١٣ أكتوبر
انتهت الجلسة عند العصر، وقد خرجت منها محطم الأعصاب. وما كدت أفترق عن القاضي حتى وجدتُ في وجهي أحد العساكر يحمل أكداسًا من «نماذج» تنفيذ الأحكام، يقدمها إليَّ للتوقيع، فوضعت إمضائي دون وعي على هذه الأوراق التي ليس لها آخر، وإمضائي الآن لا يمت بصلة الشبه إلى اسمي، فقد أصبح مع السرعة وكثرة التوقيع خطًّا أو خطين ألقيهما حيثما اتفق. وما إن فرغت من ذلك وقد تصبب مني العرق حتى سمعت من يضرب الأسفلت بحذائه ويرفع كفه بالسلام: التحقيق منتظر فوق في قضية ضرب النار!
ولكنَّ للقوة الآدمية حدودًا، ولم أتبلَّغ بلقمة، ولم أطرح جسمي على فراش منذ … منذ أمس الأول، فما تمالكت أن قلت: ضرب نار في عينك! لو كنا عسكرًا في الخنادق، أو في حرب الدردنيل؛ لرأفوا بحالنا وخافوا على صحتنا.
لكن ما ذنب الخفير أوجه إليه هذا الكلام؟ فتركته وسرت في طريقي، وصعدت إلى مكتبي في الطابق الثاني، فألفيت ببابه الفتاة «ريم» منتظرة مع الحراس، وعلى مقربة منها الشيخ عصفور بعوده الأخضر، ولست أدري ماذا ينتظر مع المنتظرين! وأنعشني قليلًا مرأى الفتاة كما ينتعش العشب الذابل بقطرات الندى. ودخلت حجرتي، فرأيت المأمور والمعاون وكاتب التحقيق جالسين في نشاط المستيقظ من نوم مريح، فعلمت أنهم آتون من منازلهم، وأنهم الآن على استعداد لقتل الوقت في هذه القضية، فذلك خير من لعب «الطاولة» في النادي أو مص القصب أمام الأجزاخانة. أما أنا فإنسان لا يصلح الآن لشيء إلا للرقاد سبع ساعات متواليات، فأعلنت الحاضرين برغبتي في تأجيل التحقيق إلى الغد، فأذعنوا. ولكن بدا مشكل لم يفطن إليه أحد؛ هذه الفتاة أين تبيت ليلتها؟ إنها الآن على مسافة بعيدة من قريتها. وليس من الرأي أن تعود لتأتي مع الصباح. فقد يتصل بها بعض مَن يعنيهم أمر القضية من الأهالي والشهود؛ فيلقنونها ما لا يستقيم مع الصدق والحق، وهي لا تعرف أحدًا في هذا المركز ولا أهل لها به. هنا صاح المأمور كمَن وجد الحل السريع الموفق: «المسألة بسيطة. البنت تنام في بيتي للصبح.» فالتفتنا إليه في شبه ذعر، ثم تمالكنا أنفسنا، ولست أدري كيف دب فينا نحن الحاضرين نفس الشعور في نفس الوقت. حتى الشيخ عصفور، وقد زحف خلفي ودلف إلى الحجرة، ظهر في عينيه القلق. وكان الموقف دقيقًا. إن أي اعتراض منا معناه الريبة في سلوك حضرة المأمور.
العجيب أن الحاضرين كلهم قد أطرقوا ووجموا، وأراد المأمور أن يُدخل علينا الاطمئنان فقال: أنا غرضي أنها تكون في محل أمين بين زوجتي وأولادي.
ولم أجد بدًّا من الإذعان، وتركت المكان وانصرفت إلى منزلي، وتناولت شيئًا من الطعام على عجل، ثم أويت إلى فراشي واستغرقت في نوم لم أصحُ منه إلا عند منتصف الليل. قمت عطشان فشربتُ جرعة من «القلة» الفخار بالنافذة، وتذكرت الفتاة وتخيلتها في بيت صاحبنا؛ فنفر من رأسي النوم. وتمنيت لو يقع الآن حادث أقوم له ومعي المأمور، ولكن الحوادث كالقطط؛ إذا ناديتها رفضت المجيء، وإذا طردتها جاءت تتمسح بالأقدام. ولم أجد ما أصنع، وخالجتني رِيَب وشكوك، وطال الليل في نظري وسمج، وتمنيت طلوع النهار. وأردت أن أشغل فكري بتدوين يومياتي؛ فجمد القلم في يدي، ووقع بصري على أكوام من قضايا الجنح والمخالفات والعوارض من «إيراد» اليومين السابقين أرسلها إليَّ كاتب الجدول لقراءتها وتقييدها ووصف التهمة وتقديمها إلى الجلسات. فلم آنس عندي ميلًا إلى العمل؛ فاتجهت إلى النافذة وفتحتها واستنشقت هواء الليل الرطب، ونظرت إلى النجوم تشرف على هذا السكون الشامل في هذا الريف النائم، كأنها عيون ساهرة مطلعة على خفايا الأشياء.
فجأةً خطر لي أن أرتدي ثيابي، وأن أنزل إلى الطريق وأدور حول منزل المأمور. ما هذا الجنون؟ أنا أفعل ذلك؟ وإذا «ضبطني» خفير الدرك؟ إنه قد يعرف شخصي فيعتذر، ولكنه سيخبر الناس ويشيع الخبر وتكون الفضيحة. لا مفر إذَن من انتظار الصباح وما يأتي به.
على أن الله لطف بي آخر الأمر فأرسل إليَّ إشارة تليفونية، طالعتها في الحال؛ فإذا هي واقعة تافهة مما لا نقوم لمثلها بالليل: «… بمرور قطار البضاعة نمرة ٣٠٩ خط الدلتا الضيقة عند الكيلو ١٧ أثناء عمل مناورة، وُجد مسمار حدادي على الشريط، والحادثة بفعل فاعل مجهول … إلخ.» وقد أشَّر المأمور في ذيل الإشارة بانتداب حضرة معاون الإدارة للانتقال وإخطار البك وكيل النيابة للعلم. ومعنى ذلك أنه لن يقوم ولا يريد لي أن أقوم، ولكن كيف أضيع هذه الفرصة التي هبطت من السماء؟ ليس أحب إليَّ الليلة من أن أقلق راحتي وراحة حضرة المأمور. وارتديت في الحال ثيابي، وأمرت بإحضار السيارة، ومررتُ بمنزل صاحبنا، وأطلقتُ عليه من يوسع بابه طرقًا ويخبره بانتقالي؛ فأطل الرجل من نافذته صائحًا: «مسمار صغير نقوم له كلنا بالليل!»
فأخرجت رأسي من نافذة السيارة: لو كانت إبرة. ما دامت حادثة بفعل فاعل، أصبحت جناية. لاحظ أنها جناية تعطيل قطار؛ أخطر جناية في الدنيا. لا بد من حضورك يا حضرة المأمور.
– لا بد … أنا انتدبت معاون الإدارة.
– لا بد من حضورك شخصيًّا.
– الليلة … مستحيل … أنا الليلة … تعبان.
– كلنا في التعب سواء، لكن الواجب يحتم علينا!
فأطرق المأمور لحظة مفكرًا في ضيق وامتعاض، ورأى من عزيمتي واستماتتي، وخشي أن يعارضني في أمر متعلق بالعمل؛ فأذعن وطلب إليَّ الانتظار هنيهة حتى يرتدي ثيابه، ونزل وجلس إلى جانبي في السيارة وهو ينفخ من الغيظ. وتنبهتُ إلى غيبة الشيخ عصفور؛ إذ على الرغم من صوت البوق، لم يبدُ له أثر. وكان فكر المأمور مشغولًا هذه المرة، فلم يفطن لغياب الشيخ، فلقد مضى في إطراقه برهة، ثم قال: أي نعم! الواجب يحتم علينا. لكن يعني .. مسمار؟!
فأغمضت عيني حتى لا ينتظر مني جوابًا، فاستطرد: الله يمسيه بالخير وكيل النيابة سلفك. كان يسأل في قضية القتل شاهدين فقط لا غير، ويقفل محضره، ويميل عليَّ ويقول: «هو القتيل أبونا ولَّا أخونا؟ قم يا شيخ نبل ريقنا!»
ولم أعقب على كلامه بحرف، ولم أنبس طول الطريق بكلمة حتى بلغنا الكيلو ١٧. ووجدنا عمال الدريسة وقطار البضاعة وسائقه، وقدم إلينا نائب العمدة المسمار، وأشار إلى عربة محملة بأكياس من القطن كادت تخرج عن القضيب! فتناولت المسمار بين أصابعي، وجعلت أفحصه والمأمور خلفي يقول باسمًا: «كان العطشجي فين لما الوابور وقع انكسر؟» فعلمت أنه يهزل، وأنه يشير إلى تلك الأغنية التي كانت شائعة منذ ثلاثين عامًا، يوم كانت شفيقة القبطية تجلس على عرش الطرب. وسمع السائق تلك العبارة وحملها محمل الجد، فتقدم يقول: لا حصل كسر ولا وقوع يا فندم! وأنا ساعة الحادثة كنت جنب الفرملة، وربطت في الحال …
ومضى يسرد آراءه قائلًا: «إن أهل هذه المنطقة بسطاء العقول، ولعلهم من أصلاب تلك القرية التي «عزمت القطار» في أول ظهوره، وقدمت إليه الطعام والشراب، ولا يبعد أن يكون أحد هؤلاء الأهالي قد دفعه العبط أو حب الاستطلاع أن يضع هذا المسمار على الخط الحديدي؛ ليرى ما يصنع القطار، وكيف يتصرف، وكيف يقع على جنبه أو على وجهه.» وتقدم عامل دريسة فقال: «إن المسألة ليست مسألة بساطة أو بلاهة، إنما هو انتقام من الشركة؛ فالأهالي في هذه الجهة يعيشون على استخراج الحصى من الجبل ونقله على الحمير والجمال وبيعه للمقاولين، فجاءت شركة سكة حديد الدلتا الإنجليزية، فمدت هذا الخط حديثًا إلى الجبل، وخصت نفسها بهذا المورد، وانتزعت بذلك هذا الحصى من أفواه هؤلاء الجياع المساكين، وسواء أكان هذا هو السبب أم ذاك، فإن الفاعل هنا أيضًا غير معروف، ولا يُنتظر معرفته.» وقد انتهينا من الأمر بأن وضعنا المسمار داخل «حرز»، وختمنا عليه بالشمع الأحمر وأرفقناه بالأوراق، إلى آخر هذا الكلام الرسمي الذي هو كل بضاعتنا. وكان الندى قد تساقط على رءوسنا، فرأى المأمور فتح المحضر في «دوار» العمدة، فسألتُ عن المسافة بيننا وبينه، فرد نائبه قائلًا: «فركة كعب» يا حضرة البك!
فصدقناه، وسرنا على أقدامنا حتى كادت مفاصلنا تنخلع، وما وصلنا حتى أذن الفجر في زاوية الناحية، وتركت المأمور «يسبخ» لنائب العمدة على «فركة» الكعب، وانهمكت في فتح المحضر وسؤال الشهود حتى فرغت منهم جميعًا، وأردت أن أختم محضري، وإذا بي أرى حركة نصب مائدة وإعداد طعام، وحضرة المأمور قاعدًا ينظر في الخوان ويدخل ويخرج دون أن أعلم ما يشغله من الأمر، وأخيرًا سمعته يقول للعمدة في ناحية: اسمع يا عمدة! البك الوكيل لا يحب الخرفان على الصبح ولا الديوك ولا حاجة أبدًا، ولكن لا بأس من كم زغلولة مدفونة في الأرز، والقراقيش إياها والفطير المشلتت، وإن كان عليه كم كتكوت محمر مفيش ضرر، واللبن الرايب طبعًا شيء مفيد للصحة، ولا بأس من كم بيضة مقلية في القشدة، كفاية، إياك يا عمدة تعمل حاجة زيادة، البك الوكيل أكلته ضعيفة، إن كان عندك عسل نحل بشمعه لا بأس، قرصين جبنة ضاني لا مانع، طبق كعك وغريبة … الغرض حاجات خفيفة لطيفة وانت سيد العارفين!
أطرقت لهذا الكلام، واحمر وجهي، ولم أدرِ ما أصنع. ورأيت الخير في أن أسرع بالانصراف؛ فطويت أوراقي على عجل، ولكن عين المأمور لحظتني، وأدرك غرضي؛ فجاءني مسرعًا يسألني: التحقيق انتهى؟
– من زمان!
فنظر إلى المائدة التي لم يوضع عليها شيء بعدُ، ثم نظر إليَّ: جميع الشهود أعطوا أقوالهم؟
– جميعهم.
– ولا شاهد واحد فاضل؟
– ولا ربع شاهد.
فتركني وخرج سريعًا، ثم عاد بعد قليل يجذب أحد الأهالي من «حزامه»، ودفعه أمامي دفعًا، وأشار إليه وقال: شاهد مهم قوي، عنده أقوال.
فأبديت ارتيابي في قيمة كلام هذا الرجل، وأظهرت رغبتي في الاكتفاء بمن سألت من شهود، ولكن المأمور ألحَّ في الرجاء أن أصغي إلى هذا الشاهد أيضًا؛ فإن لديه معلومات ذات أهمية عظمى. فنشرت ورقي من جديد، وما كدت أبدأ في إلقاء السؤال، حتى برز العمدة وخلفه خدمه يضعون الطعام على المائدة. وارتفع صوت سيد الدار يدعونا إلى الفطور، فاعتذرت بضعف صحتي وإمساكي عن الأكل عادة في الصباح، فانطلق من العمدة قسم غليظ، وتواطأ في الحال مع المأمور على حملي من مكاني حملًا؛ وإذا بي أجد نفسي في صدر المائدة، فأذعنت، وجعلت أنظر ساعة إلى هؤلاء المخلوقات وبينهم المأمور، يأكلون وينهشون ويزدردون، وقد انشغلوا بأنفسهم؛ فلم يفطنوا حتى إلى قلة أكلي، وقمت من بينهم متسللًا بعد قليل، وجلست في مكاني الأول أنتظر تارة، وأتصفح محضري تارة، إلى أن فرغوا من أمر بطونهم، وأتوا على ما فوق الخوان، وقاموا يمسحون أيديهم في غطاء المائدة الذي لم يَرَ وجه الصابون منذ عامين، وأقبل عليَّ المأمور يتجشأ ويقول: أظن نرجع ما دام التحقيق انتهى.
فأشرت إلى الشاهد الذي كان قد جاءني به، وقد نسيه الآن فيما يظهر: لمَّا نسأل الشاهد المهم!
فأجاب المأمور من فوره: لا مهم ولا حاجة.
وتركني واتجه إلى الفلاح، وقال له: إنت يا ولد عندك معلومات؟
فأجاب الفلاح: «لع.»
أي: لا. فالتفت المأمور إليَّ قائلًا: جحش الله في برسيمه! لا عنده معلومات ولا يحزنون … قم بنا يا سعادة البك نرجع بلدنا!
ونهضنا عائدين، وقد ارتفعت الشمس، ولم نكد نبلغ دار المركز حتى أقبل علينا «البلوكامين» يحمل إشارة من المستشفى الأميري أن المصاب «قمر الدولة علوان» قد أفاق من غيبوبته، والآن يمكن استجوابه؛ فأسرعنا إلى المستشفى لا نلوي على شيء؛ خشية أن يعود المصاب إلى الإغماء أو سوء الحال، فلا نستطيع أبدًا أن نستخلص من بين شفتيه سر الحادث.
ودخلنا المستشفى، وسألنا عن «الحكيمباشي»، فقيل لنا إنه في قاعة العمليات، فسرنا في الردهة الموصلة إليها، فقابلنا تلك الأسرَّة الصغيرة، والمحفات التي تجري على عجلات فوق الأسفلت كأنها عربات الحمالين في المحطات الكبرى، ورأينا تلك المباخر وأدوات التعقيم تُدفع على بكر ويتصاعد منها البخار، والممرضون في هرج ومرج بأرديتهم البيضاء يدفعون تلك العجلات التي تحمل أجسامًا في طريق الفناء، ويدخلون بها تلك القاعة الرهيبة، ويخرجون دون أن يبدو على وجههم أثر اهتمام لموت أو حياة، فوقفت قليلًا وقد شرد خاطري، وخامرني إحساس مَن يقف في المحطة بين القُطُر. نعم، أوَلست الساعة في تلك المحطة التي يسافر منها المريض إلى العالم الآخر؟ وحانت مني التفاتة إلى باب المستشفى الكبير، ورأيت العسكري المكلف بالحراسة يطرد زرافات النساء المجتمعات في ثيابهن السود، و«طرحهن» الزرق، وأصواتهن التي يقطعها عويل القلق؛ فعلمت أنه سيلقي إليهن بجثة بعد قليل، فإنهم في كل يوم يلقون خارج أسوار هذا المكان بجثة أو جثتين؛ ليفترسها الحزن الرابض بالباب، ذو الناب الأزرق في لون «النيلة» والمخلب المعفر بالطين والتراب.
وفُتح باب قاعة العمليات، وخرج ممرض يحمل دلوًا فيه دم سائل ومتجمد وقطع من اللحم كأنها أحشاء خروف، فنظرت في ذلك، فقال الرجل إن هذا خرج من بطن امرأة هي الساعة فوق المشرحة تحت البنج، فجمدت في موقفي. وبادر المأمور وطلب باسمي مقابلة الحكيمباشي في الحال. فذهب الممرض وعاد يفتح لنا باب قاعة العمليات، فتجلدت ودخلت وخلفي مَن كان معي، فقابلني الحكيمباشي بابتسامة وهو ما زال منحنيًا في معطفه الأبيض على شيء فوق المشرحة، وقد شمَّر عن ذراعيه وفي يده أداة كأنها «الكماشة»، وحوله رهط من أصدقائه غير الأطباء عرفت منهم بعض الأعيان في ملابسهم العادية. فدنوت ونظرت إلى الذي بين يديه؛ فإذا هو جسم فتاة قد شُق بطنها شقًّا طويلًا من الصدر حتى أسفل البطن، وإذا «الكماشة» في يده تجمع الجلد الذي انشق وتخيطه بشيء كأنه المسامير الصغيرة، والطبيب يفعل ذلك في سرعة غريبة وهو يثرثر مع ضيوفه مازحًا كأنه «حاوٍ» يفاخر بخفة يده ومهارة صنعته. ونظرت في وجه البنت الشاحب وهي كالميتة، ثم إلى جلدة بطنها وقد رشقت بالمسامير في صف طويل كأنها جلدة حذاء في يد الإسكافي؛ فشعرت بدوار في رأسي وخفت أن أسقط، فاعتمدت على جانب المشرحة، ولحظ الطبيب اصفرار وجهي؛ فترك المريضة وحدَّق في وجهي قلقًا، فأسرعت وخرجت من القاعة وأنا أقول له في صوت لم يخرج إلا نصفه من حلقي: منتظرك يا دكتور بعد العملية.
وسألني الدكتور عما بي، فلم أستطع التعليل. إني قد شاهدت كثيرًا من عمليات التشريح، وطالما رأيت جثثًا تُقطع أمامي وبطونًا تبقر، فلم أتأثر، ولكنها كانت أجسادًا لا حياة فيها. أتُراني شديد التأثر لمرأى الأجسام الحية تُعامل معاملة الجمادات؟ أم إنها فضلة من رائحة البنج عبق بها جو قاعة العمليات؛ فبلغت خياشيمي إذ دنوت من جسم الفتاة؟
وأعادني الهواء الطلق خارج القاعة إلى نشاطي وجلسنا ننتظر في مكتب الحكيمباشي، ونشرب قهوة طلبها لنا «الباشتمرجي» إلى أن حضر رئيس الدار، فقادنا مرحِّبًا إلى «عنبر» المصاب.
وجلسنا معه خلال ممرات ازدحمت بالأسرَّة؛ إذ لم تكفِ «العنابر» لإيواء هذا القدر من التعساء. ورأينا المرضى الناقهين من أصحاب «الزعابيط» الزرقاء يتناولون، في نهمٍ، حساءهم في أوانٍ صغيرة من «الألومنيوم»، وينظرون إلينا ومعنا الحكيمباشي كما ينظر القردة في حديقة الحيوانات إلى الحراس مع كبار الزائرين.
ووصلنا إلى سرير «قمر الدولة»، فوجدناه ممددًا لا يتحرك، ونزع الحكيمباشي من رأس السرير تلك الرقعة التي يدون فيها تطورات مرضه، وقرأ علينا تشخيصات طبية لم أحفل بها الساعة، وقلت: الغرض، يمكننا استجوابه حالًا؟
أجاب الطبيب في صوت خافت: أظن مع الاختصار الكلي.
ثم دنا من المصاب وناداه في هدوء، ففتح قليلًا عينين ذهب بريقهما وكأنهما لا يريان ولا يثبتان على شيء بعينه. فاقتربت من الرجل وسألته: يا قمر الدولة! مَن ضربك؟
فلم يجب. فأعدت عليه السؤال، ففتح شفتيه ولم يقل شيئًا. فألححت عليه، فبذل جهدًا ظاهرًا وقال كلمة واحدة: ريم!
فدُهشت قليلًا، والتفت يمنة ويسرة، فوجدت المأمور وسكرتير التحقيق شأنهما شأني في الاهتمام بالأمر والعجب له، فنظرت في وجه المصاب وقلت: «وضح غرضك يا قمر!»
فلم يجب.
– قصدك إن ريم هي نفسها …؟
فلم يبدِ حراكًا.
– يا قمر، يا علوان، تكلم. لا بد أنك تتكلم. كلمة واحدة. الضارب! مَن الضارب؟
ولكننا نطلب المستحيل؛ فقد أغمض عينيه وقد تفصَّد جبينه عرقًا، فجذبني الحكيمباشي من يدي بعيدًا وقال: كفاية!
فنظرت إلى المأمور يأسًا: كفاية؟!
وهل ظفرنا نحن بشيء؟ لقد كان موقفنا عند دخولنا أوضح منه الآن. إنها كلمة لفظها هذا الفم الجاف بعد جهد، ليته لم يلفظها!