الأطباء القدامى
أسكولاب
وسواء كانت كورونيس غير مُخلِصة لأبولو — ومن ثَم قتلتها أرتميس أخته التوءَم — أو كان أبولو نفسه قد قتل كورونيس عرَضًا، أو أنها فرَّت مع بشرٍ فانٍ آخَر، فهي — على كل حال — قد اختفى ذِكرها من الأساطير، وسلَّم أبولو الطفل الوليد إلى خيرون لتربيته، وهو طبيبٌ أسطوري مشهور بمعرفته بالأعشاب.
ولعل حقيقة الأمر أن أسكولاب كان رئيس عشيرة أو أميرًا لتساليا، وتَعلَّم الطب وتَدرَّب عليه. وأيًّا كان أصله وتاريخه الباكر فقد كان لأسكولاب وزوجته أبيوني ابنتان، هما هيجييا وبناسيا.
هيجييا وبناسيا
ابنتا أسكولاب تعيشان معنا حتى اليوم؛ هيجييا تعيش في لفظ «هايجين» في اللغة الإنجليزية؛ بمعنى اتِّباع النظافة لحفظ الصحة.
ولا تَذكُر المصادرُ المعترَف بها إلا القليل عن أنشطة بناسيا. أما هيجييا فأكثر من اسمٍ باقٍ في الذاكرة؛ فاليونان الذين كانوا يؤمنون بقدرة الطبيعة الشافية وممارسة الاحتياطات الصحية، أقاموا لها مئات التماثيل، وكثيرٌ منها يُمثِّل فتاةً جميلة تُطعِم ثعبانًا من طبق به طعامٌ تحمله في يدها، وهناك تماثيل أخرى لا تُصوِّرها وحدها — وهو شيءٌ نادر بالنسبة لإلهة — إذ تُرى قائمةً بالعلاج تحت إشراف أبيها، أو تُرى حاملةً عصاها الطبية الخاصة، أو حاملةً سلة من الأعشاب الطبية إلى مَرضاها، وأحيانًا تُرى وهي تُعنى بأطفال في أقمطة. وهناك لوحةٌ نذرية من أزمير بتركيا تُصور امرأةً تكشف عن صدرها المُصاب بالسرطان لهيجييا. وسواء أكانت إلهة أو فانيةً موهوبة (ومن المعقول أن نراها تُشارك هذا الوضع الأخير أباها أسكولاب رئيس عشيرة تساليا) فمن المتَّفَق عليه عمومًا أنها عملت طبيبةً مُمارسة.
الثعبان رمزًا للإبراء
وقد يكون عسيرًا أن نُعلِّق قيمةً علاجية على الحيَّة التي أغرَت المرأة بأكل ثمرة الشجرة، ولكن موسى في البَرِّية — بِناءً على أمر الرب — رفع حيَّة من النحاس على عمود، و«إذا كان ثعبان قد عضَّ إنسانًا فإنه إذا ما رأى ثعبان النحاس يَبرأ» (أعداد ٢١: ٩). وتنسب الأساطير الإغريقية للثعبان قدراتٍ سِحريةً مُقترنة بالتنبؤ والأحلام والشفاء. وقال الإغريق أيضًا إن الآلهة يظهرون على الأرض في صورة ثعابين، وكانوا — مثل قدماء المصريين وأهل كريت والهندوس — يُمجِّدون الثعبان باعتباره رفيق الآلهة.
وفي الأزمنة القديمة كان نوعٌ من الثعابين الصفراء غير الضارَّة — وقد انقرض الآن هذا النوع — يعيش مُزدهرًا في منطقة أبيداوروس، وكانت هذه الزواحف أليفة تمامًا ومُدرَّبة على لعق الأجزاء المُصابة من جسم المريض؛ ولذا كانت هذه الثعابين مُعتادة على أن يتناولها الناس بأيديهم، والمريض الذي يُطعِمها الكعك كان يُعَد فألًا حسنًا له أن تدنوَ منه الثعابين.
وفي سنة ٢٩٣ق.م. — عندما تفشَّى الطاعون في روما — طلب أهاليها أن تَفِد عليهم بعثةٌ من معبد أسكولاب في أبيداوروس. وبينما كانت السفينة التي تُقلُّ هذه البعثة صاعدةً في نهر التيبر، تَسلَّل ثعبان من فوق ظهرها وسبَح إلى الشاطئ. وبلغ من إيمان الناس بقدرة الثعابين المُقدَّسة على الشفاء أنهم أقاموا معبدًا لأسكولاب في الموضع الذي صعِد فيه الثعبان إلى البَر.
وقد اتَّفقت جميع المصادر على أن ابنتَي أسكولاب كانتا تُطعِمان الثعابين، وأسكولاب نفسه قلَّما صوَّروه بغير قضيب قد الْتفَّ حوله ثعبان. والواقع أن العِصيَّ التي تلتفُّ حولها الثعابين ذات تاريخ سابق على أسكولاب بكثير، وصولجان هرمس (إله الطب) — الذي هو الرمز العصري للطب — عبارة عن قضيبٍ يلتفُّ حوله ثعبانان (وكثيرًا ما يخلطون بينه وبين الرمز الأسكولابي)، وهو يقترن في الواقع بعطارد (الذي هو هرمس عند الإغريق) رسول الآلهة، ولكن القضيب الذي يلتفُّ حوله ثعبانٌ واحد (وهو قضيب أسكولاب) أجدر من قضيب هرمس (أو عطارد) المزدوج الثعابين بأن يكون الرمز الحقيقيَّ للطب.
نساء العالم القديم
المُدوَّنات عن ممارسة النساء للطب في الأزمنة القديمة قليلة جدًّا، وقد شاركَت في ذلك عوامل كثيرة، منها ضياع المخطوطات واحتراق المكتبات، والكتبُ والمُدوَّنات التي وصَلَتنا كان يقوم بنسخها الكُتاب أو الرُّهبان بشيء من التحريف أو الأخطاء، ومع هذا بقِيَت لدينا دلائل كافية من المصادر الأدبية والأثرية يُمكِننا أن نستخلص منها نتائج مقبولة.
في العصرَين الحجري والبرونزي كانت هناك نساء جرَّاحات في سومر ومصر وبلاد الإغريق يستخدمن إزميلًا من الصوان، وثقابات من العِصي لشفاء الصداع. وقدماء الأزتك (الذين تتخذ إلهة الشفاء لديهم صورة الثعبان) والهنود الأمريكيون وسكان جُزُر المحيط الهادي وقبائل الغابات الأفريقية، كانوا جميعًا يستخدمون نساءً مُعالِجات. وكان الصينيون والسياميون يستخدمون النساء في مستشفياتهم بصفة جرَّاحات ومُولِّدات قبل سنة ١٠٠٠ق.م.
وفي مصر يُقال إن أول طبيبة مارسَت المهنة كانت حوالَي سنة ٢٧٣٠ق.م. وكان لملِكات مصر السبق في المسائل الطبية؛ فمن أمنحتب (٢٣٠٠ق.م.) إلى حتشبسوت (١٥٠٠ق.م.) إلى كليوباترا (٦٩–٣٠ق.م.) كانت النساء الحاكمات في كثير من الأحيان طالبات طب. ومدرسة الطب في هليوبوليس كانت تَرْتادها طالبات منذ سنة ١٥٠٠ق.م. ويُقال إن زوجة موسى — واسمها صافورة (١٢٠٠ق.م.) — درَسَت هناك. جاء في التوراة (سِفر الخروج ٤: ٢٥) أنها «أخذت حجرًا حادًّا وقطعت به غُرلة ابنها». ويُعَد ذلك دليلًا على أنها كانت تُمارِس خِتان الأطفال.
وفي بلاد الإغريق يبدو أن صناعة القبالة كانت برُمَّتها في يد النساء. ويُمكِن أيضًا استنتاج ممارسة النساء للطب من أن الطبيبات حوالَي سنة ٣٠٠ق.م. اتُّهِمن بإجراء عمليات الإجهاض؛ ولذلك مُنِعن نهائيًّا من ممارسة الطب. ويبدو أن نشاطهن لم يكُن مقصورًا على حجرات الولادة.
وسقطت كورنثوس في يد الرومان سنة ١٤٦ق.م. ووقَعَت مئات النساء الإغريقيات أسيراتٍ في أيديهم، فبِيعَت النساء الطبيبات منهن بأغلى الأثمان في سوق الرقيق بمدينة روما.
وفي الحِقبة الأخيرة للإمبراطورية الرومانية، كانت النساء المُمارسات يَقِفن على قدم المساواة مع المُمارسين من الأطبَّاء الرجال، وكان الوصف القانوني للأطباء: «الأطباء إما ذكور وإما إناث.» وقد أثنى سنيكا (٤ق.م. (؟)–٦٥ب.م. (؟)) السياسي والفيلسوف الروماني على طبيبته ذات الأنامل البارعة. وفي القرون التالية ألَّف الرجال في علم أمراض النساء وفي صناعة القبالة، في حين كانت النساء يَقُمن بالتنفيذ العملي الذي لم يكُن مقصورًا على ولادة الأطفال وأمراض النساء، بل كانت النساء تُساعد آباءهن وأزواجهن وأشقَّاءهن الأطبَّاء في النشاط الطبي كله.
النساء في العهد المسيحي المُبكِّر
ومن بين هاتيك النساء القِدِّيسة بريدجيت (٤٥٣–٥٢٥م) التي تمكَّنَت من ممارسة الطب والقبالة في أيرلندا، ولا بد أنها كانت ذات نُفوذ كبير؛ لأنها تمكَّنَت من إقناع الحكام بنفي المُشعوِذين أدعياء الطب من البلاد.
وهناك القِديسة «دالبورجا» (المُتوفَّاة ٧٧٩م)، وهي أميرةٌ إنجليزية درَسَت الطب وأسَّسَت ديرًا في هايدنهايم بألمانيا، وتُبيِّنها الصور وفي إحدى يدَيها قِنِّينة بول وفي يدها الأخرى ضمادات.
وقد أُطلقَ اسم ليلة القِديسة دالبورجا على عشيَّة أول مايو؛ حيث يُقال إن الساحرات يذهبن إلى اجتماعٍ مُحدَّد من قبل، ولأن أول مايو هو أيضًا عيد القِديسة دالبورجا.
وبعد نهاية الألف سنة الأولى بعد ميلاد المسيح، لا قبل ذلك، بدأت المُدوَّنات التاريخية مرةً أخرى تَذكُر لنا أسماء طبيبات مُمارسات مشهورات.