أخذ الليل يرخي سدوله، وسكنت كائنات الأرض واستراحت من عنائها، بينما ظل دانتي يستعد
وحده
لملاقاة أعباء رحلته التي تكتنفها الصعاب، وساوره الشك في مقدرته على احتمال مشقات
الطريق،
وطلب إلى فرجيليو أن يتأكد من قدرته على احتمال أهوال الرحلة، وذكر رحلة إينياس والقديس
بولس إلى العالم الآخر من قبل، وقارنهما بشخصه فخانته قواه، وآثر العدول عن هذه الرحلة
الشاقة. ولكن فرجيليو أخذ يزيل مخاوفه، وعمل على إعادة الثقة إلى نفسه، وقصَّ عليه
كيف أن
بياتريتشي عندما علمت بما أحاط به من الصعاب، هبطَت إليه من السماء، وسألَته أن يسارع
إلى
نجدة دانتي. وكان فرجيليو مستعدًّا لتلبية أمرها، ولكنه سألها كيف تركت السماء إلى
هذه
الهاوية، فأخبرته بما كان من وقوف العذراء ماريا على ما أصاب دانتي من المخاطر، فنادت
لوتشيا، وخرجت بذلك على قوانين السماء وأعلمتها بالأمر، فانتقلت لوتشيا إلى مكان بياتريتشي،
وسألتها أن تعمل على إنقاذ دانتي، الذي أخلص لها الحب. وبينما كانت بياتريتشي تقص
على
فرجيليو هذا الخير، اغرورقت عيناها بالدمع، فما كان من فرجيليو إلا أن سارع إلى نجدة
دانتي.
وما زال فرجيليو بدانتي حتى بدَّد مخاوفه، وعادت إليه شجاعته وثقته بنفسه، فتجددت
رغبته في
القيام بهذه الرحلة الخطرة، ومضى دانتي في صحبة دليله وأستاذه، تحدوهما رغبة واحدة.
(١) كان النهار آخذًا في الزوال، وأراح الهواء القاتم
٢ كائنات الأرض من متاعبها،
٣ وكنتُ وحدي،
(٤) أستعد لاحتمال حرب تُثيرها الرحلة،
٤ ويبعثها الأسى، وهذا ما سيرويه عقلي الذي لا يخطئ.
٥
(٧) يا ربات الشعر، يا أيتها العبقرية العليا، الآن ساعِدنني! وأنتِ أيتها
الذاكرة التي سجلتْ ما رأيتُ، هنا سيظهر نُبلك!
(١٠) بدأتُ: «أيها الشاعر الذي تقودني، اختبِر طاقتي، أهي قويةٌ، قبل أن تعهد بي
إلى الخطوة العالية!
٦
(١٣) تقول إن أبا سيلفيوس،
٧ ذهب بجسمه إلى العالم الخالد، وهو ما يزال بعدُ إنسانًا فانيًا.
(١٦) ولكن إذا كان عدو كل شرٍّ
٨ رقيقًا معه، وهو يفكر في طبيعة العمل العظيم الذي كان ينبغي أن يَصدُر
عنه، ونوعه،
(١٩) فلا يبدُونَّ هذا غريبًا على إنسان يفهم؛ لأنه اختير في السماء العليا، لكي
يكون أبًا لروما المجيدة وإمبراطوريتها،
(٢٢) وهذه
٩ وتلك،
١٠ ليُقال الحق، قد خُصِّصتا للمكان المقدس،
١١ حيث يجلس خليفة بطرس الأعظم.
(٢٥) وخلال هذه الرحلة، التي من أجلها أكسبتَه المجد، أدرك أمورًا كانت سببًا في
إحرازه النصر
١٢ وفي الرداء البابوي.
(٢٨) ثم ذهب هناك
١٣ الإناءُ المختار،
١٤ ليحمل إلينا الثقة في ذلك الإيمان، الذي هو بداءةٌ نحو طريق
الخلاص.
(٣١) ولكن لِم أذهبُ هناك؟ ومَن ذا الذي يمنحني هذا؟ إني لست إينياس ولا بولس. لا
أنا ولا غيري يعتقد أني بهذا جدير.
١٥
(٣٤) ولذا إذا استسلمتُ لك في المسير، أخشى أن يكون ذهابي جنونًا. إنك حكيم،
وتفهمني خيرًا مما أتكلم.»
١٦
(٣٧) وكالذي يرغب عما كان يرغب فيه، وبأفكارٍ جديدة يغيِّر قصدَه، حتى يَصدِف
تمامًا عما كان فيه بادئًا؛
١٧
(٤٠) كذلك أصبحتُ على الشاطئ المظلم؛ لأني عدَلتُ — وأنا أفكر — عن المخاطرة التي
كانت سريعة في بداءتها.
(٤٣) أجابني شبح ذلك العظيم: «إذا كنتُ قد أحسنتُ فهم كلامك، فإن نفسك يَشينها
الخَوَر،
(٤٦) الذي يُسيطر على الإنسان كثيرًا، حتى يصرفه عن جلائل الأعمال، كما يخطئ
الحيوانُ النظرَ حينما يجفل.
١٨
(٤٩) ولكي تُحرِّر نفسك من هذا الفزع، سأقول لك لِم أتيتُ، وماذا سمعته، في أول
لحظة تألمتُ فيها من أجلك.
١٩
(٥٢) كنتُ بين أولئك المُعلَّقة نفوسُهم،
٢٠ ونادتني سيدةٌ جميلة مباركة،
٢١ فسألتها أن تأمرني.
٢٢
(٥٥) تألقتْ عيناها أكثر من النجم،
٢٣ وبدأتْ تخاطبني في رقة ولطف، وفي لغتها صوت الملائكة:
٢٤
(٥٨) «أيها الروح الكريم من مانتوا، الذي ما تزال شهرته باقية في الدنيا، والتي
ستبقى كدورة الزمن،
٢٥
(٦١) إن صديقي — وما هو للحظ بصديق — قد اعترضَته صعابٌ في الطريق على الشاطئ
القفر، فارتدَّ من الرُّعب إلى الوراء،
(٦٤) وأخشى أن يكون ضلاله قد بلغ حدًّا، يجعل نهوضي لنجدته متأخرًا، حسبما سمعتُ
عنه في السماء.
٢٦
(٦٧) تحرَّكِ الآن، وعاوِنه بكلامك الفصيح، وبما هو ضروري لنجاته، حتى أُصبح بذلك
راضية النفس.
٢٧
(٧٠) أنا بياتريتشي، التي أبعثك إليه، إني آتيةٌ من مكان أرغب في العودة إليه،
لقد حركني الحب الذي يجعلني أتكلم.
٢٨
(٧٣) وحينما أُصبح في حضرة المولى، سأُطنِب لديه في مديحك.»
٢٩ وعندئذٍ سكتتْ عن الكلام، فبدأتُ:
(٧٦) «يا ربة الفضائل،
٣٠ التي بفضلها وحده
٣١ يسمو الجنس الإنساني، على كل ما تحويه السماء ذات الحلقات الصغريات،
٣٢
(٧٩) إن أوامرك تُسعدني كثيرًا، وحتى لو كنتُ قد أطعتك فعلًا لبدوتُ متأخرًا،
وليس لك سوى الإفصاح عن رغبتك.
٣٣
(٨٢) ولكن أخبريني عن السبب في أنك لا تحذرين الهبوط إلى هذا المركز هنا أسفل،
٣٤ من المكان الفسيح الذي تتحرقين شوقًا للعودة إليه.»
٣٥
(٨٥) فأجابتني: «ما دمتَ تحرص على المعرفة إلى هذا الحد، فسأخبرك بكلماتٍ وجيزة،
لِم لا أخشى الدخول هنا.
(٨٨) يجب أن نخشى — حسبُ — تلك الأشياء التي لها القدرة على الإضرار بالناس، أما
غيرها فلا؛ لأنها لا تبعث الخوف.
٣٦
(٩١) لقد خلقني الله برحمته بحيث لا يمسني من بؤسكم أثرٌ،
٣٧ ولا ينالني من هذه النيران لهيب.
٣٨
(٩٤) وفي السماء سيدةٌ رقيقة تتألم لهذه العقبة
٣٩ التي أبعثك من أجلها، وبذلك خرجتْ على الحكم الدقيق هناك في
العلياء.
(٩٧) لقد نادتْ لوتشيا،
٤٠ لكي تلبِّي أمرها وقالت: «إن المخلص لك محتاجٌ إليك الآن،
٤١ وإني أوصيك به خيرًا.»
(١٠٠) فنهضت لوتشيا، عدوة كل غليظ القلب،
٤٢ وجاءت إلى الموضع الذي كنتُ فيه جالسةً مع راحيل العتيقة.
٤٣
(١٠٣) وقالت: «بياتريتشي، يا مجد الله الحق، لِم لا تُسعفين ذلك الذي أحبَّك
كثيرًا، حتى خرج في سبيلك من غمار الناس؟
٤٤
(١٠٦) ألا تسمعين الأسى في بكائه؟! ألا ترَين الموت الذي يصارعه فوق نهر، لا
يبزُّه البحر في أهواله؟!»
٤٥
(١٠٩) لم يسارع أبدًا في الدنيا قومٌ إلى خيرهم، ولم يتجنبوا أذًى يصيبهم، كما
فعلتُ بعد النطق بهذه الكلمات.
٤٦
(١١٢) فجئتُ هنا — أسفل — من مقرِّي السعيد، وقد وضعتُ ثقتي في كلامك الأمين،
الذي يُشرِّفك ويُشرِّف من سمعوه.»
(١١٥) بعد أن قالت لي هذه الكلمات، لفتتْ نحوي عينيها المتألقتين بالدمع،
٤٧ فجعلتْني بذلك إلى المجيء أكثر سرعةً.
(١١٨) وهكذا أتيتُ إليك كما رغبتْ، وأخذتُك من أمام ذلك الوحش، الذي منعك من سلوك
الطريق القصير إلى الجبل الجميل.
٤٨
(١٢١) ما الأمر إذن، ولماذا، لماذا تتوقف؟ لِم يسكن قلبَك كلُّ هذا الخَوَر؟
٤٩ ولِم تُعوِزك الشجاعة والعزم،
(١٢٤) ما دام مثل هؤلاء السيدات المباركات الثلاث، يرعَين أمرك في ساحة السماء،
٥٠ وتَعِدك كلماتي بخيرٍ عميم؟»
(١٢٧) وكما تنحني صُغيرات الزهور بصقيع الليل وتضم أكمامها، ثم تستوي على سيقانها
وقد تفتحت كلها، حينما تكسوها الشمسُ اللونَ الأبيض؛
٥١
(١٣٠) هكذا صنعتُ بشجاعتي الواهنة، وسرَت في قلبي شجاعةُ الشجعان، حتى بدأتُ،
كإنسان تحرَّر من الخوف:
٥٢
(١٣٢) «إيه أيتها الرحيمة التي عاونتني، وأنت أيها الكريم الذي أطعتَ سريعًا
كلمات الصدق التي أفضتْ بها إليك!
٥٣
(١٣٦) لقد وجَّهتَ قلبي بكلماتك إلى الرغبة في المسير، وبهذا رجعتُ إلى قصديَ الأول.
٥٤
(١٣٩) الآن سِر، فإن لكلينا رغبةً واحدة،
٥٥ يا دليلي،
٥٦ وسيدي،
٥٧ وأستاذي.»
٥٨ هكذا خاطبتُه، ولما تحرك للمسير
(١٤٢) دخلتُ الطريق الوعر القاسي.
٥٩