الأنشودة الرابعة والثلاثون١
رأى دانتي عن بُعد هيكلًا يشبه طاحونة تحركها الريح وسط الضباب الكثيف، وكانت هذه دائرة يهوذا حيث يُعذَّب الخائنون إلى مَن أحسنوا إليهم. اعتصم دانتي وراء دليله وقد اعتراه الخوف، وشهد المعذبين في أوضاع مختلفة، وظهروا وكأنهم أعواد قشٍّ وُضعت في زجاج شفاف. أشار فرجيليو إلى لوتشيفيرو — إبليس — وسأل دانتي أن يتذرَّع برباطة الجأش. زاد خوف دانتي حتى لم يعد حيًّا ولا ميتًا، حينما رأى لوتشيفيرو بحجمه الهائل. وكان له ثلاثة وجوه؛ الأمامي منها أحمر اللون، والأيمن أبيض، والأيسر أسود، وكان له تحت كل وجه جناحان هائلان أضخم من أشرعة البحر، وجمَّد لوتشيفيرو بحركة أجنحته مياه كوتشيتوس وحوَّلها إلى ثلج. ومضغ بأفواهه الثلاثة يهوذا وبروتس وكاسيوس، الذين ارتكبوا الخيانة. هبط فرجيليو فوق جسم لوتشيفيرو مستعينًا بشعره كأنها درجات السُّلم، وتعلق دانتي بعنقه، وخرج الشاعران من ثغرة في صخرة. بدا لدانتي أن فرجيليو قد تحوَّل من الهبوط إلى الصعود عندما رأى ساقَي لوتشيفيرو قد اتجهتا إلى أعلى. تساءل دانتي أين ذهب الثلج، وكيف انقلب لوتشيفيرو رأسًا على عقب، وكيف سارت الشمس من المساء إلى الصبح في وقت قصير. وفسر فرجيليو لدانتي ما غمض عليه، وأوضح له أنهما اجتازا مركز الأرض، وانتقلا من نصف الكرة الأعلى إلى نصفها الأدنى الذي تغطى بالماء عندما هبط لوتشيفيرو من السماء إلى الأرض، وانتقل أغلب اليابس إلى النصف الأعلى، وأصبح جزء منه جبل المطهر في النصف الأدنى، وصعد الشاعران في كهف طويل، وخرجا إلى الفضاء حيث شهدا النجوم تتألق في كبد السماء.
وعذاب الخونة عند دانتي في الجليد والزمهرير من القصيدة ٣٢ إلى ٣٤ يشبه من بعض الوجوه ما جاء في التراث الإسلامي:
ابن عربي، الفتوحات المكية (السابق الذكر)، ج١، ص٣٨٧.
الشعراني، مختصر تذكرة القرطبي (السابق الذكر)، ص٦٩.
Inf., VIII, 68; XI, 65; XII, 39.
Virg., Æn., VI, 127, 269, 397; VII, 568; XII, 199 …
لوتشيفيرو يعني حامل الضوء، أو المضيء، ويقابل في الإسلام إبليس. ولكن يوجَد خلاف بين كلٍّ منهما؛ لوتشيفيرو في المسيحية ثار على الله لأنه شعر بالغيرة من قدرة الإله، وقام ليناهضه، وحاول إغراء الله ذاته، أما إبليس في الإسلام فقد خرج على الله لأنه أحس بالغيرة نحو آدم، فلم يطع الله في السجود له، ولذلك أبقيتُ لفظ لوتشيفيرو كما هو.
وفي التراث الإسلامي بعض الشبه بعذاب لوتشيفيرو في الجليد والزمهرير بالنسبة لعذاب إبليس:
Cerulli, (op. cit.) pp. 166-167.
ابن عربي، الفتوحات المكية (السابق الذكر)، ج١، ص٣٩١.
Matt., XXVI, 14–16; Mar., XIV, 10–11; Luca, XXII, 3–6.
وقد رسم جوتو (١٣٦٦ / ١٢٦٧–١٣٣٧) صورة يهوذا يُقبِّل المسيح، وهو يضمر الغدر والخيانة، وهي في مُصلَّى الإسكروفنيي في كاتدرائية بادوا.
ورسم ليوناردو دا فنتشي صورة يهوذا في «العشاء الأخير» في كنيسة الرحمة في ميلانو، في أواخر القرن ١٥. ووضع ليوناردو يهوذا بين سائر القديسين الذين تبدو عليهم علائم الدهشة والاستنكار والأسى والأسف والحزن، وتبدو على وجه المسيح علائم الأسى والنبل والصفح والغفران، وتظهر على يهوذا علائم الغدر والحقد والغضب. تجهَّم وجه يهوذا، واتجه إلى الوراء، وانفرجت يده اليسرى فوق المائدة، واتكأ عليها بمرفقه الأيمن، وقلب بذراعه ملاحة صغيرة، وقد ساعدت هذه الحركة العصبية على الإفصاح عما ساوره من المشاعر الأثيمة.
وصنع ميكلأنجلو (١٤٧٥–١٥٦٤) تمثالًا نصفيًّا لبروتس، وهو في متحف البارجلو في فلورنسا.
وتوجَد صورة للوتشيفيرو برأس أشبه برأس الثور ومن حوله المعذبون في صورة الحكم الأخير والجحيم، وليس من الثابت نسبتها إلى فنان بعينه، وترجع إلى القرن ١٤، وهي في الكامبوسانتو في بيزا.
ورسم ميكلأنجلو صورة لوتشيفيرو في صورة الحكم الأخير بكنيسة سستو بالفاتيكان، وقد بدا بوجه مسيخ أغبر، وفم واسع، وأسنان كبيرة، وعينين تشعَّان الحقد والغضب والكراهية.
ويوجَد حفر يمثل لوتشيفيرو بثلاثة وجوه ويحتضن أفعى، ويرجع إلى القرن ١١، وهو في كنيسة القديس بطرس في تسكانيلا.
Matt., XII, 24; Luca, XI, 15.
ويوجَد رسم بالموزايكو للجحيم يوضح صورة المعذبين وسط النيران والزواحف، وهناك شيطانان يوجهان خُطافَيهما نحو المعذبين، ويرجع إلى القرن ١٢، وهو في كاتدرائية تورتشيلو في البندقية.
وفي مُصلَّى استروتزي، بكنيسة سانتا ماريا نوفلا في فلورنسا، صورة ربما تكون من رسم أندريا أوركانيا أو أخيه ناردو دي تشوني (حوالي ١٣٥٧)، صورة تصور «جحيم» دانتي، وتبدأ بالغابة المظلمة، ثم مدخل الجحيم، فالحلقات التسع، ويظهر بها واحدةً بعد أخرى العذابُ الملائم لكل طائفة من الآثمين، كما رسمه دانتي، وتنتهي بلوتشيفيرو وسط الثلج والجمد.
وقد رسم لوكا سنيوريلي (حوالي ١٤٤١ / ١٤٥٠–١٥٢٣) صورة للجحيم، وقد ظهر فيها المعذبون الذين تفيض أعينهم باليأس والأسى والكراهية، وهم في أوضاع مختلفة؛ إذ انقلب بعضهم رأسًا على عقب، واستلقى بعض على الأرض، وأخذ فريق منهم يضربون بعضهم بعضًا، ويحلِّق الشياطين من فوقهم، على حين وقف الملائكة يشهدون كيف تأخذ العدالة مجراها. والصورة في مُصلَّى سان ابرتزيو في كاتدرائية أورفييتو.