عندما هبط الشاعران عن ظهر جيريوني وجدا نفسيهما في «الماليبولجي» (وديان الشر أو
خنادقه)
في الحلقة الثامنة، وكانت مقسَّمة إلى وديان أو خنادق تشبه خنادق القلاع في العصور
الوسطى.
وخرجت صخور وصلت بين شاطئ هذه الحلقة وسائر الوديان حتى بلغت البئر في وسط هذا المحيط
الخبيث. وكان المكان مَقرًّا لمرتكبي الخيانة. واحتوى كل وادٍ أو خندق على طائفة من
الخونة،
لقي به كل منهم العذاب الملائم. رأى دانتي في الخندق الأول القوادين الذين أغرَوا
النساء
لمصلحة غيرهم، وقد ألهب ظهورَهم سياطُ شياطين ذوي قرون. ولقي دانتي واحدًا من المعذبين
الذي
حاول أن يخفي عنه نفسه، ولكنه عرف فيه فينيديكو كاتشانيميكو، الذي حرَّض أخته على
خيانة
زوجها، إرضاء لشهوة مركيز فرَّارا. وصعد الشاعران فوق جسر مقوَّس مرَّ تحته المعذبون.
ورأى
دانتي مَن أغرَوا النساء للذتهم الشخصية، ومنهم جاسُّون الذي خدع هيبسبيل بمعسول الكلام،
ثم
هجرها حبلى تنوء وحدها بالإثم والعار. وسمع الشاعران في الخندق التالي نواحًا وضربات
بالأكف، ولم يريا ما في باطنه لعمقه وإظلامه، فصعدا فوق جسر، واستطاعا بذلك أن يريا
تحتهما
قومًا غطسوا في غائط من نفايات البشر. وتعرَّف دانتي على أليسيو إنترميني المواطن
من
لوكَّا، الذي كان يغري النساء بكلمات لم يتعب منها لسانه. وشهدا أيضًا تاييس الداعرة
تمزِّق
نفسها بالأظفار، ولا تستقر على وضع واحد، وعوقبت لأنها خدعت عاشقها. واكتفى فرجيليو
بما
شهده دانتي في هذين الواديين.
(١) في الجحيم مكانٌ يُدعَى «ماليبولجي»،
٢ كله من الصخر في لون الحديد الصدئ، كالحلقة التي تدور من حوله.
٣
(٤) وفي سرة هذا الميدان الخبيث، تنفغر بئرٌ كبيرةُ الاتساع عميقةٌ، سوف أصف
ترتيبها في مكانها.
٤
(٧) مستديرةٌ إذن تلك الحافة الباقية،
٥ بين البئر
٦ وأسفل الحاجز الصخري العالي،
٧ وقاعها منقسمٌ عشرة أودية.
٨
(١٠) وكالصورة التي تبدو عليها الأرض، حيث تحيط بالقلاع خنادقُ متعاقبةٌ لحماية أسوارها؛
٩
(١٣) كذلك كانت صورة هذه الأودية.
١٠ وكما يوجَد في تلك القلاع جسورٌ صغيرةٌ تصل بين مداخلها والحافة الخارجية؛
١١
(١٦) هكذا تَصدُر عن أسفل الصخر أحجارٌ تَعبُر الأودية والشطآن، إلى البئر التي
أوقفَتها وتلقَّتها.
١٢
(١٩) في هذا المكان وجدنا نفسينا عندما نزلنا عن ظهر جيريوني، وأخذ الشاعر الجانب الأيسر،
١٣ وسرتُ من ورائه.
(٢٢) وذات اليمين رأيتُ بؤسًا جديدًا،
١٤ وعذابًا غير معروف، وجلادين جُددًا، زخَرَ بهم الخندق الأول.
١٥
(٢٥) في القاع كان الآثمون عرايا، ومن الوسط إلى هنا أقبلوا بوجوههم نحونا،
وساروا في الجانب الآخر معنا، ولكن بخطًى أسرع،
١٦
(٢٨) كأهل روما عند ازدحام الجماهير في عام اليوبيل،
١٧ إذ جعلوا فوق الجسر نظامًا مهيئًا للعبور؛
١٨
(٣١) فمن جانبٍ كانت جباه الجميع متجهة نحو القلعة،
١٩ ثم يذهبون إلى القديس بطرس،
٢٠ ومن جانب آخر يسيرون صوبَ الجبل.
٢١
(٣٤) وهنا وهناك رأيت فوق الصخر الكئيب شياطين ذوي قرونٍ
٢٢ وسياطٍ كبيرة،
٢٣ يضربون بها الآثمين في قسوة من الخلف.
(٣٧) أواه! كيف جعلهم الشياطين يرفعون سيقانهم عند أولى الضربات! وحقًّا لم ينتظر
أحدهم الضربات الثانية ولا الثالثة.
٢٤
(٤٠) وبينما كنتُ أسير، التقَت عيناي بواحد منهم، فقلتُ توًّا: «ليست هذه أول مرة
أرى فيها هذا الوجه.»
٢٥
(٤٣) ولذلك أوقفتُ قدميَّ كي أتبيَّنه، ووقف معي الدليل الحبيب، وأتاح لي أن أرجع
إلى الوراء قليلًا.
٢٦
(٤٦) وظن ذلك المُعذَّب أنه يُخفي نفسه إذا خفض وجهه، ولكن لم ينفعه ذلك كثيرًا،
٢٧ فقلت له: «أنت يا مَن تُلقي إلى الأرض بصرك،
(٤٩) إذا لم تكن زائفةً ملامحُ وجهك، فأنت فينيديكو كاتشانيميكو، ولكن ما الذي
يأتي بك إلى مثل هذا الحميم اللاذع؟»
٢٨
(٥٢) فأجابني: «عن غير رغبة أقول ذلك،
٢٩ ولكن يرغمني عليه كلامك الصريح، الذي يجعلني أذكر العالم القديم.
٣٠
(٥٥) لقد كنتُ مَن حمل جيزولا بيلَّا
٣١ على أن تُرضي رغبة المركيز،
٣٢ مهما يكن من تداول هذه القصة المُخزية.
(٥٨) ولستُ البولوني الوحيد الذي أبكي هنا، بل إن هذا المكان مليءٌ بنا، حتى لا
توجَد الآن ألسنةٌ كثيرة تتعلم
(٦١) أن تقول بلساننا «نعم»
٣٣ بين سافينا
٣٤ ورينو،
٣٥ وإذا أردتَ يقينًا أو دليلًا على ذلك، فلتستعدْ إلى ذاكرتك قلبنا الحريص.»
٣٦
(٦٤) وبينما كان يتكلم هكذا، لسعه شيطانٌ بسوطه، وقال: «اذهب أيها القواد، فليس
هنا نساء تُباع!»
٣٧
(٦٧) رجعتُ إلى رفيقي،
٣٨ ثم وصلنا بخطواتٍ قليلةٍ إلى هناك، حيث خرج من الشاطئ جسرٌ صخري.
٣٩
(٧٠) وبخفةٍ بالغةٍ صعدنا فوقه، وفي اتجاهنا إلى اليمين
٤٠ على حافته الوعرة، رحلنا عن تلك الحلقات الأبدية.
(٧٣) ولما صرنا هناك حيث يتقوَّس الجسر من أسفل، ليتيح المرور لمن ألهبَتهم
السياط، قال الدليل: «قف، واعمل على أن يصدم
(٧٦) وجهُك نظرَ هؤلاء الملعونين الآخرين، الذين لم ترَ وجههم بعدُ؛ لأنهم ساروا
معنا في اتجاهٍ واحد.»
٤١
(٧٩) ومن الجسر القديم رأينا صفَّ الآثمين الذي أتى نحونا من الجانب الآخر، وقد
طاردتهم السياط كذلك.
٤٢
(٨٢) قال أستاذي الطيب دون سؤالي:
٤٣ «انظر إلى ذلك العظيم الذي يأتي نحونا، ويبدو أنه لا يذرف لألمه دمعة،
٤٤
(٨٥) أيُّ مظهر ملكيٍّ لا يزال يحتفظ به! ذلك هو جاسون
٤٥ الذي حرَم الكولكيين،
٤٦ بالعقل والقلب، من كبش الذهب.
٤٧
(٨٨) إنه مرَّ بجزيرة ليمنوس،
٤٨ بعد أن قتلَت النساء الجريئات القاسيات
٤٩ ذكورهن جميعًا.
(٩١) وهناك، بالحركات وزُخرف الكلام، خدع هيبسبيل الشابة التي خدعَت من قبلُ كل
النساء الأخريات.
٥٠
(٩٤) ثم هجرها هناك، حُبلى وحيدةً، وتقضي عليه هذه الخطيئةُ بمثل هذا العذاب،
وبذلك نالت ميديا الانتقام.
٥١
(٩٧) ومعه يذهب كل من ارتكب مثل هذا الغدر، وحسبك أن تعرف هذا عن الوادي الأول،
ومن تتمزق أوصالهم فيه.»
٥٢
(١٠٠) وكنا قد وصلنا حيث يلتقي الطريق الضيق بالشاطئ الثاني، ويجعل منه كتفًا
لجسرٍ جديد.
٥٣
(١٠٣) وهناك سمعنا قومًا ينوحون في الخندق التالي، وينشجون بالأنوف،
٥٤ ويضربون أنفسهم بالأكف.
(١٠٦) كانت الجوانب مغطَّاة بعفن صعَّده البخار من أسفل، وتجمَّد عليها، فهو
يحارب الأعين والأنوف.
٥٥
(١٠٩) القاع شديد العمق حتى لا يكفي مكانٌ لرؤيته، دون أن نصعد إلى سطح الجسر،
حيث يزداد ارتفاع الصخر.
٥٦
(١١٢) فصعدنا هناك، وعندئذٍ رأيتُ تحتنا في الخندق قومًا غطسوا في غائط، بدا أنه
نبعَ من فضلات البشر.
٥٧
(١١٥) وبينما كنت أفحص القاع بعيني،
٥٨ رأيتُ واحدًا أثقل رأسَه القذَرُ هكذا، حتى لم يبدُ أعلمانيًّا كان أم
قسًّا.
(١١٨) فصاح بي: «لِم أنت جدُّ حريصٍ على أن تنظر إليَّ أكثر من سائر المشبوهين؟»
قلت له: «لأني إذا أحسنت التذكر،
(١٢١) كنتُ قد رأيتك بشعرك المجفف، وإنك أليسيو إنترميني من أهل لوكَّا،
٥٩ ولذلك أحدجك بنظري أكثر من سائر الآخرين.»
(١٢٤) عندئذٍ قال لي وهو يضرب رأسه: «أغرَقني في هذا العمق كلماتُ الإغراء، التي
لم يكلَّ منها لساني أبدًا.»
٦٠
(١٢٧) ثم قال لي دليلي: «اعمل على أن تمد وجهك إلى الأمام قليلًا، حتى تبلغ عيناك
وجهَ
(١٣٠) تلك المرأة النجسة الشعثاء، التي تُمزِّق هناك نفسها بأظفارها القذرة،
وتخرُّ تارةً، وتقف على قدميها تارةً أخرى.
٦١
(١٣٣) إنها تاييس الداعرة،
٦٢ التي عندما سألها عاشقها: «ألي عندكِ آياتُ شكر؟» أجابته: «نعم، آيات عجب!»
٦٣
(١٣٦) ألا فلْتَقنَع عيونُنا بما رأت هناك.»
٦٤