أفاق دانتي من غشيته أمام عذاب فرنتشسكا وباولو، فوجد نفسه في الحلقة الثالثة، حيث
المطر
والبَرَد يهطل فوق المعذَّبين الذين ارتكبوا خطيئة الشَّرَه والنَّهَم. رأى دانتي
تشيربيروس
الوحش ذا الرءوس الثلاثة — رمز الشره والنهم — وهو يعوي فوق رءوس المعذبين ويمزقهم
ويلتهمهم. وعندما رأى الوحشُ دانتي كشَّر عن أنيابه، ولكن فرجيليو ملأ أفواهه الفاغرة
بحفنة
من أديم الأرض. وفي أثناء مرور الشاعرين فوق الأشباح المغمورة في مياه المطر، نهض
شبح
تشاكو، المواطن الفلورنسي الذي اشتهر بالشره والنهم. أبدى دانتي عطفه عليه وسأله عن
مصير
أهل فلورنسا، فأجابه بأن الدماء ستسيل في فلورنسا، وأن حزب «البيض» سيُطرد منها، ويحل
مكانه
حزب «السود»، وأخبره أن العادلين قلائل في فلورنسا، وأن الغطرسة والحسد والجشع هي
أسباب ما
أصاب فلورنسا من الويلات. استفسر دانتي عن بعض أبطال فلورنسا، مثل فاريناتا وتيجيايو
وموسكا، وسأله أن يعمل على رؤيتهم، وهل هم في السماء أم في الجحيم. أجابه تشاكو بأنه
قد
هوَت بهم إلى أعماق الجحيم خطايا أخرى ارتكبوها، وسأله أن يحمل إلى الأحياء ذكراه
عند عودته
إلى العالم الحبيب، ثم سقط مغمورًا في الوحل. عرف دانتي من فرجيليو أن عذاب هؤلاء
الآثمين
سوف يزيد بعد الحكم الأخير؛ لأنهم سيقتربون نوعًا من الكمال، باتحاد نفوسهم بأجسامهم؛
لأنه
كلما زاد الكمال زاد الإحساس باللذة والألم، كما يقول أرسطو. ثم هبط الشاعران إلى
الحلقة
الرابعة، التي يحرسها بلوتوس الشيطان، عدو الإنسان اللدود.
(١) بينما عاد إليَّ الوعي الذي كنتُ قد فقدتُه بإشفاقي على الصِّنوَين،
٢ والذي بلبلَ بالحزن خاطري،
٣
(٤) إذا بي أرى من حولي عذابًا جديدًا ومعذبين جددًا، أنَّى أتحرك وأتجه، وأينما أنظر.
٤
(٧) أنا في الحلقة الثالثة، حلقة المطر الأبدي، اللعين، البارد الثقيل،
٥ الذي لا يتجدد عنفه أبدًا، ولا يتغير نوعه.
٦
(١٠) برَدٌ كبير، ومياهٌ مُسودَّة، وثلج يهطل خلال الهواء المظلم؛ فتبعثُ كريهَ
الروائح الأرضُ التي تتلقى هذا كله.
٧
(١٣) وتشيربيروس،
٨ الوحش الكاسر العجيب، يعوي ككلبٍ ذي أفواهٍ ثلاثة،
٩ على رءوس القوم الذين غُمروا هنا.
١٠
(١٦) إنه ذو عينين حمراوين،
١١ ولحية كثة سوداء،
١٢ وبطنٍ كبير،
١٣ ويدَين تسلَّحتا بالمخالب،
١٤ وهو يمزق الأرواح، ويسلخها ويشطرها أرباعًا.
١٥
(١٩) يطلق المطر عواءهم كالكلاب، ويتدرَّعون بجنبٍ عن جنب، ويتقلب الآثمون
التعساء كثيرًا!
١٦
(٢٢) وحينما رآنا تشيربيروس، الوحش الضخم،
١٧ فغَر أفواهه، وكشَّر لنا عن أنيابه، ولم يدع عضوًا منه في سكون.
١٨
(٢٥) فمدَّ دليلي راحتيه، وأخذ ترابًا من أديم الأرض وقذف به، مُمتلئَ القبضتين،
في الحلوق الجشعة.
١٩
(٢٨) ومثل ذلك الكلب الذي يتشهَّى وهو ينبح، ويهدأ عندما ينهش الطعام؛ لأنه لا
يجدُّ ولا يقاتل إلا لافتراسه؛
٢٠
(٣١) كذلك فعلتْ تلك الوجوه البشعة، وجوه الشيطان تشيربيروس، الذي أرعدَ فوق
الأرواح، حتى رغبتْ أن يُصيبها الصمم.
٢١
(٣٤) ومررنا فوق أشباحٍ ترزح تحت مطر ثقيل، وخطَونا فوق رسومها الخاوية، التي
تبدو أجسادَ بشر.
٢٢
(٣٧) استلقتْ كلها على الأرض سوى شبحٍ واحد،
٢٣ نهض سريعًا ليجلس،
٢٤ حينما رآنا نمر من أمامه.
(٤٠) وقال لي: «أنت يا أيها المَقود خلال هذه الجحيم، تعرَّفْ عليَّ إن استطعت،
إنك وُلدت قبل أن أموت.»
٢٥
(٤٣) قلت له: «إن العذاب الذي تعانيه، ربما يمحو صورتك من ذاكرتي، حتى لكأني لم
أرك من قبل قط.
٢٦
(٤٦) ولكن أخبرني مَن أنت الذي وُضعتَ في مثل هذا المكان الأليم، وفي مثل هذا
العذاب، الذي إن وُجد ما يفوقه، فليس أشد منه تنفيرًا.»
(٤٩) قال لي: «إن مدينتك التي هي مليئة بالحسد،
٢٧ حتى فاض به الإناء، قد احتوتني في الحياة الوادعة.
٢٨
(٥٢) وأنتم يا مُواطنيَّ سمَّيتموني تشاكو، وإني أنوء بخطيئة النهم اللعين، كما
ترى، تحت وابل المطر.
٢٩
(٥٥) ولستُ وحدي بالنفس البائسة؛
٣٠ فهؤلاء كلهم ينالون ذات الجزاء لنفس الإثم.» ولم ينطق بعد ذلك حرفًا.
٣١
(٥٨) فأجبته: «يا تشاكو، إن عذابك يثقل على نفسي كثيرًا، حتى ليدعوني إلى البكاء،
٣٢ ولكن أخبرني، إذا كنت تعرف، إلى أين
(٦١) يصير
٣٣ سكان هذه المدينة
٣٤ المنقسمة،
٣٥ وهل بها إنسانٌ عادل؟
٣٦ وخبِّرني عن السبب الذي أصبحتْ به نهبًا لكل هذا الخلاف.»
٣٧
(٦٤) قال لي:
٣٨ «بعد صراعٍ طويلٍ سيسفكون الدماء،
٣٩ وسيطرد حزبُ الريف غريمه، بخسارة كبيرة.
٤٠
(٦٧) ولا بد بعد ذلك أن يسقط هذا الحزب
٤١ خلال دوْرات للشمس ثلاثٍ،
٤٢ ويعلو الآخر
٤٣ بقوة من يداورهما،
٤٤
(٧٠) وسيحمل جباهه عالية زمانًا طويلًا،
٤٥ موقِعًا الآخر تحت فادح الأعباء، مهما أبدى لذلك من بكاء، أو أحس من عار.
٤٦
(٧٣) العادلان اثنان،
٤٧ ولكن لا يُستمع لهما هناك،
٤٨ والغطرسة والحسد والجشع، هي الشرارات الثلاث التي أشعلت القلوب.»
٤٩
(٧٦) وهنا اختتم كلامه الباكي.
٥٠ قلت له: «لا زلتُ أرغبُ أن تعلمني، وتمنحني من الكلام مزيدًا.
٥١
(٧٩) فاريناتا،
٥٢ وتيجيايو،
٥٣ وقد كانا ذوَي فضلٍ عظيم، وجاكوبو روستيكوتشي،
٥٤ وهنري،
٥٥ وموسكا،
٥٦ والآخرون الذين وضعوا عقولهم لفعل الخير؛
٥٧
(٨٢) خبِّرني أين هم، واعمل على أن أراهم؛ فإن رغبة شديدة تدفعني إلى أن أعلم،
أتسعدهم السماء أم تهلكهم الجحيم؟»
٥٨
(٨٥) أجابني: «إنهم بين أشد النفوس سوادًا،
٥٩ وإن خطايا أخرى في أسفل تهوي بهم إلى القاع،
٦٠ فإذا أمعنتَ في الهبوط استطعت أن تراهم.
(٨٨) ولكن حينما تُصبح في العالم الحبيب، أرجو أن تحمل اسمي إلى ذاكرة الأحياء،
٦١ ولن أزيدك حديثًا ولن أضيف جوابًا.»
(٩١) واعترى الحوَلُ عينيه بعد استقامة النظر،
٦٢ وحدَجني قليلًا،
٦٣ ثم خفض رأسه، وسقط به بين سائر العميان.
٦٤
(٩٤) قال لي دليلي: «إنه لن ينهض حتى يُنفخ في صور الملائكة،
٦٥ حينما تأتي القوة المُعادية،
٦٦
(٩٧) وسيسعى كلٌّ منهم إلى قبره الحزين، وسيسترد جسدَه وصورته، ويسمع ما يدوِّي
إلى الأبد.»
٦٧
(١٠٠) هكذا عبرنا خلال الخليط الكريه من الأشباح والمطر،
٦٨ بخطًى بطيئة، ونحن نتحدث قليلًا عن الحياة المُقبِلة.
(١٠٣) لهذا قلت: «أستاذي، هل سيزيد هذا العذاب بعد الحكم الأخير، أو ينقص، أو
سيظل قاسيًا هكذا؟»
٦٩
(١٠٦) قال لي: «ارجع إلى علمك،
٧٠ الذي يرى أنه كلما أصبح الكائن أكثر كمالًا، زاد إحساسه باللذة وكذلك بالألم.
٧١
(١٠٩) ومع أن هؤلاء القوم الملعونين، لا يبلغون الكمال الحقيقي أبدًا، فإنهم
يتوقعون أن يكونوا بعدُ أقرب إليه منهم الآن.»
٧٢
(١١٢) ودُرنا حول ذلك الطريق،
٧٣ ونحن نتكلم كثيرًا، مما لا أعيد قوله، ووصلنا إلى موضع يبدأ الهبوط عنده.
٧٤
(١١٥) وهناك وجدنا بلوتوس،
٧٥ العدو الكبير.
٧٦