ابتعدت شعلة النار التي احتوت روح أوليسيس، وظهرت شعلة أخرى خرج منها صوت غريب، يشبه
صوت
بيريلُّوس داخل الثور النحاسي في الميتولوجيا اليونانية. وبعد قليل سمع دانتي صوتًا
من شعلة
النار يعبر عن رغبة صاحبه في التحدث إلى من سمع كلامه اللمباردي. تساءل صاحب الصوت
عن أحوال
رومانيا، وهل تعيش في حرب أم سلام. دعا فرجيليو دانتي إلى إجابة ذلك المعذب، فقال
دانتي إن
قلوب طغاة رومانيا لم تخلُ أبدًا من الحرب، ولو أنه لم يتركها في قتال سافر. وقال
له إن
رافنا تحت حكم آل بولنتا، وفورلي تحت حكم آل أورديلافي، وإن المالاتستيين ينهشان مونتانيا
دي بارتشيتاتي، وماجيناردو دا سوزينانا يحكم فاينتزا وإيمولا. لم يعرف ذلك المعذب
أن دانتي
إنسان حي؛ ولذلك أعلن استعداده للإفصاح عن شخصه دون أن يخشى سوء الأحدوثة في الدنيا.
قال
المعذب جويدو دا مونتفلترو إنه كان من رجال الحرب، ثم أصبح من الرهبان الكرديليين،
ولكن
القسيس الأعظم بونيفاتشو الثامن أعاده إلى سابق آثامه. كان جويدو يقوم بأعمال الثعالب،
واتخذ الحيل والخداع لبلوغ مآربه، وأراد التوبة، ولكن بونيفاتشو بحث عنه ودعاه كطبيب
لكي
يخلصه من حمَّى كبريائه. سأله الرأي فيما يفعل لكي يهدم قلعة بينسترينو، ومنحه الغفران
مقدمًا، فأشار عليه جويدو بأن يبذل الوعود العريضة مع الوفاء بالقليل منها. وهكذا
لم تنفع
جويدو التوبة؛ لأنه لا يمكن الجمع بينها والرغبة في الإثم. وهبط إلى مينوس الذي أرسله
إلى
هذا الموضع من الجحيم لكي يلقى جزاءه الحق، ثم تحركت شعلة النار وهي تتألم وتتمايل
وتهز
قرنها المدبب. وسار فرجيليو ودانتي لبلوغ الخندق التاسع.
(١) كانت الشعلة عندئذٍ منتصبة إلى أعلى وهادئة؛
٢ إذ لم تتكلم مزيدًا،
٣ وكانت قد ابتعدت عنا بالإذن من الشاعر الحبيب،
٤
(٤) حينما جعلت أخرى، وقد جاءت من ورائها،
٥ عيوننا تتجه إلى طرفها، بالصوت المضطرب الذي خرج منها.
٦
(٧) وكالثور الصقلي،
٧ الذي أرسل خواره أولًا، في عويل ذلك الذي سواه بمبرده، وكان ذلك من العدل،
٨
(١٠) واستمر يخور بصوت المعذب،
٩ ومع أنه كان ثورًا مصنوعًا من نحاس، فقد بدا بالألم مطعونًا؛
١٠
(١٢) هكذا عندما لم تجد الكلمات الحزينة، من البدء، طريقًا في النار ولا مخرجًا،
تحولت إلى حسيس النار،
١١
(١٦) ولكن بعد أن وجدت الكلمات طريقها إلى أعلى في طرف الشعلة، وهي تسبب لها تلك
الهزات، التي تحدث للسان عند مرورها،
(١٩) سمعناها تقول:
١٢ «أنت يا مَن أوجِّه إليه صوتي، وقد تكلم بلهجة لمبارديا وهو يقول:
١٣ «والآن اذهب، فلست أطلب منك مزيدًا»،
١٤
(٢٢) إني وإن كنت ربما تأخرت قليلًا، فلا يسؤك البقاء للتحدث معي، فإنك ترى أني
غير مستاء وأنا أحترق!
١٥
(٢٥) إذا كنتَ قد هبطتَ الآن توًّا، إلى هذا العالم الأعمى
١٦ من تلك الأرض اللاتينية العزيزة،
١٧ التي حملت منها كل خطيئتي،
١٨
(٢٨) فقل لي أأهل رومانيا
١٩ في حربٍ أم سلام؛ إذ كنت من الجبال الواقعة هناك، بين أوربينو
٢٠ والقمة التي ينبع منها التيبر.»
٢١
(٣١) وكنت لا أزال منتبهًا إلى أسفل ومنحنيًا، عندما لمس دليلي عطفي،
٢٢ وهو يقول: «تكلم أنت، فهذا من اللاتين.»
٢٣
(٣٤) وأنا الذي كنت حاضر الجواب، بدأت الكلام دون إبطاءٍ:
٢٤ «أيتها النفس المختفية هناك من أسفل،
٢٥
(٣٧) إن وطنك رومانيا ليس الآن، ولم يكن أبدًا، دون حربٍ في قلوب طغاته، بيدَ أني
لم أتركه الآن في قتالٍ سافر.
٢٦
(٤٠) ورافنا قائمةٌ كما كانت منذ سنواتٍ كثيرة،
٢٧ ويجثم فوقها نسر بولنتا،
٢٨ بحيث يغطي تشيرفيا بجناحيه.
٢٩
(٤٣) والمدينة
٣٠ التي قاست قبلُ تجربةً طويلة،
٣١ وجعلت من الفرنسيين أكداسًا دامية، تجد نفسها بعدُ تحت المخالب الخضراء.
٣٢
(٤٦) ودرواسا فيروكيو، العجوز والشاب،
٣٣ اللذان وضعا مونتانيا في حالٍ سيئة،
٣٤ هناك حيث اعتادا، يجعلان من الأسنان مثقبًا.
٣٥
(٤٩) ويحكم مدينتَي لاموني وسانتيرنو،
٣٦ الشبل ذو العرين الأبيض،
٣٧ الذي يغير حزبه من الصيف إلى الشتاء.
٣٨
(٥٢) وتلك المدينة التي يبلل جانبها السافيو،
٣٩ كما هي تقع بين السهل والجبل، كذلك تعيش بين الطغيان والحرية.
٤٠
(٥٥) والآن أرجو أن تخبرنا من أنت،
٤١ ولا تكن أقسى مما كان عليه غيرك،
٤٢ وليحفظ اسمك في الأرض صداه.»
٤٣
(٥٨) وبعد أن زمجرت النار على أسلوبها قليلًا، خفق طرفها المدبب من ناحية لأخرى،
ثم أرسلت هذه الأنفاس:
٤٤
(٦١) «لو أني اعتقدت أن إجابتي كانت لشخص سيعود إلى الدنيا أبدًا،
٤٥ لبقيت هذه الشعلة دون أن تحرك ساكنًا،
(٦٤) ولكن لما لم يكن قد رجع أبدًا من هذا العمق إنسان حي، إذا صح ما أسمع، فإني
أجيبك دون أن أخشى سوء السمعة.
٤٦
(٦٧) كنت من رجال الحرب، ثم أصبحت راهبًا كرديليًّا، معتقدًا أني أُكفِّر عن
خطيئتي وقد تمنطقت هكذا،
٤٧ ومن المؤكد أن اعتقادي كان سيتحقق،
(٧٠) لولا القسيس الأعظم،
٤٨ فليُصِبه الشر! فهو الذي أعادني إلى آثامي الأولى، وأرجو أن تسمع مني
كيف ولماذا.
(٧٣) بينما كنت صورة من عظم ولحم، كما منحتني إياها أمي، لم تكن أعمالي أعمال
أسد، بل ثعلب.
٤٩
(٧٦) كلَّ الحيل والطرق الخفية عرفتُ، وهكذا استخدمتُ فنونها، حتى خرج صداها إلى
أطراف الأرض.
٥٠
(٧٩) وحينما رأيت أني بلغت تلك الفترة من عمري، التي ينبغي على كل إنسانٍ أن يخفض
فيها أشرعته، ويجمع حباله،
٥١
(٨٢) وأن ما كان من قبلُ يسرني أصبح حينئذٍ يحزنني؛ جعلت نفسي راهبًا وأنا نادمٌ
معترفٌ بالإثم، ويا بؤسًا لي! كان ينبغي أن ينفعني هذا!
(٨٥) إن أمير الفريسيين الجدد،
٥٢ وقد أعلن الحرب على مقربة من لاتيرانو،
٥٣ لا على العرب ولا على اليهود،
٥٤
(٨٨) لأن كل عدوٍّ له كان مسيحيًّا، ولم يذهب أحدهم لفتح عكا،
٥٥ ولم يتجر في بلاد السلطان؛
٥٦
(٩١) إنه لم يُراعِ في شخصه المركز الرفيع
٥٧ والنُّظم المقدسة، ولا في شخصي ذلك الحبل،
٥٨ الذي اعتاد أن يجعل مَن تمنطقوا به أنحف جسمًا.
٥٩
(٩٤) ولكن كما بحث قسطنطين عن سلفسترو
٦٠ في داخل جبل سيراتي،
٦١ ليشفيه من البرص، كذلك دعاني هذا طبيبًا،
(٩٧) لكي أشفيه من حمى كبريائه،
٦٢ وسألني الرأي فلزمت الصمت؛ لأن كلماته بدت لي سَكرى.
(١٠٠) ثم استأنف القول: «لا يأخذنَّ قلبَك الشكُّ، إني أخلِّصك من الآن،
ولتعلِّمني ماذا أفعل لكي أُلقي ببينسترينو إلى الأرض.
٦٣
(١٠٢) إني مستطيع أن أفتح السماء وأغلقها؛ ولذلك فالمفتاحان اللذان لم يكونا
عزيزين لدى سلفي هما اثنان.»
٦٤
(١٠٦) وحينئذٍ دفعتني الكلمات الخطيرة، إلى حيث بدا لي أن الصمت أسوأ،
٦٥ فقلت: «أبتاه»، ما دمت تُطهِّرني
(١٠٩) من تلك الخطيئة، التي عليَّ الآن أن أقع فيها، فإن الوعد العريض مع الوفاء
القليل، سيجعلك مظفَّرًا فوق الكرسي الرفيع.»
٦٦
(١١٢) ثم جاءني القديس فرنتشسكو عند موتي، ولكن قال له أحد الشياطين السود:
٦٧ «لا تأخذه، ولا ترتكب معي خطأً.
٦٨
(١١٥) إنه ينبغي أن يهبط إلى أسفل بين مساكيني؛
٦٩ لأنه بذل خادع الرأي، ومنذ ذلك الوقت وأنا ممسكٌ به من شعره؛
(١١٨) لأنه لا يمكن غفران ذنوب من لا يندم، ولا الجمع بين التوبة وإرادة الشر،
للتعارض الذي لا يبيح ذلك.»
(١٢١) وا بؤسًا لي! كيف تولاني الرعب، حينما أمسك بي وهو يقول: «ربما، لم تفكر
أني كنت من أهل المنطق!»
٧٠
(١٢٤) ثم حملني إلى مينوس، ولفَّف ذَنَبه ثماني مراتٍ حول ظهره المتصلِّب، وبعد
أن عضَّه وهو في شدة الغضب،
٧١
(١٢٧) قال: «هذا من الآثمين في النار السارقة»؛
٧٢ ولذلك فإني مفقود حيث تراني، وفي هذا الرداء أتألم وأنا أسير.»
٧٣
(١٣٠) وحينما أنهى كلامه هكذا، ارتحلتْ شعلة النار وهي تتألم، وتتمايل وتهز قرنها المدبب.
٧٤
(١٣٣) مضينا إلى الأمام أنا ودليلي، فوق الصخر إلى أعلى حتى الجسر الآخر، الذي
يغطي خندقًا
٧٥ يؤدَّى فيه الحساب،
(١٣٦) لأولئك الذين يزرعون الفتن، فيحصدون الأوزار.
٧٦