يذكر دانتي بعض مظاهر العنف في الميتولوجيا اليونانية، كما حدث من أتاماس لابنه، وكما
وقع
لهيكوبا حينما رأت ابنتها وابنها صريعين، ويقول إن هذا لا يداني في العنف والقسوة
ما شهده
في هذا الوادي الرهيب. رأى دانتي شبحين عاريين ينهشان بعنف كل مَن حولهما مثل خنزير
جائع
انطلق من حظيرته. كان أحدهما شبح ميرا الفاجرة التي عشقت أباها، متجاوزة في ذلك كل
شريعة،
وذهبت لكي تأثم معه بعد أن تنكرت في صورة غيرها من النساء، كما جاء في الميتولوجيا
اليونانية. وكان الآخر شبح جاني اسكيكي، المواطن الفلورنسي الذي تنكر في صورة بووزو
دوناتي،
وأملى وصية زائفة لمصلحة سيمون دوناتي ولمصلحته هو، فكسب فرسًا تُسمَّى ملكة القطيع.
ورأى
دانتي معذبًا مريضًا بالاستسقاء منتفخ البطن، أحس بالعطش الشديد كالمصاب بالحمى، وكان
ذلك
هو أدامو دا بريشا، الذي زيف عُملة فلورنسا الذهبية، وقد تذكر تلال كازنتينو الخضراء
بنُهيراتها التي تهبط إلى الأرنو، فزاده ذلك عطشًا، وكان يرجو أن يسير للبحث عمن حرضوه
على
تزييف العملة هنا، ولكن مرضه يمنعه عن الحركة. شهد دانتي زوجة فرعون مصر التي اتهمت
يوسف
باطلًا بمحاولة اغتصابها عندما لم يستجب لإغرائها. ورأى سينون إغريقي طروادة الكذوب،
صاحب
خدعة الحصان الخشبي في حرب طروادة. واستمع دانتي إلى عراك سينون وأدامو وتضاربهما،
وتعيير
أحدهما الآخر بما ارتكبه من الإثم. وظل دانتي مصغيًا إليهما بانتباه، حتى أظهر له
فرجيليو
الغضب لطول توقفه، فأحس بالخجل الشديد، وأراد الاعتذار لأستاذه، ولكنه عجز عن الكلام،
وكان
صمته خير اعتذار، فطمأنه فرجيليو وطيب خاطره.
(١) في الوقت الذي كانت فيه يونون
٢ ثائرة على الدم الطيبي، من أجل سيميلي،
٣ كما هي أظهرت ذلك غير مرة؛
٤
(٤) جُن جنون أتاماس،
٥ حتى إنه عندما رأى زوجته تسير بطفلين، وقد حملت واحدًا في كلٍّ من
اليدين،
(٧) صاح: «فلنحل الشباك، لكي أمسك في الطريق باللبؤة والشبلين»، ثم مد مخلبيه
القاسيين،
(١٠) وأخذ الطفل المسمَّى ليركوس
٦ وأداره، وحطمه على صخرة، فأغرقت هي نفسها بحملها الثاني.
٧
(١٣) وحينما هوى الحظ إلى الحضيض بكبرياء الطرواديين، الذي اجترأ على كل شيء،
٨ حتى هلك الملك مع المملكة،
٩
(١٦) وهيكوبا الحزينة البائسة الأسيرة،
١٠ بعد أن رأت بوليكسين صريعة،
١١ وكشفت الوالهة عن جدث ابنها
(١٩) بوليدورس
١٢ على شاطئ البحر، نبحت كالكلب، وهي طائرة اللب؛ إذ كان الألم قد أفقدها
الصواب.
(٢٢) ولكن لم تُر أبدًا ربات الانتقام في طيبة ولا في طروادة، بمثل هذه القسوة
على أحد، لا عند نهش الوحوش أو حتى أعضاء البشر،
(٢٥) كما رأيت في شبحين عاريين شاحبَي اللون،
١٣ جريا ينهشان، كما يفعل الخنزير، حينما ينطلق من الحظيرة.
١٤
(٢٨) جاء أحدهما إلى كابوكيو، وأنشب نابيه في عقدة عنقه، حتى إنه وهو يجره، جعل
الأرض الصلدة تَسحَج بطنه.
(٣١) والأريتزوي
١٥ الذي ظل يرتجف، قال لي: «ذلك المسعور هو جاني اسكيكي،
١٦ إنه يمضي غاضبًا وهو ينهش الآخرين هكذا.»
(٣٤) فقلت له: «أواه، لعل الآخر لا يُنشِب أسنانه فيك، ولعله لا يضيرك أن تخبرنا
من هو، قبل أن يبتعد من هنا.»
(٣٧) قال لي: «تلك هي الروح القديمة لميرا الفاجرة،
١٧ التي أصبحت لأبيها عاشقة، متجاوزة كل حبٍّ شرعي.
(٤٠) إنها جاءت هكذا لكي تأثم معه، وقد زيفت نفسها في صورة غيرها، كما حرص الآخر
الذي يذهب هناك
(٤٣) على أن يتنكر في صورة بووزو دوناتي،
١٨ وكتب وصية أعطاها مظهر الحق؛ لكي يكسب ملكة القطيع.»
١٩
(٤٦) وبعد أن مضى الغاضبان، اللذان كنت قد أنعمت النظر فيهما، أدرتُ عيني لكي أرى
سائر الملعونين.
٢٠
(٤٩) ورأيت واحدًا كان يُبدي صورة الطنبور
٢١ لو كان حِقوه مفصولًا عما هو عند الإنسان مشقوق.
٢٢
(٥٢) الاستسقاء الثقيل — الذي يجعل الأعضاء غير متناسقة بسائل لا يمتصه الجسم،
حتى يصبح الوجه غير متناسب مع البطن
٢٣ —
(٥٥) جعله يُبقي شفتيه مفتوحتين، كما يفعل المحموم، الذي يدير إحداهما إلى الذقن
والأخرى إلى أعلى، بفعل العطش.
٢٤
(٥٨) قال لنا: «أنتما يا مَن تبقيان بغير عذاب في العالم الأغبر، ولست أعرف السبب،
٢٥ انظرا وتأملا
(٦١) في بؤس السيد أدامو،
٢٦ لقد نلت وأنا حيٌّ كثيرًا مما رغبت، والآن، وا أسفاه! أشتهي قطرة
ماء!
(٦٤) النُّهيرات التي تهبط إلى الأرنو، من تلال كازينتينو الخضراء، جاعلة قنواتها
باردة ندية،
٢٧
(٦٧) تبدو أمامي أبدًا، وليس هذا بغير طائل؛ لأن صورة مجاريها تشعرني بجفاف، يفوق
السقام الذي ينزع عن وجهي اللحم.
٢٨
(٧٠) والعدالة الصارمة التي تلاحقني، تتخذ من الموضع الذي ارتكبت فيه الخطيئة،
سبيلًا للمزيد في إطلاق زفراتي.
(٧٣) هناك رومينا،
٢٩ حيث زيفتُ سبيكة مختومة بصورة المعمدان،
٣٠ ومن أجلها تركت جسمي يحترق في أعلى.
(٧٦) ولكني لو رأيت هنا الروح البائسة، لجويدو أو إسكندر أو أخيهما،
٣١ لما وجهت النظر إلى نبع براندا.
٣٢
(٧٩) هناك واحدةٌ منها في الداخل، إذا صدقَت الأشباح الغاضبة التي تدور من حولنا،
ولكن ما يفيدني هذا وقد قُيِّدت أعضائي؟
(٨٢) ولو كنت حقًّا لا أزال خفيفًا، فأقدر على التقدم في مائة عام بوصةً واحدة،
لكنت قد وضعت نفسي في الطريق،
٣٣
(٨٥) باحثًا عنها بين هؤلاء القوم المشوهين، مع أنه يدور أحد عشر ميلًا، ولا يقل
عرضه عن نصف ميل.
٣٤
(٨٨) بسببهم أصبحتُ بين مثل هذه الأسرة،
٣٥ إنهم حملوني على أن أضرب الفلورينات
٣٦ التي تحوي ثلاثة قراريط من زائف المعدن.»
(٩١) فقلت له: «مَن الخسيسان اللذان يُصعِّدان دخانًا كيدين ابتلَّتا في الشتاء،
٣٧ وقد استلقيا متلاصقين إلى حدود يمينك؟»
٣٨
(٩٤) أجابني: «هنا وجدتهما، حينما هبطت إلى هذه الهاوية،
٣٩ ولم يتحركا بعد، ولا أعتقد أنهما سيتحركان إلى الأبد.
(٩٧) فواحدةٌ هي الزائفة التي اتهمت يوسف،
٤٠ والآخر هو إغريقي طروادة سينون الكذوب،
٤١ إنهما يطلقان بوطأة الحمى دخانًا كثيرًا.»
(١٠٠) وأحدهما،
٤٢ الذي ربما أزعجه أن يُدعى بمثل هذا السوء، ضرب بقبضة اليد بطنه المتيبِّس.
٤٣
(١٠٣) ودوَّى هذا كأنه طبلة، وضربه السيد أدامو على الوجه بذراعه التي لم تبدُ
أقل صلابة،
(١٠٦) وهو يقول له: «إني وإن كنت مُنعت عن الحركة بالطرفين الثقيلين، فلي ذراعٌ
طليقةٌ لمثل هذه المهمة.»
(١٠٩) عندئذٍ أجاب:
٤٤ «حينما كنت ذاهبًا إلى النار، لم تكن ذراعك بهذا التأهب، ولكنها كانت
كذلك، بل أكثر، عندما قمت بالتزييف.»
٤٥
(١١٢) قال مريض الاستسقاء:
٤٦ «أنت في هذا تنطق بالحق، ولكنك لم تكن شاهد عدل، حينما سُئلت هناك في
طروادة عن الصدق.»
(١١٥) قال سينون: «إذا كنتُ قد قلت زيفًا، فإنك زيَّفت المال، وأنا هنا لخطيئة
واحدة، وأنت لأكثر مما فعل كل شيطان!»
(١١٨) أجاب ذلك الذي كان منتفخ البطن: «فلتذكر الجواد يا مَن حنثت بالقسم،
٤٧ وليكن عذابك أن كل العالم يعرف ذلك.»
(١٢١) قال الإغريقي:
٤٨ «وليكن عذابك في عطش يشقِّق لسانك، وماءٍ كريهٍ، يجعل بطنك هكذا حجابًا
أمام عينيك!»
٤٩
(١٢٤) قال عندئذٍ مزيِّف النقد: «هكذا يُفغَر فوك لقول السوء كالعادة؛ لأني إذا
كنت عطشًا وممتلئًا بسائلٍ خبيث،
(١٢٧) فأنت محمومٌ ويوجعك رأسك، ولكي تلعق مرآة نارسيس،
٥٠ لست محتاجًا أن تُدعى بكلمات كثيرة.»
(١٣٠) كنت منتبهًا تمامًا للاستماع إليهما، حينما قال لي أستاذي: «الآن امضِ في
النظر! فلم يبقَ إلا قليل حتى أشتبك معك.»
٥١
(١٣٣) ولما سمعته يكلمني في غضب، اتجهت إليه وقد تولاني من الخجل ما لا يزال يدور
في خاطري.
(١٣٦) وكمَن يحلم بخطر يصيبه، وفي حلمه يرجو أن يكون حالمًا، ويرغب أن يصبح ما هو
واقع كأنه لم يقع؛
٥٢
(١٣٩) هكذا أصبحت راغبًا في الاعتذار،
٥٣ وأنا عاجزٌ عن الكلام، ولكني اعتذرت، ولم أعتقد أني فعلت ذلك.
٥٤
(١٤٢) قال أستاذي: «إن أقل من خجلك يمحو خطيئة أكبر مما لم يكن مثلها ذنبك، ولذلك
أبعد عن نفسك كل أسف،
٥٥
(١٤٥) واذكر أني سأكون دائمًا إلى جانبك، إذا حدث بعدُ أنْ ساقك القدر إلى موضع،
به قومٌ في عراك مماثل،
(١٤٨) فإن رغبتك أن تسمعه رغبةٌ وضيعة.»
٥٦