رفع أوجولينو فمه عن رأس غريمه رودجيري عندما أدرك أن دانتي سوف يُشهِّر بعدوه في
الأرض،
وأخبره عن شخصيهما، وشرح له الدافع إلى قيامه بهذا العمل الوحشي. قال إنه وقع أسيرًا
في يد
عدوه بسبب الغدر، وإنه وُضع وأولاده في برج الجوع في بيزا، وعرف الوقت فيه بأشعة القمر،
وإنه نام فرأى حلمًا بغيضًا بدا فيه رودجيري قائدًا لحملة صيد فوق جبل سان جوليانو.
وقال
إنه عندما استيقظ من نومه سمع أولاده يبكون في نومهم ويطلبون الخبز، وسمع صوت إغلاق
باب
البرج في أسفل، فنظر إلى أولاده دون كلام. وفي اليوم التالي تبين ما يعانيه أولاده،
فعضَّ
كلتا يديه في حركة عصبية، فظنوا أنه فعل ذلك بسبب الجوع، فنهضوا وسألوه أن يأكل لحمهم!
وظل
أوجولينو يكتم مشاعره في صدره حتى لا يزيد في بؤس أبنائه الأبرياء. وفي اليوم الرابع
سأله
جادو العون، ثم سقط ميتًا، وتلاه بقية الأبناء. وبموتهم تحرر أوجولينو من قيد الأبوة
الرهيب، وسقط فوق أبنائه وأخذ يتلمَّسهم وهو أعمى، وظل يناديهم بأسمائهم يومين كاملين،
حتى
فعل به الجوع ما لم يفعله الألم. رأى دانتي أوجولينو يعود إلى نهش رأس رودجيري الخائن،
فأخذه الغضب، وصبَّ لعنته على بيزا وشعبها، وتمنى هلاكه غرقًا في نهر الأرنو. وسار
الشاعران
فوق الثلج في منطقة بطليموس حيث يُعذَّب خونة الأصدقاء والضيوف، الذين استحال عليهم
البكاء
لتجمُّد الدموع في مآقيهم، وتهبط هنا أرواح الخونة قبل موت أجسادهم في الأرض. رأى
دانتي بين
هؤلاء ألبريجو دي مانفريدي، وبرانكا دوريا الجنوي. وكان دانتي قاسيًا على ألبريجو
حينما
أخلف وعده ولم يُزل عن عينيه الثلج، ثم صب لعناته على شعب جنوا.
(١) رفع الفمَ
٢ عن الطعام الخبيث ذلك الآثمُ، وهو يمسحه في شعر الرأس الذي أفسد مؤخره نهشًا.
٣
(٤) ثم بدأ: «إنك تريد أن أُجدِّد الألم اليائس، الذي يهصر قلبي مجردُ التفكير
فيه من قبل أن أتكلم عنه.
٤
(٧) ولكن إذا كانت كلماتي بذورًا تُثمر سوءَ السمعة للخائن الذي أنهشه، فإنك سترى
الكلامَ والبكاء معًا.
٥
(١٠) أنا لا أعرف من أنت، ولا بأية طريقة أتيت هنا في أسفل،
٦ ولكنك تبدو لي في الحقيقة فلورنسيًّا، حينما أسمعك.
٧
(١٣) فلتعلم أني كنتُ الكونت أوجولينو،
٨ وهذا هو الأسقف رودجيري،
٩ وسأخبرك الآن لِم أنا له مثل هذا الجار.
١٠
(١٦) ليس ضروريًّا أن أقول
١١ إنه بتأثير أفكاره الخبيثة، إذ وضعتُ ثقتي فيه،
١٢ وقعتُ أسيرًا وقُتلت بعد،
(١٩) ولكنك ستسمع ما لا يمكن أن تكون سمعته،
١٣ أعني كيف كان موتي وحشيًّا، وستعرف ما إذا كان قد عذَّبني.
١٤
(٢٢) إن فتحةً ضيقةً
١٥ في القفص الذي يُسمَّى من أجلي برجَ الجوع،
١٦ وعلى آخرين أن يُحبسوا فيه بعد،
١٧
(٢٥) قد أظهرتْ لي من خلال منفذها أقمارًا كثيرة،
١٨ حينما نمتُ النوم البغيض،
١٩ الذي هتك لي حجاب المستقبل.
٢٠
(٢٨) وفي الحلم بدا لي هذا
٢١ رئيسًا وقائدًا، في صيد الذئب وجرائه
٢٢ فوق الجبل،
٢٣ الذي لا يستطيع أهل بيزا أن يرَوا لوكا خلاله.
٢٤
(٣١) ومع كلاب ضامرةٍ متحفزةٍ مدرَّبة،
٢٥ وضع أمامه في المقدمة آل جوالاندي، وآل سسموندي، وآل لانفرانكي.
٢٦
(٣٤) وبعد شوطٍ قصير بدا لي الأب والأبناء متعبين،
٢٧ وظهر لي أني رأيت الأنياب الحادة قد مزقت جوانبها.
٢٨
(٣٧) وحينما استيقظتُ قُبيل الفجر سمعتُ أولادي،
٢٩ الذين كانوا معي، يبكون في نومهم ويطلبون الخبز.
٣٠
(٤٠) إنك لشديد القسوة، إذا كنتَ لم تتألم بعدُ وأنت تفكر فيما وضَحَ لقلبي، وإذا
كنتَ لهذا لا تبكي، ففيمَ اعتدتَ البكاء؟
٣١
(٤٣) وكانوا قد استيقظوا، واقتربت الساعة التي اعتاد أن يقدم لنا فيها الطعام،
وكان كلٌّ منا في شكٍّ من رؤياه،
٣٢
(٤٦) وسمعت إغلاق باب البرج الرهيب في أسفل،
٣٣ وعندئذٍ نظرتُ إلى وجوه أبنائي دون أن أنطق بكلمة.
٣٤
(٤٩) ولم أبكِ، بل تحجَّرتُ هكذا في باطني،
٣٥ وبكَوا هم،
٣٦ وقال صغيري أنسلموتشو:
٣٧ «أبتاه، إنك تنظر هكذا، ماذا بك؟»
٣٨
(٥٢) ولكني لم أبكِ ولم أُجب ذلك النهار كله ولا الليل التالي، حتى بزغت على
الدنيا الشمس الجديدة.
٣٩
(٥٥) وحينما تسلل شعاعٌ قليلٌ إلى السجن الأليم، وتبينتُ في وجوهٍ أربعةٍ صورتي
ذاتها منعكسةً،
٤٠
(٥٨) عضضتُ كلتا اليدين من الألم،
٤١ وفي ظنهم أني فعلت ذلك رغبةً في الطعام، نهضوا فجأة،
٤٢
(٦١) وقالوا: «أبتاه! سيخفُّ ألمنا كثيرًا إذا طعمتَ منا، أنت كسوتنا هذا اللحم
البائس، فاخلعه عنا.»
٤٣
(٦٤) عندئذٍ هدَّأتُ نفسي كي لا أجعلهم أشد حزنًا،
٤٤ وخرسنا جميعًا ذلك اليوم وما يليه،
٤٥ أواه أيتها الأرض الصلدة، لِم لَم تنشقِّي؟!
٤٦
(٦٧) وحينما جئنا لليوم الرابع،
٤٧ رمى جادو
٤٨ نفسه عند قدميَّ قائلًا: «أبتاه، لِم لا تساعدني؟»
٤٩
(٧٠) وهناك مات، وكما أنت تراني،
٥٠ رأيت الثلاثة يسقطون واحدًا واحدًا،
٥١ بين اليوم الخامس والسادس، وحينئذٍ أخذتُ،
(٧٣) وقد صرتُ أعمى،
٥٢ أزحف فوق كل واحدٍ منهم،
٥٣ وناديتهم مدة يومين، بعد أن أصبحوا موتى،
٥٤ ثم كان الجوع أقدر من الألم.»
٥٥
(٧٦) وحينما قال هذا، وبعينين منحرفتين، أمسك الجمجمة البائسة ثانيًا بأسنانه،
التي كانت على العظم قوية، كأسنان الكلب.
٥٦
(٧٩) أواه منك يا بيزا، يا وصمةً
٥٧ في جبين شعب البلد الجميل،
٥٨ حيث تصدح اللغة الحلوة،
٥٩ ما دام جيرانك مُتباطئين في عقابك،
٦٠
(٨٢) فلتتحرك كابرايا
٦١ وجورجونا،
٦٢ ولتصنعا سدًّا في الأرنو عند المصب؛
٦٣ حتى يغرق فيك كل إنسان حي!
٦٤
(٨٥) لأنه إذا اشتهر الكونت أوجولينو بأنه خدعك في شأن القلاع،
٦٥ فما كان ينبغي أن تضعي أبناءه في مثل هذا العذاب.
٦٦
(٨٨) لقد جعلتهم حداثة السن أبرياء يا طيبة الجديدة؛
٦٧ أوجوتشوني
٦٨ وبريجاتا،
٦٩ والاثنين الآخرين
٧٠ اللذين تذكرهما أنشودتي من قبل.
(٩١) ومضينا إلى الأمام، حيث أطبق الجليد على قومٍ غيرهم، لم يتجهوا إلى أسفل،
ولكن انقلبوا كلهم.
٧١
(٩٤) بكاؤهم نفسه لم يدع للبكاء هناك سبيلًا، والألم الذي يجد عائقًا في عيونهم،
يرتد إلى الداخل ليزيدهم تعذيبًا؛
٧٢
(٩٧) إذ إن أُولى دموعهم تصنع عُقدة، تملأ محجر العينين كله، كقناعٍ من البلور
تحت الحاجب.
(١٠٠) ومع أن كل حسٍّ في وجهي قد توقف بفعل الزمهرير، كما يحدث من نبرة
القدم،
(١٠٣) بدا لي أني أشعر ببعض الريح؛ ولذا قلت: «أستاذي، هذه، مَن ذا يُحرِّكها؟
ألا يتلاشى كل بخارٍ هنا في أسفل؟»
٧٣
(١٠٦) قال لي: «ستصبح سريعًا في موضع تُعطيك فيه عينُك جواب هذا، حينما ترى
المصدر الذي يصبُّ الريح.»
٧٤
(١٠٩) وصاح بنا واحدٌ من بؤساء القشرة الباردة: «أيهاتان النفسان الشديدتا
القسوة، حتى لقد أُعطيتما آخر موضع،
٧٥
(١١٢) ارفعا عن وجهي النُّقَب الصُّلبة؛
٧٦ لكي أفرِّج قليلًا عن الألم الذي يملأ قلبي، قبل أن يعود دمعي إلى التجمُّد.»
٧٧
(١١٥) قلت له: «إذا أردتَ أن أعاونك فخبِّرني مَن أنت، وإذا لم أخلصك فلأذهبْ إلى
قاع الجليد.»
٧٨
(١١٨) أجاب عندئذٍ: «أنا الراهب ألبريجو،
٧٩ أنا صاحب الفاكهة من الحديقة الخبيثة،
٨٠ الذي آخذ هنا البلح بدل التين.»
٨١
(١٢١) قلت له: «أواه! أأنت الآن ميتٌ هنا؟»
٨٢ قال لي: «كيف يبقى جسمي أعلى فوق الأرض، ليس لي علم بذلك.
٨٣
(١٢٤) ولمنطقة بطليموس مثل هذه الميزة،
٨٤ ففي مراتٍ كثيرةٍ تهبط الروح هنا، قبل أن يدفعها أتروبوس.
٨٥
(١٢٧) ولكي تكون أكثر رغبةً في أن تُزيل عن وجهي الدموع المتجمدة، اعلم أن الروح
حينما ترتكب الخديعة،
(١٣٠) كما فعلتُ أنا، ينزع شيطانٌ منها الجسد، ويتحكم فيه بعد، حتى ينقضي كل زمانه.
٨٦
(١٣٣) وتهوي هي إلى مثل هذه الهاوية، وربما لا يزال يبدو في أعلى جسم الشبح الذي
يتجمَّد من ورائي ها هنا.
(١٣٦) ولا بد أن تعرفه إذا جئتَ الآن فحسب إلى أسفل، إنه السيد برانكا دوريا،
٨٧ وقد مضت سنواتٌ كثيرةٌ منذ أن حُبس هكذا.»
(١٣٩) قلت له: «أعتقد أنك تخدعني؛ لأن برانكا دوريا لم يمت بعد،
٨٨ وهو يأكل ويشرب وينام ويرتدي الثياب.»
٨٩
(١٤٢) قال: «هناك أعلى في خندق ماليبرانكي،
٩٠ حيث يغلي القطران الكثيف، لم يكن ميكيل زانكي
٩١ قد وصل بعد،
(١٤٥) حينما ترك هذا الرجل بدلًا منه شيطانًا في جسده وفي جسد أحد أقاربه، الذي
ارتكب وإياه الغدر.
٩٢
(١٤٨) ولكن امدد يدك إليَّ هنا الآن وافتح عينيَّ»، فلم أفتحهما له، وكان من
الكياسة أن أكون قاسيًا معه.
٩٣
(١٥١) آه لكم يا أهل جنوا! أيها الرجال الغرباء عن كل فضيلة، والحافلون بكل
رذيلة، لماذا لم تزولوا من الدنيا؟
(١٥٤) فإني قد وجدتُ واحدًا منكم
٩٤ مع أخبث روحٍ في رومانيا،
٩٥ وهو لسوء فعله يغطس الآن بروحه في كوتشيتوس،
(١٥٧) ولا يزال يبدو في أعلى حيًّا بجسمه.
٩٦