وجَّه دانتي كلمات الغضب والسخرية إلى وطنه، عندما أثارته رؤية بعض اللصوص من نبلاء
فلورنسا، وقال إن فلورنسا لن تصعد بهم سُلم المجد، وإنه لا بد من عقاب الآثمين. صعد
دانتي
فوق الصخور، ويعاونه فرجيليو، للوصول إلى الوادي التالي. وصف دانتي بعض مظاهر الريف
الإيطالي، ووازن بين ذلك وما شهده من شُعلات النار التي كانت تتسلل في عُنق الوادي
الثامن،
وقد أخفت بداخلها واحدًا من اللصوص. رأى دانتي شعلة تسير ولها قرنان، فاستفسر عنها،
فأجابه
فرجيليو بأنها تضم أوليسيس وديوميد، من أبطال الميتولوجيا اليونانية. وألحف دانتي
في الرجاء
لكي ينتظر حتى تأتي تلك الشعلة ذات القرنين، فقبل فرجيليو الرجاء، وسأله أن يدع له
الكلام.
تحدث فرجيليو إلى الآثمين حديثًا رقيقًا. قال أوليسيس إن الروابط الأسرية لم تغلب
شوقه إلى
أن تزيد معرفته بالدنيا والبشر، وإنه خرج مع جماعة صغيرة في سفينة واحدة، ورأى جزر
غربي
البحر الأبيض المتوسط، وشاطئ أوروبا حتى إسبانيا، وشاطئ أفريقيا حتى مراكش، ووصل إلى
ما بعد
أشبيلية وسبتة. وهنا حفز رفاقه لمتابعة الرحلة في المحيط المجهول، وقال لهم إنهم لم
يُخلقوا
لكي يعيشوا كالوحوش، ولكن ليتبعوا الفضيلة والمعرفة. فساروا في البحر متحفزين، وجعلوا
من
مجاديفهم أجنحة، واجتازوا خط الاستواء. وبعد سير خمسة شهور رأَوا جبلًا شاهق الارتفاع،
فتولاهم الفرح، ولكن سرعان ما انقلب إلى بكاء؛ لأنه هبَّت ريح عاتية دارت بسفينتهم
وأغرقتها، فابتلعهم اليم.
(١) انعمي يا فيورنتزا،
٢ ما دمتِ جد عظيمة، حتى لتضربين أجنحتك فوق البحر والبر، ويشيع اسمك في الجحيم!
٣
(٤) رأيت خمسة بين اللصوص من مواطنيك هؤلاء،
٤ الذين يجيئني منهم العار، ولن تصعدي بهم إلى المجد العظيم.
٥
(٧) ولكن إذا كان الإنسان يحلم بالصدق قُبيل الصباح،
٦ فستشعرين في وقتٍ قليل بما ترجوه لك براتو،
٧ ولا أذكر غيرها.
(١٠) وإذا كان هذا قد وقع، فلم يكن قبل الأوان، هكذا حدث، ما دام ينبغي حقًّا أن يكون!
٨ إذ سيزيد عليَّ الثقل كلما تقدَّمَت بي السنون.
(١٣) وهنا رحلنا، وفوق الدرجات التي صنعتها أضراس الصخر، لنهبط عليها أولًا،
٩ عاد دليلي إلى الصعود وجذبني إلى أعلى،
(١٦) وبينما نحن نتقدم في الطريق المنعزل، بين الصخور المدبَّبة وصخور الجسر، لم
تَسِر قدماي دون ارتكاز اليدين.
١٠
(١٩) حينئذٍ تألمتُ، وأنا أتألم الآن بعد، عندما أوجِّه فكري إلى ما رأيت، وأشتد
في كبح نفسي بما ليس لي به عهد؛
(٢٢) لكيلا تجري دون نبراسٍ من فضيلة،
١١ حتى إذا كان نجمٌ بعيد أو ما هو أفضل
١٢ قد منحني الخير، فلن أحرم منه نفسي بنفسي.
١٣
(٢٥) عندما يستريح الفلاح فوق التل — في الوقت الذي لا تُواري وجهها عنا كثيرًا،
١٤ تلك التي تضيء الدنيا،
١٥
(٢٨) وحينما يتنحى الذباب للبعوض
١٦ — يرى الفلاح الحُباحب في أسفل الوادي،
١٧ هناك إذ يمكن أن يجمع الكَرْم ويحرث الأرض،
١٨
(٣١) بمثل هذه الشعلات الكثيرة أضاء الوادي الثامن كله، كما تبينتُ سريعًا حينما
كنتُ هناك، حيث بدا لي القاع.
١٩
(٣٤) وكذلك الذي انتقم له برجا الدبَّين، وقد رأى عربة إيليا عند الرحيل، حينما
ارتفعت الجياد منتصبةً إلى السماء،
٢٠
(٣٧) ولم يستطع أن يُتابعها بعينيه، حتى لم يرَ سوى شعلة النار وحدها، كسحابة
صغيرة تصعد إلى أعلى،
(٤٠) هكذا تحركت كلٌّ منها في عنق الوادي؛ إذ تسللت كل شعلة منها بآثم، دون أن
تكشف إحداها عن سرقتها.
٢١
(٤٣) وقفتُ فوق الجسر لكي أنظر أسفل،
٢٢ ولو لم أكن قد أمسكت بصخرة، لهويت إلى أسفل دون أن أُدفع.
٢٣
(٤٦) ودليلي الذي رآني مأخوذًا هكذا، قال لي: «إن الأرواح بداخل النيران، وقد
التفَّ كلٌّ منها بما يحرقها.»
(٤٩) فأجبته: «أستاذي، باستماعي إليك أزداد يقينًا، ولكن الأمر كان قد وضح لي على
هذا النحو، وكنت أود أن أقول لك:
(٥٢) مَن ذا في تلك النار التي تأتي منقسمة هكذا في أعلى،
٢٤ وتبدو أنها تندلع من الحطب؛ إذ وُضع إتيوكليس مع أخيه؟»
٢٥
(٥٥) فأجابني: «هناك يُعذَّب فيها أوليسيس وديوميد،
٢٦ وهكذا يذهبان معًا إلى العقاب، كما أثارا معًا غضب الإله،
٢٧
(٥٨) وهما في باطن شعلتهما يُعوِلان لخدعة الحصان،
٢٨ التي صنعت بابًا، خرجت منه بذرة الرومان النبيلة.
٢٩
(٦١) ويبكيان بداخلها على حيلة، لا تزال ديداميا وهي ميتة تحزن بسببها من أخيل،
٣٠ وينالان هناك العقاب من أجل بالاديوم.»
٣١
(٦٤) فقلتُ: «إذا استطاعا الكلام وسط هذه النيران،
٣٢ فإني أرجوك مُلحًّا يا أستاذي، وأرجو ثانيةً أن يَعدِل الرجاء ألفًا،
٣٣
(٦٧) ألا تمنعني من الانتظار، حتى تأتي هنا الشعلة ذات القرنين، إنك ترى كيف
أندفع إليها برغبةٍ جامحة!»
(٧٠) قال لي: «إن ضراعتك جديرةٌ بالثناء الوافر؛ ولذلك فإني أقبلها،
٣٤ ولكن احرص على أن تمسك لسانك.
(٧٣) دع لي الكلام، فإني أدركتُ ما تريد،
٣٥ وربما احتقرا حديثك؛ إذ كانا من الإغريق.»
٣٦
(٧٦) وبعد أن جاءت الشعلة هنا، حيث بدا الوقت والمكان سانحًا لدليلي، سمعته يتكلم
بهذا الأسلوب:
(٧٩) «أيها الاثنان في بطن نارٍ واحدة، إذا كنتُ أستحق منكما وقد كنت حيًّا، إذا
كنت أستحق منكما كثيرًا أو قليلًا،
٣٧
(٨٢) حينما كتبتُ في الدنيا أشعاري الرفيعة،
٣٨ فلا تُبديا حراكًا، ولكن فليقل لي أحدكما، أين ذهب ليموت حينما فقد نفسه.»
٣٩
(٨٥) بدأ يهتز القرن الأكبر
٤٠ في الشعلة القديمة، وهو يُدوِّي مثل تلك التي تُرهقها الريح،
(٨٨) وبينما هو يحرك طرفه من ناحية لأخرى، كأنه اللسان الذي يتكلم،
٤١ أطلق صوته وقال:
٤٢ «حينما
(٩١) رحلتُ عن تشيرتشي،
٤٣ التي احتجزتني أكثر من عامٍ هناك بقرب جاييتا، قبل أن يسميها كذلك إينياس؛
٤٤
(٩٤) لم يكن شغفي بابني،
٤٥ ولا العطف على أبي الشيخ،
٤٦ ولا الحب الواجب الذي كان ينبغي أن يجعل بنيلوب سعيدة؛
٤٧
(٩٧) لم يكن بمستطيع أن يغلب في نفسي الحماسة التي كانت لديَّ، لكي أُصبح خبيرًا
بالدنيا، وبمساوئ البشر وفضائلهم،
٤٨
(١٠٠) ولكني وضعتُ نفسي على البحر
٤٩ العميق المفتوح،
٥٠ في سفينة واحدة، مع تلك الجماعة القليلة التي لم تتخلَّ عني.
(١٠٣) رأيت هذا الشاطئ وذاك،
٥١ حتى إسبانيا، وحتى مراكش، وجزيرة السردينيين، والجزر الأخرى
٥٢ التي يغسل ما حولها ذلك البحر.
(١٠٦) كنت ورفاقي شيوخًا بِطاء،
٥٣ حينما بلغنا ذلك الممر الضيق،
٥٤ حيث اتخذ هرقل علامتيه،
٥٥
(١٠٩) كي لا يسير الإنسان قُدمًا، وتركتُ إلى اليمين أشبيلية،
٥٦ وفي الجانب الآخر كنتُ قد خلَّفتُ سبتة.
٥٧
(١١٢) قلت: «أيها الإخوان الذين وصلتم إلى الغرب،
٥٨ خلال مائة ألفٍ من المخاطر،
٥٩ إنكم لن تريدوا، في هذه اللحظة القصيرة
(١١٥) من يقظة الحواس المتبقية لنا، منعَ اختبارنا العالم الخالي من البشر،
٦٠ فيما وراء الشمس.
٦١
(١١٨) ارعَوا أصلكم، إنكم لم تُخلَقوا لتعيشوا كالوحوش، ولكن لتبتغوا الفضل والمعرفة.»
٦٢
(١٢١) بهذا الحديث القصير، جعلتُ رفاقي متحفزين للرحلة هكذا، حتى كاد يتعذر عليَّ
أن أكبح جماحهم،
٦٣
(١٢٤) وحينما أدرنا مُؤخَّر السفينة في الصباح،
٦٤ جعلنا من المجاديف أجنحة، في هذا الطيران المجنون،
٦٥ ونحن نسير إلى اليسار دوامًا.
٦٦
(١٢٧) كل النجوم في القطب الآخر كان الليل قد رآها،
٦٧ وازداد نجمنا هبوطًا، حتى لم يعد يظهر فوق سطح البحر.
٦٨
(١٣٠) أضاء النور خمس مرات وأظلم مثلها،
٦٩ في أسفل القمر، منذ أن دخلنا الرحلة الصعبة،
٧٠
(١٣٣) حينما لاح لنا جبلٌ داكنٌ على البعد، وبدا لي شاهق الارتفاع، إلى حدٍّ لم
أرَ له مثيلًا.
٧١
(١٣٦) داخَلَنا الفرحُ، وسرعان ما انقلب إلى بكاء؛
٧٢ إذ هبَّت عاصفةٌ من الأرض الجديدة، وضربت مُقدَّم السفينة،
(١٣٩) فجعلته يدور ثلاث مرات مع المياه كلها، وفي الرابعة رفعتْ مؤخرها إلى أعلى،
وهبطت بالمقدمة إلى أسفل، كما راق للغير،
٧٣
(١٤٢) حتى انسد من فوقنا البحر.»
٧٤