١١ أكتوبر سنة …
أويت إلى فراشي البارحة مبكرًا؛ فلقد شعرت بالتهاب الحلق، وهو مرض يزورني الآن من حين إلى حين، فعصبت على رقبتي خرقة من الصوف، وعمرت بقطع من الجبن العتيق مصايد الفيران الثلاث، ونصبتها حول سريري كما تُنصب الألغام الواقية حول سفينة من سفن الصليب الأحمر، وأطفأت مصباح النفط، وأغمضت عيني وأنا أسأل الله أن يُنيم الغرائز البشرية في هذا «المركز» بضع ساعات؛ فلا تحدث جناية تستوجب قيامي ليلًا وأنا على هذه الحال. فلم أكد أضع رأسي على المخدة حتى كنت حجرًا مُلقًى، إلى أن حركني صوت الخفير يضرب الباب ضربًا شديدًا، وينادي خادمي صائحًا: «اصح يا دسوقي!» فعلمت أن جناية وقعت، وأن الغرائز لم تنم لأني أردت أنا أن أنام. فنهضت لوقتي وأشعلت المصباح، ودخل عليَّ خادمي يفرك عينيه بيد، ويقدم إليَّ بالأخرى «إشارة تليفونية»، فأدنيت الورقة من الضوء وقرأت: «الليلة؛ الساعة ٨ مساءً، بينما كان المدعو قمر الدولة علوان ماشيًا على الجسر بالقرب من «داير» الناحية، أُطلق عليه عيار ناري من زراعة قصب، والفاعل مجهول، وبسؤال المُصاب لم يعطِ منطقًا، وحالته سيئة، لزم الإخطار. العمدة».
فقلت في نفسي: لا بأس، تلك حادثة بسيطة تستغرق مني على الأكثر ساعتين؛ فالضارب مجهول، والمضروب لا يتكلم ولا يثرثر، والشهود ولا ريب: الخفير النظامي الذي سمع صوت العيار، فذهب إليه خائفًا متباطئًا، فلم يجد بالطبع أحدًا بانتظاره غير الجثة الطريحة، والعمدة الذي سيزعم لي حالفًا بالطلاق أن الجاني ليس من أهل الناحية، ثم أهل المجني عليه الذين سيكتمون عني كل شيء ليثأروا لأنفسهم بأيديهم، فسألت خادمي عن الساعة وكتبت في ذيل الورقة: «وردت الساعة العاشرة، وقائمون لضبط الواقعة.» وقمت من فوري إلى ثيابي فارتديتها على عجل، كما يصنع رجال المطافئ، وأرسلت في طلب كاتب التحقيق وسيارة النيابة، وأوفدت مَن يوقظ مساعدي الجديد، وهو شاب رقيق الحاشية، حديث عهد بالعمل، كان قد أوصاني أن أستصحبه في الوقائع ليكتسب الخبرة والمران. ولم ألبث أن سمعت ببابي بوق سيارة المركز «البوكس فورد» بها المأمور، ومعاون الإدارة، وبعض الجنود. فنزلت إليهم، فوجدت كل شيء قد أُعد، ولا ينقصنا إلا كاتب التحقيق، فلم أعجب؛ لأني ما أبطأت يومًا في القيام إلى واقعة إلا كان السبب كاتب التحقيق، في أي بلد كان وفي أي مركز. والتفت إلى الخفير وقلت: أنت متأكد أنك ناديت سعيد أفندي؟ فسمعت في الظلام صوت الحذاء الضخم يضرب الأرض، ولمحت يدًا ترتفع بالتحية فوق «اللبدة» الطويلة ذات الرقعة النحاسية، وفمًا يتحرك تحت شارب أسود كبير كأنه ذنَب القط: «لبس القميص قدامي يا سعادة البك!» ورأينا أن ننطلق بسيارتنا لنمر بمنزل الكاتب فنستصحبه، فركبت أنا ومساعدي والمأمور سيارة النيابة حتى بلغنا منزلًا قديمًا على طرف البلدة، فصاح الخفير وكان قد تعلَّق بسلم السيارة ليدلنا على الطريق: «انزل يا سعيد أفندي.» فأطل الكاتب من نافذة قصية وهو في جلباب النوم: «حادثة؟» فصاح الخفير: «حادثة ضرب نار!» وما أشعر عندئذٍ إلا بيد المأمور قد خرجت من نافذة السيارة ونزلت على قفا الخفير: «يا خفير يا ابن … لبس القميص قدامك يا ابن اﻟ…»
– «وحياة رأس سعادة البك كان لابسه.»
ولم أرَ ضرورة للتحقيق في هذه المسألة، فالأمر لا يخرج عن اثنتين؛ إما أن الخفير لا يعرف القميص من اللباس، وهو شيء غير مُستغرب، وإما أن سعيد أفندي قد عاد فخلع قميصه ونام من جديد، وهو شيء أيضًا غير مُستغرب. وما دمت أنا وحدي المسئول رسميًّا عن التأخير، فلا نفع إذَن من صياحي مع سعيد أفندي غير تصديع رأسي، وأنا أحوج الناس إلى الراحة الليلة، وإلى توفير الجهد والكلام للقضية الحقيقية التي من أجلها نتجشم. ولم يلبث الفتور أن دب في أعضائي؛ فأسندت رأسي إلى ركن السيارة وقلت لمَن معي: «محل الحادث على بعد ثلاثين كيلومترًا، فلا بأس من أن أنعس مسافة الطريق.» وأغمضت عيني، وتحركت سيارتنا وخلفها «البوكس فورد» وبه الكاتب والمعاون والباشجاويش والعساكر، وما كدنا نخرج إلى الطريق الزراعية حتى سمعنا صوت غناء في جوف الليل، فأخرج المأمور رأسه من النافذة في الحال وصاح: يا حضرة المعاون! نسينا الشيخ عصفور.
ووقفت القافلة؛ وإذا الصوت يخرج واضحًا من دغل «بوص» على حافة غيط: ورمش عين الحبيبة يفرش على فدان …
فأسرع المعاون مناديًا: «اطلع يا شيخ عصفور. حادثة!» فظهر ذلك الرجل العجيب الذي يهيم على وجهه بالليل والنهار، لا يعرف النوم، يغني عين الأغنية، ويلفظ كلمات، ويلقي بتنبؤات يصغي إليها الناس؛ ذلك الرجل الذي لا يفرحه شيء مثل خروجه إلى الحوادث مع النيابة والبوليس؛ فهو يسمع عن بعد بوق «البوكس فورد»، ويتبعه أينما ذهب كالكلب الذي يتبع سيده إلى الصيد. لماذا كل هذا؟ طالما سألت نفسي: ألا يكون لهذا الرجل سر؟ ودنا الرجل من «البوكس» قائلًا في شبه احتجاج: «كنتم طالعين من غيري؟»
فأجابه الباشجاويش باسمًا: «أبدًا! لو كنا نعرف عنوان لبلغناك الإشارة!»
فقال الرجل: طيب. هات سيجارة!
فغمزه الباشجاويش سريعًا وقال له في صوت خافض: اسكت، يسمعك البك المأمور.
فقال الشيخ عصفور: هات سيجارة يا حضرة الباشجاويش؛ لأني أنا الليلة «باشخرمان».
وصعد الرجل إلى «البوكس فورد» كأنه يصعد إلى «رولز رويس» بعد أن انتزع من الدغل عودًا أخضر حمله في يده كالصولجان، وانطلقت السيارتان بين المزارع وقد نامت الطبيعة وسكنت الأصوات إلا من نقيق الضفادع، وهفيف الحشرات، وتغريد الشيخ عصفور المتصاعد من جوف «البوكس». وقد أغفيت أنا إغفاءتي التي اعتدتها كلما ركبت إلى واقعة؛ إغفاءة متقطعة لا تمنعني أحيانًا من سماع ما يدور حولي من الكلام، وكان مساعدي إلى يساري متيقظًا يبدو عليه العجب، ويريد أن يسأل عن كل شيء، فيمنعه الخوف من إزعاجي. فالتفت إلى المأمور بجواره، وسرعان ما اشتبكا في حديث طويل لم أعِ منه شيئًا؛ فهو وحده الذي أنامني النوم العميق طول الطريق، وانتبهت على وقوف السيارة بعد زمن ليس بالقصير، ففتحت عيني فإذا نحن أمام ترعة، وإذا «المعدية» في انتظارنا لتنقلنا إلى الضفة الأخرى.
فنزلنا جميعًا، وامتلأ بنا القارب كأننا غرقى في زورق النجاة، أو «أزيار» من الفخار في مركب بالصعيد. وسارت بنا «المعدية» حتى بلغت الشاطئ الآخر، ونحن لا نسمع في سكوت الليل العميق غير سلاسلها تضرب الماء، ولا نرى من حلك الظلام شيئًا. ولم تكد تطأ أقدامنا البر حتى سمعنا صهيل خيل؛ وإذا أمامنا «الركايب من خيول»، «نقطة البوليس»، وحمير العمدة، مهيأة لحملنا إلى مكان الحادث. وآه من الخيول! لقد تقدم إليَّ أحد الجنود بجواد مطهَّم إجلالًا لقدري. ورأيت هذا الحصان يتبختر ويفحص الأرض بحوافره، ولا يصبر على الهدوء حتى أعتلي ظهره؛ فعلمت أني لا محالة واقع على الأرض. ولطالما كدت أقع من فوق تلك الظهور اللاعبة التي لا يحكمها غير فارس بارع، لا راكب نائم. ولطالما فضلت عليها الحمير الهادئة، غير أني نظرت خلفي؛ فإذا أكابر القافلة قد امتطوا الخيول، ولم تبقَ الحمير إلا للأوباش؛ فخجلت أن أنزل عن جوادي وأن أحاذي في المرتبة الشيخ عصفور، وقد اعتلى حمارًا أشهب وخزه بصولجانه الأخضر، فانطلق به في ذيل الجياد. أسلمت أمري لله، وسرت في المقدمة قائدًا مترنحًا من الخوف والتعب إلى أن ظفر النوم بجفوني؛ فلم أشعر بشيء. وفجأةً وجدت جسمي قد طار من فوق الجواد ووقع على عنقه! فقد قفز الحصان في قناة ماء قفزةً شديدة، خلعني من فوق ظهره خلعًا. فقلت: «ما حسبناه لقيناه!» وصِحت بالخفير المُلحق بركابي: «الحصان يا خفير! الحصان!» فوقف الركب واختل النظام، وأوسع المأمور رجاله شتمًا وصفعًا، وأمرًا ونهيًا، وأعادوني إلى ظهر جوادي وأنا أقول لأداري خجلي: «يظهر الحصان نام وهو ماشٍ، أو خاف من ثعلب فارٍّ؛ فجمح. على كل حال، أمسك اللجام يا خفير.» فأمسك خفيران اللجام ومشيا بي رويدًا رويدًا مشية هادئة متزنة أعادت إلى نفسي هجوعها، فلم أصحُ إلا في مكان الواقعة. وأبصرت ضوء المصابيح والمشاعل في أيدي الأهالي المجتمعين حول المصاب؛ فطار التعب من رأسي كما تطير البوم من وكرها على الضوء المقترب. وأسرعت في النزول من فوق صهوة الجواد، وشققت طريقًا بين الناس الذين هتفوا في صوت خافت: «النيابة حضرت.» ودنوت من ذلك الجسم الممدد على الأرض، حدَّقت في ذلك الوجه المعفَّر بالتراب والدم؛ فعلمت أنه حقيقة لن يتكلم، وقد وجدت ملاحظ «النقطة» غارقًا لأذنيه في تحرير «محضره» الذي سأضرب به عرض الحائط؛ فالنيابة متى حضرت بحثت كل شيء من جديد، وباشرنا التحقيق مفتتحين بمحضر المعاينة، فأمسك الكاتب ورقة وقلمًا ودنا مني، فأمليت عليه الديباجة المعروفة: «نحن فلان وكيل النيابة، ومعنا فلان كاتب التحقيق. الليلة، الساعة كذا، وردت إلينا الإشارة التليفونية رقم كذا ونصها كذا. وعليه قمنا بسيارة إلى ناحية كذا، فبلغناها افتتاح هذا المحضر … إلخ إلخ»؛ ذلك أني أحب دائمًا أن أُعنى بتحرير «محضري»، أن أجعله مرتبًا ترتيبًا منطقيًّا. والمحضر هو كل شيء في نظر أولي الأمر، وهو وحده الشهادة الناطقة للنائب بالدقة والبراعة. أما ضبط الجاني فأمر لا يسأل عنه أحد. ويلي «الديباجةَ» وصفُ الإصابة والملابس والموضع الذي وُجد فيه المجني عليه. فما قصرنا. وأمليت على الكاتب أوصاف ذلك الجرح الناري الذي رأينا ثقبه المتسع في كتف المصاب، وقد حدث فيما أرى من «حشار» بندقية أطلقت على بُعد غير كبير؛ فهتكت اللحم وأنزفت الدم. وقد وصفنا الوجه خير وصف، وهو لرجلٍ قارَب الأربعين، وسيم قسيم، تلك الوسامة الريفية بما فيها من رجولة وصحة وقوة. ولم يفُتنا ذكر وشم العصفور المرسوم في أعلى صُدغه، ولا لون شاربه الضارب إلى الصُّفرة، والثياب أحصيناها من «الدفية»، والجلباب الغزلي، وكيس النقود الذي لم يُمس، إلى السروال «البفتة» الأبيض ذي التكة الحمراء. نعم لم ننسَ تكة اللباس ونوع نسيجها؛ فإن ذكر التفاصيل دليل على الدقة والعناية، هكذا تعلمنا التحقيق كابرًا عن كابر! وأذكر أني تركت ذات مرة جريحًا يعالج سكرات الموت، وجعلت أصف سرواله وتكته و«بلغته» و«لبدته»، فلما فرغت انحنيت على المصاب أسأله عن المعتدي عليه؛ فإذا بالمصاب قد تُوفِّي. ولم ننس وصف المكان، وهو طريق ضيق بين مزارع قصب على الجانبين. ولا عجب، فإن لكل نوع من الزرع محصوله من الجرائم؛ فمع ارتفاع الذرة والقصب يبدأ موسم «القتل بالعيار»، ومع اصفرار القمح والشعير يظهر الحريق ﺑ «الجاز والقوالح»، ومع اخضرار القطن يكثر «التقليع والإتلاف». وانتهينا من الجريح المحتضر، ولم يعد يهمنا أمره بعد أن ملأنا «محضرنا» بأوصافه، فتركناه في دمه تحت رعاية ضابط «النقطة»؛ حتى يأتي لحمله إلى المستشفى رجال الإسعاف، وذهبنا إلى «دوار» العمدة حيث كانت في انتظارنا القهوة، وآه من قهوة «العمدة»! إني أسميها دائمًا «الكلوروفورم»؛ فما من مرة إلا أحدثت عندي عكس المقصود من شربها! ولست أدري العلة؛ غير أني سمعت ذات ليلة عمدةً من هؤلاء العمد يصيح في تابعه أمامنا: «هات يا ولد قهوة بن»، ولم أفهم وقتذاك معنًى لإضافة لفظ «البن» إلى «القهوة»! أتُرى النص على البن «صراحة» جاء من قبيل التأكيد، أم على سبيل التشريف والتكريم؟ لست أعلم، إنما الذي علمته يومئذٍ واستوثقت منه أن هذا «اللفظ» الأخير، وإن دخل في تركيب الجملة، لم يدخل في تركيب القهوة. وجلسنا في «المنظرة» على فرش من قطيفة ذهب وبرها ولونها، ووضع الكاتب أوراقه على خوان أعرج، تعلوه رخامة مكسورة، ونشر المحضر «تحت» مصباح كبير له دوي وطنين قد جمع حوله هوام الليل، وصِحت أطلب الشهود، فصاح المأمور لصياحي: «اجمع الشهود يا حضرة المعاون.» وارتمى على مقعد رحب في ركن الحجرة ارتماءةً أدركت معها أنه ليس بعدها غير نعاس وغطيط، وجلس مساعدي على مقربة مني يرمق ما يجري بعيون فاترة، تنُم عن كسل بدأ يداعبها مداعبة النسيم للأوراق. وجاءوني بالخفير النظامي الذي سمع صوت العيار وهُرع إلى مكان الجريمة أول مَن هُرع؛ فلم يخيِّب ظني في شيء إلا في قوله إنه سمع عيارين، مع أن الوارد في «الإشارة» عيار واحد، والإصابة من عيار واحد، وأقوال الحاضرين متفقة على أنه لم يدوِّ في القرية سوى عيار واحد. ما حظ هذا الرجل من الكذب؟ لست أدري، وتركنا جوهر القضية وانصرفنا إلى مسألة العيار والعيارين، فسألنا الجميع من جديد فأجابوا مجمعين: عيار واحد يا سعادة البك.
– سمعت يا خفير؟
– عيارين يا سعادة البك.
– متأكد؟
– عيارين يا سعادة البك.
هنا ثقل التحقيق وسماجة المهنة. أفهم أن يكذب المتهم، فهو حقه الطبيعي، وما أطمع قط أن يصدُقني متهم. ولكن الشاهد، ماذا يحمله على أن يلقي على وجه الحقيقة كلفًا من التشكيك والتناقض، لوجه الله تعالى؟
ومضى التحقيق في شعاب مظلمة لا أمل معها في الوصول إلى شيء، فما من أحد يعرف الجاني، وما من أحد يتهم أحدًا، وما من أهل للمضروب في هذا البلد غير أم عجوز مريضة كسيحة ضعيفة البصر لا تستطيع الكلام، وغير زوجة ماتت منذ عامين وتركت طفلًا صغيرًا لا يصلح للوقوف أمامنا في موقف السؤال، وما من أحد يعرف أن بين المصاب وبين إنسان على وجه البسيطة عداوة أدت إلى ارتكاب الجريمة. أهَبَط إذَن شيطان من الجحيم فأطلق على الرجل العيار؟ لا أحد يدري. لقد وجدت ما حسبت. إني منذ قرأت «الإشارة» أدركت أن القضية ميتة. وهل أستطيع أنا ﺑ «تحقيقي» أن أبعث الحياة فيما لا حياة فيه؟ إن لم يُقبل عليَّ الشهود بالصدق، وتعاونِّي الأهالي بالرغبة والإخلاص، فأيُّ محضر في الوجود يوصلني إلى التشرف مرة بمعرفة جانٍ من الجناة؟ وجاءت نوبة العمدة في الشهادة، وحلف اليمين وبدأنا نلقي تلك الأسئلة التي لا تقدم ولا تؤخر، وإذا بغطيط يعلو من ركن الحجرة ويغطي على التحقيق. فالتفت فإذا بالمأمور قد «كوَّع» على «الكنبة»، ورأى العمدة هذه الالتفاتة مني، فاستأذنني واتجه إلى المأمور وأيقظه في لطف: تفضل يا بك على السرير في القاعة.
وقاده في أدب ولطف إلى حجرة أخرى داخلية، ثم عاد أمامي يدلي بما عنده من أقوال رسمية «تجارية» قد دُمغت بطابع الوظيفة، ألفاظها وعبارتها تكاد لا تتغير بين عمدة وآخر، وهي على كل حال لا تنفع ولا تضر، وتلقي على نار الحادث بردًا وسلامًا، ولم يكد حضرة العمدة يوقِّع بإمضائه الذي يضاهي نبش الدجاج تحت أقواله، ويتنحى عن موقف الشهادة، حتى فتح باب الحجرة الداخلية، وظهر المأمور وهو يحك جسمه بأظافره ويلتقط بأصبعه أشياء على ملابسه ينفضها عنه وهو يُرغي ويُزبد: سرير! أعوذ بالله! أنت عمدة أنت؟
فعلمت ما حدث بالتمام، وضحكت في نفسي، وتظاهرت بالانهماك في عملي؛ فلم أرفع وجهي عن الأوراق. وجلس المأمور في مقعده جلسةَ مَن قد ذهب النوم من عينيه ذهابًا لا رجعة له تلك الليلة. ولم يلبث أن صاح في العمدة: هات قهوة والسلام. اعملها موزونة وحياة عينيك.
ثم وجَّه إليَّ الكلام كأنه يريد أن يسلي سهره: القضية على الحبل؟
وهو يرمي بهذا الاصطلاح إلى استطلاع حال القضية ومدى نجاحها النجاح الذي يؤهلها للذهاب برأس المتهم إلى المشنقة. فأجبته في صوت غير مرتفع دون أن أنظر إليه، وكأني أخاطب نفسي: القضية على السرير!
وفجأةً نهض المأمور عن مكانه كأنما قد تذكر مفتاح السر، وصاح: يا شيخ عصفور!
فبرز رأس الرجل العجيب من خلف كرسي من القش بركن مظلم من أركان القاعة، ونهض بصولجانه الأخضر كأنه يقول: «لبيك.»
– رأيك يا شيخ عصفور؟
فلم أطق صبرًا. ما كان ينقصنا حقًّا إلا أن نستشير المعتوهين في قضايا الجنايات! فنظرت إلى المأمور نظرةً ذات معنًى، فاقترب مني وقال: الشيخ عصفور كله بركة. مرةً دلنا على بندقية متهم مدفونة في قاع الترعة!
– يا حضرة المأمور، بدلًا من سؤال الشيخ عصفور والشيخ طرطور، كلف خاطرك وانتقل مع المعاون والعساكر، وفتشوا دور المشتبه فيهم من الأهالي.
فصاح المأمور: يا حضرة المعاون.
فأقبل المعاون من خارج الحجرة وقد سمع قولي، وقدم إلى رئيسه «محضر تفتيش من قسيمة واحدة».
– أجرينا التفتيش يا فندم!
فلم ينظر فيه المأمور وناولني إياه، فجريت ببصري على الكلام الطويل العريض، وانتهيت إلى العبارة المألوفة: «… ولم نعثر على شيء من الأسلحة أو الممنوعات.»
فأشرت في ذيل الورقة: «يُرْفق بالمحضر.» ووضعت رأسي في كفي أفكر فيما ينبغي عمله في هذه القضية، وفيمن ينبغي سؤالهم حتى نكمل محضرنا عشرين صفحة على الأقل؛ ذلك أني ما زلت أذكر كلمة رئيس النيابة يومًا لي وقد تناول محضرًا من عشر صفحات: «مخالفة؟ جنحة؟» فلما أخبرته أنها قضية قتل، صاح دهشًا: «قضية قتل تحقيق في عشر صفحات فقط! قتل رجل! قتل نفس آدمية في عشر صفحات؟» فلما قلت له: «وإذا ضبطنا الجاني بهذه الصفحات القليلة؟» لم يعبأ بقولي، ومضى يزن المحضر في ميزان كفه الدقيق: «من يصدِّق أن هذا محضر قتل رجل؟» فقلت على الفور: «إن شاء الله نراعي الوزن!»
مر بخاطري كل هذا وأنا مُطرق صامت، وإذا صوت الشيخ المعتوه يرتفع في القاعة منشدًا:
لم أغضب على الشيخ الذي امتهن حرمة التحقيق بهذا الغناء، ولم أطرده خارج القاعة، ولكني تفكرت قليلًا في مغزى كلامه، لو أن له مغزى ينفعني، كل ما يجوز الالتفات إليه كلمة «النسوان»، والتفتيش لا عن المشبوهين بل عن النسوان. أي نسوان؟ إني لم أرَ قضية خلت من النسوان مثل قضيتنا هذه؛ فالمضروب يعيش وحيدًا بعد أن ماتت زوجته، ولا أحد معه غير أم عجوز كسحاء لا ينبغي أن تُحسب في النساء. لا ريب أن هذا العصفور لا يعي ما يقول. هذا الشيخ الأخضر من فصيلة الببغاء لا شك، يردد الألفاظ والأغاني دون أن يعني بها شيئًا من الأشياء. لكن مهلًا! إن للمجني عليه طفلًا، فهل تلك الأم المُقعَدة المريضة هي التي تُعنى بشأنه؟ «تعالَ يا عمدة.» وألقيت على العمدة هذا السؤال، فأجاب في براءة الطفل وسذاجة الأبله: الولد في حضن البنت!
– أي بنت؟
– البنت، أخت المرحومة امرأته.
– بنت كبيرة؟
– «عيِّلة.»
فنظرتُ إلى المعاون وأمرتُه أن يُحضِر هذه البنت في الحال. ولم يمضِ قليل حتى بدت غادة في السادسة عشرة من عمرها، لم ترَ عيني منذ وجودي في الريف أجمل منها وجهًا ولا أرشق قدًّا. وقفت بعتبة الباب في لباسها الأسود الطويل كأنها دمية من الأبنوس طُعِّمت في موضع الوجه بالعاج. وقال لها العمدة مشجعًا: ادخلي يا «عروسة».
فتقدمت في حياء، واضطربت خطواتها؛ إذ لم تعرف بين يدَي مَن من الجالسين يجب عليها الوقوف، فوجَّهها العمدة إليَّ، فوقفت في وجهي ورفعت إليَّ رمشين. ولأول مرة يرتج عليَّ في «التحقيق»، فلم أدرِ كيف أسألها. ولم يرها الكاتب؛ فقد كان موقفها خلف ظهره. فلما لحظ صمتي ظن بي تعبًا؛ فغمس القلم في الدواة ورفع رأسه إليها وهو يسألها: اسمك يا بنت؟
فما إن وقع بصره عليها حتى حملق فيها ولم يعد إلى الورق. ونظرتُ حولي فوجدتُ مساعدي الناعس قد أفاق ونشط، وأخذ يرمق الصبية بعينيه الواسعتين، ونقلت بصري إلى المأمور؛ فإذا به الساعة في غير حاجة إلى قهوة ولا إلى بن، وزحف الشيخ عصفور حتى بلغ موطئ قدمي، فأقعى كالكلب ينظر إلى الفلاحة الحسناء فاغرًا فاه. حقًّا إن للجمال لَهَيبة! ورأيت أن أملك سريعًا ناصية نفسي قبل أن ينكشف الأمر، فقلت لصاحبة الجمال وأنا أكبح عيني حتى لا أنظر إليها: اسمك؟
– ريم.
لفظته في صوت هزَّ نفسي كما تهز الوترَ أناملُ رقيقة، فما شككتُ في أن صوتي سيتهدج إن ألقيت عليها سؤالًا آخر؛ فتريثت، وبدت لي دقة الموقف، وأيقنت ببطء التحقيق إذا قُدر لي أن أقف كالدائخ بين السؤال والسؤال، فاستجمعت ما بقي عندي من شتات القوة والعزم، وهجمت بأسئلة لا أنتظر الجواب عنها إلا جملة، وقلت لها تكلمي في كل هذا. ولبثت أنظر، فعلمت منها العجب العجاب! إنها حتى الآن لا تعلم ما جرى للمجني عليه! فقد أيقظوها من النوم للساعة، وجاءوا بها أمامي دون أن يذكروا لها شيئًا، ولم أشأ أن أخبرها الآن بما وقع، وقد آنست منها أشياء لا يدركها إلا مجرد الإحساس.
سألتها ألم يخطبها خاطب؛ فكان الجواب: «بلى.» آخر من تقدم إليها فتًى جميل لم ترفضه، ولكنَّ زوج أختها، وهو مقام وليِّها، تردد في القبول كما تردد دائمًا في قبول الأيدي الكثيرة التي ارتفعت تدعوها كما ترتفع أيدي المؤمنين بالدعاء! «أوَتحقدين عليه من أجل هذا؟» فكان الجواب كذلك: لا، قالتها في نبرة حارة؛ حرارة خاصة أدركتُها كذلك بإحساسي. «وهل كان بينكِ وبين الفتى الخاطب اتصال؟»
– نعم، لقد اجتمعنا أمام الدار مرتين في لقاء بريء.
وقد علم أنها لا تكرهه زوجًا، ولكنها تكره مخالفة وليِّها، وذلك الولي ما غايته من رد الخاطبين والطلاب؟ أهو غلو منه في الحرص على هنائها؟ أهو لا يجد الزوج الكفء؟ إنها لا تعلم حقيقة سره، وإنها لتريد أن تعلم، وإن هذا ما يحيِّرها أحيانًا، وما يبكيها. إنها تريد أن تعلم. تعلم ماذا؟ لا شيء. لا تستطيع التعبير. إن التعبير هبة لا يملكها كل الناس.
وبعد، فالتعبير يستوجب العلم بحقيقة الشعور الرابض في أعماق النفس. وهذه الفتاة، فيما يُخيل إليَّ، ذات نفس كدغل «البوص والقصب»، لا يصل إلى قاعها من الضوء غير قِطَع كالدنانير تتراقص في ظلام القاع كلما تمايل القصب.
على أي حال، قد بدأت قطع من الضوء تتساقط أيضًا بين سطور «المحضر»، وبدأنا نضع أيدينا على عصب نابض من أعصاب القضية، وهممت أن أطلب فنجانًا آخر من القهوة وقد طاب المجلس وحلا التحقيق. وإذا المعاون يسأل ملاحظ النقطة وقد ظهر بالباب: أحَضر الإسعاف ونقل المضروب؟
– من زمان!
فأدركت الصبية كل شيء، فانطلقت من فمها صيحة كتمتها في الحال خجلًا منا، غير أني ما شككت في أن لها دويًّا وانفجارًا داخل نفسها. وأردت أن أمضي في عملي، فما وجدت أمامي غير فتاة تجيبني بكلام أبتر لا شبع فيه ولا غنى. ورأيت أن أرجئ التحقيق فقلت: استريحي يا ريم.
ونظرت إلى المأمور: الأحسن نكمل التحقيق الصبح.
فأشار إلى النافذة؛ فإذا النهار يدخل منها متلصصًا وقد خدعني عنه المصباح المضيء. فاستويت على قدميَّ؛ إذ ذكرت للفور أن جلسة الجنح اليوم، وقد فاتني أن أدبر الأمر من الليل حتى يخلفني فيها نائب من الزملاء؛ فلا مفر لي إذَن من العودة العاجلة حتى أحضر الجلسة في الميعاد.
– يا حضرة المعاون! هات البنت في «البوكس»!
وأقفلنا المحضر على أن نستأنف التحقيق بعد الجلسة في دار النيابة. وقمنا إلى «الركايب» فامتطيناها عائدين، والشيخ عصفور خلفنا يصيح ويلوح بعوده الأخضر في حركات الثائر المهتاج: هي بعينها!
والمأمور يجيبه: اعقل!
– هي بعينها، برمشها عرفتها … برمشها.
– اعقل يا شيخ عصفور، وافطن لنفسك، تقع من فوق الجحش!
ودبَّ التعب في أعضائي؛ فانحنيت على ظهر الحصان، ولكن نسيم الصباح الرطب كان يضرب وجهي ضربات خفيفة كأنها لطمات مروحة في يد ماجنة ظريفة، فلم أفقد نشاطي، وطفقت أفكر، وإذا غناء عصفور يرتفع بغتة شديدًا كأنه شيء قد انخلع مع قلبه: ورمش عينها يفرش …
وسمعت المأمور ومساعدي يضحكان ضحكًا صافيًا، ثم سمعت المأمور ينتهر المعتوه قائلًا له: «افطن لنفسك. صاحبتك غرقت في الريَّاح من سنتين.» ولم يكن في عقلي وقتئذٍ غير صورة الفتاة في أطمارها السوداء، وسرها الذي لم أنفذ إليه بعد. إن سرها هو سر القضية، وإني لتدفعني إلى استجلاء الأمر رغبة لا شأن لها بالعمل. إني أيضًا أريد أن أعلم. وسارت القافلة حتى بلغت مصرفًا متسعًا عميقًا زاخرًا بالماء، ركبت عليه خشبة من جذوع النخل في عرض الذراع. وأراد الخفير أن يدفع عجُز حصاني ليجتاز بي المصرف على هذه الخشبة التي في ضيق الصراط، فانتبهت وصِحت: أنت مجنون يا خفير! أمرُّ من هنا أنا والحصان؟
فبدت على وجه الرجل الدهشة: سبق لك يا سعادة البك المرور من هنا بالليل أنت والحصان ده.
فنظرت إلى الخشبة في شبه رعب: أنا عديت بالليل المصرف من هنا على الخشبة دي؟ وكنت وقتها فوق الحصان ده؟ مستحيل!
– الطريق واسع يا بك، والحصان عاقل!
ولم أرد أن أصغي إلى كلام الخفير أكثر من ذلك، فإذا كانت هذه الخشبة طريقًا متسعًا في نظر هذا الرجل، فهو، من غير شك، سيجتاز الصراط في الآخرة راكبًا جملًا. أما عقل الحصان فإن ضمنه هو، وهو ليس راكبه، فما يحملني أنا الراكب على هذه الضمانة الخطرة؟ وأسرعت، فنزلت إلى الأرض، واجتزت المصرف ماشيًا على قدميَّ فوق الخشبة؛ معتمدًا على عصاي.