إميلي دننج بارنجر
وانتقل آل دننج إلى بيت بقرب جريمرسي بارك في مدينة نيويورك، وواجهت مسز دننج مشكلتها المباشرة العاجلة بقبول ضيوف في بيتها بأجر. وكانت إميلي، الطفل الثاني في الأسرة وأكبر البنات سنًّا، تُقسِّم وقتها بين المدرسة والعمل في البيت والعناية بأخوَيها الأصغر منها؛ «هاري» والوليد الجديد «نيد».
إن التعليم هو الوسيلة الوحيدة المُؤكَّدة لرفع مكانة المرأة عما هي فيه الآن؛ من الاعتماد على الرجل والخضوع له، بل — وفي كثير من الأحيان — العبودية والرِّق للرجل. إن المرأة لا تستطيع أن تُطالب بحقوقها ما لم تكُن مُؤهَّلة لنيلها؛ فهي لا تستطيع أن تُصوِّت في الانتخابات إذا كانت لا تفهم السياسة، ولا تستطيع أن تُعلِّم ما لم تكُن قد تعلَّمت، ولا تستطيع أن تكون مُحامية وامرأة أعمال أو طبيبةً ما لم تكن قد بلغت تعليمًا أو تدريبًا يُؤهِّلها لهذه المراكز.
لقد سمِعْنا جميعًا ما يُقال من أن التعليم — إنْ زادَ عن حده — يجعل المرأة غير أهل لأن تكون زوجة وأمًّا صالحة؛ لأنها تفقد أنوثتها. وأنا لستُ المرأة الوحيدة التي برهنت — بالقدوة — على أن هذا غير صحيح.
إن الرجال لا يستطيعون — على الدوام — ضمان الأمان للأسرة، مهما حاولوا، وهكذا تُضطرُّ الزوجات غير المُدرَّبات وغير الماهرات أن يشتغلن بأي عمل يَظفَرن به ليُعاوِنَّ في إعالة الأسرة.
ثم تحدَّثت الدكتورة ماري جاكوبي عن كلياتٍ قلائل للرجال تسمح للنساء بدخولها، وعن الكليات النسوية القائمة التي تُكافح للارتقاء بمُستواها.
التعليم
وكانت حياة الطالبة في العقد الأخير من القرن الماضي أبعد ما تكون عن السعادة، إلا أنَّ قدَرَ إميلي كان مُختلفًا؛ فقد قابلت تعبيرات الازدراء الصادرة من الطلبة الذكور واعتقادهم أن مخ الأنثى أقل من مخ الذكر بصراحةٍ ودِّية وبتحدٍّ يُوحي بأنها ستُثبِت لهم أنها ندٌّ لهم على قدم المساواة. وقد نجحت في ذلك باستمرار. والواقع أنها تفوَّقت على أقرانها، بحيث أتمَّت دراسة الأربع السنوات في كورنيل في ثلاث فقط، وليس ذلك بالعمل السهل. وكانت الخطوة التالية هي التحاقها بكلية الطب النسوية التابعة لمستشفى نيويورك للنساء والأطفال، ثم كلية الطب بجامعة كورنيل عندما نقلت طالبات المدرسة النسوية إليها في سنة ١٨٩٨م.
وكانت الكلية الجديدة تقع أمام مستشفى بلفيو مباشرةً، الذي ترجع نشأته إلى العهد الذي كانت نيويورك لم تزَل تُعرَف فيه باسم نيو أمستردام. وفي نهاية القرن التاسع عشر صار المستشفى من أكبر مستشفيات أمريكا، وكان طلبة كورنيل يتلقَّون التعليم السِّري في بلفيو.
وكانت السرعة محمومة، ولم يكُن لدى إميلي وقت لزملائها الطلبة، إلى أن قدَّم ذات يومٍ بنيامين ستوكويل بارنجر نفسه إليها، ولم يَطُل بهما الوقت حتى اكتشفا أنهما مُتناسبان تمامًا، ولكنَّ الزواج ظلَّ خارج الموضوع؛ فكلٌّ منهما لم يُتمَّ بعدُ الدراسة في مدرسة الطب، ولا بد أن تعقب ذلك سنتان من الامتياز.
البحث عن وظيفة امتياز
في سنة ١٩٠١م كانت المرأة الحاصلة على درجةٍ طبية تستطيع أن تعمل طبيبة امتياز في مستشفًى للنساء؛ فهي وظيفة يُمكِن الحصول عليها بسهولة، أو فلتُقاتل في سبيل مكان في أحد المستشفيات النظامية التي غالبًا ما تستبعد النساء. وإذا هي قامرت على مستشفًى نظامية وخسرَت، فستكون وظائف الامتياز في المستشفيات النسوية قد شُغلَت؛ وبذلك تحمل لقب دكتورة دون أن يكون لها مكان تُمارِس فيه الطب.
وكانت الطريق إلى الامتحانات التنافسية للفوز بوظائف الامتياز في المستشفيات الكبيرة المُشتهاة تتضمن دراساتٍ خارج المُقرَّرات، وهذه الدراسات يُغطيها «امتحان المستشفى المُوجَز» الذي يتولَّاه الدكتور جون روجرز، ولم يكن الاختبار المُوجَز مُتاحًا دخوله للنساء، ولكن بدو أن إميلي لم تجد مَشقَّة كبيرة في إقناع الدكتور روجرز بأن يتركها تشترك في الامتحان.
وفي ذلك الحين كانت جميع المستشفيات قد أتمَّت امتحاناتها، والمستشفيات القليلة التي لم تزَل بها أماكن شاغرة لم تكن فيها تسهيلات لطبيبات امتياز (مُقيمات)، وأكبر مثال لذلك بيلفيو؛ فبما أنَّ طبيبات كثيرات يتلقَّين فيها التدريب السريري فمن المنطق أن تكون هي المكان الذي يتَّسع لطبيبات مُقيمات، ولكن الأطباء المُقيمين ينامون في عنابر.
وطلب المحترم «برسي ستكني جرانت» — راعي كنيسة الصعود الواقعة في الشارع الخامس الجنوبي والمؤيد لحقوق المرأة — إلى إميلي أن تُعدَّ تقريرًا يُرفَع للمُحافِظ. وركَّزت تقريرها على المزايا التي تعود على المجتمع من قبول النساء في هيئات المستشفى، وكذلك المزايا التي تعود على أشخاص الطبيبات. وفي ربيع سنة ١٩٠٢م أعلن المُحافظ أن الامتحان التنافسي لمستشفى جوفرنير سيُتاح دخوله للنساء، وأنه إذا فازت فيه إحداهن فستُعيَّن، وكان هناك شرطٌ واحد؛ أن التعيين يجب قبوله على نفس الأساس المفروض على الرجال؛ أي إن الامتياز يمتدُّ سنتَين؛ سنة في الطب العام وسنة في الجِراحة العامة، منهما سنة ونصف في خدمة نقالة الإسعاف.
ها هي ذي المعركة قد انتهت بالنصر، ولكن إميلي تلكَّأت في قبول الامتحان؛ فقد حدَثَت تغييراتٌ كثيرة في الطب والجِراحة في السنة التي مرَّت منذ أدَّت فيها الامتحان لآخر مرة، والصحف الطبية تفيض بنظريات وتقنياتٍ جديدة، ورُوجعت الكتب المُقرَّرة. ولاحق طلبة الطب التقدم، أما إميلي فقد ظلَّت في مكانها. ولما أخبرت الدكتورة ماري جاكوبي أن هناك نساءً مُمتازات في الفِرق العليا بكورنل لم تَلِن قناة الدكتورة.
ومضت إميلي إلى العمل، وكان الكفاح شاقًّا. وجاءت نتيجة امتحانها أقل قليلًا من تقديرها في العام السابق، حيث كانت الأولى. والواقع أن إجاباتها التحريرية لم تكن تؤهلها للظهور أمام المُمتحِنين في اللجان الشفوية السريرية، ولم يُتَح لها ذلك إلا عندما زِيد في آخر دقيقة عددُ الوظائف المطلوب لها أطباء امتياز. وفي الامتحان الشفوي استعادت ثقتها بنفسها؛ فقد كانت تعتمد على سنةٍ أمضَتها في التمرين العملي، فواتَتها الإجابات بسهولة. ويبدو أنه لو كانت إجاباتها التحريرية أفضل لكانت الأولى، ولكن جاء ترتيبها الرابعة. ولم تكن لتبدأ العمل في الجوفرنير حتى يناير سنة ١٩٠٣م، فتوفَّرت لديها — لأول مرة في حياتها — فرصة أخذ إجازة عن العمل ترى فيها أسرتها وصديقاتها وبنيامين يارنجر. وقد تعهَّدت أن تُساعد الدكتورة جاكوبي عند الحاجة، ولكنها لم تعمل بانتظام كما كان الحال في العام السابق.
الامتياز
ولم تتناقص المُضايَقات في الشهور الستة الأولى، وكان مُعذِّبوها يتحدثون مِرارًا وتَكرارًا على مسمع منها عن الأخطار التي تحفُّ بخدمة سيارات الإسعاف، وعن القوة البدنية التي تلزم للتعلق والتثبت بالنقالة عندما تكون مُنطلقة بأقصى سرعةٍ وسط الشوارع، وعن المرَّات التي كاد كلٌّ منهم أن يسقط من فوقها. وكانوا يَصِفون الأماكن التي تدعوهم إليها، الحانات وأوكار الرذيلة والحارات القذرة، لالتقاط ضحايا كل نوع يخطر بالبال من أنواع الجرائم بما في ذلك محاولات القتل. وناقَشوا مُدمني الأفيون والسكارى الذين لا يحترمون زي الأطباء. ولما كانت الجوفرنير مستشفى طوارئ، فإن المرضى الذين يحتاجون إلى مدةٍ طويلة من الرُّقاد في المستشفى يُنقلون بنقَّالة تجرُّها الخيل إلى بيلفيو، كما أن النقالة تنقل المرضى ذهابًا وإيابًا بين بيوتهم أو الشوارع وبين المستشفى، أو تترنَّح بسرعة إلى حادث أو حريق وترتجُّ خلف الخيل التي تركض بجنون.
وكانت إميلي مُستعدَّة لأن تُجازِف بدق عنقها في خدمة النقالة، ولكن أين عساها تجد ملابس مناسبة للوثب من النقالة وإليها؟ إن الزيَّ الطويل الواسع قد يعوقها ويتسبب في وقوعها، والزي القصير قد يُعَد غير مُحتشِم. وزِيُّها يجب أن يكون كثير الجيوب، ولكن ينبغي ألا يكون كزِيِّ الرجال. وقد وضعت المسألة بين يدَي ف. يلارد وأولاده في بوستن، وهم مؤسَّسة طلبت منهم صُنْع زي لها عندما شرَعت في رياضة ركوب الخيل. وكان الزي الذي استقرَّ عليه الاختيار من قطعتَين؛ السترة من قماشٍ أزرق بحاري مُبطَّن بالساتان مُخنصَر عند الوسط ومظهرها عسكري، والجونلَّة تصل إلى الكعب وضيِّقة ضِيقًا كافيًا للحركة وواسعة بما يكفي للاحتشام، والجيوب مُخفاة بمهارة في كل أجزاء الزي، وهناك مِعطف مطر ترتديه فوق الزي لحمايتها من برد الشتاء ومطره. والحذاء ذو رباط عالٍ في الطقس المعتدل، وهناك كُزلك يصل إلى نصف الساق للطقس الرديء.
وكان أول استدعاء لنقَّالة الدكتورة داننج في وقتٍ مُبكر من مساء ٣٠ يونيو لنقل مريضة من مستشفى بيت إسرائيل إلى بيلفيو. وكانت نقَّالة ذلك الحين مُصمَّمة بحيث يتحتَّم على الطبيب إما أن يكون في الصندوق الخلفي الضيِّق ليُعنى بالمريض، أو يجثم على المقعد المكشوف الزَّلِق في مؤخرة العربة، وهو رفٌّ أكثر منه مقعدًا. وابتكر سائق النقالة (ديك بيتمان) الودود اللطيف طريقةً تُمكِّنها من الصعود بسرعة وأمان إلى مكانها، وهي أن تصعد وتجلس ثم تطوح جونلَّتها وقدمَيها فوق الباب الخلفي، بحيث يستدير ويكون وجهها للأمام، وتمدُّ يدَيها معًا لتتعلق بالأطواق الجلدية، كل ذلك في حركةٍ واحدة.
وكان كبير الجرَّاحين أحد الأربعة المُصرِّين على تحطيم معنوياتها، فكان يُرهقها بالعمل بلا رحمة، فكان لديها استدعاءات للنقالة نهارًا وليلًا، وتتخللها أعمال في عنبر الحوادث بالنسبة للمرضى الذين أحضرتهم، وخِدمات جِراحة، وكل شيء آخر يمكن أن يخطر بالبال. ولشِدَّة إرهاقها بالعمل كانت إميلي تخشى أن ترتكب أخطاءً، وكثيرًا ما كانت تشعر بالوحدة؛ فبسبب مُشاكَسات القدامى كان أطباء الامتياز ممن عُيِّنوا معها لا يَجسُرون على الوقوف في صفها أو إظهار المودَّة لها، وكان خير ما يستطيعونه لها أن يظلوا على الحياد، وكان لها حُلفاء بين سائقي النقالات ورجال الشرطة الذين عرفوا كيف يحترمونها، وبين المرضى الذين ساعدتهم، وفقراء الجانب الشرقي الذين حدَّثوهم عن مساعداتها لهم، بل حتى بعض الممرضات.
«شهادة
من مُواطني نيويورك وشرطة الأحياء ٧، ١٢، ١٣
وسائقي نقالات مستشفى جوفرنير
إلى
الدكتورة إميلي دننج
بمناسبة اعتزالها في أول يناير سنة ١٩٠٥م عملها كرئيسة
هيئة الأطباء المقيمين في مستشفى جوفرنير بنيويورك
بأن الدكتورة دننج
قد خدمت لمدة سنتَين المستشفى وشعب نيويورك بطريقةٍ كسبَت إعجاب وتقدير زملائها من العاملين وكل من اتصلت بهم بحكم عملها. إنَّ براعتها المُدهشة وضميرها اليقِظ وجهودها التي لا تعرف الكلل، والدماثة واللطف والولاء للمرضى والحنان المُفرِط واحترام كل من عملت معهم، كل ذلك جعلها عزيزة على الجميع.
باعتبارها المرأة الوحيدة في العالم التي عملت جرَّاحة على نقَّالة، وقد كسبت مكانتها الممتازة في العالم كله، وجلبت الشرف والتكريم لا لنفسها فحسب، بل لجنسها كله ولمهنتها ولمستشفى جوفرنير ولمدينة نيويورك.
وقد تزوَّج بنيامين بارنجر وإميلي دننج يوم السبت التالي، في الثامنة صباحًا. وفي العاشرة أبْحَرا إلى أوروبا ليَدرُسا معًا في فيينا.
وواصلت الدكتورة إميلي دننج بارنجر كفاحها في سبيل قضية المرأة في الطب، وقد تكلَّلت جهودها بالنجاح عندما أرسل مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة في أبريل ١٩٤٣م إلى البيت الأبيض؛ كي يُوقِّع الرئيس على قانون بتكليف الطبيبات الجرَّاحات في القسم الطبي بالجيش والبحرية.