علل البؤس
البؤس
«البؤس» من حيث تعريفه: دمار عاجل، وموت أدبي، ترتاع منه النفوس، وترتعد عند ذكره الأبدان. وهو الغاية التي تزعزع أركان العالم، وتحوِّل القلوب عن أغراضها وميولها، وتجندل الشجعان من غير حرب، وتجعل القادر عاجزًا. وربما انقلبت إلى العكس؛ فتهب للعاجز قوةً ونشاطًا لينتقم من نفسه أو من غيره ليستريح من عوارض الأقدار. والبؤس والأمل ضدان؛ إذا استقوى أحدهما على الآخر ظهرت النتيجة واضحة. ويتضح من ذلك أن اليأس إذا استقوى على الأمل كان البائس من أتعس خلق الله تعالى وأشقاهم، وأصبح الموت إليه أمنيةً تتوق إليها نفسه؛ فتجده مستبسلًا في مواقف الإعدام بغير مبالاة ولا حذر، ولا خوف ولا فزع.
وأما إذا تغلَّب الأمل على اليأس نفخ الله تعالى في روح هذا البائس أملًا يبدد شكوك أوهامه؛ فينشط من عقال اليأس، ويخرج من وهدة الخمول؛ طارحًا رداء الكسل والقنوط. وسامرته الأحلام اللذيذة والأوهام المفرحة؛ فيشيد من الأوهام قصورًا، ومن الآمال حصونًا، ويشعر وكأن الأماني قد انقادت له؛ فيظل متعللًا بها، وينتظر ما ستجيء به الأيام يومًا بعد يوم، وكأنما تلك الأوهام خففت عليه ويلاته؛ فيناجي السعادة، ويتسلَّى بتلك التصورات الشائقة التي صار يأتنس بها، وصارت تشجيه وتلهيه، ولو أنها لا تشفيه ولا تنفعه، ويقول — معللًا نفسه: «إن المستقبل كفيل براحة الإنسان.»
مع أن الحقيقة فيما قالت الحكماء: «لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس.» وهيهات أن ترى بائسًا إلا والقنوط أول دعاويه، وهو العلة التي يبني عليها أسباب يأسه وبؤسه، ولم يقتصر على ذلك حتى يتهم الأقدار في دعوى اعتلاله. «ومن البؤساء» قوم ينسبون أسباب بؤسهم للذات العلية، معترضين على سوء حالهم وسعادة غيرهم.
وهيهات أن ترى بائسًا في مكان إلا والشقاء مخيم عليه، وعواصف الأقدار تلعب به كريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تدري إلى أي جهة أو هاوية تلقيها العواصف.
وكثير من البؤساء عندما يشتد بهم البؤس؛ يرغبون في الموت بكل وسيلة، ويناجون الهلاك بوجدان شديد، وشعور غريب؛ فتنطمس أمامهم الحقائق، وتصغر العوالم، وتضيق عليهم الدنيا على اتساعها؛ فيزدرون بالكون وعظمته، والدنيا وبهجتها، والمجد وأبهته، والسلطان وصولته، وتغيب عنهم الذاكرة فيجحدون الخالق والمخلوق، ويشذون عن طبيعتهم، وينكرون المطامع والآمال، ويرسخ في اعتقادهم أن الله اختصهم بالبؤس دون الناس؛ لأنَّه تركهم وتخلى عنهم. ثم يعودون إلى هداهم؛ فيعلمون أن الدنيا متاع غرور، وهناء موهوم، وأمل كاذب، وسرور باطل، وظل زائل، يمقتها اللبيب ويحتقرها العاقل.
والبؤس على كل حال مميت الشعور، مُذهب الإحساس، مدل على الموت، مجلب للفناء والهلاك. ولهذه الأسباب أصبح البائس يتشجع للردى، ويستهدف للحتف، ويحن إلى الموت، ويعبث بالأهوال، وما هي غير فترة ثم تراه حاقدًا على نفسه، ناقمًا على غيره، ويشعر أن حياته أصبحت حِملًا ثقيلًا عليه، كأنه عالة على المجتمع الإنساني، وتصبح تلك الحياة لا قيمة لها عنده، وتتسرب إلى مخيلته فكرة الموت؛ فيستنبط الحيل التي تسهِّل له طريق الانتحار، ومتى تهيأت له هذه الحيلة سعى في تنفيذها ليستريح من عذابه، غير هياب من الموت وشناعة الانتحار، وسيان عنده إن لامه الناس أو عذروه، أو أصبح في أفواه الجميع سُبةً إلى الأبد؛ فيقابل الموت بوجه طلق، ويعاني حشرجته بثغر ضاحك ما تعوَّد الابتسام في ساعة القنوط. وقد جاء في أمثال الحكماء: «خف من البائس فإنه لا يخاف.»
وقال بعضهم:
أنواع البؤس
- القسم الأول: علل البؤس.
- القسم الثاني: تعساء الشقاء حلفاء الفقر.
- القسم الثالث: تعساء الحظ.
هذه هي الثلاثة أقسام الأصلية، وجميع أنواع البؤس ينحصر في هذه الأقسام، وأما ما زاد على ذلك فيُعتبر فروعًا لها.
«والبؤساء» على تباين مقاماتهم وعقولهم يختلفون باختلاف الأطوار والأعمال؛ فمنهم من تلاحظه العناية فيُخلق سعيدًا مرزوقًا من المهد إلى اللحد، ولكنه مصاب بعلة من العلل التي تعترض البؤساء أصبح من أجلها بائسًا، مهما كانت درجته وسمو مركزه وعلمه وحظه.
«ومنهم» من يُرزق الحظ والغنى، ولكنه في حاجة إلى غرض يجد نفسه في شدة الشوق إلى الحصول عليه، وكل ميوله متحولة إليه، وإن لم ينله أصبح منغصًا. فإذا اعتبرناه بائسًا فما ذلك إلا لأنه يطمح لأمنية، والفرصة غير سانحة له، ونقدِّر ميول نفسه لهذه الأمنية بقدر درجة بؤسه وتعاسته، مهما كان غنيًّا ومهما كان سعيدًا.
«ومنهم» من يكون سعيدًا بغناه، يعطي ويتصدق وهو في أمن ودعة ورخاء عيش، يهب ويمنح إلا أنه بعد زمن تزول عنه هذه النعمة فيصبح فقيرًا بائسًا.
«ومنهم» من يُخلق سعيدًا؛ كأن يكون ابن ملك أو أمير يتمتع بجميع أسباب الغنى والسعادة واليسار، ويتولى المُلك بعد أبيه، إلا أنه مصاب بمرض يلازمه من وقت إلى آخر؛ فيقضي على أسباب سعده وينغص عليه هناء عيشه في بحبوحة مجده. وهذا يُعتبر من البؤساء لأنه مصاب بعلة تجعله كئيبًا فهو بائس، «وفي عُرْف الفلاسفة» أن من أصيب بعلة أو مرض مهما كان غنيًّا أو ملكًا فهو بائس؛ لأن المعافى من البؤس من كان سليم الجسم سليم البنية سليم العقل، يتمتع بثروة طائلة، وزوجة صالحة، وذرية طيبة، فهذا هو الخالي من البؤس، وأما من كان منغصًا في حياته ببعض الطوارئ فهو بائس.
«ومنهم» من يسعد تارةً ويفتقر أخرى، وهذا أيضًا من البؤساء.
«ومنهم» من يصادفه البؤس عرَضًا؛ كأن يكون غنيًّا فيُسرق ماله، أو تاجرًا فتلتهم النار تجارته؛ فيجفوه زمانه، وتعاديه إخوانه.
«ومنهم» من يجور عليه زمانه، فيغضب عليه سلطانه؛ فينفيه إلى أبعد البلدان ويشرده عن الأوطان، ويشتته عن الإخوان، فيعيش في أسوأ حال.
«ومنهم» من يصاب بالجنون فيختل نظامه، ويعتل كِيانه.
«ومنهم» من يكون ممتعًا بالخيرات، محفوظًا بالبركات، فيقع في معصية، أو يصادفه البؤس من طريق عدو مباغت، أو عذول مزاحم.
«ومنهم» من يباغته الوجدان، فيهيم بمحاسن الجمال الفتان — وهذا النوع من البؤساء بالمعنى الحقيقي؛ لأنهم يتحملون علاوةً عن علل الأوصاب عواطف الحب، والميول الغريبة، والأشواق، والغيرة، والهم، والحزن، والقلق، واشتغال القلب بمحاسن المحبوب إلى غير ذلك — وإذا رجعنا إلى سبب البؤس وجدناه لا يكون إلا من علة الفقر.
ومن الغريب المدهش أنَّ البؤس عادةً لا يحل إلا بالفطاحل الأعلام — علماء الدنيا — وفلاسفة العالم، ولا يعترض إلا حكماء الكلام، وحمَلة الأقلام، والحكماء والشعراء، وكل نابغة لا يستهان بعلمه وذكائه.
ولما كان البؤس أصل كل بلية في العالم؛ أصبح لكل فرد منه أكبر نصيب، وهيهات أن يخلو منه مخلوق.
فضائل البؤس
وفضائل البؤس كثيرة، ومنها: الورع، والتقوى، والثبات، والصبر، والتجلد على المصائب، ومكافحة الأهوال، ومعرفة الله جل شأنه والتفرغ إليه سبحانه وتعالى، واليأس من الدنيا، والاهتمام بالآخرة. والبؤس عادةً يوجِد الطمأنينة في النفوس، ويحض على اعتزال العالم والانفراد عن الناس، والانقطاع إلى عمل واحد، والتبحر في العلوم والمعارف.
ولو نظرنا إلى البؤس من حيث حقيقته وجدناه أقوى سبب في تذليل النفس؛ بل هو الباعث لها على الانقياد والإذعان، والرضوخ والطاعة، والميل إلى حب الخير والعبادة والإحسان … إلخ.
مساوئ البؤس
ومساوئ البؤس كثيرة، منها: التأفف، والضجر، واحتمال الهم، والكمد، والنزق، وضيق الصدر، وسوء الخُلق، وقطع العِشرة، والانحراف، والانكماش عن الخلق، والقهر، والإكراه والغلبة، والتطبع بالأخلاق المرذولة، وفساد الطوية، والخديعة، والمكر، والدهاء، والذل، وشدة الغيظ، وعدم المبالاة، واحتقار النفس، والبَلَه، والطيش، والغباوة، والبغض، والعداوة من غير سبب، والعجز، والجموح، ووساوس الصدر، ومعصية الخالق، وشدة الحسد، والحقد، والميل إلى الشر، والمعاكسة، والتطبع بالرذائل، وارتكاب الدنايا، والنقائص، والهذيان، والمرض الذي يؤدي إلى الجنون وينتهي بالتفاني في حب الموت.
الوهم والبؤس
خلق الله الإنسان من ضعف؛ فكان الوهم أول قرين له، والوهم من حيث تكوينه في الإنسان دواء الإهمال المخيف، بل هو العلقة الوحيدة التي تعلق بكل نفس جامحة إذا استولى عليها الضعف وخور العزيمة. بل هو الغاية التي يبني عليها البائس يقينه، ويشيد دعائم أركانه. بل هو الدعوى التي يؤيد بها برهانه، وتجري عليها نواميسه؛ ليوطد بواسطتها أحكام تخيلاته وتصوراته وما يعنو له من علوم مخيلته، ويستنتج منها عاداته وأطواره، وكأنه بتلك الأوهام يحيا، وبها يسمع ويرى، وعليها يموت وتنقضي أيامه.
والأوهام عبارة عن آمال كبيرة تتغلب على العجز والضعف والقوة، وهيهات أن تخلو منها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب. وربما تقف هذه الأوهام في سبيل بعض البائسين في حين من الأحيان؛ فتكون لهم حجابًا من الأمل الغرار. وبهذا الوهم الكاذب ترتفع عنهم البلوى، وتنتهي، بل يهون نكد الدنيا، وتندثر جريمة الانتحار من مخيلتهم.
وقد يحدث من الوهم موت عاجل يقتل المتوهم مهما كان رقيق الإحساس، شريف العواطف، أو شجاع القلب، عظيم الجسم. وربما يكون حياة من نكد وبيل، يخلص من الموت كل منغَّص حزين، وكأن هذا الوهم يمثل للبائس وهو متأهب للانتحار، متقدم للإجهاز على نفسه زينة الحياة الدنيا، ويحبب إليه السعادة والغنى؛ فيتوقف عن إتمام الجريمة، ويبتسم للسعادة، ويستريح بهذه الآمال التي قادها إليه الوهم وهو على هاوية الهلاك؛ فيرجع عن عزمه، ويتوب عن غيه.
وهكذا بُني الوهم من قديم الأزل على شرائع الأمم وأعناق البشر في نواميس الوجود، وبرهانًا على ذلك غِيَر الدهر وحوادث التاريخ.
والوهم ينقسم إلى قسمين؛ «الأول»: يُفني الأمم ويؤدي إلى العدم، حيث تنتهي الحياة على أي حال من الأحوال، «والثاني»: يعود أملًا يبعث بنفوس البائسين إلى الجهاد في معترك الحياة؛ ليحصل كل آمل على مُناه، ويحظى بالغاية التي يرجوها. وكل أمة فشا فيها داء الوهم أصبحت مزعزعة الأركان، وصار التعلل لها غرضًا من الأغراض الدنيوية تغدو وتروح؛ حيث تقودها الأوهام فتسير على غير هدًى، وتنقاد في جميع أحوالها بأزمَّة الوهم الكاذب الغرار.
ولو تمعن العاقل في أطوار هذا الوهم لوجد أن ليس مع السلوان عيش، ولا مع القنوط عمل، ولا مع اليأس حياة، وليس أجلب للشر من وهم يخرج بالنفوس عن أطوارها، أو يأس يقفل باب الرجاء في وجه صاحبه؛ فيمثل له خيال الموت في أجمل صورة، ويصور له الدنيا بأشنع شكل وأقبح هيئة؛ فينتحر تخلصًا من شقائه الذي هو فيه ليستريح من بؤس هذا العالم ومتاعبه.
«البؤس» كلمة تدل على الشقاء، وهو شكل غير محسوس ولا ملموس، ومعناه الإملاق والعُدم والفاقة والضنك والفقر.
«والبؤس» أصل تعاسة الإنسان وسبب شقائه ومحنته وبلائه. والبؤس في عُرْفهم باب كل ويل، وسياج الكرب والقهر والغم؛ إن حل في مخلوق جلب إليه سوء الطالع، وجعله في تعب مستمر غير مرتاح الضمير، ونغَّص عليه حياته، وفتح له طريق الموت، وصيره على هلاك نفسه قادرًا جريئًا لا يخاف ولا يفزع.
ولقد خلق الله الموت للحياة ضدًّا لِفنْيِ العالم، كما شاءت قدرته العلية في عصر محدود ودهر معدود، وكما خلق جل شأنه الموت للحياة ضدًّا، خلق الذكاء للشقاء حليفًا؛ ولذلك لا تجد ذكيًّا إلا والشقاء يحدوه، وفي الحديث الشريف: «ذكاء المرء محسوب عليه.» وكما خلق الله الذكاء للشقاء حليفًا، خلق الحسد للفضل قرينًا؛ ولذلك لم تجد في الناس فاضلًا إلا والحُسَّاد يحومون حوله، وقال الشاعر:
العالم دولاب دائر لا ينتهي إلا بانقراض الكون، ولو نظرنا إلى أمور هذه الخلائق وجدنا حِكمًا لا تندثر أبدًا، ودروسًا من الوعظ لا ينتهي منها اللبيب ويرعوي منها العاقل. أيها البؤساء، يا من ألبسكم الدهر ثياب الحزن، وألقاكم في وهاد الهموم؛ عليكم بالصبر وطول الأمل؛ فإنكم إذا ثابرتم عليهما بلغتم كل أمنية. ولا تحجموا عن الإقدام والسعي في معترك الحياة؛ لأنهما أساس عمران هذا العالم. وبالإقدام على عظائم الأمور تنالون الشرف، وتحظون بحظوة المجد، وتخرجون من وهدة اليأس إلى ذروة العلياء، وتصعدون من حضيض الخمول إلى غاية العز والسؤدد. فثبتوا أقدامكم، ووطنوا نفوسكم، تنالوا رغباتكم، والله معكم.
البؤساء
لو نظرنا إلى فلسفة هذا العالم وحكمة المبدع الحكيم في خلقه؛ لوجدنا أن جميع علماء الأرض وفلاسفة الكون على الإطلاق ما هم إلا من وسط ضاق به الحال، وأصبح من شدة الضنك لا يملك درهمًا، والجميع بحمد الله صفر اليدين من الغنى، وكفى بأنبياء الله حجةً على ذلك وبرهانًا ناصعًا لا مراء فيه.
«البؤساء» قوم وضعتهم الدنيا في أخشن مواضعها، وداهمتهم الأيام بالمصائب فاستهانوا بنكباتها، وجفاهم الحظ فرضخوا لأحكام القدر، وصادقهم النكد فحفظوا له واجب الصداقة ولم ينقضوا له عهدًا، وسئمت منهم الأيام فكانوا عليها عالة، وأمرتهم الطبيعة بالذل فنبذوا أمرها، وهجروا صفوها؛ فسخرتهم للحياة فساروا في سبيل الموت سراعًا.
«البؤساء» قوم خلع عليهم الدهر حزنه وجر عليهم فضل بلائه؛ فأوقفوا بعض حنين قلوبهم إلى غير ما تحن إليه من صبابة المحاسن والجمال، وهاموا في وهاد الدنيا وأتوا بأعمال من الأشجان لا تدخل تحت حصر، فتراهم مع ما هم عليه من بواعث الحزن والنكد لا ترتاح نفوسهم الأبية إلا لعمل الخير، وتراهم وهم في أشد حالات المحنة يعطفون على البؤساء أمثالهم، ويميلون من تلقاء أنفسهم إلى من جفاهم الحظ وسحقتهم الهموم.
«البؤساء» قوم خطَّت الطبيعة على جبينهم سطور الشقاء، ومشى الدهر خلفهم يُومي للمصائب نحوهم ببنانه؛ فتبعتهم ملبيةً أمره، وتنقض عليهم منفذةً أحكامه.
«البؤساء» طائفة رمتهم سهام القدر؛ فباتوا للبلاء عرضًا، وأصبحوا في هذا الكون حيارى لا يهتدون إلى منار السعادة، ولم يبلغ بهم سفين الحياة شاطئ السلامة.
ومهما كان من فظاظتهم، ومنتهى ضلالهم في إزهاق أرواحهم؛ تجدهم يستهينون بالموت، ولا لوم عليهم إذا ارتكبوا جريمته؛ لأنهم ما رغبوا في عذابه إلا فرارًا من نكد الحياة وشظف العيش المهمين، ولذا تجدهم دائمًا في كساد حال وتعبيس وجه، إلى شكوى هموم واحتمال أشجان. وهم قوم قد لازمهم سوء الطالع؛ فأصبحوا بين ويلات عديدة تعددت أطوارها، وتراكمت حوادثها؛ من فقر مدقع إلى مرض وبيل، وعذاب مهلك، وحتف مميت، ومن يأس عاجل إلى تكدير صفو، ومحنة دنيا، وبلاء أيام. ولو ساعدهم الحظ لكانوا سعداء، وما في ذلك لوم، وإنَّما الذَّنب على الطَّبيعة الجائرة والقدر المتاح، وما عليهم من وزر إذا أطاعوا القضاء في واجب حكمه، ولاذوا بالفرار من دنياهم؛ ليستريحوا من عذاب البؤس، ويجدوا في الموت راحةً بعد ذلك العناء الوبيل. وما هي غير حشرجة الموت، واختلاج الروح في جسم ضعيف؛ ثم تنتهي الحياة بخروج آخر نفس كان يتردد فيه، وفي مدة لا تتجاوز طرفة عين تصعد الروح لباريها العظيم. وأكثر البؤساء يجدون الموت سهلًا مع ما فيه من عذاب أليم وهول شديد، وسواء لديهم أن كان قتلًا أو خنقًا أو غرقًا أو حرقًا، وفي يقينهم أن الروح دخلت الجسم بسهولة وتخرج منه بسهولة. «قيل» إن عروة بن الزبير لمَّا قُطعت رِجْله وفصلوها عن جسمه لم يعبس وجهه، ونظر إليها وهي بين يديه وقال: أي قدمي، إني سخي بنفسي عنك؛ لأني لم أنقلك إلى خطيئة قط. ثم تمثَّل بقول معن بن أوس المزني:
ثم قال: ليهنك إن أخذت لقد أبقيت، وإن ابتليت لقد عافيت. وكذلك ما حُكي عن الحسين بن منصور الحلاج العابد الناسك الصوفي؛ غضب عليه الخليفة المقتدر العباسي فحبسه سنتين، ثم سلَّمه إلى حامد بن العباس في دار الشرطة فضربه ألف سوط، ثم أمر بقطع يديه ورجْليه، ففعل به ذلك وهو يقول:
ولم يتأوه أو يستغيث بأحد، ثم أمر به فصُلب على خشبة. «ودخل عليه عمر الصفَّار الصوفي» وهو مصلوب فوجده ضاحكًا مستبشرًا لم يتلفظ بألفاظ قبيحة تُكره سامعها، فقال له: ما التصوف يا حسين؟ فقال: هذا أوله، واصبر كما أنت الساعة ليبدوَ لك آخره. وبينما هما كذلك وإذا بوالي الحبس قد جاء ومعه شرذمة من الجند فأمرهم بإنزاله عن الخشبة المصلوب عليها لتُضرب عنقه، فصاح بأعلى صوته: يا ابن الصفار هذا آخر التصوف! ثم ضُربت عنقه وعُلقت رأسه على سور السجن، وبعدها أحرقوه بالنار. وأمثال هذا النوع من البؤساء كثيرون، وعموم البؤساء يجدون أن النزوح عن الدنيا أمر لا ريب فيه، ومتى حل بهم كرب لا يتطلعون إلى نعيم الحياة، ولا تتوق أنفسهم إلى بهجة الأيام، ولا يدرون لفراق العالم طعمًا، ولا يضجرون لبُعد الأحبة ذلك البعد الطويل، الذي يبتدئ بسفر لا عودة منه. ولا ترهبهم وحشة القبور الدارسة، بين خرائب عاطلة، لا أنيس فيها غير بوم ينعب وغراب ينعق، في سكون هادئ رهيب، ولا يروعهم البلى، ولا يدهشهم توسد الثرى، ولا نهش الحشرات تلك الأجسام الناعمة؛ حيث يذوي ذلك الجمال، وتندثر محاسن ذلك القد الرشيق، والقوام العادل الفتان. ولو تأملنا حالة البؤساء بإمعان شديد وجدنا كل سراء وضراء لا تؤثر عليهم؛ فسيان عندهم الموت والحياة، لا فرق لديهم بين الترف والنعيم، والعذاب والجحيم، وسيان عندهم تمتعوا بالخيرات الوافرة والسعادة الدائمة، أو عانوا أهوال البؤس ودواهيه، والفقر المدقع الوبيل، في شظف العيش ونكد الأيام.
ولا عجب إذا ابتسموا للموت، وهشوا للمصائب، وحنوا للحتف العاجل، واستبسلوا للعناء، ولم يجزعوا وهم في حالة النزع الأخير … وفي شرعهم الذي شرعوه، وقانونهم الذي نهجوا عليه، أن الموت راحة من كل عناء، وهو الدواء الناجع لكل محزون كئيب، بل هو للبؤساء جُل أمانيهم ومنتهى رغباتهم، ومع ما في الموت من عذاب يقابلونه بوجه طلق، ومحيا وضاح، وثغر ضاحك بسام، كأنهم لا يخشون قدرة حاكم سرمدي، لا يُرد له حكم، ولا يفلت من قضائه أحد.
نفوس البؤساء
ولما كان البؤس علة الإنسان في هذه الدنيا خلق الله للبؤساء نفوسًا تجردت عن الملاهي، فأصبحوا بواسطة هذا التجرد لا يطربون إلا لقصص المنكوبين، ويتلذذون بسماع نوادرهم وأخبارهم، ويجدون في تلك الأنباء ما يعينهم ويسليهم على مصائبهم، ويشعرون عند تلاوة تلك القصص المحزنة بالراحة التامة والعزاء الجميل. وهكذا كل نفس منكودة تحن من طبيعتها إلى ذكر البؤس، والقلوب الموجعة تشتاق إلى الأفعال الطيبة إن لم تنعكس عليها المشاكسات الطبيعية التي تنشأ أحيانًا من سوء الخُلق وضيق الصدر، وخصوصًا مع من نكبهم الدهر بالفقر المدقع.
ومن المقرر الواضح أن النفوس إذا خشعت في عنفوان شبابها، وكبُرت على أطوار المحن والرضوح؛ أصبحت ولا شك تميل إلى الخير أكثر منها إلى الشر، وتتحاشى ما يوجب الضرر؛ وحينئذٍ يكون خشوعها عظيمًا لأنه صادر من أعماق الضمير. وإذا نالت تلك النفوس التي أدَّبها الفقر حظَّها من الغنى؛ انقسمت إلى قسمين: «قسم» يميل إلى عمل الخير جهد استطاعته؛ فيؤاسي البؤساء، «والثاني» يكون شَرِهًا شريرًا لأنه ما تعوَّد بسطة الكف، ولا وَقَف وِقفة الكريم المتفضل؛ وما ذاك إلا لأنه وُجد في عصر مظلم، وجو قاتم لا يُعرف فيه نور الهدى. ولما كان كذلك تنوعت أعمال هذه النفوس وتغيرت أطوارها على اختلاف مشاربها وتباين طباعها، وأصبحت الطبيعة كأنها تشارك الإنسان في أحواله وأطواره، وكأن تلك العناصر والجمادات عوامل حية في ذلك المعترك الحيوي، الذي جمع بين طوائفه تهديد الضنك والأسى، ومغانم الحظوة والسرور، وصار بعناصره كالجيش المحارب في ميدان الجهاد؛ بين انتصار وخذلان، وأخذ ورد، وإقبال وإدبار؛ لتقضي كل نفس لبانتها، وتبلغ النفوس السعيدة شأوها من الغنى، ويتأهب البائس لاحتمال ضرورة الفقر والشقاء. ومن أدرك فربما قادته الضرورة إلى اقتحام أهوال الموت، وهو لا يعلم ولا يدري. ولله در الفيلسوف العربي حيث قال:
اليأس
اليأس عنوان الشقاء، وأصل كل تعاسة، بل هو فاتحة الشر ودليل الخسران ومنبع الكبائر، كم بدد لذَّات، وقوض من آمال، وأوهن من عزائم، وأذل من نفوس! بل هو علة مخلوقات الله تعالى. «اليأس والبؤس» كلمتان متشابهتان؛ فاليأس حليف الموت، والبؤس حليف الفقر. ومن بواعث اليأس: الهم، والغم، والشر، والشقاء.
وموضوع اليأس مريع حيَّر فلاسفة العالم، وأدهش حكماء الكلام، وتاهوا في معنى أسبابه وحصوله. كم من ملوك دوَّخوا أقطار العالم، ورهبت بأسَهم الدنيا! إذا استولى عليهم اليأس تراهم وقد تزلزلوا عن عروشهم، وتقوضت دعائم مجدهم، وفي لحظة واحدة تجدهم تحت رحمة القضاء العاجل والحتف المميت. وكم ملك فتح مدائن الأرض بمرهف سيفه، وهدم القلاع بقوة بطشه، واستعبد الأحرار بجبروته، وأسر الملوك بعزمه وحزمه، وسار القُوَّاد تحت أمره ورأيه، ومشت سنابك خيله على جثث العباد، ورفات الخلائق من بني الإنسان! ولو شاء لجرى القضاء طِبق ميوله، واستلم النصر بيمينه، ولعب بالخلائق لعب الباشق بالعصفور الحقير، يقلِّبهم كيف شاء وشاءت أطواره وأفكاره، وبينما جيشه يسد فراغ الأرض، ويحجب غباره ضياء الشمس، وقد سطع شعاع سيفه كبرق لامع أضاء تلك الآفاق ليهتديَ ببريقه جيشه وقُوَّاده، ومتى لعبت به صروف الدهر أو عاكسته الأيام؛ تجده وقد أشاح عنه القدر تلك العظمة، وزلزلته النكبات فهبط من سماء مجده إلى الحضيض الأسفل من الأرض، بائسًا يائسًا كأنه قنط من رحمة الله تعالى، وكأنه لم يكن شيئًا مذكورًا بعد تلك الانتصارات التي سطَّرتها له الأيام على جبين الدهر، ولم يوطد دعائم مجده وفخاره، وكأنه وهو في تلك الحالة من تقويض الآمال العظيمة ترك عليه الشقاء أثرًا من بلائه؛ فأصبح يناجي الموت ليريحه من متاعب الدنيا ونحوسها، بعد أن كان يناجيه الحظ، وتخدمه السعادة، وتنحني أمامه الرءوس رهبة، والهامات هيبةً وإجلالًا. خانه الدهر وتنكرت عليه الأيام؛ فأصبح وكأنه لم يكن ذلك المخلوق المجدود الذي أسعدته ظروف الولادة. ومن أدراك به فربما مات شريدًا عن وطنه، أو حكمت عليه يد غاشمة بالنفي الدائم أو السجن المؤبد؟! وهذا قليل من كثير ممن صادفهم سوء الطالع، وهم من الملوك العظام يضيق بنا المقام عن حصرهم.