فلورانس نايتنجيل
ولم يكن هناك شيءٌ غير عادي في زيارات فلورانس للمُستأجرين في ضيعة نايتنجيل؛ فقد كان أمرًا معهودًا من السيدات الراقيات أن يركبن عرباتهن لتوصيل الطعام للمرضى، ولكن فلورانس كانت تهتمُّ فعلًا بالمرضى، وتُطعمهم، وتُسوي أسِرَّتهم، وتحكُّ لهم ظهورهم أيضًا. وهذا يتجاوز حدود اللياقة، حتى لم يعد مأمونًا أن تتَّصل مباشرةً بهؤلاء الأشخاص الذين يُخالفون قواعد الصحة.
نفذ السهم
الآن صارت فلورانس على قدم الاستعداد، ففتحت موضوع دراسة التمريض في مستشفى سالسبوري. وكان رد فِعل الأسرة يتَّسم بالذُّعر؛ فمعظم المستشفيات في إنجلترا لا يؤمُّها إلا الفقراء الذين ليس لديهم مكانٌ آخر يلوذون به، فهي على العموم قذرة، وما من أحدٍ يُفكِّر في هذا العمل المهين إذا أمكَنَه الحصول على عمل في مكانٍ آخر. وما زالوا بها حتى ثنَوها عن عزمها على الذهاب إلى سالسبوري، ولكنها كانت مُصمِّمة على تعلُّم كل ما كان في استطاعتها أن تتعلمه عن أحوال المستشفيات في إنجلترا والقارة الأوروبية. وقد أعانتها علاقات الأسرة في الدوائر الحكومية والدبلوماتية، فجمعت طائفةً كبيرة مُدهشة من المعلومات لتُعدَّ منها إحصائيات، وكان هذا هو أساس أفكارها عن كيف ينبغي للمستشفيات أن تُشاد وتُدار.
ومن بين المواد التي تيسَّرَت لها الكتاب السنوي لمعهد الشمَّاسات في كايزرسويرث. فهذا المستشفى ودار الأيتام النموذجية كانا — فيما يبدو — قد استأصلا السِّمات الكريهة في حياة المستشفيات، والتي أثارت فزع أسرتها. ولاحت في سنة ١٨٤٩م فرصة لزيارة كايزرسويرث، عندما اقترح صديقاها الحميمان «سلينا بريسبريدج» وزوجها أن تصحبهما في رحلة إلى مصر وبلاد اليونان، وسُرعانَ ما وافَق آل نايتنجيل. وكانت فلورانس قد أُصيبت أخيرًا بنوع من الهبوط، وكانت الرحلة خليقةً أن تُنعِشها، ويقينًا أن بلاد اليونان ومصر لا ضرر منهما. ولم يكونوا يعلمون أن آل بريسبريدج كانا يعتزمان قضاء أسبوعَين في دسلدورف في طريق العودة.
ومع هذا ظلَّت فلورانس تتحرك بحذر. وحتى عام ١٨٥١م لم تُعلن لأسرتها أنها رتَّبت الأمور للدراسة في كايزرسويرث لمدة ثلاثة أشهر. لقد أجمعت أمرها على الذهاب سواءٌ أوافقوا أم رفضوا، ولكن آل نايتنجيل هذه المرة لم يُقاوموا، وكل ما هناك أنهم رجَوها أن تجعل خبر إقامتها هناك سرًّا.
من كايزرسويرث إلى القرم
وبصرف النظر عما أبدَته فلورانس نايتنجيل فيما بعدُ من حكمها القاسي على مستوى التمريض في كايزرسويرث، إلا أنها غادرَتها في أكتوبر سنة ١٨٥١م وهي مُصمِّمة على التدرُّب الجِدِّي، ربما في أحد مستشفيات لندن الكبرى. وكانت خططها المباشرة موضع معارضة مع أبيها، الذي كان يُعاني من الْتِهاب في عينَيه. وكان طبيبه قد أمره بالاستشفاء في روشستر شاير للمعالجة بالماء البارد، فرفض الذهاب ما لم تصحبه فلورانس.
وفي أغسطس سنة ١٨٥٣م ذهبت لتعمل مُراقِبة في معهد العناية بالمرضى من السيدات النبيلات اللواتي هن في ضائقة. «وكانت الدار محترمة تمامًا، ولكن سوء الإدارة فيها بلغ حدًّا إجراميًّا، ولكي تُنقذ سُمعة العائلة تولَّت فلورانس العمل بدون مرتب، واستجاب والدها لذلك بأن أعطاها منحةً سنوية. وكانت لجنة السيدات الثريات التي اعتمدت تعيين فلورانس مسرورة جدًّا بفكرة قيام شابَّة راقية لطيفة ومُهتمة ومُتفرغة للعناية بالمُربِّيات والمُرافِقات المريضات. وكم كانت صدمتهن شديدة لأن أول خطوة أقدمت عليها فلورانس أنها طلبت أن تكون المؤسَّسة غير طائفية، وكانت اللجنة تريد لها أن تظلَّ تابعة تمامًا لكنيسة إنجلترا، فهدَّدَت المراقبة الجديدة بالاستقالة، وانتصرت.
وكانت العادة الجارية منذ زمنٍ طويل أن تُحمَل دِلاء الماء الساخن باليد إلى الطوابق المُتعددة، وأن تُقدَّم صواني الطعام باليد واحدةً واحدة، مع الصعود ثلاثة طوابق كل مرة، وليس أمام المريضات أي وسيلة لاسترعاء انتباه الممرضة إلا عندما تقوم الممرضة بالمرور، فأوصلت فلورانس الماء الساخن بأنابيب إلى كل طابق، وجعلت صواني الطعام تصل في مِصعدٍ خاص صغير، ووضعت زرًّا عند رأس كل سرير بحيث يُعطي إشارة عند مكتب ممرضة الطابق. وكانت هذه بدايات الإصلاح. وفي يناير سنة ١٨٥٤م كانت المؤسَّسة تُدار بانتظام وعلى ما يُرام.
ولكن فلورانس لم تكن تعرف الراحة، وبدأت تزور المستشفيات وتجمع الحقائق التي تُؤسِّس عليها قضية لإصلاح أحوال ممرضات المستشفيات. وكان سيدني هربرت وزير الحرب من المُهتمين بذلك، وكانت زوجته «ليز» هي التي رعت فلورانس وزكَّتها لوظيفة المراقبة. وكان هربرت يعرف أن المعلومات المُدعَّمة بالوثائق عن رداءة الأجر وسوء الإسكان سوف تُنبِّه الرأيَ العامَّ إلى الشرور الموجودة، ولكن ذلك كان من الصعب التغلب عليه؛ إذ كانت التعيينات في المستشفيات تتم بالرشوة والمحسوبية. والإدلاء بمعلوماتٍ تُعزِّز الإصلاح من شأنه أن يُعرِّض الوظيفة للخطر. وكان كل هذا العمل لا بد من وضعه جانبًا؛ ففي مارس سنة ١٨٥٤م أعلنت إنجلترا وفرنسا وتركيا الحرب على الروسيا، ونزلت الجيوش المُتحالفة في شِبه جزيرة القرم في سبتمبر؛ وبذلك أصبحت الحاجة إلى مواهب فلورانس نايتنجيل ماسَّةً في مكانٍ آخر.
التمريض في وقت الحرب
عندما حان الوقت كي تُبحِر قوَّات الجيش البريطاني إلى فارنا على البحر الأسود لتقوم بهجوم على القاعدة البحرية الروسية الكبيرة في سباستبول، لم تكن هناك ناقلاتٌ كافية لحمل الثلاثين ألف رجل مع معدَّاتهم، فتركت دوابَّ الحمل والخيام وأدوات الطهي وسرادقات المستشفى وصناديق الأدوية والأسرة وأدواتها والمخازن. وقد دفع جرحى الحرب ثمن هذا التخلي، وصارت عمليات البَتْر تُجرى بدون تخدير، وكان الجرَّاحون يعملون في ضوء القمر لعدم وجود شموع. وليس هناك مورفين لإخماد الألم. ومن عاشوا بعد هذه المذبحة أُعيدوا بطريق البحر إلى سكوتاري، وهي مدينةٌ تركية تُواجه القسطنطينية على مضيق البسفور حيث أقام الحُلفاء قواعدهم، وامتلأت سفن المستشفى بخمسة أو ستة أضعاف طاقتها، وطالت الرحلة من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع على حسب حالة الجو.
وفي سكوتاري لم تكن الأحوال أفضل بكثير مما كانت وراء خطوط القتال؛ فقد ظن البريطانيون أن مستشفًى صغيرًا مُلحَقًا بثُكْناتٍ هائلة أخلاها لهم سلاح مِدفعية الأتراك سيكون كافيًا لإيواء الجرحى، ولكنهم لم يُدخلوا في حسابهم وباء الكوليرا الذي كان مُتفشيًا في الجبهة؛ فغصَّ المستشفى بأكثر من ٢٠٠٠ حالة كوليرا. وحاوَل البريطانيون تحويل الثُّكنات الكبيرة كلها إلى مستشفًى، ولكن ذلك كان مُستحيلًا لأنها كانت قذِرة جدًّا، ولأنه لا يوجد أحد لتنظيفها، ولأنه لا توجد معدَّات مستشفيات لوضعها فيها، ولكنهم استخدموا تلك الثكنات على كل حال، فكان الرجال يرقدون على الأرض وسط نفس البطاطين المُشبعة بالدم والبراز التي كانوا مُلتفِّين فيها وهم في ميدان القتال. ولم يكن هناك مطبخ يُعَد لهم فيه الطعام، ولا كان هناك أطباء يَكْفون للعناية بهم.
والواقع أن الأحوال كانت لا تختلف إلا قليلًا عن تلك الأحوال التي كانت كثيرًا جدًّا ما تَسُود المستشفيات العسكرية خلال تاريخ إنجلترا العسكري الطويل، بيدَ أن الفظائع السابقة ظلَّت سرًّا مكتومًا، أما هذه المرة فكان مع الجيش مُراسلٌ حربي، فاستُثير الرأي العام ببرقياتٍ أرسلها إلى الوطن وليم هوارد راسل ونُشِرت في التايمز، وزاد الغضب عندما عرَف أنَّ الجرحى الفرنسيين تُعنى بهم بَعثةٌ كبيرة من الممرضات الممتازات هن أخوات الرحمة، وكان الجمهور البريطاني يريد أن يعرف لماذا لم تفعل النساء البريطانيات القويَّات الأجسام مِثل صنيعهن.
والواقع أن فلورانس استبَقَت هذا الطلب، فكانت قد نظَّمت بالفعل بعثةً خاصة صغيرة من الممرضات مستعدةً للإبحار معها إلى القسطنطينية، وأرسلت خطابًا إلى ليز هربرت تُخبرها بنواياها، وحدث أن أرسلت هذا الخطاب في نفس الوقت الذي تلقَّت فيه خطاب استدعاء من وزير الحربية.
ولقد عرقل جهودَها ما هو أكثر من العداوة الرسمية والغباء البشري؛ إذ هبَّ إعصارٌ على سفن المئونة، وصارت الكوليرا تحصد من الجنود من نجَوا من القذائف، فمات منهم بالمرض قَدْر من ماتوا بالجِراح، وارتفعت نسبة الوفَيات بين الحالات المَرضية إلى نسبةٍ رهيبة بلغت ٤٢٪.
وتنقسم إقامة فلورانس نايتنجيل في سكوتاري إلى فترتَين مُتميزتين؛ فأثناء الشتاء الرهيب ١٨٥٤-١٨٥٥م تمكَّن وجودها وحده من إنقاذ المستشفى من الانهيار، واختفت المعارضة، وصارت سيطرتها مطلقة، ولكن منذ ربيع سنة ١٨٨٥م — وقد تحسَّنت الأحوال وقلَّت الضغوط — عادت موجات الحسد الحقيرة والخيانات وإساءة التأويل، تُناوشها وتُرهقها، فاستولى عليها الشعور بالفشل والإرهاق البدني.
معركة إصلاح الجيش
لقد باتت وزارة الحرب تنظر إلى الآنسة نايتنجيل نظرتها إلى مصدر إزعاج خطر. لقد كانت ذات نفع في وقت الطوارئ على مسافة ثلاثة آلاف ميل، أما هنا في الوطن فأفكارها الثورية لا يمكن أن تُطاق؛ ولذلك لم يتم شيءٌ مما طلبَته، فلجأت فلورانس إلى التشهير المُهذَّب، فقالت للورد بانمور — الذي خلَف هربرت وزيرًا للحرب — إنها ما لم تُؤلَّف لجنةٌ ملكية فورًا، وتُقدِّم دليلًا ملموسًا على إصلاحاتٍ تتمخض عن مداولاتها، فإنها سوف تنشر في ظرف ثلاثة أشهُر تَجرِبتها عن الحرب واقتراحاتها للإصلاح والتحسين.
وفي ٥ من مايو سنة ١٨٥٧م تألَّفَت لجنةٌ ملكية رسميًّا، وعلى رأسها حامي الآنسة نايتنجيل سيدني هربرت. وكان الأعضاء الآخرون من اختيارها، أما هي فلم تكتفِ بمعاونتهم في مداولاتهم فحسب، بل أتاحت لهم الوقائع والأرقام من «مذكراتها حول الصحة والفعالية وإدارة المستشفيات في الجيش البريطاني» التي لم تكن نشرَتها بعد؛ فهذا العمل الضخم يُغطي في فصوله الإحدى والعشرين موضوعاتٍ مثل النقص في نقل المرضى، والتوصيات الصحية بخصوص المستشفيات، واستخدام الممرضات، واستخدام الممرضين، والحاجة إلى موظفين صحيين خاصين (في الوطن وفي الخارج)، وعدم دقة الإحصاءات المُتعلقة بالمستشفيات، والحاجة إلى إدارة للإحصاء، واستمارات للإحصاءات الطبية، وتقارير عن ارتفاع معدلات المرض والوفاة في بعض أسلحة الجيش، وملاحظات عن تعليم واستخدام وترقية الضباط الطبيين، وملاحظات عن الدفع والتوقف عن الدفع، وعن زوجات الجنود، وعن التغذية والطهو وبناء المستشفيات.
وسُلِّم تقرير اللجنة إلى اللورد بانمور بعد عودتها إلى إنجلترا بعام بالضبط. وكانت الوقائع التي كشف عنها مُذهِلة؛ فأحوال الجيش (الصحية) تكاد تكون في وقت السلم سيئة كالعهد بها في وقت الحرب؛ فبسبب الثُّكنات غير الصحية التي يعيش فيها الرجال مثلًا كان معدل الوفَيات بين الجنود يتراوح بين ضِعفَي وخمسة أضعاف معدل وفَيات الجيران المدنيين، مع أن الجيش يضمُّ الأصغر سنًّا والأقوى بنيةً بين السكان الذكور. وكان مجرد التفكير في مَبلغ رد الفعل العام — لو أن الآنسة نايتنجيل نفَّذت وعيدها بنشر مذكراتها — خليقًا أن يدفع اللورد بانمور للعمل، ولكنه مرةً أخرى لجأ للمُماطَلة. ومرَّت تسعة أشهُر قبل أن تُعيِّن وزارة الحرب الدكتور توماس ألكسندر — الذي عملت معه الآنسة نايتنجيل في سكوتاري — مُديرًا عامًّا للقسم الطبي بالجيش، ثم قدَّمت الوزارة سلسلة قرارات اعتمدها مجلس العموم تُعَد ثورة في أحوال الثُّكنات. وبعد عامٍ سقطت الوزارة، وتولَّى سيدني هربرت وزارة الحرب مرةً أخرى. وبدا أن كل ما حاربت فلورانس نايتنجيل من أجله بات مُحقَّق الوقوع؛ فقد اتُّفق على أن يُعاد تشكيل وصياغة الترتيبات الصحية في الثُّكنات والمستشفيات العسكرية كي يفيَ بالمواصفات التي ذكَرَتها؛ أي لكي يصبح ماء الشرب صالحًا للشرب، وأن يكون طعام الجنود مُقويًا وأكثر استساغة، وأخيرًا إقامة مدرسة للطب العسكري.
التمريض المدني
في أغسطس سنة ١٨٥٧م كانت فلورانس نايتنجيل قد مُنِيَت بانهيارٍ عصبي تام، تركها شِبه عاجزة عن الحركة في السنوات الثلاث والخمسين الباقية من حياتها، ولكن ذلك لم يضَع حدًّا لأنشطتها؛ فبينما هي تُناضل ثم تُحاول إعادة تنظيم وزارة الحرب بالكلية أصدرت كتابَين؛ أولهما «ملاحظات عن المستشفيات» (١٨٥٩م) بَنَته على الوقائع والأرقام التي جمعتها على مدى ١٥ سنة، وفيه استطاعت أن تبين أن معظم وفَيات المستشفيات سببها سوء أحوال المستشفيات، لا الأمراض التي من أجلها دخلها المرضى. وكشف الكتاب أيضًا أنها كانت خبيرة في بناء المستشفيات وإدارتها. وفي السنوات الخمسين التالية قلَّ أنْ بُنيَ مستشفًى في أي مكان بالعالم بدون مشورتها. ولئن كان هذا الكتاب قد كُتِب للمُتخصصين أو الخبراء، فإن كتابها الآخر «ملاحظات عن التمريض» (١٨٦٠م) مكتوب لربَّات البيوت الإنجليزيات. وكثيرٌ من الشروط الصحية المعروفة في بيوت اليوم، والمفروغ من أمرها لأنها من المُسلَّمات، كان هذا الكتاب أول من أدخلها.
وفي سنة ١٨٥٥م عندما كانت فلورانس نايتنجيل في أوج شهرتها، أُنشئَ صندوق نايتنجيل، وكان المُراد إنشاء مدرسة لتدريب الممرضات. وعندما أبلغها هربرت بوجود ذلك الصندوق وسألها كيف تحب أن يكون تصرُّف لجنة التنظيم، أجابته من سكوتاري أنها مشغولة حاليًّا، ولكنها ستُفكِّر في المشروع عندما يتَّسع لها الوقت، ولكنها لم تنسَ قطُّ أن الصندوق موجود. والآن اتَّسع لها الوقت، واهتمَّت به شخصيًّا بكل التفاصيل، ولكنها أدركت أنها لن تتمكن من القيام بدورٍ فعَّال في البرنامج بسبب إمكانياتها البدنية المحدودة، وعهِدَت بإدارة المدرسة إلى مسز وارد روبر كبيرة ممرضات مستشفى القِديس توماس سابقًا. وفي ٢٤ من يونيو سنة ١٨٦٠م دخل أول فوج من الطالبات مدرسة نايتنجيل لتدريب الممرضات في مستشفى القِديس توماس ليندربن لمدة سنة، وكان عددهن ١٥، ولدى كلٍّ منهن شهادة بحسن السير والسلوك. ولبِثَت مسز وارد روبر في الخدمة لمدة ٢٧ سنة، وجانبٌ كبير من نجاح المدرسة يجب أن يُعزى إلى تصميمها ونشاطها الجم.
إن أصحاب المِهن الطبية (وهم — في مجموعهم — رجعيُّون) عارَضوا الفكرة، وقاد المعارضة مستر ج. ف ساوث كبير الجرَّاحين الاستشاريين في مستشفى القديس توماس ومدير كلية الجرَّاحين؛ ففي رأيه ورأي الكثيرين من زملائه أن الممرضة — ويُستحسن أن تكون امرأة نصفًا — ينبغي أن تكون أعلى قليلًا من خادمةٍ راقية، كل وظيفتها أن تُنفذ أوامر الطبيب، فلا حاجة إلى تعليهما، ولكن كل شيء يتغير مع الزمن، وسُرعانَ ما تقدَّمت إلى الأمام خريجات نايتنجيل ليَرْأسن مدارس جديدة للتمريض في جميع أنحاء العالم.
الدعوة للتمريض
ومنذ سنة ١٨٦٠م تكاثرت مدارس التمريض في كل أنحاء العالم. وقد نُظِّمت أول مدرسة أمريكية للتمريض في سنة ١٨٧٢م في مستشفى نيو إنجلند للنساء والأطفال على يد الدكتورة ماري زاكر سيفسكا والدكتورة سوزان ديموك (١٨٤٧–١٨٧٥م).
لقد كانت فلورانس نايتنجيل ممرضةً بارزة، ولكنها لم تكن ممرضةً محترفة عاملة إلا لمدة ثلاث سنوات من سنوات عمرها الذي بلغ التسعين؛ فالأجدر بنا أن نَذكُرها لأنها أنشأت «دعوة» أو «رسالة» التمريض على نحوِ ما هو كائن اليوم.