سار الشاعران وحيدين صامتين كما يسير رهبان الفرنتشسكان، وأخذَت تراود دانتي فكرة
خطر
الشياطين، وخشي أن يلحقوا بهما، بعد أن تعرضوا للضرر والسخرية بسببهما، فعبَّر عن
مخاوفه
لفرجيليو، الذي أخذ يهدِّئ من روعه. ولكن ما لبث الشياطين أن مضَوا في مطاردة الشاعرين،
وأوشكوا على اللحاق بهما، فحمل فرجيليو دانتي بين ذراعيه، مثل أم تحمل ابنها وتهرب
به من
ألسنة اللهب، وانحدر به فرجيليو إلى الوادي السادس. رأى الشاعران جماعة من المعذبين
يرتدون
ثيابًا ملونة، وعلى رءوسهم قلانس برَّاقة اللون، وباطنها من الرصاص الثقيل، وقد ساروا
في
بطء شديد، وكان هؤلاء هم جماعة المنافقين. وسأل اثنان دانتي عن شخصه، وكيف جاء إلى
هذا
الموضع من الجحيم. أجاب دانتي بأنه وُلد ونشأ على ضفة الأرنو الجميل، وأنه هنا بجسمه
الذي
كان له دائمًا. عرف دانتي أنه أمام الراهبين كاتالانو ولوديرينجو اللذين اختارتهما
فلورنسا
لتحقيق السلام فيها، ولكنهما أخلفا الظن فيهما، وتصرفا بطريقة لا تزال آثارها بادية
حول
جاردينيو. ولفت نظرَ دانتي الكاهنُ قيافا، الذي أشار بالتضحية بالمسيح في سبيل خلاص
الشعب،
وكان مُلقًى عاريًا في عرض الطريق، ومصلوبًا في الأرض بثلاثة أوتاد، وكان عليه أن
يحتمل ثقل
كل من يمرون فوقه. استفسر فرجيليو عن الطريق، وخرج إلى الوادي التالي، وقد بدت عليه
أمارات
الغضب لخداع مالاكودا إياه من قبل، وتابع دانتي مواطئ قدميه العزيزتين.
(١) وحيدَين صامتين
٢ دون رفيقٍ
٣ مضينا؛ واحدٌ إلى الأمام
٤ والآخر من بعده،
٥ كما يسير الرهبان المينوريون في الطريق.
٦
(٤) اتجه فكري بالعراك الحالي إلى خرافة إيزوب، حيث تحدَّث عن الضفدع والفأر؛
٧
(٧) إذ لا تتشابه «الآن» و«حاليًّا» أكثر من مشابهة إحداهما للأخرى،
٨ إذا أحسنتَ الجمع بذهنٍ واعٍ بين البداءة والنهاية.
(١٠) وكما تتفتَّق فكرةٌ عن أخرى،
٩ كذلك تولَّد من هذه
١٠ غيرُها بعدُ، فضاعفتْ من خوفي الأول.
١١
(١٣) وفكرتُ هكذا: «لقد هُزئ بهؤلاء بسببنا، ونالهم الضرر والسخرية،
١٢ على صورة أعتقد أنها تُزعجهم كثيرًا.
(١٦) وإذا ما أُضيفَ الغضب إلى نيتهم الخبيثة، فإنهم سيأتون من ورائنا بوحشيةٍ
أشد من الكلب وراء ذلك الأرنب البري الذي ينهشه.»
١٣
(١٩) أحسستُ أن شَعري كله قَفَّ من الرعب، ووقفتُ إلى الوراء منتبهًا، حينما
قلتُ: «أستاذي، إذا لم تُخفِ
(٢٢) نفسك وإياي سريعًا، فإني أفزع من الشياطين، إنهم من ورائنا، وإني أتخيلهم
تمامًا، حتى لأسمعهم فعلًا.»
١٤
(٢٥) فقال:
١٥ «لو كنتُ من زجاج يستبطن الرصاص،
١٦ لما رسمت صورتك الظاهرة، بأسرع مما أرسم صورتك الباطنة.
١٧
(٢٨) الآن فحسب جاءت أفكارك بين أفكاري بفعلٍ واحدٍ ووجهٍ متجانسٍ،
١٨ ولذلك جعلتُ من كليهما رأيًا واحدًا.
١٩
(٣١) إذا كان الشاطئ الأيمن ينحدر بحيث نقدر على الهبوط إلى الوادي الآخر،
٢٠ فإننا سننجو من المطاردة الموهومة.»
٢١
(٣٤) ولم يكد ينتهي من ذكر قراره، حتى رأيتهم قادمين نحونا بأجنحةٍ ممتدة، غير
بعيدين منا، يريدون الإمساك بنا.
(٣٧) أخذني دليلي سريعًا كالأم التي تستيقظ على الضوضاء، فترى بقربها ألسنة اللهب
المشتعل،
(٤٠) وتأخذ ابنها، وتهرب ولا تتوقف، وهي حريصةٌ عليه أكثر من ذاتها، فلا ترتدي
سوى قميص واحد،
٢٢
(٤٣) ومن أعلى الشاطئ الوعر، ترك نفسه يهبط سريعًا،
٢٣ فوق الصخر المنحدر، الذي يسد أحد جانبَي الوادي التالي.
٢٤
(٤٦) لم تجرِ أبدًا مياهٌ من مسقطٍ بمثل هذه السرعة، لتدير عجلةَ طاحونٍ أرضي،
حينما تزداد قربًا إلى أضراسها،
(٤٩) كما أسرع أستاذي على ذلك الشاطئ، وهو يحملني فوق صدره، كأنني له ابنٌ
٢٥ لا رفيق.
٢٦
(٥٢) وما كادت تصل قدماه تحتُ إلى قاع المُنخفَض في أسفل، حتى صاروا
٢٧ فوقنا على المُرتفَع، ولكن ذلك لم يُعِره اضطرابًا؛
(٥٥) لأن الحكمة العليا التي أرادت أن تضعهم حُراسًا للخندق الخامس، نزعتْ منهم
جميعًا القدرة على مغادرته.
٢٨
(٥٨) وهناك في أسفل وجدنا قومًا يعلوهم الطلاء،
٢٩ كانوا يدورون كثيرًا بخطًى بطيئة، وهم يبكون، وبدا على سيماهم الإعياء والوهن.
٣٠
(٦١) وكانت عليهم عباءات ذات قلانس تدلت أمام الأعين، وصُنعتْ على طراز ما يُعمل
للرهبان في كلوني.
٣١
(٦٤) مُذهَّبة من الخارج حتى لتخطف الأبصار، لكن باطنها كان كله من رصاصٍ شديد الثقل،
٣٢ حتى بدتْ قلانس فردريك من القش إلى جانبها.
٣٣
(٦٧) واهًا لك أيها الثوب المُعنَّى إلى الأبد! واتجهنا بعدُ إلى اليسار في
رُفقتهم فحسب، ونحن صاغون إلى بكائهم الأليم.
٣٤
(٧٠) ولكن هؤلاء القوم المُجهَدين بأثقالهم،
٣٥ ساروا ببطء شديد، حتى كانت لنا، كلما تحركتْ أعقابنا، رُفقةٌ جديدة.
٣٦
(٧٣) لذلك قلت لدليلي: «اعمل على أن تجد مَن يمكن معرفته بالاسم أو بالفعل،
٣٧ ونقِّل عينيك حولنا بينما نسير.»
(٧٦) فصاح من خلفنا أحد المعذبين الذي سمع اللغة التسكانية: «احبِسا أقدامكما يا
مَن تعدوان هكذا،
٣٨ خلال الهواء المظلم!
(٧٩) فربما تنال مني ما تطلبه.»
٣٩ حينئذٍ استدار دليلي، وهو يقول لي: «انتظر، ثم تقدَّمْ وَفق
خُطاه.»
(٨٢) وقفتُ، ورأيتُ اثنين أظهر وجهاهما لهفةً شديدة أن يكونا معي، ولكن عوَّقهما
الحمل وضيق الطريق.
٤٠
(٨٥) ولما وصلا،
٤١ نظرا إليَّ طويلًا بأعينٍ حَولاء،
٤٢ دون أن ينبسا بكلمة،
٤٣ ثم اتجه كلٌّ منهما للآخر، وقالا فيما بينهما:
(٨٨) «هذا يبدو إنسانًا حيًّا من حركة الحنجرة،
٤٤ وإذا كانا ميتَين فبأيِّ فضلٍ يسيران دون غطاءٍ من الرداء
الثقيل؟»
(٩١) ثم قالا لي: «أيها التسكاني الذي أتيت إلى جماعة
٤٥ المنافقين البائسين،
٤٦ لا تخجل أن تقول مَن أنت!»
(٩٤) وأجبتهما: «لقد وُلدتُ ونشأتُ على ضفة الأرنو الجميل، في المدينة العظيمة،
٤٧ وأنا هنا بالجسم الذي كان لي دائمًا.
٤٨
(٩٧) ولكن مَن أنتما، وقد جعل الألم دموعكما كما أرى، تهطل على الخدود، وأيُّ
عذاب هذا الذي أراه يتلألأ عليكما؟
٤٩
(١٠٠) فأجابني أحدهما: «إن الأردية البرتقالية مصنوعةٌ من رصاص جدِّ كثيفٍ، حتى
يجعل الثقلُ لموازينها مثل هذا الصرير.
٥٠
(١٠٣) كنا رهبانًا مُمتَّعين
٥١ من بولونيا، وإني أُدعَى كاتالانو،
٥٢ وهذا يُدعَى لوديرينجو،
٥٣ وأخذتنا مدينتك نحن الاثنين
٥٤ معًا،
٥٥
(١٠٦) وقد كان المألوف أن يُختار واحدٌ، ليحفظ فيها السلام، وتصرفنا بطريقةٍ لا
تزال باديةً حول جاردينيو.»
٥٦
(١٠٩) بدأتُ: «أيهذان الراهبان، إن شروركما …» ولكني لم أقل مزيدًا؛ إذ ابتدر
لعيني معذبٌ مصلوبٌ في الأرض بثلاثة أوتاد.
(١١٢) وحينما رآني اختلجت كل أعضائه، وهو يُصعِّد الزفرات في لحيته،
٥٧ وكاتالانو الراهب، الذي انتبه إلى ذلك،
٥٨
(١١٥) قال لي: «إن ذلك المثبت في الأرض،
٥٩ الذي تُمعِن فيه النظر، أشار على الفرِّيسيين بضرورة تعذيب رجلٍ واحدٍ
في سبيل الشعب.
(١١٨) إنه مُلقًى عاريًا، كما ترى، في عرض الطريق، وينبغي أن يُحس أولًا كم يزن
كل مَن يمرُّ فوقه.
٦٠
(١٢١) وبهذه الطريقة نال حَموه
٦١ التعذيبَ في هذا الخندق، والآخرون من أعضاء المجمع، الذي كان لليهود
أصلَ النكبات.»
٦٢
(١٢٤) حينئذٍ رأيت فرجيليو يأخذه العجب، من أجل ذلك الممدَّد المصلوب، بهذا الوضع
المُزري في المنفى الأبدي.
(١٢٧) ثم وجَّه إلى الراهب هذه الكلمات: «لعله لا يسوءك، إذا كان مباحًا لك أن
تقول لنا، أتوجَد إلى اليمين ثغرةٌ،
(١٣٠) نستطيع كلانا عن طريقها أن نخرج من هنا،
٦٣ دون أن نَضطرَّ الملائكةَ السود
٦٤ إلى القدوم، لإخراجنا من هذا العمق؟»
(١٣٣) حينئذٍ أجاب: «توجَد، أقرب مما تأمل، صخرةٌ تخرج من الدائرة الكبرى،
٦٥ وتمتد فوق كل الأودية القاسية،
(١٣٦) غير أنها محطمةٌ في هذا الخندق ولا تُغطيه، وتستطيع أن تصعد فوق الحُطام،
الذي ينحدر على الجانب، ويعلو من القاع.»
٦٦
(١٣٩) وقف دليلي مُطأطئ الرأس برهة، ثم قال: «لقد قصَّ علينا الأمرَ باطلًا مَن
يطعن الآثمين بخطافه في الجانب الآخر.»
٦٧
(١٤٢) قال الراهب:
٦٨ «كنتُ قد سمعتُ في بولونيا مَن يقول إن للشيطان رذائل كثيرة، وسمعت من
بينها أنه كذوبٌ
٦٩ وأبو الأكاذيب.»
(١٤٥) وعندئذٍ سار دليلي بخطًى فسيحة، وقد بدت ملامحه مضطربة بالغضب قليلًا،
٧٠ فابتعدتُ عن المعذبين بأثقالهم،
(١٤٨) وأنا أتابع مواطئ قدميه العزيزتين.
٧١