أليس هاملتون
وكانت مدرسة مس بورتر في فارمنجتن بكونكتيكت تقليدية بالنسبة لبنات أسرة هاملتون؛ فكلما بلغت إحداهن السابعة عشرة أُرسلت إلى هناك لمدة سنتَين، وكان عدد البنات عشرًا، وكانت آخرهن أصغر شقيقات أليس.
وعادت إلى أمريكا في سنة ١٨٩٦م، فوجدت أن الأطباء الأمريكيين لا يُلقون كبير اهتمامهم إلى المُشتغل بالباثولوجيا وما يقوم به من عمل؛ مما جعل عامها في ألمانيا يبدو لها كالمُهدَر بوجهٍ ما، فلا أحد يريد «الباثولوجية» هاملتون. ولما لم يكُن أمامها عملٌ مُتوقَّع قرَّرت أن تُخصِّص الشتاء لدراسة التشريح الباثولوجي على يد سيمون فلكسنر في مدرسة طب جونز هوبكنز. وفي الصيف التالي تلقَّت وقبِلَت عرضًا بتدريس الباثولوجيا في مدرسة الطب النسوية بجامعة نورثوسترن في شيكاغو، وهو منصبٌ شغلَته حتى سنة ١٩٠٢م، ولكنها شعرت أنها لن تكون إلا بكتريولوجية من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وقرَّرت أن تُخصِّص جهدها لمشكلاتٍ ذات أهمية إنسانية مباشرة. وتحقيقًا لهذه الغاية بدأت تُنفِق أكثر وقت أمكَنَها أن تُوفِّره من التعليم في العمل بهال هاوس، وهي مدرسة تأسَّسَت على يد جين آدمز سنة ١٨٨٩م، وذهبت أليس لتعيش في هال هاوس في سنة ١٨٩٧م.
تخصصٌ جديد
ومن المُتمرِّدين القلائل على مؤامرة الصمت التي تتستَّر على ظروف العمل كان الأستاذ تشارلز ر. هندرسون (١٨٤٨–١٩١٥م) رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة شيكاغو، وكان قد درس وأُعجِب بنظام الألمان في التأمين على الفئات العاملة، وكان مُتلهفًا أن يراه مُطبَّقًا في أمريكا. وفي سنة ١٩١٠م تسنَّى له أن يُقنِع حاكم إلينوي بتعيين لجنة لأمراض العمل لتقوم بأول مسح لأمراض الصناعة تقوم به ولاية، وقد عُيِّن الدكتور هندرسون والدكتورة هاملتون في هذه اللجنة، وكانت مَهمَّتها المُحدَّدة أن تُحدِّد أسباب التسمم بالرصاص.
وكان الاعتقاد السائد أن التسمم بالرصاص يَنجم عن الإمساك بالطعام بيدَين غير مغسولتين، فكانت القاعدة الوحيدة المُقرَّرة من جانب الإدارة لحماية العمال أن يغسلوا أيديَهم بعنايةٍ قبل الذهاب إلى بيوتهم، والعامل الذي يَمرض يُتَّهم بأنه أهمل هذه النصيحة. وكانت الدكتورة هاملتون مُقتنِعة منذ البداية بأن التسمم بالرصاص ينجم عن استنشاق تراب الرصاص وأبخِرته، واقترحت تَعقُّب حالات تَسمُّم بالرصاص بقصد إقناع الإدارة بأن المشكلة جِدِّية. وكانت الصعوبة في العثور على الضحايا أو أدلة على مرضهم؛ فالعمال الذين يمرضون كانوا يختفون عن الأنظار ببساطة، فالمرض هو الثمن الذي يتوقعون أن يدفعوه لفقرهم. ولما كانت اليد العاملة رخيصة وكثيرة فلا أحد يُفتِّش عن عمال، ونادرًا ما يُعرَف مورد الأسماء الأخيرة للرجال الذين يعملون تحت إمرته، ولا الشركة تحتفظ بسِجلات لأسماء المستخدمين وعناوينهم. واتَّضح ان المستشفيات لم تُقدِّم سوى بياناتٍ محدودة؛ فالطبيب المُقيم النموذجي لا يتعرف على تسمُّم الرصاص عند ما يراه، وكان خليقًا أن يعزوَ علة المرض إلى تأثير الإفراط في الشراب.
وبعد شهور من البحث الدائب في أحياء شيكاغو الصربية والبلغارية والبولندية تمكَّنَت الدكتورة هاملتون من الإثبات بالوثائق لاثنتَين وعشرين حالة من التسمم بتراب الرصاص وأبخرته. ولما قدَّمت ما عثرت عليه إلى إدوارد كورنيش في شركة شيكاغو الوطنية للرصاص، تصرَّف بغير إبطاء، وتم تركيب نظام كافٍ للتهوية، وزوَّد الرجال المُتصلين عن قرب بالرصاص الجافِّ بأجهزة تَنفُّس صُمِّمت لهم خصوصًا، وتأسَّس قسمٌ طبي، وصار كل عامل يُفحَص أسبوعيًّا بواسطة طبيب، وحذَت مصانع أخرى حذوَ الشركة الوطنية.
واقترح المفوض أن تقوم بدراسةٍ تُغطي القُطر كله، شبيهة بتلك التي قامت بها في شيكاغو، ومدَّت أبحاثها مُتجاوِزةً حدود التسمم بالرصاص، فزارت المناجم والمحاجر والمصانع والمصاهر ومواقع البناء، فوجدت قاطعي أحجار «أصابعهم ميتة»، أيديهم خدِرة ورمادية من تذبذبات المطارق الهوائية، ووجدت عمال المحاجر مُصابين بالسُّل، والعاملين في الرمال مُصابين بالتسمم السليكي، وهما مرضان يَنجمان من الاستنشاق المُتواصل لتراب الأحجار. ووجدت أن البنزول — وهو مُركَّب كيماوي شديد الخطورة كان يُستخدم يومئذٍ في مصانع الأحذية والمطاط — يُهاجم نخاع العظام الذي ينتج الكرات الحمراء في الجسم؛ مما يُسبب الأنيميا والنزف الحادَّ تحت الجلد ومن اللِّثة والأنف. ووجدت أن العاملين في الأنفاق مُعرَّضين لمرض «كيسون»؛ فالرجال يُعانون من عطبٍ حادٍّ في المخ والحبل الشوكي نتيجةً لنقلهم بسرعة من حجرات الضغط التي يعملون فيها إلى الجو العادي مباشرةً، والأعراض هي الألم العنيف في الأطراف (الالتواءات) واضطرابات في المخ (الترنح الأعمى)، وقد حلَّت المشكلة بإنشاء سلسلة من حجرات التخلخل. وفي الدراسة الأخيرة التي قامت بها (١٩٣٧-١٩٣٨م) وجدت أنَّ ثانيَ كبريتور الكربون المستخدَم في نوعٍ مُبكِّر من الألياف الصناعية معروفٍ بِاسم فيسكوز يُسبِّب الشلل والجنون.
وبجانب الأمراض كانت هناك إصاباتٌ كثيرة، منها حوادث بَتْر الأصابع والأطراف، بل فقد البصر. وكانت هذه الإصابات تَحدُث لأن التعليمات الخاصة بالأمان قليلة وقلَّما تُراعى. وسنةً بعد سنةٍ قدَّمت تقارير إلى واشنطن عن الظروف الرهيبة في الصناعة الأمريكية، وحاضرت وألَّفت الكتب، وكتبت المقالات للصحف والمجلات، وجاءت الإصلاحات ببطء ولكنها جاءت.
قضايا أخرى
لقد تبنَّت أليس هاملتون قضايا كانت — على الأقل — سابقة لزمنها. وفي أوائل العقد الأول من القرن العشرين كانت تُناصر وتُنادي بتحديد النسل. وفي سنة ١٩١٥م انغمسَت في أنشطةٍ تدعو للسلام، وحضرت مؤتمرًا دوليًّا للنساء في لاهاي بهولندا، كان الغرض منه إنهاء الحرب المُندلعة يومئذٍ في أوروبا بإرسال وُفود من النساء المُحايدات لزيارة عواصم الدول المُتحاربة في محاولة للتوسط. وفشِلَ المشروع، ونعتوا الشركات بأنهن «سِلميات»، ولكن بمعنًى يحمل الزِّراية.
وعادت هي ومس آدمز إلى الوطن عازمتَين على عملِ ما تستطيعان لتخفيف مشاعر ما بعد الحرب نحو ألمانيا المقهورة، ولجمع الأموال لمراكز الإطعام التي يعتزم الكويكريون إنشاءها. ولئن كانت الدكتورة هاملتون قبل ذلك مثار دهشة لميولها السلمية المُعادية للحرب، فإنها الآن صارت متهَمة صراحةً بمُمالأة الألمان.
وقالت إحدى المُساهِمات السخيَّات في مدرسة الطب لعضو في إدارة جامعة هارفرد إنها لن تُعطيَ بنسًا آخر للكلية، إذا عُيِّنت بالكلية أي شخصية تطوف بالناس مُثيرةً عطفهم على ألمانيا. وطلبت إلى الدكتورة هاملتون أن تُفنِّد هذا الاتهام، ولكنها رفضت وقالت إنها ستُواصل الكلام — كلما وجدَت لذلك فرصة — في موضوع الأطفال الألمان الجياع، وإنها ستجمع الأموال لهم.
وتولَّى دافيد إسدال عميد مدرسة الطب دحْضَ احتجاج المُكتتبة الكريمة، وعُيِّنت الدكتورة هاملتون أستاذةً مُساعدة للطب الصناعي، ودرست أيضًا الطب الوقائيَّ والصحة العامة. وفي سنة ١٩٣٥م تقاعدت من هارفرد وهي أستاذة فخرية للطب الصناعي.
لقد كانت صحة الشعب — في كل مكان — موضع اهتمامها. ولما عُيِّنت عضوًا في لجنة الصحة بعصبة الأمم في سنة ١٩٢٤م، درست مشكلات الصحة في كل أنحاء أوروبا.
وإنه — قطعًا — لخيرُ تأبين لها.