اغرورقت عينا دانتي بالدمع حزنًا على الهالكين في الأنشودة السابقة، حتى آثر البقاء
للبكاء عليهم، وحاول فرجيليو أن يهدئ من روعه، ويحمله على متابعة السير، لطول الطريق،
وقد
تأخر الوقت، وعليه أن يرى أشياء أخرى كثيرة. دانتي يبرر بكاءه ورغبته في التوقف بأنه
شهد
روحًا من دمه تبكي خطيئتها، وكانت روح جيري دل بلُّو، وهو من أقربائه الذين أثاروا
الدسائس،
وأحس دانتي بالعطف عليه؛ لأنه قُتل دون أن ينتقم أحد لمقتله. وتقدم الشاعران، فأصابت
دانتي
صرخات عجيبة، كأنها سهام والأسى حديدها، فغطى أذنيه بالكفين. وقال إن مرضى الصيف في
وادي
كيانا وماريما وسردينيا لم يزد عذابهم عما شهده في الوادي العاشر من الحلقة الثامنة.
كان
هؤلاء هم مزيِّفي المعادن بالسيمياء والسحر، ورآهم دانتي في أوضاع مختلفة، فاستلقى
هذا على
بطنه، وزحف بعضهم على أربعة، وأصابهم الجرب والبرص والشلل، جزاء ما ارتكبوا من غش
وخداع.
ورأى اثنين متساندين وهما يحكَّان بعنف قروحهما الأليمة. حادثهما فرجيليو وسأل أحدهما
هل
يوجَد هنا واحد من اللاتين، فاعترفا بأنهما منهم، وقال فرجيليو إنه جاء لكي يقود إنسانًا
حيًّا من هاوية لأخرى، لكي يُظهِره على الجحيم، فتولاهما وسائرَ المعذبين الدهشةُ
والرهبة.
وسألهما دانتي عن شخصيهما. كان أحدهما جريفولينو داريتزو، وكان الآخر كابوكيو دا سينيا،
وقد
أُحرقا لممارستهما أعمال السحر والكيمياء. انتهز دانتي هذه الفرصة فتكلم في تهكم وسخرية
عن
شعب سيينا، الذي اشتهر بالبذخ والزهو والخيلاء.
(١) الحشد الكبير والجروح العجيبة، بلَّلت عيني كثيرًا، حتى أصبحتا راغبتين في
البقاء لكي تبكيا،
٢
(٤) ولكن فرجيليو قال لي: «ما هذا الذي تنظر؟ لماذا يبقى بصرك محملقًا هناك في
أسفل، بين الأشباح البائسة الممزقة؟
(٧) إنك لم تفعل كذلك في الأودية الأخرى،
٣ واعلم، إذا فكرت أن تحصيها، أن الوادي يدور اثنين وعشرين ميلًا.
٤
(١٠) وها قد أصبح القمر تحت أقدامنا،
٥ وقليلٌ الآن ما مُنحناه من الوقت، وعليك أن ترى أشياء أخرى لم ترها بعد.»
٦
(١٣) عندئذٍ أجبته: «إذا فهمت السبب الذي نظرتُ من أجله، فربما كنت منحتني من
البقاء مزيدًا.»
٧
(١٦) وبينما كان دليلي يسير، ومضيت أنا من ورائه، كنت أقدم له الجواب، وأضيف:
«بداخل ذلك الكهف،
(١٩) الذي أنعمت الآن فيه النظر هكذا، أعتقد أن روحًا من دمي تبكي خطيئةً، تكلفها
كثيرًا هناك في أسفل.»
٨
(٢٢) حينئذٍ قال أستاذي: «لا تُجهد فكرك من الآن بشأنه، وانتبه إلى شيءٍ غيره،
وليظل هو باقيًا هناك؛
٩
(٢٥) فإني قد رأيته عند أسفل الجسر الصغير، وهو يشير إليك ويتهددك في عنف بأصبعه،
وسمعت مَن يسميه جيري دل بلو.
١٠
(٢٨) وقد كنتَ وقتئذٍ مشغول الخاطر تمامًا، بمن حكم القلعة العالية،
١١ حتى إنك لم تنظر هناك، وهكذا ارتحل.»
(٣١) فقلت: «يا دليلي، إن موته القاسي، الذي لم ينتقم له بعدُ أحدٌ ممن كان في
العار رفيقه،
(٣٤) جعله يشعر بالخزي؛
١٢ ولذلك ذهب دون أن يكلمني، كما أظن، وبهذا جعلني أزداد عليه إشفاقًا.»
١٣
(٣٧) هكذا تحدثنا حتى أول موضع يظهر فيه الوادي التالي إلى قاعه من الجسر، إذا
ازداد فيه الضياء.
١٤
(٤٠) وحينما أصبحنا فوق آخر دير،
١٥ في «الماليبولجي»، حتى أمكن أن يبدو لأنظارنا رجاله،
١٦
(٤٣) رمتني صرخاتٌ عجيبةٌ بسهامٍ كان الأسى حديدها، وعندئذٍ غطيت الأذنين بالكفين.
١٧
(٤٩) وكالألم الذي يوجَد إذا أمست الأمراض بين يوليو وسبتمبر — في مارستانات وادي كيانا،
١٨ وفي ماريما وسردينيا
١٩ —
(٤٩) مجتمعةً كلها معًا في خندقٍ واحد، كان الأمر هنا كذلك، وخرجتْ منه ريحٌ
كريهةٌ، كالتي اعتادت أن تنبعث من الأعضاء العفنة.
(٥٢) ونزلنا فوق آخر شاطئٍ من الجسر الطويل،
٢٠ إلى اليسار دوامًا، وحينئذٍ صار نظري أشد قوة،
٢١
(٥٥) صوب القاع في أسفل، حيث العدالة المنزهة، يد السيد الأعلى، تعاقب المزيفين
الذين تسجلهم ها هنا.
٢٢
(٥٨) لا أعتقد أنه هناك بؤسٌ أشد — حينما أرى في إيجينا كل الشعب صريع المرض، وقد
امتلأ الهواء هكذا بالوخم،
٢٣
(٦١) حتى سقط كل حيوان إلى صغار الدود، وبعد، كما يؤكد الشعراء،
٢٤ بُعث الأقدمون إلى الحياة
(٦٤) من بيض النمل
٢٥ — مما كان عليَّ
٢٦ أن أراه في ذلك الوادي المظلم، من أرواحٍ تتعذب في أكوامٍ
عجيبة،
(٦٧) استلقى هذا فوق بطنه، واستند ذاك بكتفيه إلى الآخر، وزحف بعضٌ على أربعة في
الطريق الرهيب.
٢٧
(٧٠) سرنا خطوة خطوة دون كلام، ونحن ننظر ونُصغي إلى المرضى،
٢٨ الذين لم يقوَوا على رفع أجسادهم.
٢٩
(٧٣) ورأيت اثنين جالسين، مستندًا أحدهما إلى الآخر،
٣٠ كما يُسنَد وعاءٌ إلى وعاء للتسخين،
٣١ وتَرقَّش جسداهما بالقشور من الرأس إلى القدم.
(٧٦) لم أرَ أبدًا سرجًا يحمله فتًى، وسيده في انتظاره، ولا من يبقى يقظان وهو
غير راغبٍ،
٣٢
(٧٩) كما انهال كلٌّ منهما على نفسه بعضِّ الأظافر، لِما تولاهما من حرقة
الأكلان، ولم يكن لهما من عون سواه،
٣٣
(٨٢) هكذا أسقطت أظفارهما القشر، كما تفعل السكين بزعانف الشلبة،
٣٤ أو بأسماك أخرى ذات زعانف أكبر.
(٨٥) بدأ دليلي يخاطب أحدهما: «أنت يا من تنزع قشورك بالأصابع، وتجعل منها كلبتين أحيانًا،
٣٥
(٨٨) قل لنا أيوجَد لاتينيٌّ
٣٦ بين هؤلاء الذين هم هنا في الداخل، ألا فلتَكفِك الأظفار إلى الأبد في
هذا العمل.»
٣٧
(٩١) فأجاب أحدهما وهو يبكي: «إننا من اللاتين، يا من ترانا نحن الاثنين مشوهين
هنا هكذا، ولكن مَن أنت يا مَن تستفسر عنا؟»
(٩٤) قال دليلي: «إنني روح أهبط مع هذا الإنسان الحي، من إفريزٍ إلى إفريزٍ،
وقصدي أن أُظهِره على الجحيم.»
٣٨
(٩٧) حينئذٍ انفصل المسند المزدوج، واتجه كلٌّ منهما نحوي وهو خائفٌ،
٣٩ ومعهما آخرون، سمعوه برجع الصدى.
(١٠٠) واتجه إليَّ الأستاذ الطيب بكلِّيته، وهو يقول: «قل لهما ما تريد»، فبدأت
الكلام وفقًا لِما رغب:
(١٠٣) «ألا لا تزولنَّ ذكراكما في العالم الأول
٤٠ من عقول البشر، ولكن لكي تعيشا تحت شموسٍ كثيرة،
٤١
(١٠٦) خبِّراني مَن أنتما ومن أي قوم، لا تدعا منظركما المشوه وعذابكما الأليم يخيفكما،
٤٢ فلا تفصحان لي عن شخصيكما.»
(١٠٩) فأجاب أحدهما: «قد كنت من أريتزو، ووضعني ألبرتو دا سينيا في النار،
٤٣ ولكن ما مت من أجله لا يأتي بي هنا.
٤٤
(١١٢) وفي الحق أني قلت له مازحًا: «إني عارفٌ كيف أرفع نفسي في الهواء طائرًا»،
وذاك الذي كان ذا فضول وفهم قليل،
(١١٥) أرادني أن أُظهِره على هذا الفن،
٤٥ ولمجرد أني لم أصنع منه ديدالوس،
٤٦ جعل من كان له ابنًا يحرقني بالنار.
(١١٨) ولكن إلى آخر خندق من العشرة، ومن أجل الكيمياء،
٤٧ التي مارستها في الدنيا، قضى بإرسالي مينوس،
٤٨ الذي ليس له أن يخطئ.»
٤٩
(١٢١) فقلت للشاعر: «هل وُجد أبدًا قوم مزهوُّون هكذا كشعب سيينا؟
٥٠ في الحق لم يبلغ الفرنسيون ذلك الشأو!»
٥١
(١٢٤) حينئذٍ أجاب قولي الأبرص الآخر
٥٢ الذي سمعني: «فيما عدا استريكا
٥٣ الذي عرف كيف يعتدل في النفقات،
٥٤
(١٢٧) ونيقولا،
٥٥ الذي كشف أولًا عادة القرنفل الباهظة الثمن،
٥٦ في الحديقة
٥٧ حيث تتخذ جذورها مثل هذه الحبات،
(١٣٠) وفيما سوى الجماعة التي أضاع كاتشا دا شانو
٥٨ من أجلها الكرم والغابة الكبيرة، وأظهر الأبالياتو
٥٩ ذكاءه.
٦٠
(١٣٣) ولكن كي تعرف من الذي يسندك هكذا تجاه شعب سيينا، أَنعِم فيَّ النظر، حتى
يُحسِن وجهي إجابتك،
(١٣٦) وبهذا سترى أني شبح كابوكيو،
٦١ الذي زيَّف المعادن بالكيمياء، وعليك أن تذكر، إذا كنت أُحسِن النظر إليك،
٦٢
(١٣٩) كيف كانت لي طبيعة القرد تمامًا.»
٦٣