أشار فرجيليو إلى الوحش جيريوني أن يأتي إلى الشاطئ، وقد كان له وجه الرجل العادل،
وكانت
زاحفةً بقيةُ أجزائه، وتسلَّح ذَنَبه بشوكة سامة مثل زُنابَى العقرب، وهو رمز الخيانة،
وحارس الحلقة الثامنة. اقترب جيريوني من الشاعرين واستقر عند حافة الشاطئ. دعا فرجيليو
دانتي إلى أن يذهب بمفرده إلى مسافة قريبة ليحادث بعض الآثمين، على حين يتفاهم هو
مع
جيريوني. وصل دانتي إلى جماعة المُرابين الذين ارتكبوا العنف ضد الطبيعة والفن، وقد
انفجر
الأسى من عيونهم وبكَوا بمرارة، وأبعدوا النيران عن أنفسهم كما تفعل الكلاب عندما
تدفع عن
نفسها الحشرات. وحمل كلٌّ منهم كيس نقوده وعليه علامته المميزة، وبعضهم من فلورنسا
أو من
بادوا. تحدَّث بعضهم إلى دانتي، ولكنه لم يتكلم هو، ولم يذكر اسم واحد منهم، ثم عاد
إلى
فرجيليو. اعتلى الشاعران ظهر جيريوني، وتولى دانتي الخوفُ، فأحسَّ بما يشبه قُشَعريرة
حمَّى
الرِّبع، ولكن فرجيليو شجَّعه وأحاطه بذراعيه، وحفظه من الخطر. وتحرَّك الوحش في مثل
حركة
السفينة التي تبتعد عن الشاطئ، وهبط وهو يسبح في الهواء بطيئًا، وفي دوائر واسعة.
عاد شعور
الخوف إلى دانتي، وأحسَّ بحركة الهواء عندما لفح وجهَه وهبَّ عليه من أسفل. وسمع دانتي
دويَّ مياه ساقطة، وصوت النيران، وبكاء المعذبين، فزاد خوفه. وأخيرًا وصل بهما جيريوني
إلى
القاع عند أسفل صخرة وعرة، وكان هبوطه في مثل هبوط الصقر الذي أجهده الطيران دون أن
يكسب
صيدًا. وعندما تخلَّص جيريوني من ثِقْله، انطلق في الفضاء انطلاقَ السهم من القوس.
(١) «انظر الوحش ذا الذَّنَب المُدبَّب،
٢ الذي يجتاز الجبال ويحطِّم الأسوار والأسلحة،
٣ هو ذا مَن يُلوِّث الدنيا بأسرها!»
٤
(٤) هكذا بدأ دليلي يُحدثني، وأشار إليه أن يأتي إلى الشاطئ، قريبًا من حافة
الصخور المرمرية التي مشينا عليها.
٥
(٧) هذه الصورة الكريهة للخيانة، أتت فمدَّت الرأسَ والصدر، ولكن لم تسحب ذَنبًا
على الشاطئ.
(١٠) كان وجهه وجه رجل عادل، وكان مظهره وديعًا من الخارج،
٦ وسائر جسمه من الزواحف،
٧
(١٣) وكان له مخلبان يكسوهما الشعر إلى الإبطين، والظهرُ والصدر وكلا الجانبين
كلها تُزركِشها العُقَد والحِلَق،
٨
(١٦) ما صنع التُّرك والتَّتر قط ثيابًا
٩ فاقتها في ألوان السَّدى واللُّحمة، ولا أخرجت أراكْنا مثل ذاك النسيج.
١٠
(١٩) وكما تقف صغار السفن
١١ أحيانًا على الشاطئ، جانبٌ في الماء وعلى الأرض جانبٌ، وكما يتأهَّب
السَّمُّور للقتال،
١٢
(٢٢) هناك في أرض الألمان أُولي النَّهم؛
١٣ كذلك وقف شرُّ الوحوش على الحافة، التي تُلبِس الرملَ نطاقًا من الصخر،
١٤
(٢٥) مدَّ كل ذَنَبه في الفضاء، وحُمته السامة مرفوعةٌ إلى أعلى، تُسلِّح طرفه
مثل زُنابَى العقرب.
١٥
(٢٨) قال الدليل: «الآن ينبغي أن ينحرف طريقنا قليلًا
١٦ إلى ذلك الوحش الخبيث الذي يجثم هناك.»
١٧
(٣١) ولذلك هبطنا إلى اليمين،
١٨ ومشينا عشر خطوات فوق الحافة، لكي نتجنب تمامًا الرمل واللهب.
(٣٤) وحينما وصلنا إليه رأيت، إلى الأمام قليلًا فوق الرمال، قومًا
١٩ جلوسًا بالقرب من المكان الخالي.
٢٠
(٣٧) وهنا قال لي أستاذي: «لكي تحيط خُبرًا بهذه الدوائر،
٢١ فلْتذهب ولْتتفقَّد حالهم.
(٤٠) وليكن حديثك معهم هناك قصيرًا،
٢٢ وإلى أن تعود سأتكلم مع هذا الوحش، حتى يُعيرنا كتفيه القويتين.»
٢٣
(٤٣) وهكذا ذهبتُ بعدُ وحيدًا،
٢٤ على شفا هذه الحلقة السابعة، حيث يجلس القوم المعذبون.
(٤٦) من عيونهم تفجَّر العذاب،
٢٥ يُنحُّون بأيديهم، إلى هذا الجانب وذاك، تارةً حميمَ البخار، وطورًا
محترق الأديم.
٢٦
(٤٩) ولا تفعل الكلاب غير ذلك في الصيف، بالأنوف أو الأقدام، عندما تلسعها
البراغيث أو ذُباب البيوت
٢٧ أو ذباب الدواب.
(٥٢) وبعد أن حدَّقتُ ببصري وجوه بعضهم، وقد اسَّاقطت عليهم نارٌ أليمة، لم أعرف
منهم أحدًا،
٢٨ ولكني تبيَّنتُ
(٥٥) أن كلًّا منهم تدلَّى من رقبته كيسٌ،
٢٩ ذو لونٍ خاصٍّ وشعار مُعيَّن، وقد بدت عيونهم مستقرة عليه.
٣٠
(٥٨) وبينما كنت أمرُّ بينهم وأُجيل النظر، رأيت فوق كيس أصفر علامةً زرقاء، كان
لها وجه الأسد وزيُّه.
٣١
(٦١) ثم رأيتُ، وأنا أتابع مجرى بصري، علامةً أخرى حمراء كالدم، تُبدي إوزةً أنصع
بياضًا من الزبد.
٣٢
(٦٤) قال لي أحدهم، وكان لكيسه الصغير الأبيض شعارُ خنزيرة زرقاء سمينة:
٣٣ «ماذا تفعل في هذه الهاوية؟
(٦٧) اذهب الآن، وإذ كنتَ لا تزال حيًّا فاعلم أن فيتاليانو
٣٤ جاري، سيجلس هنا إلى جانبي الأيسر.
(٧٠) أنا بين هؤلاء الفلورنسيين مواطنٌ بادوي، إنهم يصمُّون أُذنيَّ مرات كثيرة،
وهم يصيحون: ألا فليأتِ أمير الفرسان،
٣٥
(٧٣) الذي سيحمل الكيسَ ذا العنزات الثلاث!»
٣٦ وهنا لوى فمه وأخرج لسانه،
٣٧ كثورٍ يلحس أنفه.
٣٨
(٧٦) وأنا، الذي كنتُ أخشى أن أُغضِب ببقائي طويلًا، مَن أوصاني بالبقاء قليلًا،
٣٩ رجعتُ القهقرى عن النفوس البائسة.
(٧٩) ووجدتُ دليلي الذي كان قد صعد فوق ردف الوحش المخيف،
٤٠ وقال لي: «الآن كن قويًّا شجاعًا.
(٨٢) علينا أن نهبط الآن بمثل هذا السلم، اصعد إلى الأمام فإني أريد أن أكون في
الوسط، حتى لا يقوى الذَّنَب على أذاك.»
٤١
(٨٥) وكذلك الذي تدنو منه رعشة حُمى الرِّبع هكذا فتبيضُّ أظفاره وترتعد فرائصه،
عند رؤية الظل فحسبُ؛
٤٢
(٨٨) هكذا أصبحتُ أمام هذه الكلمات، ولكن تَهدَّدني الخجل، الذي يجعل التابع
شجاعًا أمام سيده الطيب.
٤٣
(٩١) فوضعتُ نفسي فوق هاتين الكتفين الرهيبتين، وأردت أن أقول هكذا: «احرص على أن تحضنني.»
٤٤ ولكن الصوت لم يجئ كما اعتقدت.
٤٥
(٩٤) ولكنه وقد حماني مراتٍ سابقةً من أخطار أخرى، حاطني بذراعيه، وأسندني حينما
صعدتُ.
(٩٧) وقال: «تحرَّك الآن يا جيريوني، وليكن هبوطك بطيئًا وفي دوائر واسعةٍ،
وفكِّر في حِملك هذا الجديد.»
٤٦
(١٠٠) وكما تخرج سفينةٌ من الشاطئ وهي تتراجع إلى الوراء،
٤٧ كذلك ابتعد الوحش، فلما أحسَّ أنه طليقٌ تمامًا،
٤٨
(١٠٣) أدار الذَّنَب هناك حيث كان الصدر،
٤٩ ولما مدَّه حرَّكه كثعبان الماء، وبمخالبه جمع إليه الهواء.
٥٠
(١٠٦) وأعتقد أنه — عندما ترك فيتون
٥١ أعنَّةَ الجياد، فاشتعلت السماء كما لا تزال تبدو، وعندما أحسَّ
(١٠٩) إيكاروس البائس،
٥٢ أن جناحيه يفقدان الريش من حرارة الشمع، بينما كان أبوه يصيح به: «إنك
تسلك سبيل الهلاك!» —
(١١٢) لم يكن هناك خوفٌ أشد من خوفي، عندما رأيت الهواء محيطًا بي من كل جانبٍ،
وامتنعت عليَّ كلُّ رؤيةٍ سوى الوحش.
٥٣
(١١٥) إنه يمضي سابحًا بطيئًا بطيئًا،
٥٤ يدور ويهبط، ولكني لا أشعر إلا بريحٍ تلفح وجهي من أسفل.
٥٥
(١١٨) وكنتُ قد سمعت جهة اليمين مسقط ماء،
٥٦ يُحدِث تحتنا دويًّا مزعجًا؛ ولذلك حنيتُ رأسي بعينين خفيضتين.
(١٢١) وصرت عندئذٍ من النزول أشد خوفًا؛
٥٧ إذ رأيتُ نيرانًا وسمعت نواحًا، فربضتُ في مكاني وقد تملَّكني
الرعب.
(١٢٤) ثم رأيت ما لم أره من قبل؛ شهدتُ الهبوط والدوران في العذاب الهائل، الذي
اقترب من كل الجوانب.
٥٨
(١٢٧) وكالبازي الذي استوى على أجنحته طويلًا، ودون أن يرى طيرًا أو دُمية طيرٍ،
٥٩ يجعل البيزار يقول: «أواه، ها أنت ذا تهوي!»
(١٣٠) ويهبط تعبًا ثم يتحرك مسرعًا في مائة دورة، ويحطُّ بعيدًا عن سيده،
٦٠ تحدوه الكآبة وتأخذه الخيبة؛
(١٣٣) هكذا هبط بنا جيريوني إلى القاع، عند أسفل القدم من الصخرة الوعرة، وحينما
تخلَّص من شخصَينا،
٦١
(١٣٦) انطلق انطلاقَ السهم من الوتر.
٦٢