تعساء الشقاء حلفاء الفقر
«الفقر» هو الفاقة، والفاقة هي البؤس الحقيقي، ومن أصابته علة الفقر صار شقيًّا. والفقر متى حل بقوم جعلهم في نكد مستمر، وجلب عليهم الهم من كل صوب. ومن نُكب بالفقر فهو من بؤساء الدنيا، والبائس من عاش محرومًا من مشتهيات نفسه. ولقد داهم الفقر طائفةً من المشاهير الأعلام، نوابغ الدنيا وحكماء الكلام، وفلاسفة الدهور وعلماء الإسلام.
تراهم وقد حلَّينا برسومهم هذا الكتاب؛ إتمامًا للفائدة التي بسببها اعتمدت على الله عز وجل وقمت بواجب طبعه ونشره بين الناس، وأنا على يقين من أنه لم يسبقني في وضعه أحد، بل هو الكتاب الوحيد في هذا الفن.
الفارابي
«الفارابي» وهو محمد أبو نصر بن محمد بن أوزلع بن طرخان، من مدينة فاراب ببلاد التُّرك، كان إمامًا فاضلًا، وفيلسوفًا كاملًا، برع في الفلسفة وأتقنها وأظهر محاسنها، وتفنن في فن الموسيقى واخترع فيه ما لم يسبقه إليه أحد، وشرح كُتُب الأوائل. وكان في أول الأمر قاضيًا ببلاده، فأودع عنده رجل من التجار جملةً من كُتُب أرسطاطاليس، فتلاها فصادفت عنده قبولًا؛ فانكب عليها بجملته. وتجرَّد عن مركزه وترك القضاء لأجلها وسافر إلى بغداد، وأقام بها. وقرأ المنطق على ابن حبلان، وقرأ النحو على أبي بكر بن السراج، ثم سافر إلى مصر، ومنها رحل إلى الشام وأقام بها إلى أن تُوفي سنة ١٣٣٤ هجرية. وكان على ما هو عليه من العلم والحكمة والفلسفة قانعًا باليسير من عيشه، ولم يتحصل من الرزق إلا على القليل التافه.
وفي آخر أيامه رتَّب له الأمير سيف الدولة أربعة دراهم يصرفها في الضروري من حاجاته. وترك من المآثر ما خلَّد اسمه على ممر الأيام، وهو أحد فلاسفة الإسلام الأعلام.
«أخلاقه»: ولقد كان هادئًا وديعًا عاقلًا دمث الأخلاق، حاضر الذاكرة، قوي الذهن، لا يهاب أحدًا، وإن كان دائمًا كثير الصمت إلا أنه شديد الحفظ، وله من عزة نفسه العالية مكانة سامية تقصر عنها همة الملوك، وتسجد لعظمتها العظماء.
الخليل بن أحمد
وهو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الأزدي، كان إمامًا في علم النحو، وهو الذي استنبط العَروض، وعنه أخذ سيبويه وغيره من العلماء. وكان رحمه الله متقللًا من الدنيا، صبورًا على العيش الخشن والضيق الشديد، وكان يقول: «لا يجاوز همي ما وراء بابي.» وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي والي فارس والأهواز، فكتب إليه سليمان يستدعيه بكتاب شديد اللهجة، فكتب الخليل رد جوابه بقوله:
فلما وقف سليمان على كتابه قطع عنه الراتب فاحتاج إلى ما ينفق، ولمَّا اشتد عليه الحال ارتحل إلى البصرة وأقام في كوخ صغير من أكواخها لا يقدر على نفقة القوت الضروري، وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال، وكان دائمًا يتمثل بقوله:
وكان إذا قدِم على سيبويه يقول له: «أهلًا بزائر لا يُمل.»
وتُوفي إلى رحمة الله فقيرًا معدِمًا سنة «١٧٠ هجرية» بعد أن ترك في عالم الأدب والعلم ما لا يندثر ويجعله في درجة عالية كأنه لم يمُت، وسيبقى اسمه بين الناس ما بقيت مؤلفاته إلى يوم القيامة. ا.ﻫ.
الترمذي
«الترمذي» هو الإمام العالِم العامل محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الشافعي، كان رحمه الله مطبوعًا على الأدب ومكارم الأخلاق، متحليًا بالفضائل، سار ذكره مسير الشمس والقمر حتى ملأ الآفاق بعلمه، ولم يكن للشافعية أرأس منه في وقته، ولا أروع ولا أحشم.
وكان مع هذا العلم الفائق على جانب عظيم من الفقر المدقع، وكثيرًا ما كان يقول: «إن سعادة الحياة وهم باطل، ونعيمها خيال مائل، ومتاعها عرَض زائل، سرورها أحزان، ولذتها آلام، ولو كنت أعجب بشيء فما أعجب إلا بمن تعلَّقوا بحب الدنيا، وهاموا بسعادتها الموهومة، وأطربهم سماع لفظة «السعادة»، تلك الكلمة الحلوة، حتى تخيلوها نعمةً ما فُتحت عين ابن آدم على أتم منها حسنًا، ولا أجمل منها صورة، وباتوا يتهالكون في السعي خلفها ليدركوها، ولكنهم عجزوا عن لحاقها ولم يجدوها، وأخيرًا بحثوا عنها فلم يقفوا لها على أثر، وأين يجدون هذه السعادة؟ أفي قصور الملوك ومقاصف الأمراء، حيث يضرب الهناء قبابه، ويوطد أطنابه، وتتسرب الحظوظ في جميع أماكنها، أم في بيوت الفقراء الحقيرة، حيث يحل الفقر وينيخ ركابه؟»
«وله في وصف الحياة»: ما أكثر خداع هذه الحياة! إنها كالسراب يحسبه الظمآن ماءً، كلما جد في طلبه ازداد بُعدًا، وكلما يئس وتوانى عن طلبها؛ أبرقت له وازداد لمعانها، عساه أن يوفق للَّحاق بها.
«وكان دائمًا يقول وهو في أشد حالات محنته»: ما أضيقك أيتها الحياة لولا فسحة الأمل الكامن في صدورنا!
وكان رحمه الله صبورًا على الشدائد والعيش الخشن، حتى إنه ليصح عنه أن يلقب ﺑ «أمير البؤساء». قيل إنه من شدة فاقته مكث سبعة عشر يومًا لا يقتات إلا لفتًا، كل يوم وليلة يأكل واحدة. وتوفي إلى رحمة الله فقيرًا معدِمًا، وعلى منتهى البؤس والفاقة، لا يجد قوت ليلة، وكانت وفاته سنة «٢٩٥ هجرية».
جحظة البرمكي
وهو أبو الحسين أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، كان فاضلًا أديبًا صاحب فنون وأخبار، ونوادر وأشعار، ومنادمة ومجون، وخلاعة وشجون، نشأ في حِجر الخلافة العباسية، وترعرع في مهد العز والرفاهية، وناهِيَك بآبائه الكرام، بني برمك أشهر كرماء الإسلام. وُلِد جحظة والدنيا زاهرة زاهية، وعائلته تفوق الملوك بالكرم والسخاء، حتى بات الخليفة يحسدهم ويغار منهم، وسُرعان ما أضمر لهم السوء فنكَّل بهم تنكيلًا شديدًا.
وأصاب البؤس جحظة كما أصاب أجداده من قبله، وبات لا يملك ما ينفقه، وكان لشدة تعلُّقه بالعلم يمكث طول ليله يراجع النكات الأدبية، ومباحث العلماء والفقهاء، ولما لم يجد ما يضيء يغتم غمًّا شديدًا، وينكب على وجهه من شدة الكدر. ومن لطائف شعره:
«ومن محاسن نثره»: لقد طلبنا السعادة في المال فما وجدنا، وفي الحياة فما استفدنا، وفي الفقر فما استرحنا. وإذا طلبنا السعادة وأردنا أن نعيش سعداء؛ نفرت منا، واحتجبت عنا، وأصبح من المستحيل أن نتمتع بالحياة الحقيقة، والسعادة المرغوبة في هذه الدنيا. ورغمًا عن العوارض التي تعترضنا فلا بد من الوصول إلى أوهام السعادة، وإذا لم نعثر عليها فلنطلبها في الخيال الوهمي، لنطلبها في الأمل الفسيح الذي نبتهج به، ويسطع لمعانه على نفوسنا فيبدد ديجور ظلامها الحالك. «وله من الحِكم المأثورة»: إننا نتوق كثيرًا إلى السعادة، ولكننا لا نعرف كيف السبيل إليها.
وتوفي حزينًا مكتئبًا فقيرًا بائسًا سنة «٣٢٦ هجرية».
النضر بن شميل
النضر بن شميل هو العالِم المتبحر، الشاعر التميمي المازني النحوي البصري، بل هو أعلم أهل زمانه بفنون العلم والأدب، وهو صاحب «غريب الحديث»، ومن أصحاب الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي.
ضاقت به الحال بالبصرة فخرج يريد خراسان عساها أن تكون سببًا في اتصال عيشه واتساع رزقه؛ فشيَّعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدِّث أو لغوي أو عروضي أو إخباري. فقال لهم: يا أهل البصرة، يعز عليَّ فراقكم، ولو وجدت ما يسد رمقي بين ظهرانيكم ما فارقتكم.
فلم يتكفل أحد بطعامه، وسار حتى دخل بغداد، فدخل على أمير المؤمنين المأمون في ثوب مرقوع، وهو في شدة الفاقة والفقر، فقال له المأمون: ما هذا التقشف؟! فقال: يا أمير المؤمنين، شيخ ضعيف، وحَر شديد؛ فأتبرد بهذه الخلقان. فقال المأمون: لا، ولكنك قشف. ثم تجاذبا أطراف الحديث إلى أن أدى بهما إلى السداد بمعنى البلغة، وسد الثلمة، فأورده المأمون بفتح الثاء، فرده النضر وبيَّن له أن المفتوح إنما هو القصد لا البلغة، فأمر له عند انصرافه بخمسين ألف درهم يقبضها من الفضل بن سهل، فصرفها له الفضل ثمانين ألفًا عند وقوفه على سبب الصرف. وتُوفي النضر بمروَ سنة «٤٠٢ هجرية» وهو معدِم في شدة الإملاق.
النَّيسابوري
هو الإمام الحافظ الفقيه الورع، العالِم العلَّامة، وحيد دهره، وفريد عصره، أبو بكر عبد الله بن زياد النَّيسابوري، وُلِد رحمه الله من أبوين كريمين، وترعرع في نعمتهما، ونشأ في يسار وبسطة وغنًى، ولما بلغ العاشرة من عمره تُوفي والده فاحتضنته والدته، ولكنها بعد سنة لحقت بوالده فأصبح لطيمًا، ولحقه الإملاق ولم يتركا له من المتاع ما يستعين به؛ فأقام يعاني أهوال الفقر أربعين سنةً وهو مُكب على دروس العلم في محافل العلماء، ولم يُرزق الغنى في حياته، ولم ينم الليل إلا غفوات، ويتقوَّت كل يوم بخمس حبات، إلى أن انتقل من دار الدنيا. ومن محاسن نثره: «الإنسان بين الأمل واليأس.» «الأمل» قوة عظيمة تسوق الإنسان إلى العمل؛ فينشط من عقال الخمول، ويرتقي ذروة المجد العالية، ومهما صادفه من عقبات توقفه في طريقه، وتعيقه عن إدراك ما يروم؛ فإن عوامل الأمل تدفعه إلى العمل بخطوات واسعة؛ فيتخطى العقبات، ويتسلق الجبال، ويغوص البحار، ويركب كل صعب ما دام الأمل رائده، ولا ينتهي من جهاده إلا إذا بلغ أمنيته وأدرك غايته، أما إذا عصفت عليه زوابع اليأس، ولفحته رمضاء القنوط؛ استولى عليه البؤس، وامتلأ فؤاده حزنًا وأسًى، وضاق في عينه فضاء الأرض الذي ترامت أطرافه. ومتى بلغ به اليأس حد التعاسة؛ خانه الصبر، وفقد تلك القوة التي تسخِّر الإنسان إلى الحياة؛ فتراه واقفًا يندد على الدنيا، ويتمنى الرحيل إلى الدار الآخرة، ويستعمل كل غاية للقضاء على أجله. ومن البؤساء من يقتل نفسه بخنجره، أو يلقي نفسه من مرتفعات شاهقات. «ومنهم» من يتردد بين الموت والحياة، فيقف على شاطئ نهر يخطب ود أسماكه إشفاقًا على جسمه من أنيابها، فإن استقوى عليه اليأس زج بنفسه في اليم وهو يحمل في صدره حقدًا على الدنيا المحفوفة بالمكاره والأخطار، ويود لو زالت العوالم معه واندكت دعائم الوجود. أما إذا تغلَّب الأمل على اليأس؛ فتراه وثب وثبة النمر، وأخذ يخاطب المستقبل الرهيب بألفاظ لا يفهمها سواه، ثم يضم قبضتيه ويهدد الزمن وهو هازئ به، ساخر عليه. وتستحيل أوهامه إلى حقائق فينظر إلى الزمن غاضبًا، ويرنو إلى السعادة التي ولَّدها بقلبه الأمل، وكأنها تدنو منه وتحُول بينه وبين الموت. ولولا هذا الأمل العالق بقلوب بني آدم ما غرس غارس، ولا أرضعت أُم ولد، ولا طال عهد الإنسان بالدنيا، ولا نفض عن جسمه غبارًا أثارته عواصف الأكدار. واليأس من غير شك مُهلك الأفراد؛ ما حل بإنسان إلا وتنغصت عليه حياته، وأصبح حبل الموت أقرب إليه من الوريد. وكذلك إذا تسرَّب بأمة من الأمم فإنه يكتسحها أمامه، ويبيدها عن آخرها.
ومتى عرفنا ذلك وجب علينا ألَّا ندع لهذا اليأس سلطانًا على قلوبنا، ونتخذ الأمل رائدًا، ومن الحقائق الطبيعية أن لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس. وتُوفي رحمه الله على منتهى البؤس والفقر سنة «٣٢٢ هجرية».
أبو الحسن بن بوعت
كان رحمه الله شاعرًا مُجيدًا إلا أنه قليل الحظ من الدنيا، عاش طول عمره فقيرًا من المال غنيًّا بالعلم، وكان يرتدي ثوبًا من نسيج الوبر الخشن ليس له غيره، ولا يجد ما يقتات به، وربما يطوي طول يومه جوعًا، وتأبى عليه عزة نفسه أن يطلب من الناس شيئًا، ولم يمتدح أحدًا أو يتظاهر بالرياء قط، على أنه لو فعل لكان من أحسن الناس حظًّا. «قيل» إنَّ الأمير ابن عبد الله الوائلي استدعاه لخدمته فمكث عنده أسبوعًا، وتصادف أن ناداه ذات يوم بلهجة استعجال وتهكم كما هي عادة أمراء ذلك العصر؛ فلم يرد عليه ابن بوعت، ولكنه نظر إليه نظرةً حوت كل ما في نفسه الكبيرة من العظمة والطمأنينة، وخرج من القصر مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولم يتجاسر الأمير ولا أحد أتباعه على سؤاله.
وبعد أيام غادر البلدة قاصدًا مصر، فوصلها بعد جهد جهيد وتعب شديد، وعناء ما بعده عناء، ومكث في أحد جوامعها زاهدًا متعبدًا.
وكان له وهو على هذه الحالة مجلس علم لا يحضره إلا العلماء، وقد انتفع بعلمه وأدبه خَلْق كثير.
وهو على حالة من الضرورة وشدة الفاقة.
ومن محاسن شعره:
وقال ابن سلام: كان لأبي الحسن بن بوعت شهرة كبيرة في جميع الممالك الإسلامية، وكان الناس ينظرون إليه نظرة احترام وإعجاب عظيمين، وعلى شدة تقشفه وورعه وانهماكه في طلب العلم والاستزادة منه، كان على جانب عظيم من الذكاء النادر وسرعة الخاطر والنشاط الغريب، وأبدى في الإفتاء في بعض المسائل المعقدة ما يشهد له بالفخر والإعجاب، وكان على هذا النبوغ العظيم، والمواهب السامية، أفقر خلق الله، دام يعاني أهوال البؤس وشقاءه طول حياته.
وقال الإمام الوهابي: ما رأيت مشهدًا حافلًا أروع وأحشم وأعظم وأكثر جموعًا من مشهد ابن بوعت؛ فقد كان في جنازته جموع لا يعلم أحد كيف جاءوا، ولا كيف كانوا، ولا ما هو عددهم بالضبط، ولقد خُيِّل لي أن هذه الجموع كان أولها في القرافة وآخرها عند المسجد.
«وكانت وفاته رحمة الله عليه بمصر سنة ٤١٦ هجرية.»
أبو الصلت
وهو أمية بن عبد العزيز الأندلسي، كان أديبًا ماهرًا في علوم الأوائل، عاش فقير الحال معدِمًا محرومًا من الغنى طول حياته، وذلك بدليل قوله:
«ومن محاسن نثره يصف الحياة»: الحياة كما يقولون سعادة دائمة، وكل جمال مشتق من جمالها الرائع، وجمال الطبيعة أيضًا من بعض جمالها العبقري، وكثيرًا ما خدعت الناس بسرابها الكاذب، ونجد فيها السعادة شقاءً، أضعنا الوقت في تحصيل العلوم، وفي وقت أخلصنا فيه قلوبنا من مشاغل الحياة، وضحينا على مذبحها المقدَّس عواطفنا الشريفة؛ ولم نفز بطائل، ولم نتمتع بهناء النفس الذي تعلَّلنا به، وكأننا ونحن في دائرة الحرمان أصبحنا — والدنيا بملاهيها — لا قيمة لها عندنا، وما بأساء الحياة وشظف العيش الذي نحن فيه إلا كسجن، ولا خلاص لنا منه إلا بالموت، فنستريح من مشاغل الحياة، ونطمئن بالراحة في دار الخلود. توفي رحمه الله سنة «٥٣٨ هجرية».
«صفاته»: كان متوسط الجسم، متوسط القامة، حسن الهيئة، محترمًا من جميع معارفه، وكان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وسلامة الذوق. ولقد خدم العلم والأدب خدمات جليلةً تشهد له بالفضل والنبوغ، وكثيرًا ما سمع بأذنه عبارات المديح والإطراء من أفواه طوائف عديدة من العلماء والشعراء.
القاضي عبد الوهاب
هو القاضي العادل عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، كان رحمه الله من الأفاضل المشهورين، والعلماء المعدودين، بل هو خِيرة الأدباء من الناس، ولسان أصحاب القياس، نبت به بغداد، على حالة البلاد، فخرج منها طالبًا مصر فشيَّعه من أكابرها خلق كثير، فقال لهم لمَّا ودَّعوه: والله لو وجدت بين ظهرانيكم كل غداة وعشية رغيفين من خبز ما فارقتكم. فلم يكن فيهم من يتكفل له بذلك فأنشد:
ولمَّا شد رحاله أنشد:
فلما وصل مصر تلقَّاه أكابرها بالبِشر والكرامة، وأنزلوه أحسن بيوتها، وأهدوه كثيرًا من الهدايا الفاخرة والعطايا الوافرة والأرزاق الجزيلة؛ فحمل لواء العز فيها، وملأ أرضها وسماءها بمعارفه ولطائفه؛ فتناهت إليه الغرائب، وانهالت عليه الرغائب، ولم يطل عليه هذا الحال غير بضع شهور. وحينئذٍ ظهرت مواهبه الفائقة ونبوغه العلمي، وقال وهو في مصر في بعض مذكراته يصف عظمة أبناء وادي النيل:
للإحسان طرق متعددة، تختلف باختلاف نواحيها، ومهما كانت نتيجة هذا الاختلاف، فقد تؤدي هذه الطرق إلى غاية واحدة؛ هي تخفيف ويلات الإنسانية المعذبة، وعلى الخصوص طائفة البؤساء، بتجفيف دموع هؤلاء الذين نُكبوا في الحياة. ويجب على أهل الخير والإحسان أن يجبروا هذه القلوب المصدوعة التي ضعضعها الزمن.
ولقد وجدت من أبناء مصر، وفي كل ناحية من نواحيها منتهى العناية، ومدارج البر والإحسان في نواحٍ كثيرة، وسبل متعددة. وإن سماء مصر تظل جيشًا جرارًا، كلهم بل جُلهم ليس لهم من مسترزق يتعيشون منه غير إحسان المصريين الكرماء.
ولو كان للإحسان أصل في عالم الوجود؛ فلا شك أن كرماء مصر هم ذلك الأصل ومصدره.
•••
وقال من مذكرة أخرى: إن الأمة المصرية الكريمة من خير الأمم، بل الأمة الوحيدة التي ضربت في الحضارة بقسط وافر، وبينها وبين الأمم الأخرى فرق عظيم من حيث السخاء ومكارم الأخلاق وإكرام النزيل، وأين هذه الأمة العظيمة المتمدينة الراقية، التي لا يُعلم عصرُ تمدينها وهو يرجع إلى آلاف الآلاف من السنين، من أهل بغداد على شُحهم وبخلهم وحاجتهم إلى العلم بالكرم والجود؟!
•••
وفي هذا الوقت القصير الذي مكث فيه بمصر استقامت أحواله؛ فصار كأنه ملك أو أمير، ونسي بل تناسى أيام بؤسه وشقائه.
وكان وديع النفس هادئ الطباع، دمث الأخلاق، قوي الذاكرة، عالِمًا متبحرًا في العلم، وكان له في القاهرة مجلس علم حافل لا يجتمع فيه غير العلماء والوجهاء وأعيان الدولة.
وبالجملة فقد كان القاضي عبد الوهاب محترمًا مهيبًا.
«ومما رُوي عنه»: أنه في ذات يوم أمر طاهيه أن يصنع له صنفًا من طعام كانت نفسه تشتهيه، فلما جاء الطاهي به أخذ يأكل فوق طاقته (أي أنه أكثر من تناول هذا الطعام) فكانت شهوة نفسه قاضيةً على حياته، ولم يتمتع بملذاته، وقال وهو يجود بآخر نفسه: «لا إله إلا الله! لمَّا جئنا نعيش متنا.»
وكانت وفاته بمصر سنة «٤٥٠ هجرية». ا.ﻫ.
ابن الخياط
هو أبو عبد الله محمد الثعلبي المعروف بابن الخياط، الشاعر المفطور، والمتكلم المشهور، رب الأدب، وأبلغ من كتب، حجة الشعراء، وإمام الخطباء، طاف البلاد، وقطع الوهاد، حتى دخل بلاد العجم، وامتدح الملوك والأمراء، وجالس العلماء والعظماء، وكان مع نباهته وبلاغته بائسًا فقيرًا معدِمًا. «قيل» إنه لما دخل حلب كان فقير الحال لا يقدر على شيء، وليس معه ما ينفقه؛ فكتب رقعةً إلى ابن حبوس الشاعر المشهور يقول فيها:
وكفاه فخرًا وتعريفًا بالفضل قصيدته البائية التي سارت بها الركبان، وهي:
وكانت وفاته رحمة الله عليه سنة «٥١٧ هجرية».
أبو الطيب الطبري
هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر شيخ الشافعية وإمام عصره، صنَّف في الأصول والجدل وغير ذلك، وكان له ولأخيه عِمامة وقميص إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت. وقد قال في ذلك القاضي أبو الطيب:
بلغ مائتين وستين سنةً وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويشتغل، وليس به إلا علة الفقر.
وكان رحمه الله من نوابغ العلماء، بل هو أول من أفتى الفتاوى الشافعية، وصادقه عليها أشهر علماء ذلك العصر، وكثيرًا ما قضى بالحق فكان على الخصوم الإذعان. وعلى بؤسه وسوء حاله كان مغتبطًا بروحانيته، يسبح في بحار العلوم لاستخراج الدرر الوهَّاجة ليبهر بها الناس. وكان لا يسأل الناس فضل نوالهم، ويتباعد عن قصور الأمراء ومحامل الأغنياء؛ لا تكرُّمًا منه، بل حرصًا على سمعته. وبالجملة فقد كان يمثِّل في تقشفه وورعه زهد الخلفاء الراشدين، والأولياء والصالحين، كثير العبادة، حسن الاعتقاد، وديع النفس، لا تأخذه في الحق لومة لائم.
وله من تصانيفه العلمية ما تفتخر بها الأجيال، وتتحدث بنفاستها العصور، جزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء.
توفي رحمه الله فقيرًا معدِمًا سنة «٤٥٠ هجرية».
محمد بن عبد الرزاق
وهو ابن رزق أبي بكر العدل العالِم، شمس الدين بن محمد الحنبلي، كان من أعيان الشهود تحت الساعات عارضة البؤس، فأصبح في حالة ضنك شديد.
«قيل» إنه سافر إلى مصر في شهادة فركب حمارًا كان له خاصة، ووضع عليه جعبةً فيها ما يحتاج إليه من مال وغيره، وبينما هو في الطريق خرج عليه جماعة من اللصوص فأخذوا منه الحمار بما عليه عنوة، وتركوه في عرض الطريق باكيًا جائعًا لا يعرف إلى أين يذهب، وبعد أيام وصل مصر شاكيًا، وفي حالة من البؤس يرثى لها؛ فلم يحصل على مقصود؛ فخرج إلى دمشق من نفقة قليلة؛ وهناك انتظم حاله، وتعرَّف بجماعة من أهل الفضل، فاشترى فرسًا. وفي ذات يوم خرج بها إلى النهر ليسقيَها فغرقت منه، فجاء يسحبها فغمرته الأمواج فمات غريقًا سنة «٦٨٩ هجرية».
ومن محاسن شعره:
محمد بن إدريس
هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، أحد الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث، سمع الكثير، وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق كثير من الأكابر والأعلام، وحدَّث عنه الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وهما أكبر منه. «قيل» إنه مشى في طلب الحديث «ألف فرسخ»، ولم يكن له شيء من المال ينفقه على نفسه في رحلاته، ومكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئًا، وله صبر على الجوع واحتمال الضنك.
ومن محاسن شعره:
ومما رُوي عنه:
أنه كان ذات يوم يجوب قفار الأرض من بلدة لأخرى، وصل إلى قرية صغيرة أمسى عليه الليل فيها، فصادفه أحد سكانها، ولمَّا علم أنه غريب أضافه في منزله، وكان وهو بالطريق قد تبعه بعض الأشقياء طامعًا في الحقيبة التي يحملها؛ ظنًّا منه أن بها أمواله.
وكان من حُسن حظه أنه كان يلبس عباءةً يعرفها الرجل، فلما انقضت السهرة بعد هجعة من الليل ذهب لينام، فوجد الرجل قد هيأ له فراشًا وثيرًا، فتمدد عليه ونسي عباءته في غرفة مجاورة؛ فتغطَّى بها صاحب البيت.
فدخل ذلك اللص، ولما وجد صاحب البيت ملتفًّا في العباءة ظنه هو فهجم عليه فقتله، وشعر أبناء الرجل بحصول الجريمة فانقضوا على القاتل وقبضوا عليه، ولما وقف ابن إدريس على هذا الاتفاق اغتم غمًّا شديدًا وقال: ليتني كنت قدمت فأستريح من هذه الحياة. وتوفي سنة «٢٧٧ هجرية».
سيبويه
هو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر البصري، الحجة في علم النحو والعلم، وإمام النحاة قاطبة، ويُعتبر سيبويه من العلماء الأعلام، بل هو طود اللغة العربية، ولسانها الناطق، وقلبها الخفاق، علَم من الأعلام الخفاقة بالعلوم والمعارف، سطعت أنوار عرفانه على الشرق أجمع، وبعض بلاد الغرب، وإن شئت فقل: إن ذكره سار مع الركبان، وضُربت بمتانته الأمثال. وكان على هذا النبوغ العظيم، والشهرة الواسعة التي طبَّقت الآفاق، وصيته البعيد في العلم والأدب، ورسوخه في علم الاجتماع، بل هو أعلم علماء العصر، وأفضل فضلاء الدهر؛ أدهش الثقاة بعلمه. وشرح النحاة كتابه؛ فانغمروا في لجج بحره، وتاهوا في تيار علمه، وانبهروا من لآلئ جواهره.
كان رحمه الله فقيرًا معدِمًا. «قيل» إنه لما قدِم بغداد ناظر الكسائي وأصحابه؛ ففاز عليهم وفاقهم، ثم سأل عمن يرغب من الملوك في النحو، فدلوه على طلحة بن طاهر؛ فشخص إلى خراسان عساه ينال شيئًا من كرمه، فصادفه سوء طالعه بعد أن قطع القفار، واخترق الوهاد، وجاب الوديان، وكأنما أثَّر التعب على صحته، وأضناه كثرة السير فشعر بحمًّى عنيفة.
فلما انتهى إلى ساوة مرض مرضًا شديدًا، ومات «سنة ١٨٠ هجرية» محرومًا بائسًا فقيرًا رحمة الله عليه.
ابن النحاس
هو بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الإمام العلَّامة، كان من أذكياء بني آدم، وله خبرة بالمنطق، وإقليدس مشهور بالدين والصدق مع إطراء التكلف والتجمل وصغر العمامة، فيه ظرف النحاة وانبساطهم، وكان يحدِّث في تعليمه وخطابه بلغة عامة الحِلسين، ولا يتهوج في أقواله، ولم يتزوج لضيق حاله. توفي فقيرًا بائسًا سنة «٦١٨ هجرية». ومن محاسن شعره:
وله ديوان شعر جيد.
ابن مالك
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي الملقب بجمال الدين، صاحب التصانيف المبسوطة والمختصرة، والنظم والنثر، شيخ النحاة في عصره، وإمام اللغة في وقته، كان رحمه الله كثير الاشتغال بالعلم؛ حتى إنه حفظ في اليوم الذي مات فيه خمس شواهد، وكان على تبحره في العلوم فقيرًا لا يمتلك شيئًا. فمن محاسن نثره: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك أنت الفعَّال لما تريد، لقد أسبغت نعمتك على قوم وأوصدت باب رزقك في وجه آخرين، لا اعتراض في حكمك، ولا تبديل لكلماتك. اللهم لقد أصبحت جميع مشاغل الحياة طالحةً فاسدة، وملاهيها قاحلةً عقيمة، وخيرات هذا الوجود لا معنى لها ولا طعم للذتها؛ لأني محروم منها، وزينة الحياة الدنيا نازحة عني نافرة مني، حتى صارت في نظري كالعدم، بل هي والعدم سواء … ولولا الأمل الغريزي في الطبائع الإنسانية ما عرفت لذة العلم، ولا أدركت سبيله، ولا بلغت المقصود منه. ولكني بعدما نهجت طريقه تاقت نفسي لحب الرفعة؛ فخسرت الراحتين معًا، وكأن أشعة هذا الأمل انعكست على روح غير روحي؛ فبطَل من مخيلتي حب العمل، وضاعت مني عقيدة الرسوخ، وذهبت أغراض الحياة، وأصبحت على كاهلي حملًا ثقيلًا لا يطاق.
ولقد تحملت غضاضة العيش، وتجرعت مرارة العمر، وما كان لي من غرض في هذه الدنيا إلا أن أكون عالِمًا، وأنهج على منهاج الدين الحنيف؛ أبتغي الدار الآخرة.
اللهم ارزقني نعمة الصبر، واكتبني مع الشاهدين. تُوفي رحمه الله «سنة ٦٧٢ هجرية».
ابن الصباغ
هو أبو عبد الله بن عطية الشهير بابن الصباغ، افتقر بعد غناه حتى بات لا يجد قوت ليلة، فشكا حاله إلى بعض إخوانه، فأشاروا عليه بالاغتراب عن وطنه، فتخوف من الرحيل وشعر بهول الغربة، وتمثل بقول الشاعر:
فعارضه في ذلك بعض نصحائه، وحتَّم عليه بوجوب السفر، وحرضه بعضهم بقوله:
فأطاع وهجر وطنه، ورمته المقادير بأرض العراق.
فصار في نكد؛ يكافح النُّوَب، تارةً يشبع وتارةً يجوع، وهو لا يعرف حيلةً يتوصل بها إلى جلب الرزق، اللهم إلا قوت يوم بعد يومين، ولم يتمكن من شراء كساء يستر جسمه حتى صار في حالة يرثى لها من الفقر المدقع والبؤس الشديد، يمر بين الناس ممزق الثياب حافي القدمين مدة سبع سنوات. ففي سنة «٩٤٥ هجرية» اتصل بخدمة الأمير محمد الطرابلسي؛ فرق له وأنعم عليه، ورتب له راتبًا يتقاضاه ويتعيَّش منه، ولما توسم فيه النجابة والذكاء والتقوى ألحقه بخاصته، ولم يدم عليه هذا الحال طويلًا حتى عزم الأمير على الحج إلى بيت الله الحرام، وأمر بشد الرحال، وأخذ معه أبا عبد الله. ولما أصبحوا على عدة أميال من المدينة عسكرت القافلة تلك الليلة هناك، وفي الصباح قام أبو عبد الله مبكرًا ليوقظ مولاه لصلاة الفجر، ويتأهبوا للرحيل مع القافلة، فوجده قتيلًا على فراشه؛ فارتاع روعةً شديدة، وحصل عنده رعب شديد. وفيما هو في ذهوله حضر بعض الخدم فأبصر الأمير مجندلًا، وأبو عبد الله في ذهوله، فألقى عليه جريمة القتل، وصاح بالنجدة؛ فحضر الناس وأوسعوا ابن الصباغ ضربًا وقدموه إلى رئيس القافلة؛ فأمرهم باعتقاله بعد أن ضربه ألف سوط، وصرَّح بدفن جثة الأمير. ولما دخلوا المدينة سلَّموه للوالي ليقتص منه ويحاكمه، ولمَّا لم يجد الوالي ما يثبت التهمة عليه أمر بإيداعه السجن. ثم تنوسي أمره فاستمر في سجنه عامًا كاملًا. ثم تغيرت الأحوال، وعُزل الوالي؛ فأطلقوا سراحه، فخرج من السجن خالي الوفاض، فدار في أزقة المدينة يومًا لم يتناول فيه طعامًا، وأمسى عليه الليل فصار يبحث عن مأوًى ينام فيه. وبينما هو يجول حول البيوت وجد امرأةً تبكي على باب دارها، فسألها عن سبب بكائها فأخبرته أن زوجها يُحتضر، وليس عندها أحد؛ فتعهَّد بمواساته معها، وأقام ليلته في خدمة المريض. وفي الصباح قضى الرجل نحبه، فجهزه مع المرأة ودفناه. ولما عادا من المقبرة إلى البيت؛ أكرمت المرأة وفادته، ورغبت في وجوده معها؛ فأطاع ومكث عندها إلى أن انتهت مدة العدة أربع أشهر وعشرة أيام، فوجدت فيه مع طول المدة التي عاشرته فيها خصالًا كريمةً تدل على نبله، وشرف مَحتِده؛ فعرضت نفسها عليه وتزوجت به. وكانت المرأة ذات مال كثير وجمال وأدب، فقدَّمت له ثروتها ليستثمرها، وكلَّفته أن يمتهن حرفة التجارة ويطلِّق العلم؛ فأطاع. وتاجر فربح ربحًا عظيمًا، وصار ذا ثروة وافرة، حتى إن أقرانه اعتبروه من مشاهير تجار عصره. وظن أن الدنيا قد ابتسمت له، وزالت أوقات نحسه، وأيقن بالسعادة بعد البؤس. ولكنه من سوء طالعه اشتاق إلى وطنه، وطلبت منه زوجته أن يعود بها إلى البلاد؛ فجمع أمواله وعبيده وسار بقافلته يقصد الأوطان. وبينما هو في طريق الصحراء خرج عليه كمين لصوص فتمكَّنوا من نهب القافلة، وقتل العبيد والرجال، وفي الأثناء أصيب أبو عبد الله بطعنة رمح في جنبه ألقته على الأرض بين حي وميت، فتركه اللصوص على حالته بعد أن شتتوا العبيد والرجال، وأخذوا المرأة والأموال، وفروا هاربين.
وفي صباح اليوم التالي استفاق أبو عبد الله لنفسه، فوجد حالته تنذر بالموت، وشعر بالألم الشديد الذي لا خلاص له منه.
ومرَّت قافلة فأبصر رجالُها ما هو فيه؛ فأشفقوا عليه وحملوه معهم، وأخذوا في إسعافه بالعلاج اللازم له مدة أيام، فلم يندمل له جرح، فتركوه في طريق بين مكة والمدينة يتصدق عليه الناس. وأقام في مكانه مدة عامين كاملين.
ووُجد له في بعض مؤلفاته قِطعًا يناجي بها مصر:
مصر أنت الوطن العزيز، ولقد أراك بعين البصيرة وقد سرى في أبنائك المخلصين حب العمل واعتناق الفضيلة، وأنت تُدرِّين عليهم من بِرك، ورفد نيلك الرزق الجزيل.
وقد وقف الشجعان البواسل أمام من يبتغي لك الشر، ويباغت سكانك بالفظائع والموبقات.
«مصر» لقد وصلت في غابر العصور إلى ذروة المجد العالية، حتى تاهت بعظمتك الأجيال، وافتخرت بسعادتك الأيام، وكنت أنت آنث مقدمة الأمم، وسابقة الممالك والشعوب إلى المدينة الصحيحة، والرفاهية الفائقة، وها هي الآثار تنطق لك بتلك العظمة وذاك الفخار.
وها هو الأزهر الشريف ومعاهد العلم يستخرجون علماء قد نبغوا على الفلاسفة، وتفوَّقوا بمعارفهم على علماء الأرض قاطبة، وقد دوَّنوا بلغتهم الشريفة مؤلفات عظيمةً حوت من الفصاحة أبينها، ومن البلاغة أعلاها، ومن الألفاظ أسلسها وأرقها؛ فارتوت منها نفوس علماء الشرق والغرب، ولكني مع الأسف محروم منها غافل، بل غير قادر على ورود هذا المنهل العذب؛ لأني في حالة من الإعياء والتعب، صرت من جرائها لا حي فأرجى، ولا ميت فأنعى.
وله من حكمة أخرى يخاطب العوالم والكائنات:
أيها الكون الحافل المحجوب عنا بظواهر الكائنات، والمتجلي بخوارق العادات؛ مُرِ الشمس أن تطلع فتتهادى على جبال مكة وبطاحها، حيث تتلألأ أنوارها على الأرض، وحينئذٍ يتبدد هذا الضباب، تاركًا على هذه الأرض المقدسة آثار الندى؛ فتتندى الأشجار وتفوح منها روائح الطيب.
أنت تعلم يا رب أنني قد صرت عاجزًا واعتراني المرض، فخذ روحي على عجل، ولا تحرمني من النظر إلى وجهك الكريم؛ لأرحل عن هذا العالم المملوء بالمتاعب، ولا تجعلني أهيم بالأمل الغرار، وأطلب الراحة من حيث لا توجد.
•••
ومات على أسوأِ حال من التعاسة والبؤس والفقر، وقد عانى أهوال الشقاء وغضاضة الدهر، وكانت وفاته سنة «٩٥٣ ميلادية».
ابن زريق البغدادي
هو أبو الحسن علي بن زريق البغدادي الشاعر المشهور، كان على غاية الفطنة والعلم والأدب، عارفًا بفنون الشعر والإنشاء، وكانت له ابنة عم، وقد كَلِف بحبها كلفًا شديدًا، ثم ارتحل من بغداد لفاقة أصابته، فقصد أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي بالأندلس، ومدحه بقصيدة بليغة فأعطاه عطاءً قليلًا؛ فقال ابن زريق: إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء! ثم تذكَّر فراق ابنة عمه وما بينهما من بُعد المسافة، وتحمل المشقة مع ضيق ذات يده فاعتل غمًّا ومات. «قالوا» وأراد الأمير عبد الرحمن بذلك أن يختبره، فلما كان بعد أيام سأل عنه، فتفقَّدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتًا وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة:
محمد بن غانم الأهوازي
متى انتهى العمل ولاقيت حتفي، وفرغت من مأساة الحياة في هذا العالم المحزن، فهناك تسبح روحي في فضاء الأبدية. وإذ ذاك تتبدل وحشة أيامي بالأنس، وتمر حقائق الحق بأنوارها الخلابة، حيث تنطمس رسوم هذه الأيام، وتندثر أحلامها المؤلمة؛ فأنسى ما أثارته تنهدات الأسى في أعماق صدري، ودموع اليأس والأسف من أجفاني.
إن روحي ستكون في العالم الآخر، وراء حُجُب الغيب تحوطها الأسرار في عالم من العجائب الغريبة، التي ما كنا نعرفها في حقيقة الوجود، ولا ندرك معناها في أوهامنا المضطربة.
لقد تعذبت على الأرض، وكادت تنفجر من نفسي مرارة الكتمان، فعسى أجد الراحة في دار الخلود.
وعمل قليل سأصبح جثةً هامدة، وأصير في غيبوبة روحية بانقطاع ذلك السيال المغناطيسي الذي يربط الروح بالجسم، ثم تغمرني الأنوار فأسبح في عوالم الأزل، لا أسمع ولا أرى.
وإن بعد الموت لحالات يجتازها الإنسان وهو غائب بكل مشاعر النفس، لا يعرف أين هو، حتى يناديه الجبار يوم الحساب.
وكانت وفاته سنة «٧١٥ هجرية».
ابن بسطام
هو يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام أبو زكريا الخطيب التبريزي الشيباني، إمام اللغة والنحو، تخرَّج عليه خلق كثير، وهو الذي شرح الحماسة وديوان المتنبي والمعلقات وغير ذلك، وكان فقير الحال جدًّا لا يملك ما يقتات به إلا من وجوه الأعيان. «رُوي عنه» أنه من شدة ملازمة البؤس له تحصَّل على نسخة من التهذيب في اللغة للأزهري في عدة مجلدات لطاف، فأراد تحقيق ما فيها على عالم من أئمة اللغة، فدلوه على أبي العلاء المعري، فوضع الكتاب في مِخلاة وحمله على ظهره من تبريز إلى المعرة، ولم يكن معه ما يستأجر به دابةً تحمله. فسار على قدميه يقطع مهاد الأرض، وكان الفصل صيفًا والحر شديدًا؛ فصهرته الشمس بحرارتها وهو في وقت الهاجرة، فرشح جسمه بالعرق، ونفذ العرق من ظهره إلى المخلاة ووصل إلى نسخ الكتاب؛ فبللها وأثَّر فيها تأثيرًا كثيرًا، حتى محا كتابة بعضها.
فاغتم لذلك غمًّا شديدًا حتى أثر فيه الحزن؛ فمات فجأةً في شهر جمادى الآخرة سنة «٥٠٢ هجرية». ومن محاسن شعره:
الأبيوردي
«الأبيوردي» هو أبو مظفر محمد بن العباس، ينتهي نسبه إلى معاوية الأصفر بن عنبسة بن الأشرف القرشي الأموي الشاعر المشهور. كان من الأدباء المشهورين، راوية نسابة، وله ديوان شعر جيد، وتصانيف كثيرة منها؛ «تاريخ أبيورد»، وكتاب «ما اختلف وائتلف في أنساب العرب». وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يُسبق إليها، وكان حسن الاعتقاد، نظيف الثوب دائمًا، إلا أنه شديد الفاقة جدًّا. «قيل» إنه مكث سنتين لا يقدر على شراء جبة يلبسها في الشتاء، وكان إذا سأله أحد معارفه عن لبس جبة تقيه شدة البرد يقول: بي علة تمنعني لبس المحشو. وكان يقصد بذلك الإيهام والتورية، «ومعنى العلة هنا» علة الفقر.
تُوفي في عصر يوم الخميس خامس وعشرين ربيع الأول «سنة ٥٧٧ هجرية». ومن محاسن شعره:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وقال أيضًا: