الأنشودة الرابعة والعشرون١
رسم دانتي بعض صور الريف الإيطالي، ووصف الفلاح وقد استولى عليه اليأس عند نزول الصقيع، فيُعوِزه العشب، ثم يسترجع الأمل عندما تظهر أشعة الشمس، فيأخذ عصاه ويسوق القطعان لكي ترعى الكلأ. وازن دانتي بين حال الفلاح في هذين الموقفين، وحاله وفرجيليو عندما أخذهما اليأس، ثم تحوَّل إلى الاطمئنان والرضا بزوال الخطر. وصل الشاعران إلى جسر محطَّم، فرفع فرجيليو دانتي وساعده على اعتلاء الصخور، وجلس دانتي من الإعياء وهو لاهث الأنفاس. ولكن فرجيليو حمله على أن ينضو عن نفسه الإعياء، وقال له إن المجد لا يُنال فوق الفراش ولا تحت الأغطية، وإن قوة الروح تظفر في كل معركة، فنهض دانتي وقد استعاد قوته، ومضى الشاعران في سيرهما. سمع دانتي صوتًا ولكنه لم يفهم منه كلامًا، ونظر ولكنه لم يتبين شيئًا لشدة الظلام، ولذلك طلب إلى فرجيليو أن يهبط إلى الخندق السابع حتى يرى ويسمع. ورأى دانتي حشدًا من الزواحف الرهيبة التي لم يوجَد مثيلٌ لها في ليبيا ولا في إثيوبيا ولا في البلاد الواقعة على ساحل البحر الأحمر. وجرى بين الزواحف جماعةُ اللصوص وهم عراة، وقد كانت أيديهم مربوطة إلى الخلف بالزواحف. ورأى كيف تلدغ زاحفة أحد المعذبين، وكيف يحترق ويتحول إلى رماد، ثم يعود إلى شكله السابق، وكان ذلك المعذب هو فانِّي فوتشي، أحد اللصوص في بستويا في عهد دانتي. تولى فوتشي الخجلُ للحال التي كان عليها، ولم يشأ أن يترك دانتي يتمتع بالمشهد الذي رآه، فتنبأ له بالأحداث التي ستقع بين السود والبيض، وكيف يزول السود من بستويا، وتجدِّد فلورنسا شعبها وقوانينها، وتنشب معركة بيتشينو التي ينتصر فيها السود على البيض.
Hor., Ars Poetica, 412.
Purg, III, 46–51; XI, 40; XIII, 1I, 65, 77; XXII, 183; XXV, 8; XXVII, 124.
وأورد لوكانوس أسماء هذه الزواحف وصفاتها:
Luc., Phars., IX, 711 …
Ov., Met., XV, 393 …
ويوجَد تمثال من الحجر يمثِّل العنقاء، وهو في متحف الفاتيكان.
Inf., X, 92; XVI, 75; XXVI, 1; XXXII, 120.
Purg, VI, 127; XX, 75.
Par., XV, 97; XVI, 84; 111, 146, 149; XVII, 48; XXIX, 103; XXXI, 39.
Ganz., XI, 77; XVIII, 50.
Conv., I, III, 22; II, XIV, 176.
ويكتبها كذلك بصور أخرى، مثل:
فيرنتزه (Firenze):
Conv., IV, XX, 39.
فيورنسا (Fiorensa):
V., El., I, XIII, 22.
فلورنتيا (Florentia):
V., El., I, VI, 25; II, VI, 47; XII, 16.
Epis., I, tit; VII, 7; VIII, tit; IX, 2, 4.
ويشير إليها في مواضع عديدة من مؤلفاته، فيقول مثلًا إنها المدينة المليئة بالحسد (Inf., VI, 49)، والمدينة المنقسمة (Inf., VI, 61)، والمدينة المنحرفة (Inf., XVI, 9)، ووكر الحقد (Inf., XV, 78)، وموطن ميلاده (Inf., X, 26; XXIII, 94–96; Purg., XXIV, 79; Par., VI, 53; IX, 127)، ويسميها المدينة العظيمة على ضفة الأرنو الجميل (Inf., XXIII, 95). ويرجع اسمها إلى الرومان الذين أطلقوا عليها فلورنسا، ثم أصبحت فيورنتزا. وفي الغالب اشتُق الاسم من الزهرة (floreo, fiore)، أي: زهرة الزنبق، رمز المدينة، وتُسمَّى مدينة الزهور.
وتقع فلورنسا في قلب تسكانا على نهر الأرنو، وتحيط بها التلال؛ في الشمال تلال فييزولي (Fiesole) وجبل موريلو (Morello)، وفي الجنوب تلال سان مينياتو (San Miniato) وبلوزجواردو (Bellosguardo)، ويقسمها الأرنو قسمين. ويُقال إن الرومان أنشئوا فلورنسا بعد هدم فييزولي في عهد يوليوس قيصر، ثم هدمها توتيلا ملك القوط في القرن ٦، ويُقال إن شارلمان أعاد بناءها بعد ثلاثة قرون. وكانت فلورنسا في العصور الوسطى مقسمة أربعة أحياء أو أبواب، وسُميت بأسماء بوابات سور المدينة؛ ففي الشرق باب سان بانكراتزيو (Porta San Pancrazio)، وفي الغرب باب سان بيترو (San Pietro)، وفي الشمال باب الكاتدرائية (Il Duomo)، وفي الجنوب باب سانتا ماريا (Santa Maria)، وفي الوسط وُجد السوق القديم (Mercato Vecchio). وعندما اتسعت المدينة، وبُنيت لها أسوار جديدة، زادت أحياؤها، وحلَّ مكان حي سانتا ماريا حيُّ سان بييرو سكيرادجو (Sesto San Piero Scheraggio)، وحي البرجو (Il Borgo)، وأُضيفَ حي أولترارنو (Oltrarno). وفي الخمسين سنة السابقة على ميلاد دانتي (١٢٦٥)، زادت مساحة فلورنسا، وتكاثر سكانها، وتضاعفت ثروتها، وارتفع شأنها السياسي.
ومن المباني والمنشآت التي شهدها دانتي، أو شهد بدء إنشائها في فلورنسا، الجسر القديم (Ponte Vecchio)، ويُقال إنه يرجع إلى عهد الرومان، ثم هدمه فيضان ١٣٣٣، وأعاد بناءه تاديو جادي في ١٣٦٢. وأُنشئَ جسر كارايا (Ponte alla Carraia) في ١٢٢٠ لمنفعة ضاحية أنييسانتي (Ognissanti)، التي اشتهرت بنسج الحرير والصوف، وهدمه فيضان ١٣٣٣، وأُعيدَ بناؤه في وقت متأخر. وأُنشئَ جسر روباكونتي (Rubaconte)، الذي يُعرَف الآن بجسر جراتزيي (Grazic) في شرق الجسر القديم في ١٢٣٧. وأُقيمَ جسر سانتا ترينيتا (Santa Trinità) بين الجسر القديم وجسر كارايا في ١٢٥٢. ومن هذه المباني معمدان سان جوفاني (San Giovanni) الذي بُني في القرن السابع أو الثامن، وكنيسة سان مينياتو (San Miniato)، التي كانت قائمة قبل عهد شارلمان وجُدد بناؤها، والباديا (Badia)، الدير القديم للرهبان البندتيين، الذي أُنشئَ في ٩٧٨، وكنيسة سانتا أنونتزياتا (Santa Annunziata)، التي أُنشئت في ١٢٦٢، وكنيسة سانتا كروتشي (Santa Croce)، التي أُنشئت من ١٢٩٤ إلى ١٤٤٢، وكنيسة سان لورنتزو (San Lorenzo)، التي أُنشئت في ٣٩٠، واحترقت في ١٤٢٣، وأعاد آل مديتشي بناءها في القرن ١٥، وكنيسة سانتا ماريا نوفلا (Santa Maria Novella)، التي أُنشئت من ١٢٧٨ إلى ١٣٤٩، وكنيسة سان مارتينو دي بونوميني (San Martino de’ Buonomini)، التي أُقيمت في حوالي ١٠٠٠، وكنيسة سانتا ترينيتا (Santa Trinità)، التي أُنشئت في ١٢٥٠، وكنيسة سانتا ماريا دل فيوري (Santa Maria del Fiore)، وهي الكاتدرائية، وأُنشئت في مكان سانتا ريباراتا (Santa Riparata) من ١٢٩٤ إلى ١٤٥٦، وكنيسة الرحمة (Misericordia)، وأُنشئت في ١٢٤٤، ومستشفى الأبرياء (اللقطاء) (Ospedale degli Innocenti)، وأُنشئَ في ١٢١٨، ومستشفى سانتا ماريا نووفا (Santa Maria Nuova) بناه فولكو بورتيناري في ١٢٨٧، وقصر العمدة أو البرجلو (Palazzo del Podestà, II Bargello)، وأُنشئَ في ١٢٥٠، وقصر السنيوريا أو القصر القديم (Palazzo della Signoria, P. Vecchio)، وأُنشئَ من ١٢٩٨ إلى ١٣١٤.
وستصبح فلورنسا مركز حركة النهضة، وستكون بمثابة أثينا العصر الحديث في خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وسيرعى آل مديتشي (J. Medici) هذه الحركة العظيمة، وسيظهر في فلورنسا عباقرة يُخرجون روائع الأدب والفن والعلم والسياسة، مثل بتراركا (١٣٠٤–١٣٧٤)، وبوكاتشو (١٣١٣–١٣٧٥)، وسافونارولا (١٤٥٢–١٤٩٨)، وليوناردو دا فنتشي (١٤٥٢–١٥١٩)، وميكلأنجلو (١٤٧٥–١٥٦٤)، وماكيافلي (١٤٦٩–١٥٢٧). ولا تزال فلورنسا حتى الآن بثمراتها الخالدة مدرسةً عالمية يحج إليها الدارسون من أنحاء الأرض.
وقد زرت فلورنسا منذ صيف ١٩٣٤ إلى صيف ١٩٦٦ سبع عشرة مرة، وإني أَعدُّها مدينتي، وهي عندي من أعز مدن الدنيا، وهي ذات سحر وجمال وروعة ليس من السهل التعبير عنها.
وحينما رسم رافايلو (١٤٨٣–١٥٢٠) صورة سان ميشيل الصغير وهو يقتل التنين، استوحى الأنشودات ٢٢ و٢٣ و٢٤، بما فيها من صور الشياطين والزواحف، كما استوحى الأنشودة ٢٣ بما فيها من صورة المنافقين الذين يسيرون تحت أردية وقلانس من الرصاص الثقيل. والصورة موجودة في متحف اللوفر في باريس.