سار الشاعران فوق ضفة نهر فليجيتونتي، التي كان يحميها البخار المتصاعد من شواظ اللهب
الهاطلة من السماء، وعندما ابتعدا عن غابة المنتحرين، رأى دانتي حشدًا من المعذبين
أخذوا
يحدِّقون النظر فيهما. وعرف دانتي أحدهم، ولم يمنع تشويه وجهه من أثر النيران أن يناديه
باسمه، السيد برونيتو لاتيني، وجرى بينهما موقف ود وصداقة متبادلة، وعبَّر لاتيني
عن رغبته
في السير والتحدث إلى دانتي بعض الوقت، فرحب دانتي بذلك، كما أبدى استعداده للبقاء
معه في
الجحيم، إذا راق ذلك لفرجيليو. قال برونيتو إنه لا بد له أن يتحدث وهو يسير حتى لا
يشتد
عذابه بالنار، وظل دانتي سائرًا مُنحني الرأس؛ لأنه كان فوق الضفة المرتفعة، وحتى
يصبح أقرب
إلى برونيتو. وتحدثا عن الماضي والمستقبل، وتنبأ لاتيني لدانتي بالمجد العظيم، وأخبره
أن
شعب فلورنسا الخبيث الحقود الناكر للجميل سوف يناصبه العداء لجميل صنعه؛ لأنه ليس
من
المناسب أن يثمر حلو التين بين حامض الغُبيراء، وسأله أن يكون حريصًا على التخلص من
مساوئ
ذلك الشعب. اعترف دانتي بفضل برونيتو لاتيني عليه، وقال إنه سيحتمل كل تقلبات الحظ
وتصاريف
القدر. وذكر لدانتي أسماء بعض رفاقه في العذاب، من القساوسة وأصحاب الشهرة الملوِّطين،
وتمنى لو أنه بقي مع دانتي وقتًا أطول، ولكنه رأى جماعة من المعذبين تثير غبارًا فوق
الرمال، فترك دانتي بعد أن أوصاه خيرًا بكتابه، الكنز، الذي يحفظ ذكراه في الدنيا،
وجرى
بأقصى سرعة لكي يلحق بجماعته.
(١) الآن تحملنا إحدى الضفتين الصلدتين،
٢ ودخانُ الجدول يبسط فوقُ ظلًّا، لكي يحمي الماء والشاطئين من النار.
٣
(٤) وكالفِلاميين، بين فيسانت
٤ وبروجس،
٥ إذ يخشَون الفيضان الذي يتدافع نحوهم، فيقيمون سدًّا يصد عنهم مياه البحر،
٦
(٧) وكأهل بادوا،
٧ على طول نهر بِرينتا،
٨ في الدفاع عما لهم من قرًى وقلاع، قبل أن تشعر كيارنتانا
٩ بالدفء؛
١٠
(١٠) على هذه الصورة أُقيمَ ذانك الشاطئان،
١١ خلا أن الصانع — كائنًا من كان
١٢ — لم يشيدهما بمثل تلك الضخامة والارتفاع.
١٣
(١٣) وكنا قد ابتعدنا عن الغابة كثيرًا،
١٤ حتى لم أكن لأتبيَّن أين كانت، إذا ما اتجهتُ إلى الوراء،
(١٦) حينما لقينا حشدًا من النفوس، قَدِموا على طول الشاطئ،
١٥ ونظر كلٌّ منهم إلينا، كما جرت العادة في المساء
(١٩) أن ينظر الناس بعضهم بعضًا تحت القمر الجديد،
١٦ وحدَّقوا نحونا بأبصارهم هكذا، كما يُحدِّق حائكٌ عجوز في سَم الخِياط.
١٧
(٢٢) وحينما وقع عليَّ نظر تلك الأسرة،
١٨ تعرَّفَ عليَّ واحدٌ منها،
١٩ وأمسكني من طرف الرداء،
٢٠ وصاح: «أيُّ عجبٍ!»
٢١
(٢٥) ولما مد ذراعه إليَّ، حدَّقتُ بعينيَّ في وجهه الذي أنضجتْه النار، حتى لم
تمنع سحنته المحترقة
(٢٨) ذاكرتي أن تعرفه،
٢٢ وبينما كنت أحني يدي إلى وجهه
٢٣ أجبته: «أأنت هنا أيها السيد برونيتو؟»
٢٤
(٣١) قال لي: أيْ بني،
٢٥ عسى ألا يسوءك أن يعود برونيتو معك إلى الوراء قليلًا، ويترك الحشد يسير.»
٢٦
(٣٤) قلت له: «أرجو هذا من كل قلبي،
٢٧ وإن أردتَ أن أبقى معك فسأفعل ذلك، إذا راق لمن أذهب معه.»
٢٨
(٣٧) قال: «يا بني، إن كل مَن يتوقف مِن هذا الحشد لحظة، يستلقي بعدئذٍ مائة عام،
دون أن يروِّح عن نفسه عندما تُصليه النار،
٢٩
(٤٠) ولذلك سِر قُدمًا، وسأتبع طرف ثوبك،
٣٠ وسألحق بعد ذلك برفقتي التي تسير باكيةً عذابها الأبدي.»
(٤٣) لم أجرؤ على الهبوط من الطريق حتى أسير في مستواه،
٣١ ولكني بقيتُ مُنحني الرأس كرجل يتقدم في خشوع.
٣٢
(٤٦) وبدأ قائلًا: «أيُّ حظٍّ أو قدَر،
٣٣ يسوقك هنا في أسفل، قبل النوم الأخير؟
٣٤ ومن هذا الذي يدلُّك على الطريق؟»
(٤٩) وأجبته: «هناك في الحياة الهادئة فوقنا في العالم الأعلى، ضللتُ في وادٍ قبل
أن تكتمل مني السن.
٣٥
(٥٢) ووليته ظهري صباح أمس فحسب،
٣٦ وظهر لي هذا الدليل،
٣٧ حينما كنت أتراجع فيه، وهو يقودني في هذا الطريق إلى المستقر.»
٣٨
(٥٥) قال لي: «إذا أنت اتبعتَ نجمك، فلن يفوتك بلوغ المرفأ المجيد،
٣٩ إن صح ما تنبأتُ به في الحياة الجميلة،
٤٠
(٥٨) ولو لم أكن متُّ قبل الأوان،
٤١ ورأيت السماء رفيقة بك هكذا، لكنتُ منحتك العون في عملك.
٤٢
(٦١) ولكن ذلك الشعب الخبيث الناكر للجميل،
٤٣ الذي هبط قديمًا من فييزولي،
٤٤ ولم يزل محتفظًا بطبيعة الصخر والجبل،
٤٥
(٦٤) سيصير عدوًّا لك بجميل صُنعك،
٤٦ ولهذا سببٌ؛ إذ ليس من المناسب أن يُثمِر حلو التين بين حامض الغُبيراء.
٤٧
(٦٧) سمعةٌ قديمة في الأرض تصمهم بالعمى،
٤٨ وهم شعبٌ بخيلٌ حسودٌ متغطرسٌ، فاحرص على أن تُبرِّئ نفسك من عاداتهم.
٤٩
(٧٠) ويحفظ لك حظك رفيعَ الشرف، حتى يساور النهم عليك هذا الحزب وذاك،
٥٠ ولكن العُشب لن يكون في متناول العنز.
٥١
(٧٣) فلْيجعل وحوش فييزولي من أنفسهم حصيدًا يابسًا،
٥٢ ولكنهم لن يمسوا النبات بأذًى،
٥٣ إذا كان بعضه لا يزال ينبت في خبثهم،
(٧٦) الذي تنبعث فيه البذرة المقدسة لأولئك الرومان الذين ظلوا هناك، حينما بُني
وكرٌ لهذا الحقد الشديد.»
٥٤
(٧٩) أجبته: «لو كانت رغبتي تحققتْ تمامًا، لما كنتَ أُبعدتَ عن طبيعة البشر بعدُ؛
٥٥
(٨٢) إذ بقيتْ راسخةً في ذهني، وهو ما يحزنني الآن،
٥٦ صورتك الأبوية العزيزة الطيبة، عندما كنتَ تعلمني في الدنيا من
ساعةٍ
(٨٥) لأخرى، كيف يُخلِّد المرء نفسه،
٥٧ وطالما أحيا، ينبغي أن يفصح لساني كم ذا أعترفُ لك بالجميل.
٥٨
(٨٨) وذلك الذي تقصه عن مصيري،
٥٩ أنا أسجله وأحتفظ به، لكي تفسره لي، مع غيره من قولٍ،
٦٠ سيدةٌ سوف تعرفه إذا وصلتُ إليها.
٦١
(٩١) وأريد حقًّا أن يكون هذا واضحًا لك، ولكيلا يؤنِّبني ضميري، فإني على أهبة
للقاء الحظ كما يريد بي.
(٩٤) وليس جديدًا على أذني مثل هذه النبوءة، ولذلك فليُدِر الحظ عجلته كما يروق له،
٦٢ وليُعمِل الريفيُّ فأسه.»
٦٣
(٩٧) عندئذٍ استدار أستاذي إلى الوراء صوب اليمين، ونظر إليَّ،
٦٤ ثم قال: «من يُحسِن إنصاتًا يحسن فهمًا.»
٦٥
(١٠٠) وأنا، على رغم ذلك، أواصل السير متحدثًا مع السيد برونيتو، وأسأل مَن هم
أشهر رفاقه وأعلاهم قدرًا.
٦٦
(١٠٣) قال لي: «من الخير أن تعرف منهم بعضًا، أما الآخرون فالسكوت عنهم أفضل؛ لأن
الوقت سيقصر عن هذا الكلام الكثير.
٦٧
(١٠٦) واعلم في كلمةٍ أن جميعهم كانوا قساوسة، وأدباء عظامًا، وذوي شهرة واسعة،
ووصمتهم في الدنيا خطيئةٌ واحدة.
٦٨
(١٠٩) بريشان يذهب
٦٩ مع ذلك الحشد البائس، وكذلك فرنتشسكو داكورسو،
٧٠ وإذا رغبتَ أن ترى مثل هذا القذَر، فإنك مستطيعٌ أن
(١١٢) ترى مَن
٧١ نقله خادمُ سَدَنة الله،
٧٢ من الأرنو إلى باكيليوني،
٧٣ حيث ترك أعصابه المرهقة.
٧٤
(١١٥) كم أود أن أزيد من القول، بَيد أني لا أستطيع أن أُطيل السير والحديث،
٧٥ فإني أرى هناك دخانًا جديدًا ينبعث من الرمال.
٧٦
(١١٨) ويأتي قومٌ ينبغي ألا أكون معهم،
٧٧ فأوصيك بكتابي الكنز، الذي أحيا فيه بعدُ، ولست أسأل مزيدًا.»
٧٨
(١٢١) ثم قفل راجعًا، وبدا أنه من أولئك الذين يتسابقون على العلم الأخضر في ريف فيرونا،
٧٩ وظهر مِن بينهم أنه مَن يظفر،
(١٢٤) وليس ذلك الذي يخسر.
٨٠