وصل الشاعران إلى الوادي الخامس، حيث يُعذَّب المرتشون الذين استغلُّوا سلطة وظائفهم
ليجمعوا المال. رأى دانتي قطرانًا يغلي، يشبه القطران السميك في مصنع سفن البندقية،
حيث
تُرمَّم السفن المعطبة. وهنا غطس الآثمون في القطران الآني. ورأى دانتي شيطانًا مرعبًا
وحشيَّ الحركات، يحمل فوق كتفه آثمًا، ثم يقذف به في الوادي، واتجه إليه الشياطين
بخطاطيفهم
حتى لا يعلو فوق سطح القطران، ويشبه هذا ما يفعله الطهاة في سواء اللحم. أشار فرجيليو
على
دانتي بأن يتوارى وراء بعض الصخور، حتى لا يثير عليه الشياطين. حاول الشياطين أن يهاجموا
فرجيليو، ولكنه تحدث إلى زعيمهم مالاكودا، وأفهمه أنه أتى بإرادة السماء لكي يقود
دانتي في
هذه الرحلة، فهبطت كبرياؤه، ودعا رفاقه إلى السلام، وإن كان الشياطين قد أضمروا الخيانة
والغدر. ودعا فرجيليو دانتي أن يعود إليه آمنًا مطمئنًّا، ومع ذلك، فقد ظل بعض الوقت
وهو
يساوره الخوف من الشياطين. قال مالاكودا إن الجسر السادس قد تحطم كله واستقر في قاع
الوادي،
ولا بد من الذهاب إلى موضع آخر للعبور. وأرسل مع الشاعرَين بعض أتباعه من الشياطين
لقيادتهما، ولمراقبة من يخرج من الآثمين من القطران. لم يأمن دانتي جانبهم لِما بدا
عليهم
من أمارات الشر والغدر، وعبَّر عن رغبته في السير في صحبة فرجيليو وحده، ما دام يعرف
الطريق. أخذ فرجيليو يُهدِّئ من روعه، ويُدخِل السكينة عليه، وتقدَّم الشياطين للمسير
بعد
أن أعطَوا إشارة التفاهم لدليلهم بارباريتشا، الذي جعل من عَجُزه بوقًا يضرب عليه
لتتحرك
جماعة الشياطين.
(١) هكذا جئنا من جسر إلى جسر،
٢ ونحن نتحدث عن أمور أخرى، لا تُعنَى ملهاتي
٣ بالتغني بها، وبلغنا القمة،
(٤) حينما وقفنا لكي نرى هُوة أخرى، في «الماليبولجي»،
٤ ونشهد دموعًا أخرى باطلة،
٥ ورأيتها عجيبة الإظلام.
٦
(٧) وكما يغلي القطران الكثيف شتاءً، في مصنع سفن البنادقة،
٧ للقيام بطلاء سفنهم المعطبة،
(١٠) التي لا تقوى على الإبحار، وبدلًا من ذلك يُجدِّد هذا سفينته، ويسد آخر
جوانب تلك التي قامت برحلاتٍ كثيرة،
(١٣) هذا يضرب المقدمة، وذلك يطرق المؤخرة، ويصنع آخرون مجاديف، ويجدل غيرهم
حبالًا، وواحد يرتق شراع المقدمة، وآخر يُصلِح الشراع الأكبر؛
٨
(١٦) هكذا كان يغلي هناك في أسفل قطرانٌ كثيف، لا بفعل نارٍ، ولكن بفنٍّ إلهي،
وقد غمر الشاطئ في كل جانب.
(١٩) ورأيته، ولكني لم أتبيَّن فيه سوى الفقاقيع التي صعَّدها الغليان، وقد
انتفخت كلها،
٩ ثم هبطت وهي تنكمش.
١٠
(٢٢) وبينما كنت أمعن النظر هناك أسفل، وكان دليلي يقول لي: «خذ الحذر، خذ الحذر!»
١١ جذبني إليه من المكان الذي كنت واقفًا فيه.
١٢
(٢٥) وحينئذٍ استدرتُ كالرجل الذي يتأخر ليرى ما ينبغي أن يهرب منه، ويوهِن قواه
خوفٌ مفاجئ،
١٣
(٢٨) فلا يؤخر رحيله لكي يرى،
١٤ ورأيتُ خلفنا شيطانًا أسود اللون، يأتي سعيًا فوق الجسر.
١٥
(٣١) أواه! كم كان رهيبًا في مظهره! وكم بدا لي وحشيًّا في حركاته، مفتوح
الجناحين، خفيفًا على القدمين!
١٦
(٣٤) وعلى كاهله، الذي كان شامخًا مدبَّبًا،
١٧ حمل آثمًا فاستقرَّ بكلا رِدفَيه، وأمسك هو بقوةٍ عصبَ القدمين.
١٨
(٣٧) وقال من فوق جسرنا:
١٩ «يا ماليبرانكي،
٢٠ هاك واحدًا من شيوخ
٢١ القديسة زيتا!
٢٢ ضعه أسفل،
٢٣ حتى أعود من أجل آخرين،
(٤٠) إلى تلك المدينة
٢٤ التي أحسنتُ تزويدها بهم،
٢٥ إن كل إنسان فيها مُرتشٍ سوى بونتورو!
٢٦ هناك بالمال تُصبح «لا» بمعنى «نعم».»
٢٧
(٤٣) وقذف به هناك أسفل، ثم استدار فوق الجسر الوعر، ولم يُطلَق كلبٌ أبدًا بمثل
هذه السرعة لكي يتعقب لصًّا.
٢٨
(٤٦) غطس هذا،
٢٩ ثم عاد إلى أعلى وهو بالقذَر مغمورٌ،
٣٠ ولكن الشياطين الذين كان الجسر غطاءً لهم صاحوا: «ليس للوجه المقدَّس
مكانٌ هنا،
٣١
(٤٩) ولا يُسبَح هنا كما في نهر سيركيو!
٣٢ فإذا أردت ألا يكون لك بخطاطيفنا شأنٌ، فلا تظهرنَّ فوق
القطران.»
(٥٢) ثم ضربوه بأكثر من مائة خُطاف، وقالوا: «عليك أن ترقص هنا وأنت مُغطًّى،
٣٣ وإذا استطعت فلتخرج خفية.»
٣٤
(٥٥) غير هذا لا يفعل الطهاة، حين يجعلون أعوانهم يغمسون اللحم بمداريهم وسط
القدور، حتى لا يطفو.
٣٥
(٥٨) قال الأستاذ الطيب: «لكيلا يبدو لأحد أنك هنا،
٣٦ اقبع في أسفل وراء صخرة، لتجد لك بعض مُعتصَم،
٣٧
(٦١) ومهما نالني من هجومٍ فلا تخف؛ لأني حسَبتُ لكل أمرٍ حسابه، وكنتُ مرةً من
قبلُ في مثل هذا العراك.»
٣٨
(٦٤) ثم سار وقد تجاوز رأس الجسر، وعندما وصل إلى ما فوق الشاطئ السادس،
٣٩ كان في حاجة لأن يبدو بوجهٍ مطمئن.
(٦٧) وبذلك الغضب وتلك العاصفة التي يندفع بها الكلاب وراء الفقير البائس، الذي
يسأل فجأةً حيث يقف،
(٧٠) هكذا خرج هؤلاء
٤٠ من تحت الجسر، ووجَّهوا إليه كل الخطاطيف
٤١ ولكنه صاح بهم: «لا يكن أحدكم شريرًا!
٤٢
(٧٣) وقبل أن تُصيبني خطاطيفكم، فلْيتقدَّم إلى الأمام واحدٌ منكم ليسمعني، ثم
فلتُراجعوا أنفسكم في طعني.»
(٧٦) فصاحوا جميعًا: «فليذهب مالاكودا!»
٤٣ وحينئذٍ تحرك أحدهم، وظل الآخرون وقوفًا، وجاء إليه قائلًا: «وما ينفعه
هذا؟»
(٧٩) قال أستاذي: «أتعتقد يا مالاكودا أنك تراني جئت هنا، وقد أمنتُ من كل عراقيلكم،
٤٤
(٨٢) دون إرادةٍ إلهية وقدَرٍ موافق؟ دعوني أمضي، فقد أُريدَ في السماء،
٤٥ أن أُرِي غيري هذا الطريق الموحش.»
(٨٥) عندئذٍ هبطت كبرياؤه، حتى ترك الخطاف يسقط إلى قدميه، وقال للآخرين: «لا
يُمسَّ الآن.»
٤٦
(٨٨) ثم قال لي دليلي: «يا مَن تجثم مختفيًا بين صخور الجسر، عُد إليَّ الآن
آمنًا مطمئنًّا.»
(٩١) وإذ ذاك نهضتُ وذهبتُ إليه مسرعًا، وتَدافع الشياطين إلى الأمام جميعًا، حتى
خفتُ ألا يرعَوا العهد،
٤٧
(٩٤) وكذلك كنتُ قد رأيتُ المشاة خائفين، وقد خرجوا من كابرونا بعد التعاهد،
٤٨ إذ رأَوا أنفسهم وسط أعداء كثيرين.
(٩٧) وألصقتُ بدليلي كلَّ جسمي، ولم تَحِد عيناي عن مَرآهم، الذي لم يكن حَسن
المظهر.
(١٠٠) خفضوا الخطاطيف وقال كلٌّ منهم لآخر: «أتريد أن أناله في عَجُزه؟» وأجابوا:
«نعم، احرص على طعنه!»
(١٠٣) ولكن ذلك الشيطان
٤٩ الذي كان يتحدث مع دليلي، استدار سريعًا وقال: «مهلًا مهلًا يا اسكارميليوني!»
٥٠
(١٠٦) ثم قال لنا: «لا يمكن التقدم فوق هذا الصخر؛ لأن الجسر السادس يستقر كله
حطامًا في القاع.
٥١
(١٠٩) وإذا راقكما السيرُ بعدُ، فلتمضيا فوق هذا الصخر، فقريبٌ من هنا جسرٌ آخر
يصنع طريقًا.
(١١٢) بالأمس،
٥٢ وخمس ساعات بعد هذه الساعة،
٥٣ اكتملت ستٌّ وستون ومائتان وألف سنة،
٥٤ منذ أن تحطم الطريق هنا.
٥٥
(١١٥) وإني مُرسِل إلى هناك بعضَ أتباعي،
٥٦ ليرَوا هل يتنسَّم أحدهم الهواء،
٥٧ اذهبا معهم فإنهم لن يكونوا سيئين معكما.»
(١١٨) ثم بدأ يقول: «إلى الأمام يا أليكينو،
٥٨ ويا كالكابرينا،
٥٩ وأنت يا كانياتزو،
٦٠ ولتكن يا بارباريتشا
٦١ دليلًا للعشرة.
(١٢١) وليذهب أيضًا ليبيكوكو،
٦٢ ودراجينياتزو،
٦٣ وتشيرياتو
٦٤ ذو النابَين، وجرافيكاني،
٦٥ وفارفاريلُّو،
٦٦ وروبيكانتي
٦٧ المجنون.
(١٢٤) ابحثوا جميعًا حول الغراء الآني،
٦٨ ولْيصِل هذان سالمَين
٦٩ إلى الجسر التالي،
٧٠ الذي يمتد برُمَّته فوق الخنادق.»
(١٢٧) فقلت: «أواه يا أستاذي! ماذا أرى؟ أواه! فلنذهب وحيدين دون رفيق، إذا كنتَ
تعرف الطريق؛ فإني أنا لا أطلبه.
(١٣٠) وإذا كنتَ شديد الحذر كما هو مألوف، أفلا ترى أنهم يُحرِّقون أسنانهم
الأُرَّم، وبالأعين يتهدَّدوننا بالعذاب؟!»
٧١
(١٣٣) فقال لي: «لا أريدك أن تفزع، دعهم كما يشاءون يُحرِّقون أسنانهم الأُرَّم،
فإنهم يفعلون ذلك للمعذبين في الحميم الآني.»
٧٢
(١٣٦) واتجهوا للسير على الشاطئ الأيسر، ولكن كان كلٌّ منهم قد ضغط لسانه من قبلُ
بالأسنان صوب القائد، للإشارة،
٧٣
(١٣٩) وجعل هو
٧٤ من عجزه بوقًا.
٧٥