تأثَّر دانتي بكلام الفلورنسي المجهول في القصيدة السابقة، ودفعه حبه لوطنه إلى أن
يجمع
الأوراق المتناثرة، ويعيدها إلى الروح التي لزمت الصمت. ووصل الشاعران إلى الدائرة
الثالثة
في الحلقة السابعة، وكانت سهلًا من الرمال الجرداء التي تُشبه رمال ليبيا وقد وطئها
كاتو من
قبل، وأحاطت هذه الرمال بغابة المنتحرين. رأى دانتي قُطعانًا كثيرة من المعذبين، يبكون
في
بؤس شديد، وقد اتخذوا أوضاعًا مختلفة فوق الرمال، تبعًا لخطيئة العنف التي اقترفوها
على
الله أو الفن أو الطبيعة، وتساقطت عليهم ألسنة اللهب من السماء دون انقطاع. رأى دانتي
كابانيو الذي احتقر الآلهة في الأرض كما احتقرهم في الجحيم، وقد اعتقد أن قوة الله
قوة
غاشمة مثل قوته هو. عنَّفه فرجيليو وندَّد بخطيئته، وأوضح له أن عقابه هو الغضب وما
يصدر
عنه من الاحتقار في حد ذاته، الذي هو بمثابة حلية تزين صدره بما يناسبه. سار الشاعران
في
طريق ضيق بين غابة المنتحرين وسهل الرمال، ورأيا جدولًا أحمر اللون، هو نهر فليجيتونتي.
وأخذ فرجيليو يشرح لدانتي مصدر أنهار الجحيم، متأثرًا في ذلك بالميتولوجيا اليونانية،
التي
تقول إنه كان في كريت تمثال ضخم مصنوع من الرأس إلى القدم، من الذهب والفضة والنحاس
والحديد
والفخار على التوالي، وتخرج منه دموع الآثمين، ثم تنحدر إلى حلقات الجحيم، وبذلك تكون
أنهار، كما أشار إلى نهر ليتي في المطهر، حيث تزول خطايا الآثمين. ثم سار الشاعران
في طريق
ضيق بين النهر والرمال الملتهبة، حيث لا تسقط شواظ اللهب من السماء.
(١) إني وقد كنتُ مدفوعًا بحُبِّي لموطن ميلادي، جمعتُ الأوراق المتناثرة،
٢ وأعدتُها إلى من أصبح الآن خائر القوى.
٣
(٤) وعندئذٍ جئنا إلى الحد الذي تنفصل عنده الدائرة الثانية عن الثالثة، حيث يبدو
للعدالة فنٌّ رهيب.
٤
(٧) ولكي أُحسِن وصف الأشياء الجديدة،
٥ أقول إننا وصلنا إلى سهل، تطرد أرضه كل نبات.
٦
(١٠) الغابة الأليمة من حوله إكليلٌ، كالخندق المشئوم من حولها،
٧ وهنا أوقفنا خُطانا على حافة السهل.
٨
(١٣) كان الفضاء رملًا قاحلًا كثيفًا، لا تختلف طبيعته
٩ عن ذاك الذي سبق أن وطئه كاتو بقدميه.
١٠
(١٦) أيها الانتقام الإلهي،
١١ كم ذا ينبغي أن يُرهبك كلُّ مَن يقرأ ما كان قد أضحى مرئيًّا لعينيَّ!
١٢
(١٩) رأيتُ قطعانًا كثيرة من نفوسٍ عارية،
١٣ تبكي جميعًا في بؤسٍ شديد،
١٤ وقد بدت خاضعةً لقوانين مُغايرة.
١٥
(٢٢) اطَّرح بعضٌ فوق الأرض مستلقيًا على ظهره،
١٦ وجلس بعضٌ متلاصقين تمامًا،
١٧ وآخرون ساروا على الدوام.
١٨
(٢٥) وهؤلاء الذين ساروا دائرين كانوا أكثر عددًا، وأولئك الذين استلقَوا للعذاب
كانوا أقل، ولكن الألم زاد ألسنتهم انطلاقًا.
١٩
(٢٨) وفوق كل الرمل الضخم أمطرتْ، في تساقط بطيء، نُدَف كبيرةٌ من النار،
٢٠ كما يسقط الثلج على المرتفعات دون رياح.
(٣١) وكما رأى الإسكندر،
٢١ في تلك المناطق الدافئة من الهند، ألسنة اللهب تسقط وهي متماسكةٌ على
جيشه حتى الأرض،
٢٢
(٣٤) ولذا عُني بأن تدوس فيالقه الأرض؛ لأن البخار
٢٣ كان أيسر انطفاء إذا أصبح معزولًا؛
٢٤
(٣٧) هكذا سقط الوهجُ الأبدي
٢٥ الذي أشعل الرمل، كما يقع الحجر تحت الزناد، لمضاعفة الألم.
٢٦
(٤٠) كان رقص الأيدي البائسة دون انقطاع أبدًا،
٢٧ وهي تُبعِد الاحتراقَ المتجدِّد عن نفسها هنا وهناك.
٢٨
(٤٣) بدأتُ: «أستاذي! يا من تغلب كلَّ شيء،
٢٩ سوى الشياطين العنيدة، التي خرجت في مواجهتنا عند مدخل الباب!
٣٠
(٤٦) مَن ذلك العظيم
٣١ الذي يبدو غير عابئ بالحريق، وينطرح ثانيَ العِطف بازدراء، حتى بدا كأن
هطلَ النار
٣٢ لا يُنضجه؟!»
٣٣
(٤٩) وذاك نفسه الذي أدرك أني أُسائل عنه دليلي، صاح قائلًا: «هكذا كنتُ حيًّا،
وهكذا في الممات أكون.
٣٤
(٥٢) ولو أن جوبيتر يُتعِب حَدَّاده،
٣٥ الذي أخذ منه وهو غاضبٌ الصاعقةَ القاتلة، التي ضُربتُ بها في اليوم الأخير،
٣٦
(٥٥) أو إذا كان يُتعب الآخرين واحدًا تلو واحد،
٣٧ في جبل النار،
٣٨ بالمصهر الأسود مناديًا: «النجدة النجدة، يا فولكانو الطيب!»
(٥٨) كما فعل في موقعة فليجرا،
٣٩ وإذا كان يُصوِّب السهام إليَّ بكل ما له من قوة، فلن يستطيع أن ينال
مني انتقامًا سعيدًا.»
٤٠
(٦١) عندئذٍ قال دليلي بحدة شديدة، لم أسمعها بمثل هذا العنف:
٤١ «يا كابانيو! لِما بك من صَلَف لا تنطفئ
(٦٤) جذوتُه؛ يزداد عقابك ويشتد،
٤٢ وما من عذابٍ سوى غضبك ذاته، يمكن أن يكون ألمًا جديرًا بحَنَقك.»
٤٣
(٦٧) ثم استدار نحوي بفمٍ أعذب قائلًا: «كان هذا أحد الملوك السبعة الذين حاصروا
طيبة، وكان، ويبدو أنه لا يزال،
(٧٠) يزدري الله، ويُظهِر أنه لا يأبه له كثيرًا، ولكن ازدراءه — كما قلتُ له
٤٤ — حليةٌ تزين صدره حقًّا بما يناسبه.
٤٥
(٧٣) والآن سِر من ورائي، واحذر بعدُ أن تضع قدميك فوق الرمل الملتهب، ولكن
أبقهما دائمًا ملتصقتين بالغابة.»
٤٦
(٧٦) وفي صمتٍ وصلنا هناك، حيث ينبع من الغابة
٤٧ جدولٌ صغير،
٤٨ لا تزال حُمرته تُرعدني.
(٧٩) وكما يخرج من بوليكامي جدولٌ،
٤٩ تقتسمه الخاطئات بعدُ فيما بينهن، كذلك هبط هذا الجدول وسط
الرمال.
(٨٢) وكان قاعه وكِلا شاطئيه، والحاشيتان على جانبيه، قد تحولت إلى حجر،
فتبيَّنتُ أن هنا مكان العبور.
٥٠
(٨٥) قال: «بين كل ما أريتك إياه منذ دخلنا ذلك الباب، الذي لا يمتنع مدخله على أحدٍ،
٥١
(٨٨) لم تسجل عيناك ما يلفت النظر، مثل الجدول الماثل، الذي تخمد عليه كل ألسنة اللهب.»
٥٢
(٩١) كانت هذه كلمات دليلي؛ ولذا رجوته أن يزيدني من الغذاء الذي أذكى
٥٣ شهيتي إليه.
٥٤
(٩٤) عندئذٍ قال: «في وسط البحر
٥٥ تستوي بلادٌ خربة تُدعى كريت، وقد كان العالم طاهرًا في ظل ملكها.
٥٦
(٩٧) وهناك جبلٌ يُدعى إيدا، كان من قبل سعيدًا بالماء وأوراق الشجر،
٥٧ وهو الآن قفرٌ مثل غابر الأثر.
(١٠٠) كانت رِيا قد اختارته لابنها مهدًا أمينًا، ولكي تُحسِن إخفاءه، كانت تدوي
بالصراخ عند بكائه.
٥٨
(١٠٣) وفي داخل الجبل ينتصب قائمًا عجوزٌ ضخم،
٥٩ وهو يدير كتفيه لدمياط، وينظر إلى روما كأنها مرآته.
٦٠
(١٠٦) رأسه مصوغٌ من خالص الذهب،
٦١ والصدر والذراعان من نقي الفضة،
٦٢ ثم هو إلى الركبة من نحاسٍ،
٦٣
(١٠٩) ومن هنا إلى أسفل كلُّه من حديدٍ دون خبث،
٦٤ سوى أن يُمنى قدميه من فخَّار،
٦٥ وهو يعتمد عليها أكثر من الأخرى.
٦٦
(١١٢) وكل أجزائه — ما عدا الذهب — يقسمها شقٌّ تقطر منه دموع،
٦٧ تحفر — وهي متجمعةٌ — ذلك الصخر.
(١١٥) وينحدر مجراها في هذا الوادي من صخرة إلى أخرى، وتُكوِّن أكيرونتي،
٦٨ واستيكس،
٦٩ وفليجيتونتي،
٧٠ ثم تهبط في تلك القناة الضيقة،
٧١
(١١٨) إلى حيث لا هبوط بعدُ،
٧٢ وتصنع كوتشيتوس،
٧٣ وسوف ترى أي مستنقعٍ هو؛ ولذا لن أتكلم عنه هنا.»
(١٢١) قلت له: «إذا كان هذا الجدول ينبع من دنيانا على هذا النحو،
٧٤ فلِمَ يبدو لنا على هذا الجانب وحده؟»
(١٢٤) قال لي: «أنت تعلم أن هذا المكان مستديرٌ، ومع أنك سرتَ طويلًا إلى اليسار
فحسب، هابطًا إلى القاع،
٧٥
(١٢٧) فإنك لم تقطع بعدُ كل الدائرة؛ ولذا إذا ظهر لنا شيءٌ جديدٌ، فينبغي ألا
يجلب على وجهك أمارات العجب.»
٧٦
(١٣٠) قلت ثانيًا: «أستاذي، أين يوجَد فِليجيتونتي وليتي؟ فإنك تسكت عن أحدهما،
والآخر تقول إن هذا المطر يصنعه.»
٧٧
(١٣٣) أجاب: «في الحق إنك تروقني في كل ما تسأل، ولكن غليان الماء الأحمر كان
ينبغي أن يحل جيدًا واحدًا مما تسأل.
٧٨
(١٣٦) أما ليتي فسوف تراه، ولكن خارج هذه الهاوية،
٧٩ هناك حيث تذهب النفوس لكي تغتسل، عندما تُمحى الخطيئة بالندم.»
(١٣٩) ثم قال: «الآن حان وقت رحيلنا عن الغابة، فاحرص على أن تسير من ورائي، إن
الضفتين اللتين لا تشتعلان تُفسحان
(١٤٢) طريقًا،
٨٠ وعليهما تخمد كل نار.»