس الانتخاب، كما هو الحال في الأمم المتمدنة مسئولة أمام الوزراء، وينعقد لمدةٍ محدودة لا تنقص عن خمس سنوات.
-
(٢)
ضرورة المساواة بين المصريين في المعاملة وفي الضرائب.
-
(٣)
إلغاء السخرة بحيث يؤجر الناس على ما يؤدون من أعمالٍ؛ لأن حياة الفقير توقف على عمله اليومي.
-
(٤)
إلغاء الربا في القرى.
-
(٥)
وضع قانون عادل يطبق في المحاكم ولا يعتدي عليه أحد.
-
(٦)
أن تكون الوظائف في الدولة للمواطنين جميعًا على أساس الأهلية والاستعداد.
ويختتم عرابي حديثه مع بلنت أنه إذا وافقت إنجلترا على هذه المطالب، فإنه لا يبالي بالنفي أو بأي شيءٍ آخر يخبئه له القدر.
وقد كانت الحركة الوطنية المصرية بقيادة الحزب الوطني وعلى رأسه عرابي موجهة ضد أعداء الأمة المصرية؛ الخديوي والإنجليز وأوروبا والاستعمار بوجهٍ عام. فقد انحاز الخديوي إلى الإنجليز. وعندما سأله أحد الميرالات عن مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز فهز كتفه وقال: ستين سنة! ولما قال الضابط إن السكان سيحرقونها وطالبه بالتوسط لدى الأميرال، ومخاطبة محافظ المدينة قال الخديوي: «فلتُحرق المدينة جميعها، ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابي وعلى رءوس أولاد الكلب الفلاحين، وسيذوق الأوروبيون الملاعين عاقبة هروبهم مثل الأرانب في مواجهة المواطنين.» ولقد دافع الخديوي عن الإنجليز، وأصدر بيانه مؤيدًا فتوى السلطان بعصيان عرابي، مبينًا أن غرض الإنجليز ليس الاستيلاء على البلاد والفتك بأهلها لعداوةٍ دينية، كما يذيعه العصاة تنفيرًا منهم للعامة وتبغيضًا لهم للأمة الإنجليزية على حسن مقاصدها.
وكانت أوروبا كلها وفي مقدمتها إنجلترا ضد الحركة الوطنية. فقد اعتبرت إنجلترا واقعة التل الكبير انتصارًا لأوروبا. فلو أن الجيش الإنجليزي هُزم فيها لكان ذلك كارثة على جميع الدول التي يقلقها التعصب الإسلامي كما قال جرانفيل. لقد كانت صحف أوروبا تسخر من ثورة مصر. وقد أصيبت الحركة الوطنية بخيبة أمل كبيرة في أوروبا، التي طالما كانت نموذجًا للحرية والشورى والتقدم. كيف يكون ذلك كله مضمونًا داخل أوروبا ويكون مرفوضًا خارجها، تتنكر له أوروبا عندما تحاول غيرها من الشعوب اللحاق بها. وكما يقول بيرون: «لا تثق في طلب الحرية بالفرنجة.» وتعبِّر مذكرة عرابي إلى محاميه عن خيبة الأمل هذه أصدق تعبير. فقد كان حلم مصر الاعتماد على حكومة الإنجليز، وهي أمة عظيمة مشهورة بالعدل ومحبة الإنسانية ومحررة الرقاب من الاستعباد، فكانت مصر سيئة البخت، ولطالما دافعت عنها أطماع الطامعين، كانت مصر تعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه لا يأخذ بيدها وينشلها من نير الاستبداد والاستعباد ويوصلها إلى بحبوحة الحرية إلا حكومة الإنجليز. ويقول عرابي في مكانٍ آخر: «الحرب العوان، وما أدراك ما الحرب العوان! هي حرب الإنجليز، الأمة التي فيها نصراء الإنسانية، الأمة الحامية عن المظلومين، الأمة المحررة لرقاب العباد المستعبدين، الأمة المحافظة على اتباع الحق والقوانين، مع من؟ مع مصر! البلاد التي لا ينكر أحدٌ ما فيه أهلها من الاستعباد، وما تجرَّعوه من غُصص الاستبداد، البلاد التي طالما سفكت دماء أهلها بغير وجهٍ شرعي، وبغت وتفننت في أنواع المظالم، البلاد التي لا يعتبر حكامها شرعًا ولا قانونًا، البلاد التي عبدت حكامها من دون رب العالمين، البلاد التي كانت تظن أن لا منقذ لها من جب الظالمين، ولا موصلها إلى فضاء الإنسانية إلا دولة إنجلترا الشفوقة على النوع الإنساني، فخاب أهلها، وبعد أن قربت أبناءها من فم ذلك الجب، وظنوا أنهم ناجون إذ جاءهم الحرث الإنجليزي، فأوقع القبض على من خرج من الجب وألقاه في قراره لتنهشه الأفاعي، خلافًا لما هو معهود في رجال الإنجليز من الشفقة والرأفة على النوع الإنساني.» كما استسلم عرابي في النهاية بعد المداولة والتيقن بأن دولة الإنجليز لا تريد الاستيلاء على مصر! وبالتالي فلا لزوم للدفاع؛ اعتمادًا على أن دولة إنجلترا موصوفة بحب الإنسانية والاعتدال في كل أمر، وأنها متى تحققت الأمر ووقفت على أفكار أهل البلاد لا شك أنها تسعى فيما يوجب تحريرهم وراحتهم وحفظهم، اعتمادًا على شرف دولة الإنجليز، وحرصًا على حفظ البلاد من الدمار. ويقول عرابي في نهاية مذكرته لمحاميه: «سلَّمنا سيوفنا إلى ذمة إنجلترا وشرفها. فصوت أولادنا وصوت الإنسانية يطالبون إنجلترا وكل إنجليزي بحقوقنا … ولكن حرصًا على البلاد، وحقنًا للدماء، واعتمادًا على شرف إنجلترا وأنها لا تريد الاستيلاء على البلاد المصرية، قد أبطلنا المدافعة وسلَّمنا أنفسنا لذمتكم وشرفكم.» ويوجه نداءً أخيرًا قائلًا: «فيا حضرات المحامين عن ذوي الشرف … ويا حضرت نصراء الإنسانية والمحامين عن الحق بأنفسهم وبأموالهم، من غير أن تأخذه فيه لومة لائم … المحافظين على شرف الإنسانية بإنجلترا. هذه هي الحوادث على قصد من الحق والإنصاف بدون شك فيها ولا ريب، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين.»
وقد كانت الثورة العرابية تدرك أن مصر قلب الشرق، وأن تحرر مصر هو تحرر للشرق.
وقد كان الشرقيون مرادفين للمصريين أو المسلمين، كما كانت الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية عند الأفغاني مترادفَين. الشرق في مواجهة الغرب؛ نظرًا للصورة المزرية التي كانت للشرق في ذهن الأوروبيين؛ مما يدل على عنصريتهم وعنجهيتهم وأنانيتهم واستعمارهم. فقد اتهم الإنجليز شعوب الشرق بأقسى التهم. كان الأوروبيون جميعًا ناقمين على الشرق، مصر الحضارات، وكان قادتهم مثل جلادستون يزعمون أنهم يريدون الأخذ بيد الشرقيين لينهضوا من سُباتهم وتعليمهم مبادئ الحرية والشورى والحياة النيابية! لأن الشرقيين لا يُصلحون أنفسهم بأنفسهم. وكان اللورد شالز بسفورد يقول: «عجبًا لعرابي! لا ينهض مصلح من الشرق إلا نادرًا!» وقد كتب أحد معاوني مالث تقريرًا يقول فيه: «إن الحاكم الشرقي إذا حُرم كرباجه وحُظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومةٍ فردية قوية.» والحقيقة أن هذا الهدف التمدني كان مجرد دعاية للغرب يخفي وراءه النية الحقيقية وهي الاستعمار والسيطرة على مقدرات الشعوب غير الأوروبية ومواردها وثرواتها. إذ يستمر هذا التقرير قائلًا: «إن الطريق الذي سارت فيه الحركة (الوطنية) منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرةً إلى ما يسمونه له حرية، في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوةٍ جديدة بإسلام أزِمَّة الأمور إلى طائفةٍ من الخياليين النظريين، جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء نصبُّه على قطعةٍ من السكر.» وكان جمبتا شديد العداء لمصر بل ومن أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا اليهودي على صلةٍ برجال المال من الدائنين، وكان يحيط به في باريس ويفرز ولسون ونوبار، يوحيان إليه بما يريان، وكان بطبعه يميل إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين، وكانت سياسته قد صُبغت بالصبغة الدينية وكراهيته للمسلمين أن ينهضوا وتقوى بينهم أواصر الإخاء، فيكونون بذلك حائلًا بين فرنسا وأطماعها في الشرق. وقد استغل الأوروبيون في ذلك دينهم واستشراقهم وقساوستهم كوسائل لتحقيق أغراضهم. وكان الأدميرال سيمور قائد الحملة قد أبرق إلى حكومته بأن عرابي يجمع السلاح، ويعلن أن النبي يوحي إليه كل ليلةٍ، وأنه سوف يضع الأسطولين في فخ، وذلك بسد البوغاز بالأحجار.
وفي الحملة الحبشية والكارثة التي وقع فيها جيش مصر، اتهم لورنج القائد الأمريكي بالخيانة؛ إذ كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ليطلعهم على كل شيء. كما استدعت الأدميرالية البريطانية إدوارد بالمر أستاذ اللغات الشرقية بجامعة كمبردج لأداء عمل الخيانة والاتصال بالأعراب لمعرفته باللغة العربية وبالمنطقة. فقد كان من قبل عضوًا في جمعية اكتشاف فلسطين. وكانت مهمته ضمان البدو شرقي القناة إلى جانب الجيش البريطاني، والاستفادة من قابليتهم للرشوة. وقد أتى إلى الإسكندرية وتشاور مع سيمون، فذهب إلى يافا متنكرًا في زي عربي ثم إلى غزة. واتصل بقبيلتَي الطياحة والطرابين، ثم ذهب إلى يافا في زورقٍ بريطاني عليه علم بريطاني، ثم أتى إلى السويس متنكرًا في زي عربي، وتظاهر أنه أحد تجار الإبل! واشترك مع الجنود البريطانيين في السويس. ثم ذهب إلى الصحراء ليقطع أسلاك التلغراف وإحراق الأعمدة لقطع رسائل الاتصال بين عرابي وتركيا. ثم التقى بالكابتن جل الذي أعطاه ٢٠٠٠٠ جنيه لتوزيعها على البدو. وكان قد اتصل في شرق القناة بأكبر مشايخ البدو سعود الطحاوي ومحمد البقلي، وقد أخذ الاسمين من الخديوي. ثم لقي حتفه بعد أن استولى العربان على أموالهم وقتلوه هو وزميليه بالرصاص.
(٢) الحرية والدستور والمجلس النيابي
(٣) الفلاحون هم شعب مصر
عرابي فلاح قاد الحركة القومية، وكان على معصمه وشمٌ أزرق على عادة الفلاحين. وفي ذلك الوقت كان لفظ فلاح قبل عرابي يعني الجاهل الغبي الفقير القذر، وكانت تهمة الضباط الشراكسة لجنود مصر، وكانوا يسمونهم «فلاحين شغالة بالمقاطف»! وكان الخديوي يسميهم «أولاد الكلب» الذين سيقع على رءوسهم بقيادة عرابي خراب البلاد؛ أي اهتزاز عرشه. يقول عرابي: «وكانوا يطلقون علينا لفظ فلاحين إذلالًا وتحقيرًا وهم أهل البلاد، هم الحزب الوطني حقيقة». ولكن في الثورة العرابية ظهر الفلاحون على أنهم أصحاب البلاد والحزب الوطني. فإذا كان جمال الدين الأفغاني قد أيقظ الغافلين في المدن فإن عرابي قد أيقظ أهل القرى. ولن تتحرك مصر إلا إذا تحرك أهل القرى. اتصل عرابي بعددٍ كبير من مشايخ القرى وأعيانها، وكانوا يدعون إلى تحرير الفلاح. وأخذ الناس يذكرونه بقولهم «الوحيد». وقد بدأت آراء عرابي عن نهضة مصر من خلال فلاحيها أيضًا أثناء صلته بسعيد وعلى رأسها المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترامٍ باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية. هذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة على مصلحي العصر. فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز. بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قيامها على القومية، والعنصر الوطني الغالب فيها وهم الفلاحون. لقد عارض عرابي أن يحفر الجنود الريَّاح التوفيقي سخرةً، وكان إلغاء السخرة الذي ادَّعاه كرومر لنفسه من المطالب الأساسية لدى عرابي، ضمن مطالبه لإصلاح أحوال الفلاحين مثل:
-
(١)
إبطال السخرة التي أنزلها الأغنياء من الباشوات الترك بالفلاحين.
-
(٢)
إبطال احتكار هؤلاء الأغنياء مياه الري عند زيادة النيل.
-
(٣)
حماية الفلاحين من زبانية الربا من اليونانيين معتمدين على عيوب المحاكم المختلطة.
-
(٤)
إنشاء مصرف زراعي تحت إشراف الحكومة.
من حق مصر إذن تكوين حركة قومية مصرية من أبناء الفلاحين. فهم مصدر كل سلطة؛ لأنهم عماد الثروة ودافِعو الضرائب وهم أهل البلاد الحقيقيون.
(٤) الجيش الوطني
إذا كان الفلاحون هم شعب مصر فإن الجيش هم أبناء الفلاحين، المدافعون عن حق مصر، ومن ثم كان الجيش الوطني هو ممثل الأمة والمدافع عن حقوق الشعب. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في الثورة العرابية ثم في الثورة المصرية الأخيرة في ١٩٥٢م. كان الوطنيون بزعامة شريف أولًا، وكان العسكريون بزعامة عرابي. ولكن بعد مظاهرة عابدين العسكرية توحدت الأمة شعبًا وجيشًا، عندما ذهب عرابي إلى الخديوي على رأس الجند يحمل إليه مطالب الأمة والجيش معًا. وبالتالي أصبحت الثورة تجمع بين السيف والقلم. والتقى الوطنيون بالعسكريين كأبناء أمةٍ واحدة، واتفقوا على المطالبة بالدستور كحركةٍ قومية واحدة بلغت ذروتها في يوم عابدين. يقول عرابي: وإثر «مخاوفنا على البلاد توجهنا إلى الخديوي، وذيَّلنا العريضة بإمضائي وإمضاء إخواني علي فهمي وعبد العال حلمي وأحمد عبد الغفار نيابة عن الجيش، وأحمد أبو مصطفى وأحمد الصباحي وعثمان فوزي وغيرهم من وجوه الأمة بالنيابة عن جميع المصريين.» لقد عرض عرابي باسم الجش والأمة يوم عابدين طلباتٍ عادلةً تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها، في مظاهرةٍ عادلة لا بد منها لضمان حرية الأمة وسعادتها. وقال عرابي يومئذٍ: «جئتك يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة، وكلها طلبات عادلة … إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعيَّن في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها.» كما قال في مواجهة القناصل: «إن الأمة قد أنابت الجيش عنها … هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها.» وقال مخاطبًا قنصل إنجلترا: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي لم أعمد إليها إلا لأنهم أقاموني نائبًا عنهم في تنفيذها بواسطة هؤلاء العساكر الذين هم عبارة عن إخوانهم وأولادهم. فهم القوة التي ننفذ بها كل ما يعود على الوطن بالخير والمنفعة. وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر، إنهم الأهالي الذين أنابونا عنهم في طلب حقوقهم. واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.» وعندما استفسر القنصل عن استعمال القوة أجاب عرابي: «ومن ذا الذي يعارضنا في أحوال داخليتنا؟! فاعلم أننا سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا.» وعندما تساءل القنصل عن هذه القوة أجاب عرابي عما هو فاعل إذا لم تُجَب طلباته، قال عرابي: «عند الاقتضاء يمكن أن نحشد مليونًا من العساكر يدافعون عن بلادهم ويسمعون قولي ويلبُّون إشارتي.» ولما طلب القنصل من عرابي عما هو فاعل إذا لم تجب طلباته، قال عرابي: «أقول كلمةً أخرى … لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط.» وقف عرابي إذن بجيش مصر دفاعًا عن حق شعب مصر، ولم يتوانَ عن استعمال القوة إذا اقتضى الأمر، بل إنه كان صمم على قتل الخديوي إذا ما حاول الخديوي قتله. وقد عاب الاستعمار وأعوانه على عرابي تدخُّله في شئون السياسة، وكان قد وعد شريف ألا يفعل، ولكن الاستعمار أكل مصر كلها سواء تدخل عرابي في السياسة أم لم يتدخل. وقد كان قلق الاستعمار المستمر من تدخل الجيش في المسائل الوطنية. وكان همُّ جلادستون هو ما يترتب على ذلك من نتائج: وحدة الأمة جيشًا وشعبًا في مواجهة الاستعمار.
(٥) الوحدة الوطنية
في اللحظات الحاسمة من تاريخ البلاد عندما يهددها الخطر الخارجي خاصةً، تظهر الوحدة الوطنية في شعب مصر ممثلة في وجهاء الأمة والتجار والأعيان والنواب والمديرين والمشايخ، وممثلة في وحدة شعب مصر بصرف النظر عن الدين والعقيدة، وتصبح الأمة ويصبح الوطن محور التفاف الجميع، ينتسبون إليه ويتحددون به ولاء وانتماء وهوية.
ولقد ذهبت الأمة كلها وعلى رأسها عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي على رأس جمهور المصريين لإلباس محمد علي شارة الحكم، الكرك والقفطان، دون أن يرجعوا في ذلك إلى السلطان باعتبارهم ممثلين عن الأمة. وقد تكرر نفس الشيء في الثورة العرابية. فقد كان عرابي حامي حمى الأمة من المظالم مؤيدًا من العلماء وممثلي الأمة. وقد ذهب عرابي إلى شريف ليعرض عليه تأليف الوزارة، وهدده بأنه سيطلب غيره قائلًا: «ولا تظن أن ليس بالبلاد سواك. ففيها بعون الله العلماء والحكماء.» وكان للحركة الوطنية في ذلك الوقت مركزان: مجلس شورى النواب بزعامة سلطان باشا ومركز أهلي هو بيت السيد البكري نقيب الأشراف، حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان وضباط الجيش الناقمين على الخديوي والساخطين على الدخلاء. فلقد اجتمع أحرار النواب والعلماء والأعيان والتجار في بيت السيد البكري، وعزموا على التوجه للخديوي بما يسمى باللائحة الوطنية، معترضين على مقترحات ريفرز ولسن بشأن إعلان إفلاس مصر، مقررين بأن إيراد مصر كفيلٌ بسداد ديونها، ويطالبون الخديوي بتقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام المجلس وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام الوزارة الأوروبية. وقد وقع عليها ستون من أعضاء المجلس ومثلهم عن العلماء. كما اجتمع سلطان باشا الذي كان يمثل الأعيان مع شريف والوطنيين وعرابي وعلماء الأزهر وزعماء حركة الإصلاح وزعماء النواب على ضرورة إسقاط وزارة رياض وبحث موضوع الدستور. كما حدث اجتماع شعبي آخر في دار سلطان باشا شهده كبار العلماء والنواب ومعه العرابيون وقاضي القضاة الشيخ عبد الرحمن نافذ والشيخ عبد الهادي الإبياري أمام المعيَّة من أجل الاتفاق على رفض اللائحة والإصرار على رجوع عرابي ناظرًا للجهادية. وقد مثل الجميع وحدة الأمة بطبقاتها المختلفة. واطمأن السلطان على زيارة نظامي باشا لشيخ الجامع الأزهر ونقيب الأشراف وبعض كبار العلماء وثقاتهم على الجيش وولائه للأمة وللسلطان بالرغم من غياب عرابي في رأس الوادي. وكان عرابي يتصور الأمة أسرة واحدة تربطها روابط الأبوة والبنوة والأخوة والقرابة. ويقول في مذكراته إلى محاميه: «كنت محبوبًا عند جميع الشعب المصري. محبًّا لخير العموم، موثوقًا بأمانتي وشرفي، وإنه ليس لي غاية شخصية كما يزعم المبطلون، بل غايتي الوحيدة هي تحرير بلادي ورفاهية أهلها وتمتُّعهم بخيرها في ظل حكومة شورية عادلة تعطي الحقوق لأربابها دون فرق بين الأهلين والأجنبيين، حتى يكون جميع سكان مصر كالواحد، بدون فرق بين تعدد المذاهب والاعتقادات؛ إذ الكل إنسان، تجمعنا جامعة الإنسانية.»
وبالتالي تجلَّت الوحدة الوطنية في مصر بوجهٍ خاص بين طوائفها الثلاث، وكان زعماؤها يوقِّعون على المطالب الوطنية ويحضرون اجتماعات ممثلي الأمة. فقد وقَّع شيخ الأزهر والبطريك والحاخام على العريضة الموجهة إلى الخديوي بالاعتراض على اللائحة التي تعلن إفلاس مصر. كما ذهب المفتي الأكبر الشيخ العباسي وشديد بطرس أحد كبار نواب الأقباط مع عرابي لعرض الوزارة على شريف بعد استقالة رياض. كما قام إلى الخديوي وفد من رؤساء الأديان: علماء الإسلام وبطريك الأقباط وحاخام اليهود مطالبين بإعادة عرابي وزملائه. وعندما ظهرت بوادر اعتداء الأسطول الإنجليزي قرر المجلس العرفي دعوة جمعية عامة تضم رؤساء الأديان والعلماء ووجوه الأمة. فحضر أربعمائة عضو في مقدمتهم رؤساء الأديان: علماء الأزهر في مقدمتهم شيخ الإسلام الإمبابي وقاضي قضاة مصر والمفتي والشيخ محمد عبده والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد عليش والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي، وشهده بطريق الأقباط ووكلاء البطريكخانات وحاخام اليهود. وقد آزر عرابي جميع رؤساء الأديان، وكان المسلمون والأقباط والإسرائيليون يتنافسون في نجدته. فهي حرب المصريين ضد الإنجليز. كان الفلاحون والبدو يتسابقون إلى الحرب مشوقين إلى قتال الإنجليز، وشمل الحماس الأقباط، ويشجعهم على ذلك رؤساؤهم. وفي ذلك قال محمد عبده:
وقد ذكر بلنت في وصف تلك الوحدة الوطنية أن عرابي كان متجهًا نحو الإنسانية كلها بغير تفرقة من جنس أو عقيدة. لم يكن فيه شيء من التعصب؛ إذ كان التعصب معناه التفرقة الدينية، وكان على استعداد مستمر للتعاون من أجل قضية الحرية مع اليهود والنصارى أو الكفرة. وكان الحزب الوطني حزبًا سياسيًّا يجمع طوائف الأمة بصرف النظر عن الدين.
والغريب أن حجة الإنجليز لاحتلال مصر وبداية مذبحة الإسكندرية كانت للدفاع عن المسيحيين ضد اضطهاد المسلمين، وحماية للأوروبيين ضد اضطهاد الوطنيين! كانت الحجة في مذبحة الإسكندرية كما يدَّعي مانت وبعد رجوع عرابي إلى الوزارة أن القوم يعدونه إيذانًا بإخراج المسيحيين من مصر وارتجاع الأرض التي يمتلكها الأوروبيون أو يرتهنونها. كما يعدونه إيذانًا بإلغاء الدَّين العام ويحذر من وقوع أي تصادم في أي وقت بين المسلمين والمسيحيين! والحقيقة أن الذين بدءوا المذبحة هم الأوروبيون أنفسهم بتدبير من الخديوي ومحافظة الإنجليز والقناصل. فقد كان الخفراء يشاركون في الفتنة ويقتلون المسيحيين عمدًا في حين لا يفعل الوطنيون ذلك. وكان الأوروبيون على لسان كرومر يروِّجون لمثل هذه الطائفية ويُلقون تبعتَها على الوطنيين في حين أن زعماء الثورة العربية مثل أحمد باشا المنشاوي قد آوى في بيته نحو ثلاثين من الأوروبيين والمسيحيين في فتنة طنطا في حمايته ورعايته حتى انتهت الحرب. وقد تعهَّد عرابي باعتباره ناظرًا للجهادية بصيانة الأموال والأرواح وحفظ سكان البلاد على اختلاف طبقاتهم ومعتقداتهم وتبعيتهم. وزار عرابي الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر وطلب منه أن يذيع في الناس نداء يحثهم فيه على الهدوء والسكينة ويطلب إليهم وفقًا لتعاليم الدين الإسلامي ألا يعتدوا على أموال اليهود والنصارى ولا على أرواحهم. طالب عرابي بالمحافظة على الأوروبيين؛ فهم دَين في عنق المسلمين. ويقول عرابي في مذكراته لمحاميه: «الأوروبيون إخواننا في الإنسانية، حتى ولو كان إنجليزيًّا؛ إذ إنه لا يعد محاربًا إلا الذين بأيديهم السلاح في ميدان الحرب. ومن أراد منهم التوجه إلى بلاده فعلينا حفظه وصيانته كما نحافظ على أنفسنا وأولادنا إلى أن يبلغ مأمنه حسب أحكام الشرع الحنيف.» ولما سمع عرابي أن العربان قد قتلوا رجلًا قبطيًّا وزوجته وتركا طفلًا صغيرًا رضيعًا كتب إلى المديرية في الحال بالقبض على القتلة والمحافظة على حياة الرضيع. ولم يزل عرابي يتذكر صورة الطفل الرضيع، ولم تفارقه حتى آخر يوم في عمره. بل لقد كتب عرابي رسالة إلى بلنت في هذا الموضوع سماها «إماطة الباطل عن وجه الحق المبين»، يدحض ظلم الشراكسة وفي نفس الوقت يصفهم بأنهم إخوان للمصريين في الدين، وبحكم الإنسانية والشرع الشريف الإسلامي الذي يحرم بيعهم واسترقاقهم. كان عرابي يعتبر نفسه بحقٍّ زعيم الأمة المصرية قائلًا: وكنت أنا القائد لتلك الأمة العظيمة لرفع الأمة المصرية من هاوية الذل والهوان إلى أوج السعادة والرفاهية بدون سفك قطرة دم واحدة، مع وجوب المساواة بين العموم بدون مراعاة الجنسية وبصرف النظر عن اختلاف المذاهب والملل والنحل الدينية، وقد رقَّى عرابي الضباط الأقباط المستحقين ورقَّى بطرس باشا إلى أعلى رتبة نظرًا لأن الأقباط في مصر كانوا مهانين مثل إخوتهم المسلمين سواء بسواء.
كان الدين في الثورة العرابية بداية الثورة ومنطلقها. كما كانت الثورة نهاية الدين وغايته. وبالتالي ظهر الإسلام كثورة وظهرت الثورة وكأنها هي الإسلام الوحيد؛ فالدين بلا ثورة خيانة. والثورة بلا دين لا تبقى ولا تستمر في شعب مصر.