جين آدمز
وبعد عامَيها في أوروبا قضَت مس آدمز عامَين في أمريكا. وحوالَي آخر سنة ١٨٨٦م عادت إلى أوروبا لعامَين آخرين من السفر والملاحظة. ولم تستطع مس آدمز فيما بعدُ أن تتذكر متى خطرت لها الفكرة أول مرة؛ «أن تستأجر بيتًا في موضع من المدينة توجد به الاحتياجات البدائية والفعلية، وفيه تستطيع الشابَّات اللواتي انصرفن إلى الدراسة بالكلية أن يَسْتعدن تَوازُن نشاطهن بالطُّرق التقليدية، ويتعلَّمن عن الحياة من الحياة نفسها، وحيث يتسنَّى لهم أن يُجْرين بعضًا من الأشياء التي تعلَّمتها.» وقد يكون ذلك قبل رحلتها الثانية إلى أوروبا، أو في وقتٍ مُتأخر قد يصل إلى أبريل سنة ١٨٨٨م، عندما وصلت جماعتها إلى مدريد، وتتذكر أنها أشارت إلى الموضوع وخُطتها فيه لأول مرة بالتأكيد تقريبًا. كان هذا الخاطر قد أُوحيَ إليها كردِّ فِعل لمصارعة الثيران، «حيث جرى ما أثار دهشتي وفزعي؛ فقد رأيتُ بعينَي رأسي وبعدم اكتراث نسبيًّا خمسة ثيران وعددًا أكبر من ذلك بكثير من الخيل تَلْقى مصارعها.» وقرَّرَت في اليوم التالي أن تقوم بتنفيذ خُطتها ولو بالحديث عنها. وكانت من اعترفت لها بدخيلة نفسها هي إلين جيتنس ستار (١٨٦٠–١٩٤٠م)، وهي صديقةٌ قديمة من عهد المدرسة وعضوٌ في جماعة الرحلة، وأثبتَت مس ستار أنها مُستمِعة مُتحمِّسة. ولما افترقتا في باريس في يونيو سنة ١٨٨٨م بدأ محتملًا جدًّا أن تنضمَّ إلين إلى جين آدمز في تحويل مشروع غامض إلى حقيقةٍ حية.
هال هاوس
تحقيق الأهداف
ويقع هال هاوس على حافةِ منطقةٍ تَسكُنها جالياتٌ أجنبية مُتعددة؛ فإن حوالَي عشرة آلاف إيطالي مُكتظُّون بين شارع هالستيد ونهر شيكاغو، وإلى الجنوب يوجد ألمان وسُكان من بوهيميا، والشوارع الجانبية فيها يهود بولنديون وروس، أما الكنديون الفرنسيون فيعيشون إلى الشمال الغربي، والأيرلنديون وأول جيل من الأمريكان إلى الشمال، ومن بين العناصر الأفقر في كل جماعة يوجد مَن انحدرَت مكانتهم وظروفهم بعد يُسرٍ لسبب أو لآخر. وكان هؤلاء أول من ساعَدهم المُتطوعون الذين تقاطروا صَوْب علم هال هاوس بمجرد إنشائه. وأُنشئت جماعات للقراءة وغير ذلك من الأنشطة الثقافية لأولئك المنكودين الذين عرَفوا فيما مضى ظروفًا أفضل. وكانت هذه مجرد بداية، ولكن كانت هناك احتياجاتٌ عملية أكثر من هذه تجب مواجهتها؛ كان هناك أطفال ورُضعاء كان لا بد أن تُهمِلهم أمهاتهم العاملات في محلاتٍ تستغلُّ عرَقهن بأجورٍ زهيدة جدًّا، وهناك الأطفال الذين يلعبون في شوارع ضارَّة بالصحة، والأطفال الذين يعملون في المصانع، وهناك البيوت المُؤجَّرة، والمُسنُّون المهجورون والمُهمَلون الذين يعيشون في بيوت الفقراء الفظيعة، ثم هناك أخيرًا أماكن الاتصال الاجتماعي — عدا الحانة القريبة — التي يجب توفيرها لهؤلاء الناس.
ولم يكن في وُسْع هال هاوس أن يقوم بذلك كله؛ إذ لا يُمكِنه أن يُطعِم كل الجياع، أو يكسوَ كل العُراة، أو يُؤْويَ كل المُشرَّدين، أو يُداويَ كل المرضى. وما فعلته مس آدمز ومس ستار ومعهما السُّكان المُخلِصون، أنهم لفتوا أنظار السُّلطات العامة إلى النقائص، وألهموا المُحسِنين أن يُوجِّهوا أعمال البر حيث تمسُّ الحاجة إليها. أما أول خطوة لهال هاوس فكانت فتح روضة أطفال. وألحقَت بها مطابخ لإطعام الأطفال والنساء العاملات، اللواتي كان غذاؤهن — بغير شك — مما يُباع في محالِّ الحلوى، ونظَّمت نواديَ للصِّبيان ودوائر حياكة للبنات. وكان الجميع يرقصون في الجمنازيوم، ومن تحته تحوَّل المطبخ العام إلى مقهًى. وكان الجمنازيوم والمقهى يُستعملان أيضًا لاجتماعات البالغين، بما في ذلك حفلة رأس السنة للمُسنِّين من أهل الجوار. وشَمِل هال هاوس برعايته ناديَ تغذية للفتَيات العاملات، بل وحاوَل إقامة جمعية تعاونية للفحم، وسُرعانَ ما تناقل الناس أن سكان هال هاوس كانوا مُستعدِّين للقيام بأحطِّ الخِدمات للجوار؛ غسل الأطفال الحديثي الولادة، وتجهيز الموتى للدفن، والعناية بالمرضى، ورعاية الأطفال.
وكان الأطفال يعملون في المصانع من السابعة صباحًا إلى التاسعة مساءً في ظروفٍ غير مأمونة بشكلٍ فاضح، وليس هناك أي تعويض عن الإصابات، بل ولا عن الوفاة؛ فقَبْل السماح للطفل بالعمل كان وليُّ أمره يُوقِّع إقرارًا بالتنازل عن أي تعويض يَنجُم عن الإهمال. وحثَّت مسز فلورانس كيلي — من أوائل ساكني هال هاوس — مكتب عمل ولاية إلينوي أن يقوم بالتحقيق في نظام المصانع الصغيرة التي تستغلُّ عَرَق العاملين بأجورٍ ضئيلة في شيكاغو، ولا سيَّما حين يتَّصل الأمر بتشغيل الأطفال، وأدَّت هذه الاستقصاءات إلى أول قانون للمصانع في إلينوي.
وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت القُمامة تتراكم في صناديق خشبية ضخمة مُثبَّتة في أرض الشارع، وتُجمَّع في فتراتٍ مُنتظِمة.
وكان هذا النظام غير لائق في بيئة تُجاوِر هال هاوس، فضلًا عن أنه غير صحي؛ فالحجم العادي للنُّفايات كان يتضخم بالفواكه والخُضر المُتعفِّنة التي يُلقيها الباعة الطليان واليونان، وبالأسمال القذرة للغاية التي لا نفع فيها لباعة الملابس القديمة أو للذين يسرقونها من مَقلب المدينة طمعًا في «تقييفها». ومما جعل الأمور أسوأ أنَّ الأطفال يلعبون حول هذه الصناديق الكبيرة وفيها، ويأكلون كل ما يقع تحت أيديهم منها، فعمل هال هاوس على إزالة هذه الصناديق واتباع نظام أفضل لجمع القمامة.
وهناك معركةٌ أخرى تصدَّى لها سكان هال هاوس، وهي بيع الكوكايين للقُصَّر. وكانت القوانين القائمة غير كافية، وأخيرًا صدر تشريعٌ جديد سنة ١٩٠٧م، وبُذِل مجهودٌ مُنسَّق لتنبيه الجمهور إلى الأحوال التعسة التي تَسُود بيوت الكِراء بالحجرة، وعلى الأقل تأثَّر بعض المُلَّاك وشرَعوا في إدخال تحسينات، ولكن الأحوال ظلَّت رديئة، حتى إنه أثناء وباء التيفود في سنة ١٩٠٢م كانت نسبة الوفَيات ١٧٪ في الشق الذي يقع فيه هال هاوس، مع أن سُكَّانه يُشكِّلون ٣٪ فقط من سكان شيكاغو. ودرس سكان هال هاوس أحوال السباكة في المناطق التي كان تركيز الحُمَّى فيها أكثر من غيرها. وبإشراف الدكتورة أليس هاملتون التي قامت بدراسةٍ بِكْتريولوجية لمختلف النُّظم السائدة في السباكة (المقصود بالسباكة: التوصيلات الخاصة بأنابيب الماء والمراحيض والحمام) أثبتوا — من بين أشياء أخرى — أن الظروف التي تُشجع انتشار العدوى ما كانت لتُوجَد بهذه الشدة لو لم يكُن مُفتش المدينة مُهملًا إهمالًا إجراميًّا أو مُرتشيًا من مُلاك البيوت. وأدَّى هذا الافتضاح إلى محاكمةٍ تأديبية لنصف مُوظَّفي مكتب الصحة، وفَصْل ١١ من الأربعة والعشرين موظفًا بهذا المكتب. «إن المفتش في منطقتنا كان رجلًا مُسنًّا عطوفًا، حَزِن حزنًا شديدًا لهذه القضية، وكان عاجزًا عن فهم السبب الذي من أجله كان عليه أن يستخدم صلاحياته في الوقت المُناسِب لإرغام الملك على إدخال الوسائل العصرية.
لقد قالت الطفلة جين آدمز لأبيها إنها «ستَملِك بيتًا كبيرًا، وسط البيوت الصغيرة الحقيرة الفظيعة».
وقد برَّت بوعدها، بل وبأكثر مما وعدت.