عندما وصل دانتي إلى الحلقة التاسعة وجد أنه قد
استعصت عليه القوافي لوصف هذه الهوة البائسة، واستنجد بربات الشعر لكي يساعدنه على
القول.
وكانت هذه منطقة دائرة قابيل حيث يُعذَّب خونة الأهل والأقارب. قال دانتي إنه أولى
بالآثمين
أن يكونوا نعاجًا أو ماعزًا. وجد دانتي نفسه وإلى جانبه فرجيليو على سطح بحيرة متجمدة،
لم
يكن مثلها الدانوب أو الدون في الشتاء. وبرز فوق الجليد رءوس الخونة مثل الضفادع،
وبدا
عليهم أمارات البؤس. رأى دانتي معذَّبَين انهمر الدمع من عيونهما وتحول إلى ثلج، فاستحال
عليهما النظر، وكانا هما إسكندر ونابليون، ابنا ألبرتو دي مانونيا، وقد قتل أحدهما
الآخر.
ثم انتقل الشاعران إلى منطقة الأنتينورا، حيث يُعذَّب خونة الوطن والمبدأ السياسي،
واصطدم
دانتي برأس أحد المعذبين الذي ظنه رسول مونتأبرتي آتيًا للانتقام منه، فتبادلا الكلام
القاسي. وحاول دانتي أن يعرف شخص ذلك الآثم، وجذبه من شعر رأسه ونزع بعضه، ولكنه ظل
يقاوم
محاولة دانتي التعرف عليه. وصاح معذب آخر ونادى ذلك الممتنع باسمه، فعرف دانتي أنه
بوكا دلي
أباتي، الذي خان قوات الجلف الفلورنسية في معركة مونتأبرتي. قال دانتي إنه سيحمل عنه
في
الدنيا أنباءً صحيحة تجلب عليه العار، فلم يعبأ بوكا بذلك، وأشار إلى بووزو دا دوفيرا،
الذي
خان الجبلين في لمبارديا، كما أشار إلى تيزاورو دي بيكيريا، الذي خان الجلف في فلورنسا.
وشهد دانتي عن بُعد رأسَي آثمَين يخرجان معًا من ثغرة واحدة وسط الجليد، وعندما اقترب
منهما
وجد أحدهما ينهش مؤخر رأس الآخر. حاول دانتي أن يعرف حقيقة الأمر من صاحب الرأس الأعلى،
واعدًا إياه بالتشهير بعدوه في الدنيا.
(١) لو كانت لي قوافٍ لاذعةٌ خشنة،
٢ تناسب الهوة البائسة، التي ارتكزَت فوقها سائر الصخور،
(٤) لوفيتُ التعبير عن عُصارة فكري، ولكن ما دمتُ لا أملكها، فلن أحمل نفسي على
القول دون رهبة؛
٣
(٧) لأنه ليس مقصدًا يؤخذ مأخذ اللهو، أن يوصف مركز العالم كله،
٤ وليس هذا للسانٍ يدعو أباه وأمه،
٥
(١٠) ولكن فلتساعد شِعري أولئك الربات،
٦ اللائي ساعدن أمفيون في إغلاق طيبة،
٧ حتى لا يختلف القول عن الواقع.
(١٢) يا مَن تجاوزتم أسوأ حُثالة خُلقت، يا من هم في الموضع الذي يصعب الكلام
عنه، كان خيرًا لكم أن تكونوا هنا نعاجًا أو معزًا.
٨
(١٦) حينما صرنا في قاع البئر المظلمة،
٩ تحت قدمَي المارد،
١٠ بل أدنى منهما كثيرًا، وكنتُ أتطلع بعدُ إلى السور العالي،
١١
(١٩) سمعت مَن يقول: «انظر كيف تسير، واحرص ألا تطأ بقدميك رأسَي الأخوين
البائسين المعذبين.»
١٢
(٢٢) عندئذٍ استدرتُ ورأيتُ أمامي وتحت القدمين بحيرة، كان لها من التجمد صورة
الزجاج لا الماء.
١٣
(٢٥) لم يصنع الدانوب في النمسا وقت الشتاء لمجراه غطاءً بهذه الكثافة، ولا الدون
هناك تحت سماء الزمهرير،
(٢٨) كما كان هنا؛
١٤ فإنه لو سقط عليه جبل تَمبِرنِك
١٥ أو بيترابيانا،
١٦ لما أحدث حتى بحافته صريرًا.
١٧
(٣١) وكما يقف الضفدع للنقيق بخيشومه خارج الماء، حينما تحلم فتاة الريف كثيرًا
بالتقاط فضلات الحصاد،
١٨
(٣٤) كان الشبحان المعذبان منغمسين في الثلج إلى الجزء الذي يبدو عليه الخجل،
١٩ وقد ازرقَّ لونها، وردَّدا بأسنانهما صفير اللقلق.
٢٠
(٣٧) كلاهما أبقى وجهه مصوَّبًا إلى أسفل،
٢١ الزمهرير من الفم،
٢٢ وأسى القلب على العينين بدا واضحًا بينهما.
٢٣
(٤٠) وحينما أجلتُ بصري حواليَّ قليلًا،
٢٤ نظرت إلى موطئ قدميَّ، فرأيت اثنين متلاصقين هكذا، حتى اختلط بينهما
شعر الرأس.
(٤٢) قلتُ: «خبِّراني مَن أنتما يا مَن تضغطان صدريكما على هذا النحو»، فمالا
بالعنقين إلى الوراء، ولما ارتفع وجهاهما نحوي،
(٤٦) تقطَّر الدمعُ على الخدود من عيونهما، التي لم يمسها البلل من قبلُ إلا في
الداخل، فجمَّده الزمهرير بينها،
٢٥ وأعاد إغلاقها.
(٤٩) لم يقرن أبدًا رباطٌ من حديدٍ قطعةَ خشب بأخرى بمثل هذا العنف، وهنا تناطحا
معًا كعنزين، وقد غلبتهما شدة الغضب.
(٥٢) وواحدٌ كان الزمهرير قد أفقده كلتا الأذنين، قال لي وهو ما يزال مطأطئ الرأس:
٢٦ «لماذا تُطيل النظر إلينا؟
(٥٥) إذا أردت أن تعرف مَن هذان الاثنان، فالوادي الذي تهبط منه مياه بيزنتزيو،
٢٧ كان لهما ولأبيهما ألبرتو.
٢٨
(٥٨) لقد خرجا من صلبٍ واحد، ويمكنك أن تبحث في دائرة قابيل كلها،
٢٩ فلن تجد شبحًا أجدر منهما أن يستقر في الجَمَد،
٣٠
(٦١) لا الذي حُطِّم صدره وظلُّه معه بضربةٍ من يد أرتو،
٣١ ولا فوكاتشا،
٣٢ ولا هذا الذي يعترضني
(٦٤) برأسه هكذا، حتى لم أعد أرى إلى الأمام مزيدًا، وكان يُدعى ساسُّول ماسكيروني،
٣٣ وإذا كنت تسكانيًّا، فإنك تعرف الآن جيدًا من كان.
(٦٧) ولكيلا تحملني أكثر على الكلام، اعلم أني كنت كاميتشون دي باتزي،
٣٤ وإني أنتظر كارلينو ليظهر عُذري.»
٣٥
(٧٠) بعدئذٍ رأيت ألف وجهٍ جعلها البرد مثل الكلاب،
٣٦ ومن ذلك يعروني الرعب، وسيعروني دائمًا من الغدران المتجمدة.
(٧٣) وبينما كنا نسير نحو الوسط، الذي يتجمَّع عنده كل ثقل،
٣٧ كنت أرتعد في الزمهرير الأبدي،
(٧٦) وهل كان ذلك برغبتي أم بتصريف القدر أم بالمصادفة، لست أدري، ولكن عند مروري
بين الرءوس، اصطدمت قدمي عنيفًا بوجه أحدهم،
٣٨
(٧٩) فصاح بي وهو يبكي:
٣٩ «لماذا تطؤني؟ إذا كنتَ لم تأتِ لتزيد في الانتقام لمونتأبرتي،
٤٠ فلِم تعذبني؟»
(٨٢) قلت: «أستاذي، انتظرني هنا الآن، حتى أخلص من شكٍّ في أمره،
٤١ ولتحملني بعدئذٍ على الإسراع كما ترغب.»
(٨٥) وقف دليلي، وقلت للذي استمر بعنفٍ يلعن:
٤٢ «مَن أنت يا مَن تسب سواك هكذا؟»
(٨٨) أجابني: «بل مَن أنت يا مَن تسير في الأنتينورا
٤٣ ضاربًا وجوه الآخرين، ولو كنتَ حيًّا لكان هذا أمرًا إدًّا.»
(٩١) فكان ردي: «إنني حيٌّ، وإذا كنتَ تطلب الشهرة، فقد يكون عزيزًا لديك، أن أضع
اسمك في أبياتي الأخرى.»
(٩٤) قال لي: «بي ظمأٌ إلى العكس؛
٤٤ فارحل عني ولا تزد في تعذيبي؛ إذ إنك لا تحسن الإغراء في هذا
المستنقع.»
(٩٧) عندئذٍ أمسكتُ به من مؤخر رأسه وقلت: «سيكون حتمًا أن تُفصح عن اسمك، أو لن
تبقى لك شعرةٌ هنا فوق.»
٤٥
(١٠٠) قال لي: «وإن نزعتَ شعري كله، فلن أخبرك مَن أنا ولن أدلَّك، ولو هويتَ على
رأسي ألف مرة.»
٤٦
(١٠٣) كان شعره في يدي ملفوفًا، وكنتُ قد نزعتُ منه أكثر من خصلة، على حين أطلق
صرخاته، وظل خفيض العينين،
(١٠٦) حينما صاح آخر:
٤٧ «ماذا بك يا بوكَّا؟
٤٨ ألا يكفيك أن تعزف بالفكين، وهل ينبغي أن تنبح؟ أيُّ شيطانٍ
ركبك؟»
(١٠٩) قلت: «لا أريدك الآن أن تتكلم أيها الخائن الخبيث؛ إذ سأحمل عنك أنباءً
صحيحة تجلب عليك العار.»
(١١٢) أجاب: «اذهب عني وتحدث بما تريد، ولكن إذا خرجتَ من هنا، فلا تسكت عن ذلك
الذي كان لسانه الآن مستعدًّا هكذا.
٤٩
(١١٥) إنه يندب هنا فضة للفرنسيين،
٥٠ ويمكنك القول إنني قد رأيت ذلك الدوفيري،
٥١ حيث يبقى الآثمون في جوٍّ رطيب.
٥٢
(١١٨) وإذا سُئلتَ عمن كان هنا سواه،
٥٣ فعندك قريبًا منك ذلك البيكِّيري،
٥٤ الذي ضربت فيورنتزا عنقه.
(١٢١) وأعتقد أن جاني دي سولدا نييري
٥٥ في موضع أبعد، ومعه جانيلوني،
٥٦ وتيبالديلو،
٥٧ الذي فتح فاينتزا وقد كانت نائمة.»
(١٢٤) وكنا قد ابتعدنا عنه،
٥٨ عندما رأيت اثنين متجمدين في ثُغرةٍ واحدة، حتى كان رأس أحدهما
٥٩ قلنسوة للآخر.
٦٠
(١٢٧) وكما يُلتهم الخبز من الجوع، هكذا أنشب الأعلى أسنانه في الآخر، حيث يلتقي
الرأس بظهر العنق،
٦١
(١٣٠) لم ينهش تيديوس صُدغَي ميناليبوس
٦٢ وهو حنِقٌ، على غير ما فعل ذلك بالجمجمة وسائر الأجزاء.
٦٣
(١٣٣) قلتُ: «أنت يا مَن تُبدي بمثل هذا العمل الوحشي الكراهية لمن تلتهمه، اذكر
لي السبب، على شرط
(١٣٦) أنك إذا كنتَ تشكو منه بحقٍّ، وعلمتُ مَن أنتما وعرفتُ خطيئته، فسأعوِّضك
بعدُ في العالم أعلى،
٦٤
(١٣٩) إذا لم يجفَّ هذا الذي أتكلم به.»
٦٥