الخطوات الأولى: دكتورة هنت، دكتورة فولجر، دكتورة كلارك
في الولايات المتحدة بدأت الحركة الحديثة لقَبول المرأة في المهنة الطبية، ويُعزى — وبحق — نجاحها النهائي إلى وجود الرائدات المُبجَّلات من مثيلات الشقيقتَين بلاكويل وماري زاكرتزويسكا وماري بوتمان جاكوبي وإميل دننج بارنجر، ولكن سبقَتهنَّ نساء مهَّدن لهن الطريق.
ومنذ زمن الهجرة إلى العالم الجديد عند بليموث روك والنساءُ والرجال يُمارسون الطب على السواء في نيو إنجلند. وكان هذا ينبغي أن يكون مُتوقعًا؛ ففي أيام الاستيطان والتعمير كان النساء يعملن جنبًا إلى جنب مع الرجال في الحقوق والحوانيت، وكانت الزوجات والأمهات يحملن على كواهلهن مسئولية العناية الطبية للأسرة.
وفي تلك الأيام لم تكُن ثَمة مدارس طبية، وكثير من الأطباء علَّموا أنفسهم بأنفسهم، والشبان كانوا يَغْدون أطبَّاء بعد فترة تمرين لدى طبيب مُمارس. ولم تكُن أمام النساء فرص من هذا القبيل، فظلَّت خِدماتهن على أساسٍ دون المهني إلى أن تولَّى تعليمَهن أطباءُ مُعيَّنون، ولا سيما من الكويكر، ولسوء الطالع لم تُحفَظ لنا من أسماء أوائل الطبيبات إلا قلة.
ودرست الدكتورة سارة ا. آدمز (١٧٧٩–١٨٤٦م) من كارولينا الجنوبية الطب تحت إشراف الدكتور ملتون أنتوني مؤسس كلية طب جورجيا، وأسست لها عيادة في أوجستا، قبل مائة سنة تقريبًا من قَبول الجمعية الطبية في ولاية جورجيا لأول امرأة في عضويتها.
هاريوت ك. هنت
ولما أُنشئت مدارس الطب الأمريكية سارت على النهج الأوروبي العام، الذي كان يمنع المرأة من التقدم للحصول على درجةٍ علمية في الطب؛ ولهذا السبب شرع عددٌ من النساء في الممارسة بدون مزيَّة الدرجة العلمية، وهي المُؤهِّل الوحيد الذي يسمح لهن بالتجربة العلمية. وازدهرت كثرة هؤلاء الممارسات، ولكن ذلك لم يجعلهن أقل استعدادًا للنضال في سبيل تعليم طبي بمعنى الكلمة.
-
تقرَّر أنه ما من امرأةٍ تتمتع بحياءٍ حقيقي يمكن أن ترضى بالحضور بين الرجال أثناء المناقشات في موضوعاتٍ يتحتم أن تَرِد في مجال طالب الطب.
-
وتقرَّر أننا نعترض على أن تُفرَض علينا صحبة أي أنثى مُصمِّمة على تجريد نفسها من جنسها والتضحية باحتشامها بالظهور بين الرجال في قاعة المحاضرات.5
وهناك كاتبٌ آخر هو الدكتور كارول لوبات، يُقدم صورةً مختلفة قليلًا جدًّا لما حدث عندئذٍ: إن جامعة هارفرد نفسها حاولت سنة ١٨٥٠م أن يكون التعليم بها مشتركًا، تحت عمادة أوليفر ويندل هولمز، فقبِلَت امرأةً واحدة وثلاثة طلبة زنوج.
ولكن القرارات، وهي خالية من الإشارة إلى الزنوج، تبدو مؤيدة لتصوُّر الدكتور «لافجوي» لا الدكتور لوبات.
ليديا فولجر فاولر
وفي حوالَي ذلك الوقت الذي حاولت فيه هاريوت هنت أن تدخل هارفرد، كانت ليديا فولجر فاولر (١٨٢٢–١٨٧٩م) تُحاول أن تجد مدرسة لها في نيويورك، وكانت خلفيَّتاهما مُختلفتَين؛ فقد وُلِدت ليديا فولجر في نانتوكيت، وهي جزيرةٌ بعيدة عن ساحل ماساشوستس، ويمكن تعقُّب نسب أسرتها إلى جون فولجر الذي وصل إلى أمريكا سنة ١٦٣٥م في سن السابعة عشرة (وكان جون فولجر بالصدفة جد بنيامين فرنكلين لأمه)، وكان معظم آل فولجر مُعلمين ومُفكرين وعلميين؛ ولذا حظِيَت ليديا بتعليم ليس في متناول عامة النساء.
وتزوَّجت ليديا وهي في الثانية والعشرين، وكان زوجها لورنزو نايلز فاولر شديد الإيمان بفِراسة الجمجمة، وهي العلم المزعوم الذي يدَّعي أن الخواصَّ العقلية والطبع يمكن استنباطهما من نتوءات الجمجمة. وسرعان ما تعلَّقت ليديا بذلك العلم المزعوم، وحاضرت مجموعات من النساء لا في الفِراسة فحسب، بل أيضًا في التشريع والفسيولوجيا وأصول الصحة العامة، وألَّفت كتبًا أولية في هذه الموضوعات وما يتصل بها، ومن بينها دروسٌ مبسَّطة في الفلك (١٨٤٧م) ودروسٌ مبسَّطة في الفسيولوجيا (١٨٤٨م). وبسبب احتكاكها عن كثب بالمسائل العلمية وشبه العلمية اتجهت أفكارها صوب الطب، ولكن أين عساها تذهب لتتعلم وتحصل على درجةٍ علمية في الطب؟ إن إليزابث بلاكويل — كما سنرى فيما بعد — قُبِلت بضربةِ حظٍ أشبه بالفلتة في كلية جنيفا بنيويورك في نوفمبر ١٨٤٧م، وتخرَّجت في شهر يناير ١٩٤٩م، ولكن المؤسَّسات الرسمية الطبية بوجهٍ عامٍّ كانت ترفض قَبول النساء.
كانت هذه هي الفترة التي بدأ فيها النساء النضال في سبيل حقوقهن. وفي أول مؤتمر عُقِد في «سنيكا فولز» بنيويورك في سنة ١٨٤٨م حرَّرن ثمانيَ عشرة مُظلمة في «إعلان المشاعر» صُغْنه على غِرار «إعلان الاستقلال». وقد وقَّع ذلك الهجومَ مائةٌ من الراديكاليات (أي المُتطرفات) فحظِي ذلك الإعلان بكثير من الدعاية، ومعظمها سيئ، ولكن مجموعتَين من رجال الطب المُستقلِّي الرأي إحداهما في روشستر والأخرى في سيراكوزة، وكانتا تُنظمان مدرسةً جديدة للطب هي كلية الطب المركزية بنيويورك في سيراكوزة قرَّرتا انتهاج سياسة التعليم المختلط، ولما فتحت أبوابها في ٥ نوفمبر سنة ١٨٤٩م كانت ليديا فولجر فاولر إحدى ثلاث نساء من مجموع المقبولين، وهو اثنان وتسعون طالبًا.
وكانت سمعة الكلية سيئة؛ لأنها تُناصر عقائد طبية غير مقبولة بوجهٍ عام من رجال الطب الرسميين، مثل الانتقائية والمعالجة المثلية. والانتقائية هي تَخيُّر ما يبدو أفضل السمات من واحد من الأنظمة الطبية المتنافسة، مع الإلحاح على استخدام العلاجات النباتية. والمعالجة المثلية تقوم على افتراض أن الشبيه يشفي الشبيه، وتدَّعي أن العقاقير التي تُحدِث أعراضًا مُعيَّنة مُحدَّدة في الأصحَّاء خليقة أن تشفيَ الأمراض التي تُحدِث نفس هذه الأعراض، وبشرط إعطاء هذه العقاقير بجرعاتٍ غاية في الضآلة. ولم تُعمَّر الكلية الطبية المركزية طويلًا؛ لأن مُؤسِّسيها سرعان ما اختلفوا حول أهدافها وكيفية إدارتها. وفي مدى سنة كانت قد انشقَّت إلى كلية روشستر الطبية الانتقائية (التي أُغلقت سنة ١٨٥٢م)، وإلى كلية سيراكوزة الطبية الانتقائية التي عُمِّرت حتى ١٨٥٥م، ولكن الكلية استمرَّت مدةً كافية لمنح درجة الدكتوراه في الطب إلى ليديا فولجر فاولر سنة ١٨٥٠م.
وبعد عام عُيِّنت الدكتورة فاولر أستاذًا للقبالة وأمراض النساء والأطفال في كلية روشستر؛ وبذلك صارت أول امرأة تشغل كرسي الأستاذية في مدرسةٍ طبية مُرخَّص بها قانونًا في الولايات المتحدة. وفي صيف سنة ١٨٥١م خطبت في جمعية الطب الانتقائي بنيويورك، فكانت أيضًا أول مرة تظهر فيها امرأةٌ أمام جمعيةٍ نظامية للأطباء.
وبعد أن أغلقت كلية روشستر أبوابها سنة ١٨٥٢م مارست الدكتورة فاولر الطب في نيويورك سيتي لمدة إحدى عشرة سنة، وكانت في الوقت نفسه تُحاضر فصولًا من النساء في كلية الطب المتروبوليتان الانتقائية، وكانت محترمة جدًّا كطبيبة ومُحاضِرة وكاتبةٍ طبية اجتماعية. ومما لا شك فيه أنها كانت حقيقةً أن تحظى بمستقبلٍ طيب لو لم يُقرِّر زوجها الانتقال إلى لندن ليُمارِس فيها فِراسة الجماجم. وكانت النقلة مُجْدية عليه؛ لأن الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت توَّجا فِراسة الجماجم بإقرارهما إيَّاه حين سمحا بقراءة جماجم أطفالهما، ولكن هذه النقلة كانت سببًا في إسدال ستائر النسيان على ليديا فاولر؛ لأنها لم تستطع أن تُثبت نفسها هناك فيما يبدو، وماتت في لندن بالالتهاب الرئوي وهي في سن السابعة والخمسين.
نانسي تالبوت كلارك
في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر، أصدرت ولاية ماساشوستس قانونًا يُطالِب بتعليم الفسيولوجيا في جميع المدارس العامة بالولاية، وسبَّب هذا مشكلة للنساء اللواتي يُرِدن تعليم البنات؛ لأن قِلة منهن هن اللواتي يمتلكن المُؤهِّل الضروريَّ لتدريس هذه المادة، ولكن نانسي تالبوت كلارك (١٨٢٥–١٩٠١م) — وهي أرملةٌ شابَّة لطبيب أسنان — قرَّرت أن تُؤهِّل نفسها لذلك.
وكانت الفسيولوجيا تُدرَّس في كليات الطب، ولكن ما من كليةٍ كانت تَقبَل التلميذات، ومع هذا قرَّرت أن تُحاول على كل حال. وعن طريق أقاربها قدَّمت نانسي طلبًا للقبول في كلية طب كليفلند. وكانت المدرسة قد تأسَّست في أوائل الثلاثينيات كقسمٍ طبي من كلية «وسترن ريزيرف»، ولكنها ظلَّت قائمة بالاسم فقط حتى نوفمبر سنة ١٨٤٤م.
وكانت الدكتورة كلارك قد تخلَّت في ذلك الحين عن فكرة التعليم، وشرعت تُمارس الطب في بوستن سنة ١٨٥٢م. وفي السنة التالية تقدَّمت بطلب للعضوية في جمعية ماساشوستس الطبية، وكانت الطبيبات الأخريات في المنطقة لا يتمتعن مثلها بمِيزة حمل درجة في الطب من مدرسةٍ نظامية رسمية. وهذا الفارق قد لا يؤثر على المرضى، ولكنها رأت فيه إسفينًا تقتحم به أبواب جميع جمعيات الذكور الطبية.
ومن حيث الشكل كانت مُؤهَّلة للعضوية؛ فقوانين جمعية ماساشوستس الطبية لا تشير إلى جنس العضو (فلم تكن هناك طبيبات ليدخلن في الاعتبار عند سن القانون)، ولكن بعض الاحتياطات في القانون كانت تنصُّ على منع الظلم عن «رجال الطب»، فاستندت الجمعية على ذلك، وأرسلت تعليماتها إلى الجمعيات الإقليمية التابعة لها، والتي تقدم الطلبات عن طريقها، بألا تنظر إلا في طلبات الذكور فقط.
وهكذا انتصرت نانسي تالبوت كلارك في نضالها للحصول على تعليمٍ طبي، ولكنها خسِرت معركتها للحصول على مساواة في الوضع الاجتماعي.