رسالة إلى ابنتي
١
أي ابنتي!
شاءت الظروف أن ترحلي إلى إنجلترا، وقد كنتِ في مصر مهدمة الأعصاب شديدة الانفعال، تبكين لأتفه سبب، وتضحكين لأتفه سبب، وترضين وتغضبين وتحزنين وتفرحين، والآن أصبحتِ في ثلاجة، فتعلمي أن تثلج أعصابك وتبرد عواطفك، ثم إن كل شيء حولك يدعو إلى الهدوء، جو بارد، ونظام دقيق، ومعاملة حسنة.
وقد كنتِ في مصر تعتمدين على الخدم في قضاء الحوائج من الخارج، وعمل ما يلزم في الداخل، واليوم أنتِ في إنجلترا لا تجدين خدمًا فتقضين حوائجك بنفسك، وتغسلين صحونك بنفسك، وتطبخين وتكنسين بنفسك، ولكن ثقي أن هذا يعلمك الاستقلال، ويبعثك على النشاط، ويملأ فراغك ووقتك، وفي ذلك خير عظيم.
أي بنيتي!
ثقي أنك تحملين — شئت أو أبيت — اسم والدك، فعملك لاصق به، وخيرك وشرك هو مسئول عنه، فاحفظي اسمك واسم والدك، وعلى الإجمال كوني شريفة، فإن لم يكن شرفك لنفسك فاشرفي لأبيك.
نصيحتي لك ألا تكثري من الأولاد، فيكفيك ولد وبنت، أو ابنان أو بنتان، وقد جربتُ قبلكِ كثرة الأولاد فإذا هم كما قال الأعرابي: «إن عاشوا كدُّوا، وإن ماتوا هدُّوا»، وذلك أعون لك على حسن تربيتهم، وسعة الإنفاق عليهم، وهو أجدى على أعصابك، وأنفع في انفعالاتك؛ ثم لا كثير خير يرجى منهم، ولا حسن معونة ينتظر منهم، فهم إذا تزوجوا فكروا في زوجاتهم قبل أن يفكروا في آبائهم، والمثوبة عند الله.
وسعي عينيك ودققي النظر في عادات القوم، وخذي ما تستحسنين وتجنبي ما تكرهين، ولا يغرنك أنهم إنجليز، فكل قوم لهم خيرهم ولهم شرهم، ولهم محاسنهم ومساويهم، لعل ما شهروا به من المرح وعدم التفكير في المستقبل، وأن لهم يومهم الذي هم فيه، ثم ليكن غد ما يكون من ألطف عوائدهم، وأنت ينقصك الكثير من الفرح وشدة المرح فتخلقي بذلك ما أمكن.
وكم تمنيت أن يكون جونا باردًا ليكون لنا مدافئ نتجمع حولها ونسمر بجانبها، فهي تجمع شملنا وتجري دمنا، ويصلح حديثنا، ولكن فقدناها لقلة البرد، ولم نستعض عنها شيئًا فحُرمنا الخير الكثير.
زرت مرة أوروبا فدققت النظر في رقيهم وانحطاطنا، فقلت: إن رقيهم سببه ميمان، المرأة والمطر؛ فالمرأة برقيها رقت أمتها، وعرفت كيف تربي رجالها ونساءها، والمطر ألطف الجو، وكسا الجبال والأشجار والزرع وخلق الغابات التي حرمناها. فكوني امرأة من هذا القبيل، تربي فتسحن التربية، وتسعد من حولها فتحسن الإسعاد.
أي بنيتي!
كوني مصدر خير لزوجك وبناتك، فيجد حاجاته موفورة، وسعادته مهيأة، ويجدن فيك خير أم لخير بنت.
وتحملي الغربة فإنها بغيضة ثقيلة، ولكن هوِّني على نفسك، واعلمي أن الغربة إلى قرب، والبعد إلى نهاية، واجتهدي أن تجعلي غربتك أحسن درس وأفيد علم، فترجعي إلى وطنك خيرًا مما كنت، وتكوني مصدر إصلاح لمن حولك ولقومك، وأرجو أن أراك قريبًا وقد زال حزنك، وجمدت أعصابك، وتحسنت عاداتك، فتحمدي السفر، وتشكري الغربة. وحذار أن تغيري عاداتك الطيبة التي كسبتها، فلا من إقامة أقمنا، ولا من غربة استفدنا، وإنما احتفظي بشخصيتك، وأصلحي ما فسد من قومك، ولا تفسدي ما صلح من نفسك، واجتهدي أن تتركي بلاد القوم، وقد خلفتِ سيرة حسنة، وذكريات حميدة، ولا تكوني كما قال القائل:
ولكن اجعلي مَن حولك يبكون عليك لا يبكون لك، ويشعرون بفراغ لفقدك ووحشة لفرقتك، وفقكِ الله.
اجتهدي في أن تملئي فراغك بالقراءة النافعة من قصص ممتع وتاريخ مفيد، وإن استطعتِ أن تستمعي لبعض محاضرات في إحدى الجامعات فافعلي، فلا خير في حياة جافة فارغة ليس فيها غذاء للعقل.