وصل الشاعران إلى الوادي الثالث حيث يُعذَّب أهل السمعانية، الذين حصلوا على الأشياء
المقدسة بالمال دون التقوى. رأى دانتي في قاع هذا الوادي فتحات متساوية تشبه فتحات
معمدان
سان جوفاني في فلورنسا، التي كان قد حطم إحداها لإنقاذ طفل أوشك على الغرق فيها. وظهر
من كل
فتحة ساقا أحد المعذبين، الذين كانوا في وضع مقلوب جزاء خطيئتهم، واشتعلت النيران
في باطن
أقدامهم، كما يحدث للأشياء المطلية بالزيت. استفسر دانتي عن أحد المعذبين، فحمله فرجيليو
وهبط به حتى يمكنه الرؤية، وكان هناك البابا نيقولا الثالث الذي اشتهر بحبه للمال.
ظن
نيقولا أن دانتي هو بونيفاتشو الثامن، وقد جاء إلى الجحيم قبل أوانه، وندَّد بجشعه
وبما
جلبه على الكنيسة من العار، ولكن دانتي أوضح له الأمر، وعنَّفه على آثامه، وقال إن
القديس
بطرس لم ينل من المسيح المفتاحين المقدسين بالمال، وإن عَبَدة الذهب والفضة أسوأ من
الوثنيين؛ لأن الأولين يتخذون آلهة متعددة، بينما الآخرون يتخذون إلهًا واحدًا. وعدَّ
دانتي
الإمبراطور قسطنطين الأول مسئولًا عن هذه المساوئ، وعن إفساده الكنيسة بمنحته الدنيوية
—
المزعومة — للبابا سلفسترو أول البابوات الأثرياء. أبدى فرجيليو أمارات الرضا عندما
سمع
رنين كلمات دانتي الصادقة. وحمله مرة أخرى، وعاد إلى الصعود في الطريق الذي هبط منه،
ووصل
به إلى المعبر بين الشاطئ الرابع والشاطئ الخامس، ثم أنزله برفق في الطريق الصعب،
وهناك
انكشف لدانتي الوادي التالي.
(١) سمعان، أيها الساحر!
٢ ويا أيها الأتباع البائسون، أيها اللصوص الذين أَفسدتم بالذهب والفضة
نِعَم الله،
٣ التي ينبغي
(٤) أن تقترن بطيِّب الأعمال،
٤ الآن يجب أن يصدح من أجلكم البوق،
٥ ما دمتم قد أصبحتم في الخندق الثالث.
(٧) وكنا قد صعدنا فوق القبر التالي،
٦ في ذلك الجانب من الجسر الصخري، الذي يعلو فوق سرة الخندق.
(١٠) أيتها الحكمة العليا،
٧ أيُّ فنٍّ هذا الذي تُبدينه في السماء وفي الأرض وفي عالم الشر!
٨ وبأية عدالة توزعين أفضالك!
٩
(١٣) على الجوانب وفي القاع رأيتُ الحجر القاتم، مليئًا بفجوات، كانت جميعها
باتساع واحد، وكانت كلها مستديرة.
(١٦) لم تبدُ لي أصغر ولا أكبر من فجوات سان جوفاني،
١٠ معمداني الجميل،
١١ التي جُعلتْ مكانًا لمن يزاولون المعمودية،
(١٩) لقد حطمتُ إحداها منذ سنوات غير بعيدة بعدُ، من أجل طفل كان يغرق فيها،
١٢ وليكن هذا دليلًا يزيل شكوك كل إنسان.
١٣
(٢٢) ومن فم كلٍّ منها برزَت قدما آثمٍ وساقاه حتى الكعبين، وكان سائره قد بقي في الداخل.
١٤
(٢٥) اشتعلت النار في باطن قدمَي كلٍّ منهم،
١٥ فاهتزت مفاصلهم بعنف شديد،
١٦ حتى ليمكنها أن تمزق حبالًا من جافِّ العشب أو اللبلاب.
١٧
(٢٨) وكما تتحرك الشعلة فيما طلاه الزيت، على السطح الخارجي وحده، كذلك امتدت
النار من أعقابهم إلى الأطراف.
١٨
(٣١) قلت: «أستاذي! مَن ذلك الذي يتلوى، وهو يهتز أكثر من سائر رفاقه، وقد
أحرقتْه نيرانٌ أشد احمرارًا؟»
١٩
(٣٤) فأجابني: «إذا أردتَ أن أحملك هناك أسفل، إلى ذلك الشاطئ الذي يزداد انخفاضًا،
٢٠ فستعرف منه شخصه وخطاياه.»
(٣٧) قلتُ: «إن كل ما يرضيك جميل عندي ومقبول،
٢١ أنت سيدي وتعرف أني لا أحيد عن مرادك،
٢٢ وتدرك ما أسكت عنه.»
٢٣
(٤٠) جئنا حينئذٍ على الشاطئ الرابع، واستدرنا وهبطنا إلى اليسار هناك أسفل، في
القاع الضيق ذي الفجوات.
(٤٣) لم يُنزلني بعدُ أستاذي الطيب عن جنبه،
٢٤ حتى بلغ بي فجوةَ ذلك المعذَّب، الذي بكى بساقيه كثيرًا.
٢٥
(٤٦) بدأتُ قائلًا: «يا كائنًا مَن كنتَ، أنت يا من تجعل عاليك سافلك،
٢٦ ويا أيتها النفس البائسة التي غُرستْ كالخازوق، تكلمي إن استطعت.»
٢٧
(٤٩) وقفتُ كالراهب الذي يتلقى اعتراف القاتل الغادر، الذي يناديه حينما يُزرَع
في الأرض،
٢٨ لكي يؤخِّر عنه المنون.
٢٩
(٥٢) صاح: «أأنت الواقف هناك، أأنت ذا الواقف هناك يا بونيفاتشو؟
٣٠ لقد كذب عليَّ كتاب المستقبل منذ سنين كثيرة.
٣١
(٥٥) أشَبِعتَ هكذا سريعًا من تلك الثروة،
٣٢ التي لم تخشَ من أجلها أن تأخذ السيدةَ الجميلة بالخداع،
٣٣ ثم تجعل منها حطامًا؟»
٣٤
(٥٨) أصبحت مثل أولئك الذين يقفون كمن سُخِر منهم؛ لأنهم لم يفهموا ما تلقَّوه من
جواب، فلا يُحيرون جوابًا.
٣٥
(٦١) حينئذٍ قال فرجيليو: «قل له سريعًا: «أنت لست إياه، أنا لست من تظن»»،
وأجبتُ كما أُلقيَ عليَّ.
٣٦
(٦٤) ولذا هز ذلك المعذب بعنفٍ كلتا قدميه، ثم قال لي بصوت باكٍ، وهو يتنهد:
٣٧ «إذن فماذا تسألني؟
(٦٧) إذا كان يعنيك كثيرًا أن تعرف مَن أنا، حتى سارعتَ كذلك إلى هذه الضفة،
فاعلم أني ارتديت يومًا الثوب الأعظم،
٣٨
(٧٠) وفي الحق كنتُ ابنًا للدبة،
٣٩ وكنت شديد الحرص على تقدم صغار الدببة، ففي أعلى اختزنتُ المال،
٤٠ وهنا نفسي.
٤١
(٧٣) وتحت رأسي أُلقيَ بالآخرين،
٤٢ الذين سبقوني في ممارسة السمعانية،
٤٣ وقد قبعوا الآن في فجوات الصخر.
(٧٦) وسأهوي سريعًا هناك في أسفل، عندما يأتي ذلك الذي ظننتُ أنك هو،
٤٤ لما وجهتُ إليك سؤالي المفاجئ.
٤٥
(٧٩) ولكن الوقت الذي احترقتْ فيه قدماي، وكنتُ خلاله هكذا مقلوبًا، أطولُ مما
سيقضيه هو مغروسًا بقدمين مضطرمتين؛
٤٦
(٨٢) لأنه سيأتي بعده من الغرب
٤٧ راعٍ دون قانون،
٤٨ ذو أفعال أشنع، يمكن أن تغطيه وتغطيني.
٤٩
(٨٥) سيصبح جاسون الجديد،
٥٠ الذي يُقرأ عنه في قصة المكابيين، وكما كان ملكه ضعيفًا أمامه، هكذا
سيصبح من يحكم فرنسا.»
٥١
(٨٨) لا أدري هل كنتُ شديد الوطأة عليه، لأني أجبته بهذا النظم: «أواه! خبِّرني
الآن، كم من كنوز تطلَّب
(٩١) السيدُ الإله
٥٢ من القديس بطرس، قبل أن يعهد إليه بالمفتاحين؟
٥٣ وبالتأكيد لم يطلب إليه سوى: «اتبِعني.»
٥٤
(٩٤) لم ينتزع بطرس ولا الآخرون من متَّى ذهبًا ولا فضة،
٥٥ حينما اختاره القدَر للمقام الذي أضاعته النفس الآثمة.
٥٦
(٩٧) ولذا فلتبقَ هنا، فإنك تلقى العقاب المناسب، واحفظ جيدًا مالًا سلبته
حرامًا، فجعلك جريئًا على الملك شارل.
٥٧
(١٠٠) ولولا أنه لا يزال يمنعني احترامي للمفتاحين العظيمين، اللذين احتفظتَ بهما
في الحياة السعيدة،
٥٨
(١٠٣) لاستخدمتُ بعدُ كلامًا أشد؛ لأن جشعك يُحزن الدنيا، باضطهادك الأخيارَ،
ورفعِك شأنَ الأشرار.
٥٩
(١٠٦) لقد توقع يوحنا الإنجيلي
٦٠ راعيًا مثلك، عندما رأى تلك التي تجلس على الماء،
٦١ تقترف الفحشاء مع الملوك،
(١٠٩) تلك التي وُلدت بسبعة رءوس،
٦٢ واستمدت حيويتها من قرونها العشرة،
٦٣ ما دام زوجها مرتاحًا إلى الفضائل.
٦٤
(١١٢) إنكم قد صنعتم من الذهب والفضة إلهًا،
٦٥ وأيُّ فَرق بينكم وبين الوثني، سوى أنه يعبد إلهًا واحدًا، وأنتم
تعبدون مائة؟
(١١٥) آه لك يا قسطنطين! كم ذا ولَّد من الشرور، لا اعتناقك المسيحية، ولكن ذلك
الصَّداق الذي أخذه منك أول ثريٍّ من البابوات!»
٦٦
(١١٨) وبينما كنتُ أتغنَّى بمثل هذه الألحان، اهتزَّت كلتا قدميه بقوة، إما لوخز
الضمير أو عضة الغضب.
(١٢١) وأعتقد حقًّا أن ذلك قد أرضى دليلي؛ لأنه أصغى دائمًا، وعلى فمه بسمة الرضا،
٦٧ إلى رنين كلماتي الصادقة.
(١٢٤) ولذلك أخذني بكلتا ذراعيه، وبعد أن حمل جسمي كله على صدره، عاد إلى الصعود
في الطريق الذي هبط منه.
٦٨
(١٢٧) لم يلقَ تعبًا إذ حملني وأنا ملتصقٌ به، حتى وصل بي إلى قمة الجسر، الذي هو
معبرٌ بين الشاطئ الرابع والخامس.
(١٣٠) وهنا أنزل الحِمل برفق،
٦٩ ووضعه برفقٍ على الصخر المنحدر الوعر، وهو حتى على المعز معبرٌ صعب.
٧٠
(١٣٣) وهناك كُشف لي عن خندقٍ جديد.
٧١