أخذ بلوتوس يصرخ بألفاظ غير مفهومة لكي يبعد الشاعرين عن الجحيم، ولكن فرجيليو أسكته،
وأفهمه أن هذه هي إرادة السماء، وبذلك تقدَّم الشاعران إلى الحلقة الرابعة. رأى دانتي
جماعة
البخلاء إلى اليسار، وجماعة المسرفين إلى اليمين، وهم يسيرون في نصف دائرة، وفي اتجاهين
متعارضين، ويدفعون بصدورهم أثقالًا من الصخر، ويتصايحون عند التقائهم، ويعيِّر كلا
الفريقين
صاحبَه بمَثالبه، ثم يتراجعون بأثقالهم حتى موضع التقائهم التالي، وهكذا على الدوام.
وتحدَّث الشاعران عن القساوسة البخلاء، وكان من المتعذر على دانتي أن يتبين واحدًا
منهم؛
لأن البخل قد سوَّد وجوههم، وغيَّر سحنهم، ويقول فرجيليو: إنَّ ذهب الدنيا كله لا
يستطيع أن
يريح نفسًا واحدةً من العناء الذي تلاقيه في سبيله. ويشرح فكرته عن الحظ الذي جعل
الله له
قوة يغيِّر بها أحوال الأمم والأفراد، مما هو فوق متناول البشر، وبهذا يتحول متاع
الدنيا من
قوم إلى قوم، ومن أسرة لأسرة، وتسيطر أمة وتخضع أخرى. ثم هبط الشاعران إلى الحلقة
الخامسة
حيث مستنقع استيكس، ورأى دانتي فيه مَن سادهم في الدنيا سرعة الغضب، وهم يتضاربون
بالرءوس
والصدور والأقدام، وبأسنانهم مزقوا بعضهم بعضًا. وعرف دانتي أن تحتهم الكسالى الذين
يتنهدون
ويرسلون فقاقيع الهواء إلى سطح الماء، وتتحشرج في حناجرهم الكلمات. ودار الشاعران
حول
المستنقع الكريه، وشهدا المعذبين يبتلعون الوحل والدنس، ووصلا في النهاية إلى أسفل
برج
شاهق.
(١) بدأ بلوتوس بصوته الأجش: «بابي ساتان، بابي ساتان أليبي!»
٢ وذلك الحكيم الرقيق،
٣ الذي عرف كل شيءٍ.
(٤) قال لكي يُهدئ من روعي: «لا يؤذينَّك خوفك؛ فمهما يكن له من قوة، فلن يمنعك
من هبوط هذه الصخرة.»
٤
(٧) ثم اتجه إلى ذلك الوجه المنتفخ. وقال:
٥ «صَهْ أيها الذئب اللعين،
٦ لك الويل بما يكنُّه صدرك من غضب.
٧
(١٠) إن ذهابنا إلى الأعماق ليس دون سببٍ، هكذا أُريدَ في العلياء،
٨ حيث انتقم ميكائيل من جماعة المتغطرسين.»
٩
(١٣) وكما تسقط الأشرعة التي تنفخها الريح وهي متشابكة، حينما تتحطم ساريتها،
كذلك سقط على الأرض الوحش المفترس.
١٠
(١٦) وهكذا هبطنا إلى الهوَّة
١١ الرابعة، ونحن نتقدم على الشاطئ الأليم، الذي يطوي آثام العالم كله.
١٢
(١٩) إيه يا عدالة الله! مَن ذا الذي يحيط بكل هذا العذاب والألم الجديد الذي شهدته؟
١٣ ولماذا تمزقنا خطيئتنا هكذا؟
١٤
(٢٢) وكما يفعل الموج هناك عند كاريدي، وهو يتكسر مع الموج الذي يرتطم به؛
١٥ هكذا ينبغي أن يرقص القوم هنا رقصة التقابل.
١٦
(٢٥) رأيتُ هنا قومًا أكثر من كل موضعٍ آخر، ومن هذا الجانب وذاك،
١٧ وبصرخات مدوية أخذوا يدفعون أثقالًا بقوة صدورهم.
١٨
(٢٨) وتصادموا في تقابلهم، وهناك دار كلٌّ منهم، متجهًا إلى الوراء، وهم
يتصايحون: «لماذا تَحرص؟» و«لماذا تُبدِّد؟»
١٩
(٣١) وهكذا رجعوا داخل الدائرة المظلمة، من كلا الجانبين إلى النقطة المقابلة،
٢٠ وهم يصيحون دوامًا بهذا الكلام المَشين،
٢١
(٣٤) وحينما بلغها كلٌّ منهم،
٢٢ استدار في نصف دائرته، إلى اللقاء التالي.
٢٣ قلت وقد أحسستُ قلبي كأنما أُصيبَ.
(٣٧) بطعنة: «أرِني الآن أستاذي أيُّ قومٍ هؤلاء! وحليقو الرأس على يسارنا هل
كانوا جميعًا قساوسة؟!»
(٤٠) قال لي: «هؤلاء جميعًا انحرفت عقولهم كثيرًا في الحياة الأولى، حتى لم
ينفقوا شيئًا عن تقدير سليم.
٢٤
(٤٣) بهذا تنبح أصواتهم في وضوح،
٢٥ حينما يأتون إلى نقطتين في الدائرة، حيث تفصلهم آثامهم
المتعارضة.
(٤٦) أولئك كانوا قساوسةً، وهم مَن ليس على رءوسهم غطاء من شعرٍ، بابواتٍ كانوا
وكرادلةً، وقد تجلى البخل فيهم إلى غايته القصوى.»
٢٦
(٤٩) قلتُ: «أستاذي، بين مثل هؤلاء، لا بد أني سأعرف جيدًا بعض من تلوثوا بهذه الشرور.»
٢٧
(٥٢) قال لي: «إنك تجمع أفكارًا باطلة؛ فالحياة الخالية من المعرفة التي جعلتهم أدنياء،
٢٨ تنكر الآن وجوههم على كل معرفة.
٢٩
(٥٥) وسيأتون أبدًا إلى نقطتَي الصدام، وسيخرج أولئك من القبر مُقفَلة قبضاتُهم،
٣٠ وهؤلاء وهم حليقو الرءوس.
٣١
(٥٨) لقد أفقدَهم سوءُ البذل وسوء الحفظ العالمَ الجميل،
٣٢ وألقى بهم في هذا الصراع، ولستُ أُنمِّق كلامًا لكي أصوره.
٣٣
(٦١) تستطيع الآن يا بني أن ترى الوهم القصير الأمد،
٣٤ في الخير الذي يُعزى إلى الحظ،
٣٥ ويقتتل النوع البشري في سبيله؛
(٦٤) فإن كل ما تحت القمر من ذهب،
٣٦ وما كان من قبل موجودًا، لا يستطيع أن يريح واحدةً من هذه النفوس المتعبة.»
٣٧
(٦٧) قلتُ له: «أستاذي، خبِّرني الآن أيضًا، هذا الحظ الذي تحدثني عنه؛ ما هو،
ذاك الذي يجمع خيرات الأرض هكذا بين براثنه؟»
٣٨
(٧٠) قال لي: «أيتها المخلوقات الحمقاوات، ما أعظمَ الجهل الذي يَشينكم!
٣٩ الآن أريد أن تهضم حكمي عليه.
٤٠
(٧٣) إن مَن تسمو على كل شيءٍ حكمتُه،
٤١ خلق السموات وأمدها بما يهديها،
٤٢ حتى يشع كل جزء نورَه على كل جزء،
(٧٦) موزِّعًا الضياءَ بالتساوي؛ كذلك في المباهج الدنيوية
٤٣ فَرَض
٤٤ سلطانًا عامًّا ودليلًا،
٤٥
(٧٩) شأنه أن يحوِّل في وقته المتاعَ الباطل، من قومٍ إلى قوم، ومن أسرةٍ إلى أخرى،
٤٦ على رغم ما تبذله في الدفاع حكمة البشر.
٤٧
(٨٢) لذا يسيطر شعبٌ ويخضع آخر، تبعًا لما يحكم به ذلك الذي يختفي اختفاء الأفعى
في العشب.
٤٨
(٨٥) ليس لعلمكم قوة على مناهضته، إنه يدبِّر، ويقضي، ويسهر على مُلكه، كما يفعل
في مُلكهم سائرُ الأرباب.
٤٩
(٨٨) وليس لتقلباته هدنة،
٥٠ وتجعله الضرورة سريعَ التصرف،
٥١ وهكذا يأتي كثيرًا مَن يغير الأحوال،
٥٢
(٩١) هو ذاك الذي يُلعَن كثيرًا،
٥٣ حتى ممن وجب أن يكيلوا له الثناء، وهم يلعنونه بكلمات بذيئة دون صواب.
٥٤
(٩٤) ولكنه في النعيم، ولا يسمع شيئًا، يحرك فَلكه
٥٥ مبتهجًا مع سائر الكائنات الأولى،
٥٦ وينعم بالسعادة.
(٩٧) فلننزل الآن إلى أسًى أشد؛
٥٧ لقد هبط كل نجمٍ كان من قبل طالعًا، حينما تحركتُ للمسير،
٥٨ وليس لنا أن نبقى طويلًا.»
(١٠٠) لقد اجتزنا الحلقة إلى الشاطئ الآخر، فوق النبع الذي يغلي، ويصب خلال جُرُف
كان هو صانعه.
٥٩
(١٠٣) كانت المياه سوداء أكثر منها حمراء داكنة، وفي رفقة الأمواج المغبرة، دخلنا
إلى أسفل في طريق عجيب.
(١٠٦) يذهب هذا الجدول الحزين
٦٠ إلى مستنقع يُدعى استيكس،
٦١ حينما يهبط إلى سفح الشاطئين اللعينين الأغبرين.
٦٢
(١٠٩) وأنا الذي وقفتُ لكي أُمعِن النظر، رأيت قومًا غمرهم الطين في ذلك
المستنقع، كلهم عرايا
٦٣ ذوو وجوهٍ غاضبة.
٦٤
(١١٢) تضارب هؤلاء لا باليد وحدها، ولكن بالرأس والصدر والقدمين، وبأسنانهم
مزَّقوا أنفسهم إرْبًا إرْبًا.
٦٥
(١١٥) قال أستاذي الطيب: «يا بني، إنك ترى الآن نفوس مَن غلبهم الغضب، وأريد كذلك
أن تعرف في ثقةٍ
(١١٨) أن قومًا تحت الماء يتنهدون،
٦٦ ويملئون بالفقاقيع هذا الماء عند السطح، كما تُنبئك عينك، أينما
اتجهتْ.
(١٢١) يقولون وهم لاصقون بالوحل: «كنا بائسين في الهواء الحبيب،
٦٧ الذي تُسعده الشمس، وقد حملنا في جوفنا دخانَ الكسل.
٦٨
(١٢٤) ونحن نحزن الآن في هذا المستنقع الأسود.» يتحشرج هذا اللحن في حناجرهم؛ إذ
لا يستطيعون قوله بألفاظٍ كاملة.»
٦٩
(١٢٧) وهكذا سرنا في قوسٍ كبيرٍ حول المستنقع الكريه، بين الشاطئ الجاف ونفاية
الماء، بعيون متجهة إلى مَن يبلعون الدنس،
(١٣٠) وجئنا أخيرًا إلى أسفل برج.