زيكو!
أقلعت الطائرة في موعدها إلى «بردج تاون» عاصمة «بربادوس»، وكانت المسافة نحو ١٥٠٠ كيلومتر قطعتْها في ساعة وأربعين دقيقة تقريبًا … وعندما هبطت على مدرج المطار واجهتها ريح معاكسة، فاضطربت قبل أن تنزل بسلامٍ.
كان ضمن الأشياء التي أخذها «أحمد» من «مونديلا» مجموعة من المفاتيح … من بينها كما توقع مفتاح سيارة مرسيدس … ومفتاح الفيلا … وعندما خرجوا من المطار شاهدوا سيارة مرسيدس ٥٠٠ من أحدث طراز تقف في مكان انتظار السيارات … وعندما جرب «أحمد» المفتاح انفتح باب السيارة على الفور … وركب الأربعة وانطلقوا بالسيارة إلى الفيلا التي كان عقدُ إيجارها ضمن أوراق «مونديلا» وبه العنوان …
كانت الفيلا خارج العاصمة … وأخذت السيارة تقطع الطريق مع تكثُّف الظلام الذي يسبق الفجر، ولاحظ الشياطين الأربعة على الفور كثافة مزارع قصب السكر الذي يرتفع إلى ما فوق قامة الشخص …
وأخذ «عثمان» الذي كان بجوار «أحمد» يفحص الخريطة الصغيرة للعاصمة … ويدلي إلى «أحمد» بالبيانات اللازمة عن الطريق … حتى أشرفوا بعد نحو ٤٥ دقيقة على تل مرتفع تُظلِّله الأشجار العالية … وقطعوا طريقًا فرعيًّا نازلًا إلى البحر … وشاهدوا الفيلا التي اختارها «مونديلا» لهم، وأحسُّوا بالأسف على مصيره …
كانت الفيلا تحفة معمارية من الطراز القديم … تحيط بها حديقة حفلت بأشجار الفاكهة، وكان أكثرها من الموز … وعندما توقفت السيارة تمامًا برز من الظلمة شبح رجل … ووضع الجميع أيديهم على مسدَّساتهم … ولكن الرجل تقدَّم ليرحب بهم.
كان رجلًا عجوزًا، لكنه فارع الطول، قويُّ البنية … شديد السمرة التي تميز سكان هذه البقعة من العالم … وعرَّفهم بنفسه، قائلًا: خادمكم «زيكو» … البواب والطباخ … لقد اختارني السنيور «مونديلا» لأنه يَثق بي … وأرجو أن أكون عند حُسْن ظنه.
وقدَّم «أحمد» ﻟ «زيكو» مجموعة الأصدقاء بأسماء مُستعارة … ثم حمل الرجل الحقائب وفتح باب الفيلا … ودعاهم للدخول …
كانت الفيلا من الداخل لا تقلُّ فخامة وروعة عن معمارها الخارجي … ومرة أخرى تحسر الشياطين على «مونديلا».
قال «أحمد»: إننا في أشد الحاجة إلى الراحة … ولكن لا تدعْنا ننام أكثر من ثلاث ساعات … كم ساعتك الآن؟
زيكو: إنها الخامسة يا سنيور.
أحمد: إذن في الثامنة توقظنا.
زيكو: هل من طلبات خاصة بالإفطار؟
أحمد: لا … الوجبة العادية مع الشاي.
زيكو: أرجو لكم نومًا طيبًا.
صعدت «إلهام» و«زبيدة» إلى غرف النوم في الطابق الثاني من الفيلا، بينما اختار «أحمد» و«عثمان» أن يناما في غرفة صغيرة بالطابق الأرضي … وقد استغرق الأربعة في النوم فورًا.
استيقظ الشياطين الأربعة في موعدهم على رائحة إفطار شهي من عجة البيض بالتوابل، ورائحة القهوة القوية … وكان «زيكو» الطيب يَبتسم لهم ابتسامة أبوية، وهم يتناولون إفطارهم بشهية …
والتفت «أحمد» إليه قائلًا: هل عندك فكرة عن الصياد «براند»؟
ردَّ «زيكو»: إنني أعرف «براند» منذ سنوات طويلة؛ فهو قريبي من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى كنا نصطاد السمك معًا في البحر «الكاريبي» الذي أعرفُه كما أعرف راحة يدي.
اهتمَّ «أحمد» بهذه الإجابة اهتمامًا كبيرًا وقال: إذن أنت عرفت من «براند» ما شاهَدَه … أقصد السفينة «ميلوس»؟
زيكو: نعم … خاصة عندما عرفت اهتمام جهات كثيرة بأمر هذه السفينة، سألتُ «براند» عنها فقال لي: إنه شاهدها، وباع بعض أسماكه للبحارة.
أحمد: هل يمكن أن تأخذنا إلى «براند»؟
زيكو: طبعًا … إنه يعيش في كوخ صغير على الشاطئ الشمالي للجزيرة … وليس بيننا وبينه إلا مسافة نصف ساعة بالسيارة.
أحمد: سنَذهب أنا وأنت وصديقي إليه.
وبعد انتهاء الإفطار، قفز «أحمد» إلى السيارة المرسيدس وبجواره «زيكو» لإرشاده إلى الطريق، بينما ركب «عثمان» في المقعد الخلفي للسيارة … وبقيت زبيدة و«إلهام» في الفيلا، وقد قرَّرتا قضاء الصباح في السباحة في الحمام الجميل الموجود بالحديقة …
كان صباحًا مشرقًا … وريحٌ خفيفة تهبُّ من البحر إلى الشاطئ، وكان «أحمد» و«عثمان» في حالة طيبة … وعلى استعداد للعمل.
وأخذ «أحمد» يتحدَّث إلى «زيكو» أثناء الطريق … وعندما تكرَّر اسم «مونديلا» كثيرًا في الحديث … اضطر «أحمد» في النهاية إلى أن يُخبر «زيكو» عن نهاية «مونديلا» المؤلمة.
وقد كان ذلك صدمة فظيعة ﻟ «زيكو»؛ ولكنه تمالك نفسه وقال: إنه سيعود للعمل في صيد السمك بعد أن فقَدَ وظيفته.
ولكن «أحمد» طمأنه قائلًا: لا تخشَ شيئًا فسوف يأتيك مُرتبك كل شهر في موعده … وكل المطلوب منك أن تُؤدِّي ما نطلبه منك.
زيكو: إنني أشكرك كثيرًا يا سنيور.
أحمد: أنا الذي أشكرك.
وصلوا إلى شاطئ شبه مهجور … كان كوخ «براند» يُلامس مياه المُحيط الزرقاء الداكنة … وكان قاربه الصغير … وأدوات الصيد … وبعض الأشياء القديمة هي كل ما في المكان …
توقفت السيارة قرب باب الكوخ … ونزل «زيكو» واتجه إلى باب الكوخ الخشبي … ودقَّه … وبعد لحظات ظهر «براند» … وكان شكله مُفاجأة ﻟ «أحمد» و«عثمان».
كان «براند» رجلًا قصير القامة، قوي البنيان، أسمر مع حمرة أضفتها عليه أشعة الشمس … منكوش الشعر، له لحية طويلة، وقد انتشَرَ الوشم على ذراعَيه وصدره … يَرتدي سروالًا ممزَّقًا، وقميصًا قديمًا … وفي رقبته سلسلة ضخمة من المعدن الصدئ تَنتهي بميدالية.
كان شكلُه ينتمي إلى الماضي … كأنه قرصان قديم من قراصنة القرن التاسع عشر … وتبادل «زيكو» و«براند» التحيات بهزِّ الأيدي، والتربيت على الأكتاف … وتحدثا لحظات … ثم أقبلا إلى السيارة حيث نزل «أحمد» و«عثمان» للحديث إلى «براند» …
وفي هذه اللحظة دوَّى في الفضاء الساكن صوت محرك سيارة تقترب … وأحس «أحمد» بالخطر … اندفع «أحمد» على الفور إلى «براند»، وألقى نفسه عليه … فألقاه أرضًا، وفي ثانية فعل «عثمان» نفس الشيء مع «زيكو» عندما انطلقت مجموعة من الرصاص من مدفع رشاش ناحيتهم، وتدحرج الأربعة إلى أسفل التل … بينما سمعوا صوت محرِّك السيارة وهو يخفت تدريجيًّا، فقد انطلقت السيارة مبتعدة …