قارن دانتي بين ما لقيه من لسان فرجيليو من جرح ودواء، وبين ما كان من رمح أخيه وأبيه
من
جرح وبلسم. وتقدم الشاعران قاصدَين منطقة الحلقة التاسعة. كان الوقت بين الليل والنهار،
فلم
تكن الرؤية واضحة، وظن أنه رأى أبراجًا عالية، ولكن فرجيليو أوضح له أن ما رآه ليس
أبراجًا،
ولكن جماعة من المردة، وقفوا حول شاطئ البئر. وتبين دانتي أجسامهم عند اقترابه منهم،
فزايله
الخطأ، ولكن زادت مخاوفه. رأى دانتي أحدهم، وكان ذا حجم ضخم من الرأس إلى سرة البطن،
وقد
أحسنت الطبيعة صنعًا عندما وقفت عن خلق مثل هذه الكائنات. كان ذلك نمرود، ملك بابل،
الذي
أخذ يصرخ بفمه المتوحش، ويهذي بكلام غير مفهوم، عند رؤية الشاعرين، وعمل فرجيليو على
إسكاته، وأشار على دانتي بأن يدعه وشأنه لأنه لا جدوى في التحدث إليه. ووصل الشاعران
إلى
إفيالتس، المارد الذي ثار على جوبيتر، وهو يُعاقَب هنا بتقييده بالأغلال. غضب إفيالتس
عندما
سمع فرجيليو يقول إن برياروس أقسى المردة وأشدهم وحشيةً، فاهتز كزلزال عنيف، وخشي
دانتي
الموت كما لم يخشه أبدًا. وصل الشاعران إلى المارد أنتيوس، الذي لم يثر على الآلهة؛
ولذلك
فهو يتكلم بغير قيود. سأله فرجيليو أن يحملهما إلى الحلقة التاسعة؛ لأن دانتي الذي
ينتظر
حياة طويلة سوف يُكسِبه الشهرة في الأرض. حملهما المارد بيديه، وقد أصبحا كأنهما حزمة
واحدة، وبدا المارد لدانتي وهو ينحني كبرج كاريزيندا، ووضعهما برفقٍ في حلقة يهوذا،
ثم
ارتفع كسارية في سفينة.
(١) هذا اللسان نفسه جرحني من قبل مرة، حتى علت حمرة الخجل كلا الخدين، ثم قدم لي الدواء،
٢
(٤) وهكذا سمعت أن رمح أخيل وأبيه اعتاد أن يكون مصدر الحزن أولًا، وهبة طيبة بعد.
٣
(٧) أولَينا ظهرَينا للوادي البائس،
٤ فوق الشاطئ الذي يحيط من حوله،
٥ ونحن نعبره دون كلام.
(١٠) كان الوقت هنا أقل من ليل وأدنى من نهار، فامتد بصري إلى الأمام قليلًا،
ولكني سمعت بوقًا عاليًا يدوِّي،
(١٣) حتى ليجعل كل رعدٍ بإزائه خافت الصوت، وقد وجَّه كلتا عينيَّ إلى موضعٍ
واحد، وهما تتبعان طريقه المقابل.
(١٦) بعد الهزيمة الأليمة،
٦ حينما فقد شارلمان جيشه المقدس،
٧ لم ينفخ أورلاندو بمثل هذا العنف.
٨
(١٩) وما إن اتجهتُ برأسي هناك قليلًا، حتى بدا لي أني أرى أبراجًا كثيرة عالية،
٩ فقلت: «أستاذي، خبِّرني، أية مدينة هذه؟»
١٠
(٢٢) فأجابني: «لأنك تنظر خلال الظلمات من بُعد شاسع، يحدث بعدُ أن تخطئ التصور،
١١
(٢٥) وسترى جليًّا، إذا وصلت هناك، كيف تُخدَع الحواس من بعيد؛ ولذلك فلتدفع نفسك
إلى الأمام قليلًا.»
١٢
(٢٨) ثم أخذني بيده بكل إعزاز، وقال: «قبل أن نمضي في سيرنا، وحتى يبدو لك الأمر
أقل غرابة،
١٣
(٣١) اعلم أنها ليست أبراجًا، ولكن مَرَدة، وهم جميعًا في البئر حول الشاطئ، من
سرة البطن إلى أسفل.»
(٣٤) وكما يحدث عندما ينقشع الضباب، فتتبيَّن العينُ قليلًا قليلًا ما يُخفيه
البخار الذي يكثِّفه الهواء؛
١٤
(٣٧) هكذا بينما كنا نخترق الهواء المظلم الكثيف، ونحن نقترب رويدًا رويدًا من
الشاطئ، زايلني الخطأ، وزاد عندي الخوف،
١٥
(٤٠) فإنه كما فوق الحلقة الدائرية، تُتوِّج مونتيريدجوني نفسها بالأبراج،
١٦ كذلك على الشاطئ الذي يحيط بالبئر،
(٤٣) وقف، كالأبراج بنصف أجسامهم، المردة المرعبون الذين لا يزال جوبيتر يهدد بهم
من السماء، حينما يُرعد.
١٧
(٤٦) وكنت قد تبينتُ وجه أحدهم،
١٨ والكتفين والصدر وجزءًا كبيرًا من البطن، وعلى الجانبين تدلت كلتا الذراعين.
١٩
(٤٩) وفي الحق أن الطبيعة حينما أقلعت عن فنٍّ يصنع مثل هذه الكائنات، فعلت خيرًا
كثيرًا، كي تمنع عن مارس مقاتلين مثلهم.
٢٠
(٥٢) وإذا هي لم تكن على الفيلة والحيتان نادمة، فإن مَن ينظر بإمعان، يجدها في
ذلك أعدل وأحكم؛
٢١
(٥٥) لأنه إذا انضمت أداة الفكر إلى إرادة الشر والقوة الغاشمة، فلن يقوى البشر
على مواجهتها.
٢٢
(٥٨) بدا لي وجهه ضخمًا طويلًا كصنوبر القديس بطرس في روما،
٢٣ وتناسبت معه سائر عظامه،
٢٤
(٦١) حتى إن الشاطئ الذي كان له مئزرًا، من وسطه إلى أسفل، أظهر جزءًا كبيرًا من
أعلاه، بحيث يبطل ادعاء ثلاثة
(٦٤) فريزيين أنهم يبلغون شعره؛
٢٥ لأني رأيت منه ثلاثين شبرًا كبيرًا،
٢٦ من الموضع الذي يربط الإنسان عنده الثوب حتى أسفل.
٢٧
(٦٧) «رافيل ماي أميخ زابي ألمي»،
٢٨ هكذا بدأ يصرخ الفم المتوحش، الذي لم يكن يليق به كلماتٌ أعذب.
(٧٠) فقال له دليلي: «أيتها الروح الحمقاء، الْزمي بوقك ولْتفرِّجي به عن نفسك،
عندما ينالك الغضب أو انفعالٌ غيره!
٢٩
(٧٣) تلمَّسي رقبتك، وستجدين الحبل الذي يقيدها، أيتها النفس المضطربة، وانظري
إلى ما يطوِّق صدرك الضخم.»
٣٠
(٧٦) ثم قال لي: «إنه يتهم نفسه بنفسه؛ هذا هو نمرود الذي كان فكره الخبيث سببًا
في ألا يتخذ العالم بعدُ لغةً واحدة.
٣١
(٧٩) فلندَعه وشأنه، ولنكفَّ عن التحدث بغير طائل؛ لأن كل لغة عنده كلغته عند
غيره، لا يفهمها أحد.»
٣٢
(٨٢) وعندئذٍ سرنا شوطًا أبعد، متجهين صوب اليسار، وعلى مرمى قوسٍ، وجدنا الآخر
أضخم كثيرًا وأشد وحشية.
(٨٥) من كان المعلم
٣٣ الذي قيده، لا أستطيع قولًا، ولكنه كان مقيدًا — وذراعه اليمنى إلى
الخلف، والأخرى إلى الأمام —
(٨٨) بسلسلةٍ ربطته من الرقبة إلى أسفل، حتى التفَّت حول جزئه المكشوف إلى خامس دورة.
٣٤
(٩١) قال دليلي: «أراد هذا المتغطرس
٣٥ أن يختبر قواه مع جوبيتر العظيم،
٣٦ وبذلك نال مثل هذا الجزاء.
(٩٤) إن اسمه إفيالتس، وقد قام بمحاولات جريئة، حينما أخافَ المردةُ الآلهةَ،
والذراعان اللتان حركهما وقتئذٍ، لا يحركهما بعدُ أبدًا.»
(٩٧) فقلت له: «أرجو، إن كان هذا أمرًا مستطاعًا، أن تنال عيناي خبرةً ببرياروس الهائل.»
٣٧
(١٠٠) أجابني عندئذٍ: «سترى قريبًا من هنا أنتيوس،
٣٨ الذي يتكلم وهو طليقٌ،
٣٩ وسيحملنا إلى أصل كل خطيئة.
(١٠٣) إن مَن ترغب في رؤيته
٤٠ بعيدٌ كل البعد ومقيَّد، وفي صورة هذا المارد، سوى أن وجهه يبدو أكثر
وحشية.»
(١٠٦) لم يحدث أبدًا أن هزَّ زلزالٌ شديدُ العنف برجًا بمثل هذه القوة، كما كان
إفيالتس سريعًا إلى هز نفسه.
٤١
(١٠٩) خشيت الموت وقتئذٍ كما لم أخشه أبدًا، ولم يكن يلزم له سوى الخوف،
٤٢ لولا أني رأيت أغلاله.
(١١٢) عندئذٍ تابعنا المسير إلى الأمام، وبلغنا أنتيوس الذي ظهر منه خارج البئر،
فيما عدا الرأس، خمس أذرعٍ كاملة.
٤٣
(١١٥) «أنت يا من أخذت ألف سبعٍ غنيمةً في الوادي المحتوم،
٤٤ ومَن أورث شيبيون المجد، حينما ولَّى
(١١٨) هانيبال ظهره مع رجاله،
٤٥ وإذا كنت اشتركت في حرب إخوتك الكبرى، فيبدو أنه لا يزال هناك من
يعتقد
(١٢١) أن أبناء الأرض كانوا سيظفرون،
٤٦ ضعنا أسفل، حيث يحبس الزمهرير مياه كوتشيتوس،
٤٧ ولا يأخذنَّك الخجل من ذلك.
(١٢٤) ولا تجعلنا نذهب إلى تيتوس
٤٨ ولا تيفون،
٤٩ يستطيع هذا الرجل أن يُعطي بعض ما يُتمنى هنا؛ ولذلك أحنِ قامتك، ولا
تلوِ شفتيك.
٥٠
(١٢٧) إنه لا يزال قادرًا على أن يُكسِبك الشهرة في الأرض؛ لأنه يعيش، وينتظر
بعدُ حياةً مديدة،
٥١ إذا لم تستدعه رحمة الله إليها قبل الأوان.»
٥٢
(١٣٠) هكذا قال أستاذي، فمدَّ هذا بسرعةٍ يديه، اللتين كان هرقل قد أحس بضغطهما
الشديد، وأخذ دليلي.
٥٣
(١٣٣) وحينما شعر فرجيليو أنه قد أُخذ، قال لي: «اقترب هنا، حتى يمكنني أن
أحملك»، ثم جعل من نفسه ومني حزمة واحدة.
٥٤
(١٣٦) وكما يبدو برج كاريزيندا
٥٥ عند النظر، تحت الجانب المائل، حينما تمر فوقه سحابة هكذا، فيميل في
الاتجاه المقابل؛
٥٦
(١٣٩) هكذا بدا لي أنتيوس، حينما وقفت أرقبه لأراه مُنحنيًا، وكانت تلك لحظة وددت
فيها لو اتخذت طريقًا آخر.
٥٧
(١٤٢) ولكنه وضعنا برفقٍ في الهاوية،
٥٨ التي تلتهم لوتشيفيرو
٥٩ مع يهوذا،
٦٠ ولم يبقَ هناك منحنيًا هكذا،
(١٤٥) بل رفع نفسه كساريةٍ في سفينة.
٦١