رأى دانتي عذابًا جديدًا كان عليه أن يصوغه شعرًا، وقد انكشف له خندق رواه بكاء أليم.
وشهد قومًا يتقدمون بخطوات بطيئة في بطن الوادي الرابع، وكان هؤلاء هم السحرة والعرافين
والمنجمين. ورأى دانتي مشهدًا عجبًا؛ إذ التوت رءوس المعذبين إلى الخلف، وساروا إلى
الوراء،
وبلَّلت دموعهم فلقة الأرداف. تأثر دانتي لما أصاب صورة البشر من الانحراف والتشويه،
فبكى
بمرارة وقد اعتمد على صخرة في الجسر الوعر. عمل فرجيليو على تهدئة خاطره، وقال له
إنه ليس
هناك مَن هو أضل من إنسان يأخذه الأسى أمام قضاء الله. وأشار فرجيليو إلى بعض هؤلاء
السحرة
والعرافين، مثل أمفياروس وتيريسياس اليونانيَّين، وأرونس الإترسكي، ومانتو ابنة تيريسياس،
التي غادرت اليونان وهامت على وجهها في الأرض طويلًا، ثم استقرت في مسقط رأسه. أشار
فرجيليو
إلى بعض المناطق في شمالي إيطاليا، والتي كان دانتي يعرفها، مثل الأبنين عند بحيرة
جاردا،
وعليها قلعة بسكييرا الحصينة. وقال إن العرافة مانتو استقرت في أرض قفراء، وعاشت هناك
ومارست فنون السحر، وهناك ماتت، ثم شُيدت مدينة فوق عظامها الميتة وسُميت مانتوا.
وأشار
فرجيليو إلى أوريبيلوس وكالكاس العرافَين اليونانيين، اللذين أعطيا الإشارة للسفن
بالرحيل
إلى حرب طروادة. وذكر فرجيليو ميكيل اسكوت الساحر الاسكتلندي، وبوناتي المنجم والفلكي
من
مدينة فورلي، وأشار إلى أسدينتي الإسكافي من بارما، الذي اشتهر بالسحر والشعوذة. وكان
القمر
قد أخذ في الغروب، وآذنت الشمس بالشروق، وبذلك حان الوقت لكي يتابع الشاعران
رحلتهما.
(١) فلْأصنع شعرًا من العذاب الجديد، وأجعل منه مادةً للأنشودة العشرين
٢ من أغنيتي الأولى،
٣ أغنية الغارقين.
٤
(٤) وكنتُ قد تأهبتُ بكل مشاعري، لكي أنظر في الخندق الذي كُشف لي، وقد سقاه
بكاءٌ أليم.
٥
(٧) فرأيت قومًا في الوادي المستدير، يأتون
٦ باكين صامتين،
٧ بالخطوات التي يسير بها الليتانيون في هذه الدنيا.
٨
(١٠) ولما ازداد انخفاض بصري إليهم،
٩ بدا لي من العجب أن كلًّا منهم قد الْتوى، بين الذقن وأول الصدر؛
١٠
(١٣) إذ استدار الوجه للكليتين،
١١ وكان عليهم أن يسيروا إلى الوراء؛ إذ امتنع عليهم النظر إلى الأمام.
١٢
(١٦) قد يلتوي بعض الناس على هذا النحو تمامًا من الشلل، ولكني لم أرَ هذا، ولا
أعتقد أنه موجود.
١٣
(١٩) فليجعلك الله تجني ثمرة قراءتك أيها القارئ،
١٤ ولتفكر الآن بنفسك كيف كنتُ أستطيع حفظَ وجهي جافًّا من الدموع،
١٥
(٢٢) عندما رأيت من كثب صورتنا الإنسانية
١٦ منقلبةً على هذا الوضع، حتى بلَّل بكاء الأعين منهم قناة الردفَين!
١٧
(٢٥) بكيتُ حقًّا، وقد اعتمدتُ على صخرة من الجسر الوعر،
١٨ حتى قال لي رفيقي: «أأنت أيضًا من الحمقى الآخرين؟
١٩
(٢٨) هنا تعيش الشفقة حينما تكون قد ماتت تمامًا،
٢٠ ومَن أضلُّ ممَّن يأخذه الأسى أمام قضاء الله!
٢١
(٣١) ارفع الرأس، ارفع، انظر إلى مَن انفتحتْ له الأرض أمام أعين أهل طيبة،
فصاحوا جميعًا: «إلى أين تهوي
(٣٤) يا أمفياروس؟
٢٢ ولماذا تترك الحرب؟» إنه ما انفكَّ يهبط في الهاوية إلى مينوس،
٢٣ الذي يقبض على كل آثم.
٢٤
(٣٧) تطلَّعْ إلى مَن جعل مِن كتفيه صدرًا، ولأنه أراد أن يرى إلى الأمام كثيرًا،
فهو ينظر الآن إلى الوراء، ويسير إلى الخلف.
٢٥
(٤٠) وانظر إلى تيريسياس
٢٦ الذي غيَّر مظهره، حينما تحول من رجلٍ إلى امرأة، وقد بدَّل كل
أعضائه،
(٤٣) ثم كان عليه أن يضرب بعصاه الثعبانَين المتعانقين مرة أخرى،
٢٧ قبل أن يستعيد ريشَ الذَّكر.
٢٨
(٤٦) ذلك هو أرونس،
٢٩ الذي يُسنِد ظهره إلى بطن تيريسياس،
٣٠ والذي كان له — في جبال لوني
٣١ حيث يطهِّر الأرضَ
٣٢ أهلُ كارارا الساكنون في أسفل —
(٤٩) كهفٌ لسُكناه، بين المرمر الأبيض؛ إذ لم تمتنع عليه عند النظر رؤيةُ النجوم
ومياه البحر.
٣٣
(٥٢) وتلك التي تغطي ثدييها اللذين لا تراهما،
٣٤ بجدائل محلولة، ولها في الجانب الآخر كل جلد أشعر،
٣٥
(٥٥) كانت هي مانتو
٣٦ التي جابت بلادًا كثيرة، ثم استقرت هناك حيث وُلدتُ؛
٣٧ ولذلك يسرُّني أن تنصت إليَّ قليلًا.
(٥٨) بعد أن غادر أبوها الحياة، واستُبعدتْ مدينة باخوس،
٣٨ هامت على وجهها في الأرض طويلًا.
(٦١) في أعالي إيطاليا الجميلة، وعلى سفح جبال الألب، التي تُغلق ألمانيا فوق التيرول،
٣٩ تستلقي بحيرةٌ تُدعى بيناكوس.
٤٠
(٦٤) وأعتقد أن الأبنين
٤١ خلال ألف نبع وأكثر، بين بحيرة جاردا ووادي كامونيكا، يرتوي بالماء
الذي يسكن في تلك البحيرة.
(٦٧) وفي الوسط مكانٌ،
٤٢ هناك حيث استطاع راعي ترنتو وراعي بريشا والفيروني أن يمنحوا البركات،
إذا ساروا في ذلك الطريق.
٤٣
(٧٠) وتجثم بسكييرا،
٤٤ القلعة الجميلة القوية، في مواجهة أهل بريشا وأهل برجامو، حيث يزيد
هبوط الشاطئ من حولها.
٤٥
(٧٣) وهناك لا بد أن يفيض كلُّ ما لا يقوى على البقاء في بطن بيناكوس، وفي أسفل
يصنع من نفسه نهرًا خلال المروج الخضراء.
٤٦
(٧٦) وحينما تبدأ المياه في جريانها، لا تُسمَّى بيناكوس بعدُ، ولكن تُدعى مينتشو
حتى مدينة جوفرنو، حيث تصب في نهر البو.
٤٧
(٧٩) ولا تجري كثيرًا حتى تجد مُنخفَضًا، تنساب فيه وتتحول إلى مستنقعٍ، اعتاد أن
يصير وخيمًا في الصيف أحيانًا.
٤٨
(٨٢) وبينما كانت العذراء المتوحشة
٤٩ تمر هناك، رأت وسط المستنقع أرضًا غير ذات زرع، وعارية من
السكان.
(٨٥) ولكي تهرب من كل علاقة بالبشر، استقرت مع خدمها هناك، حتى تمارس فنونها،
٥٠ وعاشت، وهناك تركت جسدها رُفاتًا.
٥١
(٨٨) والرجال الذين تفرقوا بعدئذٍ من حوله، اجتمعوا عند ذلك المكان، وقد كان
منيعًا بالمستنقع الذي أحاطه من كل جانب.
(٩١) وشادوا المدينة فوق تلك الأَعظُم النَّخِرات،
٥٢ وباسم تلك التي اختارت المكان أولًا، سمَّوها مانتوا، دون كهانة أخرى.
٥٣
(٩٤) وكان السكان بداخلها قد أصبحوا أكثر عددًا، قبل أن يتلقى جنونُ الكونت كازالودي
٥٤ غدرَ بينامونتي.
٥٥
(٩٧) ولذلك أوصيك — إذا سمعت أبدًا أن مدينتي نشأت عن أصلٍ مغاير — ألا تجعل أية
أكذوبة تطمس الصدق.»
٥٦
(١٠٠) قلت: «أستاذي! إن كلماتك أكيدةٌ لديَّ تمامًا، وهي تسيطر على إيماني، حتى
ليبدو لي ما عداها كفحمٍ خبَتْ جذوتُه.
٥٧
(١٠٣) ولكن خبِّرني عن القوم الذين يتقدمون، إذا وجدتَ من بينهم واحدًا يستحق الذكر!
٥٨ لأنه لا يشغل ذهني سوى ذلك.»
(١٠٦) عندئذٍ قال لي: «ذلك الذي تتدلَّى لحيته من خده على كتفيه الداكنتين حينما
خلت من ذكورها اليونان،
(١٠٩) حتى لم يكد يبقى أحدٌ في المهد؛
٥٩ كان عرَّافًا، وأعطى هو وكالكاس
٦٠ الإشارة لقطع أول حبل
٦١ في أوليس.
٦٢
(١١٢) كان اسمه أوريبيلوس،
٦٣ وهكذا تتغنى به مأساتي الرفيعة في موضع منها،
٦٤ وإنك تعرفه جيدًا، أنت يا مَن تعرفها كلها.
(١١٥) وذلك الآخر الذي يبدو في الجنبين شديد الهُزال، كان ميكيل اسكوت،
٦٥ الذي عرف حقًّا ألاعيب الخدع السحرية.
(١١٨) وانظر جويدو بوناتِّي،
٦٦ وانظر إلى أسدينتي
٦٧ الذي يتمنى الآن لو أنه التزم العملَ في الخيط والجلد، ولكنه يندم بعد
الأوان.
(١٢١) وانظر إلى البائسات اللائي تركن الإبرة والمغزل والمنسج، وجعلن من أنفسهن
عرافات، وصنعن من العشب والدمى طلاسم.
٦٨
(١٢٤) ولكن تعالَ الآن، فإن قابيل بأشواكه
٦٩ يسيطر على حدود نصفَي الكرة، ويلمس الموج عند أشبيلية،
٧٠
(١٢٧) وكان القمر قد صار بدرًا مساء أمس،
٧١ وينبغي أن تذكر هذا جيدًا؛ لأنه لم يُؤذِك مرةً في الغابة العميقة.»
٧٢
(١٣٠) هكذا تحدَّث إليَّ إذ كنا نسير.