إليزابث بلاكويل
والعميد لي سيدٌ ريفي مُتقدم في السن عصبي المزاج؛ لذلك حمل مشكلته إلى رئيس الجامعة بنيامين هيل الذي كان ضد الاقتراح، ولكنه لم يشَأ أن يرفض رجاء الدكتور وارنجتن بطريقٍ مباشر؛ فالدكتور وارنجتن من طائفة الأصحاب «الكويكر». وقد قال الدكتور هيل للدكتور لي إن الكويكر يتوقعون من الآخرين أن يُشاركوهم آراءهم التحرُّرية، ولكنه وجد له مَخرجًا؛ فالطلاب معظمهم من فِتيان الريف القادمين من القُرى والمزارع المُجاورة، وفيهم طِيبة قلب إلا أنهم ميَّالون للفظاظة، فلن يُطيقوا وجود أنثى بين صفوفهم؛ فالأوفق أن يُترَك القرار للطلبة ثم يُخطَر الدكتور وارنجتن (بكل أسف) بقرارهم.
وطرح الدكتور لي الموضوع على هيئة الطلبة، وبيَّن لهم أن القرار بالقبول يجب أن يَصدُر بالإجماع، وطلب منهم الإسراع بالاقتراع. وكانت ثقته بنتيجة الاقتراع تكاد تُضارع ثقة الدكتور هيل، ولكنهما لم يُدخِلا في حسابهما طريقة تفكير أبناء الفلَّاحين والتُّجار والميكانيكيين هؤلاء، الذين كانوا يدرسون بجِدٍّ أسابيع كثيرة مع قليل جدًّا من الراحة. وبدا الاقتراح مُبشرًا بإثارة كافية لجذب اهتمامهم، وتعاقبت الخُطب، بعضها جادٌّ وبعضها ساخر، وبعضها هازل؛ فاستمرَّ التداول حتى المساء، وكانت النتيجة قرارًا إجماعيًّا بأن الآنسة إليزابث بلاكويل يجب أن تُقبَل زميلةً لهم في الدراسة.
الأيام الأولى
وُلِدت إليزابث بلاكويل (١٨٢١–١٩١٠م) في بريستول بإنجلترا، وهي ابنة صمويل بلاكويل. ولم يكُن مستر بلاكويل عضوًا في كنيسة إنجلترا فحسب، بل كان مُنشقًّا عاليَ الصوت على الكنيسة الإنجليكانية. وفي الثلاثينيات من القرن ١٩ كانت المدارس الجيدة الوحيدة هي التي تُديرها الكنيسة بإنجلترا، وكان أبناء المُنشقين عليها ممنوعين من دخولها، وكان مستر بلاكويل يريد لأطفاله — بنين وبنات على السواء — أن يحظَوا بتعليمٍ جيد جدًّا، فتوصَّل إلى ذلك باستخدام المُؤدِّبين، ولكن مستر بلاكويل كان — كالكثيرين ممن هم على شاكلته — يرنو بشوق إلى العالم الجديد وما فيه من حرية التفكير وغير ذلك من المُثل الديمقراطية. وفي سنة ١٨٣٢م دمَّرت النيران معمل مستر بلاكويل لتكرير السكر في بريستول، فكانت هذه هي الفرصة التي ينتظرها، وقرَّر أن يبنيَ مصنعه الجديد في أمريكا.
وقد وجد آل بلاكويل في القُطر الجديد أصدقاء من بين الناس الذين يُشاركونهم أفكارهم عن مشكلات زمنهم؛ أي من أنصار إلغاء الرِّق وزعماء حركة المطالبة بحقوق المرأة. وفي سنة ١٨٣٨م انتقلوا إلى سنسناتي، وهي يومئذٍ مدينةٌ صغيرة، ولكنها مُزدهرة على نهر أوهايو، وقد تمَّت الرحلة من نيويورك بزَورق في قناة، ثم بعربة للسفر على مراحل، وبزَورق في النهر.
وما كادت الأسرة تستقرُّ في سنسناتي حتى تُوفي مستر بلاكويل تاركًا زوجته وأطفاله التسعة في ضِيق، وسرعان ما وجد الابن الأكبر هنري عملًا في محكمة سنسناتي، بيدَ أن مكاسبه لم تكُن كافية لمصروفات البيت، فكان من الضروري أن تصنع البنات الثلاث الكبيرات (آنا وماريان وإليزابث) شيئًا ما، ولكن ما هو؟
وافتتحت الشقيقات الثلاث مدرسةً داخلية للشابَّات، وصارت إليزابث بنت السابعة عشرة، والتي لا يكاد طولها يتجاوز خمس أقدام، ضابطة النظام. وبعد أربعة أيام حصل الشقيقان الأكبران على عملٍ مُستقر يكفي لاحتياجات الأسرة، فأغلقت الأخوات الثلاث المدرسة.
واستقالت من عملها، وعادت إلى سنسناتي حيث آل بيتشر وآل ستو وآل تشاننج، الذين يُشاركونها أفكارها ومشاعرها.
قرار العمل
وما إن حزمت أمرها على تحطيم التقاليد التي تستبعد المرأة عن مجال الطب، حتى كانت أول خطوة هي الحصول على المال لمصروفات تعليمها، فظلَّت سنتَين تعمل مُعلمة في مدرسة في كارولينا الشمالية أولًا ثم كارولينا الجنوبية. وفي آشقيل قام المُبجَّل جون ديكسون — ناظر المدرسة الذي عمِل فيما مضى طبيبًا — بإقراضها كتبًا في الطب. وفي شارلستون أباح لها الدكتور صمويل ه. ديكسون — وهو طبيبٌ مُمتاز وأستاذ في كلية الطب — استخدامًا مطلقًا لمكتبته الطبية الواسعة، وقام بإرشادها في دراستها علوم الطب الأساسية.
وأنفذت طلبات بالالتحاق إلى كل مدرسة طب كبيرة، وكل المدارس الأقل منها مكانة، ولم يُجشم بعضها نفسه مئونة الرد، والردود الواردة كانت معظمها رفضًا قاطعًا، ولكن في ٧ من نوفمبر سنة ١٨٤٧م سُجِّل اسم إليزابث بلاكويل في دفاتر القسم الطبي بجامعة جنيفا.
مدرسة الطب
وفي مدى أسبوع أو أسبوعَين من وصولها توجَّه إليها أستاذ التشريح — الدكتور جيمس ويبستر — بالرجاء أن تظلَّ خارج قاعة درسه لعِدَّة أيام؛ لأنه سيُحاضر خلالها عن الجهاز التناسلي. وردَّت عليه إليزابث بخطابٍ انتقَت ألفاظه بعناية، قائلةً إن دراسة التشريح دراسةٌ جِدية، وإن كل فروعها وموضوعاتها تعكس مجد الخالق وحكمته؛ ولذا فهي لا تتصور أن رجلًا مثله كرَّس نفسه للعلم قد يُزعجه أن يكون الطالب رقم ١٣٠ مُرتديًا قبعةً نسائية، ولكن إذا كان ذلك سيُقلِّل من تحرُّجه فإنه ليَسرُّها أن تخلع غطاء رأسها المُتميز، وتجلس في الصف الأخير. ومضت محاضرات التشريح في مسارها ونظامها المُعتادَين، وأصبح الدكتور ويبستر بعد ذلك صديقها المُخلِص، بل وعندما أجفل الدكتور لي أمام فكرة ممارسة امرأة للجِراحة، ساند الدكتور ويبستر حقها في ذلك.
ولئن كان رفاق الفرقة الدراسية والكلية قد قبِلوا وجودها هناك بلا مناقشة، فلم يكُن الحال كذلك من جانب أهالي جنيفا الطيبين الذين عدُّوها إما امرأةً سيئة السمعة وإما مخبولة. وكانت إليزابث مشغولة جدًّا بحيث لم تجد مُتسعًا لإلقاء بالها إلى محاولاتهم نبذها وتجنُّبها، بيدَ أنها وجدت في موقفهم منها إرهاصًا بالتحامل الذي تُزمِع أن تُواجِهه مستقبلًا. وفي يناير سنة ١٨٤٩م كان عليها أن تؤديَ امتحانها النهائي؛ فإذا نجحت في اجتيازه يكون من حقها حمل لقب دكتور في الطب. واستولى الذُّعر على إدارة الجامعة؛ فإن هي منحت الدكتوراه في الطب لامرأةٍ لصارت المدرسة أضحوكة، كما قالوا. وهدَّد الدكتور ويبستر دفاعًا عن إليزابث؛ فهي قد أدَّت رسوم الدراسة وأتمَّت جميع الدراسات الضرورية في كل المواد، فماذا يُراد منها أكثر من هذا؟ وتزعزع موقف الإدارة. وأخيرًا عندما أُعلنت نتائج الامتحانات، وتبيَّن أنها حصلت على أعلى مستوًى في فرقتها، استسلمت الإدارة. وفي ٢٣ يناير سنة ١٨٤٩م سلَّمها الدكتور هيل درجة الدكتوراه.
لقد عُدَّ حضور إليزابث وتَخرُّجها من جنيفا بمثابة ضربة حظ، ولم تصبح سابقة يُقاس إليها، ولم تتخرج من مدرسة الطب بها سوى امرأة أخرى هي ماري روجرز في سنة ١٨٥٦م. وحتى إميلي بلاكويل (١٨٢٦–١٩١٠م) — وهي شقيقة إليزابث — فقد رفضوا طلب قبولها هناك.
ولئن كانت درجة الدكتوراه في الطب من جنيفا هي كل ما يحتاج إليه رجلٌ كي يبدأ ممارسة مهنة الطب بنجاح، فإن الوقت لم يَطل بالدكتورة إليزابث بلاكويل لتُدرك أن ذلك ليس كافيًا لامرأة، فقرَّرت أن تزور إنجلترا، وبعدها تُحاول مزيدًا من الدراسات الطبية الإضافية في فرنسا.
وكانت مدة إقامتها في إنجلترا أشبه بأعياد نصر؛ لأن مؤهلاتها وكفاحها نُشِر عنهما الكثير داخل وخارج نطاق المهنة، فأُقيمت لها حفلاتٌ كثيرة، وكان عليها أن تحضر محاضرات وتزور مستشفيات.
وأما وصولها إلى باريس فكان نوعًا من خيبة الأمل، فما من أحدٍ كان قد سمِع بها. ولما علِم الأطباء الفرنسيون أن الدكتورة بلاكويل تنوي الدراسة في مستشفيات باريس العامة، عارَضوا الفكرة مُعارضةً حاسمة، فكانت المُؤسَّسة الوحيدة المفتوحة أمامها هي مستشفى الولادة، وهي مَركز للقبالة تدرس فيه فتَياتٌ قادمات من كل أنحاء فرنسا ويتدرَّبن ليُصبحن مُولِّدات. ولما كانت درجة إليزابث العلمية غير مُعترَف بها في نظر السلطة، فسبيلها الوحيد للدخول في المنظمة هو سبيل أي فتاة في الثامنة عشرة تريد أن تكون تلميذة قبالة. ومعنى هذا أن تكون تحت إشراف صارم، وسجينة عمليًّا، فضلًا عما يُطلَب منها القيام به من أعمالٍ حقيرة. ولم تتردد إليزابث، فما هو وزن الوضع العلمي إذا كان يحول دون فرصتها في دراسة فن التوليد في مستشفًى يولد بها ٣٠٠٠ طفل كلَّ سنة؟ وصادَقها كبير الأطباء المُقيمين إيبوليت بلوت الذي أراها حالاته غير العادية، وأعطاها دروسًا خاصة، وعرفها بالمكتشفات المُثيرة التي توصَّل إليها علماء فرنسيون.
وفي ٤ من نوفمبر سنة ١٨٤٩م وقع حادثٌ كاد يقضي على عملها وهو في مستهله؛ فبينما هي تُعالج طفلًا مُصابًا بالتهابٍ حادٍّ في عينَيه، «طرطشت» نقطة من السائل المُلوَّث بالميكروب واقتحمت عينها اليسرى. وعند المساء كانت عينها قد ورِمت وأقفلت. ولما كان لا يوجد في ذلك الزمن علاجٌ أكيد ضد الالتهاب الحاد في العين، فقد صار موضع التساؤل إمكان إنقاذ إحدى العينَين، ورقدت إليزابث في الظلام ثلاثة أسابيع تحت عناية الدكتور بلوت، وبعد مدة شُفيَت عينها اليمنى، ولكن لم توجد وسيلة لإنقاذ عينها الأخرى التي تحتَّمت إزالتها بعد ذلك ببضع سنين لتجنُّب التهاب العين اليمنى السليمة.
ها هي الآن الدكتورة بلاكويل صاحبة عيادة، ولكن لا مرضى لديها. وكانت لافتتها الصغيرة لا تجلب لها إلا خطابات مُهينة تُصارحها بأنها غير مرغوب فيها في هذا الجوار. وظلَّت كل جهودها عقيمة للعثور على وظيفة بين أطباء المستشفى، فلا قيمة للمؤهلات لأنها امرأة.
ووجدت إليزابث أمامها ساعات طويلة بلا عمل، فشرعت تكتب سلسلة محاضرات عن التربية البدنية للفتَيات، وكان الموضوع قد أثار اهتمام الشقيقات من آل بلاكويل منذ أيام وجودهن في بريستول. ولما تمَّت السلسلة استأجرت إليزابث بدروم كنيسة، ونشرت إعلانًا مُتواضعًا في النيويورك تايمز، فكانت هذه الخطوة نقطة تَحوُّل في حياتها المهنية.
كان عدد الحاضرين قليلًا، ولكنه جمهورٌ ذكي من بيئة مجموعة ذات نفوذ من نساء طائفة الكويكر. ولم تُدهشهن الأفكار المُستنيرة التي أدلت بها هذه الطبيبة فحسب، بل ووافَقنَها على آرائها السديدة في اللبس والتغذية والتدريب البدني والتربية، وكانت النتيجة أنه صارت لديها مجموعةٌ صغيرة خاصة من المريضات الثريات، بيدَ أنها نظرت إلى هذا النجاح على أنه مجرد خطوة نحو الأهداف التي عملت لها بجدٍّ عظيم؛ فقد كانت لها رسالة غلابة؛ أن تُعالِج المحرومين من نساء وأطفال الأكواخ الحقيرة. أجل إن المستشفيات والمستوصفات حاولت أن تُعنى بهم، ولكنها تعتقد أن هذه المؤسَّسات لا تقوم بما فيه الكفاية في هذا السبيل، ثم إنها ممنوعة من العمل عن طريقها. وبمساعدةٍ مادية من بعض الصديقات، فتحت عيادةً صغيرة قُرْب ميدان تومكين على الجانب الشرقي المُنخفض، وهو من أسوأ الأحياء، حيث كانت تقضي هناك ثلاثة أيام كلَّ أسبوع (وفي الليل أيضًا عند الحاجة) لخدمة من لا تَصِلهم مساعدات المدنية. ومن هذه البداية الصغيرة نما «مستوصف نيويورك لفقراء النساء والأطفال» الذي تأسَّس عام ١٨٥٤م.
زملاء ومشروعات
وأثناء غياب إميلي في الخارج وصلت المرأة التي كُتِب لها أن تكون ثالثة المجموعة، وبدون مقدمات طرَقنَ باب إليزابث، إنها ماري زاكر سيفسكا (١٨٢٩–١٩٠٢م)، وهي بولندية في السادسة والعشرين من عمرها، كانت رئيسة المُولِّدات في مستشفى الرحمة ببرلين، وكان في أسرتها ثلاثة أجيال من النساء بين شهيرات القابلات. ولما جاءت ماري إلى أمريكا لدراسة الطب واجَهَتها المُثبِّطات المعتادة، فنصحها الأطباء الألمان أن تتَّجه إلى التمريض، فزادها ذلك تمسكًا بخطتها، ولكن سرعان ما نفدت نقودها، وعندئذٍ أشار عليها شخص في بيت «من لا أصدقاء لهم» بأن تُقابل الدكتورة بلاكويل.
وحقَّقَت المستشفى هدفًا آخر من أهداف الدكتورة إليزابث؛ فمع أنه في سنة ١٨٥٧م صارت الصعوبات أقل مما كانت أمام المرأة للحصول على دكتوراه الطب، إلا أن مستقبل الكثيرات كان ينتهي بالتخرج؛ لأنه ما من مستشفًى في البلاد يرضى بقبول امرأة طبيبة امتياز أو نائبة، ولكن مستشفى نيويورك أتاح للدكتورات فرصة اكتساب الخبرة فيه. ومنذ سنة ١٨٦٨م حتى سنة ١٨٩٩م كان المستشفى النسائي يُدير مدرستَه الطبيةُ النسائية أيضًا.
العودة إلى إنجلترا
وكان مما يُسعِد الدكتورة بلاكويل أن تبقى في إنجلترا، ولكن المستشفى استدعاها للعودة، وظلَّت بنيويورك حتى افتتاح مدرسة الطب النسوية، وصار في مقدورها أن تنسحب من المشروعات المُزدهرة التي رعتها.