١٤ أكتوبر
تركت المأمور يذهب إلى شأنه، وعدتُ إلى مكتبي بدار النيابة، وعلم المساعد بعودتي، فحضر وهو كالمشتاق إلى رؤيتي، ولكنه عاتِب على إغفالي إياه في واقعة الليل، فتنبهت إلى أني حقيقةً نسيته كل النسيان. إن اهتمامي باصطحاب المأمور تلك الليلة قد ألهاني، ولا شك، عن كل شيء آخر. ومع ذلك فهي حادثة تافهة لم يستفد منها غير بطن حضرة المأمور، ولم يقع ضررها إلا على جيب حضرة العمدة. آه لهؤلاء العمد! لشد ما أرثي لحالهم! وظهر «فرَّاش» المحكمة الحاج خميس، فطلبت إليه كوبًا من الشاي الخفيف، والتفت إلى مساعدي، فأقبل عليَّ يحدثني كمَن يتحدث لمجرد الحديث، وكأني به جوعان كلام. إن الوحدة قد كادت تقتله أثناء غيبتي عنه. لقد سئم الريف. إنه لا يجد هنا قهوة واحدة يليق أن يدخلها مثله، اللهم إلا دكان ذلك البدال الرومي «طناشي». وُضعت أمامه مائدتان من الخشب وكرسيان من القش، وقد أطلق عليه الأهالي اسم «الخمارة»، وحتى هذا الرومي قد ارتدى جلبابًا كجلباب الفلاحين، فلم يعد شيء ينم على أنه «إفرنجي» غير لون العينين والشعر. أين يتنزه؟ وأين ينفق وقته؟ هذا الشاب الذي جاء من العاصمة منذ أيام حيث الأنوار والملاهي والضجيج؟ إنه الآن لا يكاد يرى غير مبانٍ قليلة أكثرها متهدم، وغير هذه «الجحور» المسقفة بحطب القطن والذرة يأوي إليها الفلاحون. إنها في لونها الأغبر الأسمر لون الطين والسماء وفضلات البهائم، وفي تكدسها وتجمُّعها «كفورًا» و«عزبًا» مبعثرة على بسيط المزارع، لكأنها هي نفسها قطعان من الماشية مرسلة في الغيطان. هذه القطعان من البيوت التي تعيش في بطونها ديدان من الفلاحين المساكين هي كل ما تقع العين عليه في هذه البقاع. ويزيد في كربه هذا السكون يهبط على البلدة منذ الغروب؛ فلا يسمع بعدئذٍ غير خوار الجاموس ونبح الكلام ونهيق الحمير، ونحيب السواقي والشواديف والكباسات، وأصوات بعض الأعيرة النارية يطلقها في جوف الليل الخفراء الخصوصيون أو النظاميون، أحيانًا إرهابًا للغير أو تشجيعًا لأنفسهم. إن مساعدي يريد دواءً لهذا الضيق. وهل من دواء للريف غير الزواج أو السير المعوج أو المطالعة وتحرير المذكرات كما أفعل أنا كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا؟ وفكر صاحبي في الاختلاف إلى النادي. إنه لا يعلم شيئًا عن نادي هذا المركز. إنه اسم يطلق على حجرة في منزل عتيق يصعد إليها بسلم من خشب، وهي تضاء بمصباح غازي أي «كلوب»، وهذا «الكلوب» هو وحده الشيء الجدير بالاحترام في الحجرة. أما أهل النادي، فهم بالطبع رجال الإدارة وطبيب المركز وبعض الأعيان والموظفين وصاحب الأجزاخانة، ولا يشغل هؤلاء في ذلك المكان غير لعب الورق و«الطاولة» واغتياب الناس. فهل يليق بممثل النائب العام في هذا المركز أن يندس في هذه الزمرة؟ ولقد قلت لمساعدي إني «شخصيًّا» أفضِّل أن يكون عضو النيابة بعيدًا عن كل هذا، إذا كان يريد أن يبجله الجميع. وأنا لن أنسى ذلك اليوم الذي دعاني فيه رجال الإدارة إلى حفلة عشاء في ذلك النادي مع القاضي المقيم تكريمًا لزميل لهم منقول. ولم أستطع الاعتذار، فذهبت. وإذا زجاجات الويسكي على المائدة بجوار الطعام، وقد ملئوا كأسي وكأس القاضي، ولم يفطن القاضي لنفسه فشرب وأكثر، وجعل يثرثر ويضحك حيث لا موضع للكلام والضحك. وعندئذٍ مال عليَّ المأمور وقد سكر هو أيضًا، وألقى في أذني ضاحكًا: «البك القاضي فقد وقاره!» فلم أرِد أن أسمع أكثر من ذلك. فانسللت منصرفًا إلى بيتي في هدوء دون أن يشعر بي هؤلاء المتخبطون في كئوسهم. منذ ذلك اليوم وأنا لا أضع قدمًا في هذا النادي. واقتنع مساعدي بكلامي، وأردت أن أزيده بياتًا ليزداد حرصًا، ولكن الحاج خميس دخل حاملًا كوبًا لم يكد يقع نظري عليه حتى صِحت.
– ما تسقيني أحسن حبر «كوبية» وتخلص!
– صلِّ على النبي يا سيدنا البك! أنا بقى لي عشرين سنة فراش محكمة، وورد عليَّ أصناف الأهالي والموظفين. تصدق بالله؟! ما ينفع في المحاكم إلا شاي مر طعم «الفورنيه».
فترددت قليلًا ثم لم أجد مناصًا وقلت: شاي المحاكم وشغل المحاكم كله مر والسلام، هات!
ووضع الرجل الكوب الزجاجي أمامي وانصرف. وما كدتُ أرشف رشفة حتى فُتح الباب، ودخل عبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي بروحه الذي لا أستخف له ظلًّا، وقال: عندنا من نوع التلبس أربع قضايا!
– هات!
فذهب وأرسل إليَّ العسكري القادم ﺑ «المحاضر» والمقبوض عليهم. وأخذنا نطالع الأوراق قبل أن نستدعي أمامنا المتهمين، وجعلت من نصيبي ثلاث قضايا، واستصغرت ملفًّا ألقيت عليه نظرة سريعة، وأعطيته مساعدي وأنا أقول له: «سرقة كوز ذرة، لن نعثر لك على أسهل من مثل هذه السرقة. سل هذا المخلوق؛ فستجده معترفًا في أمان الله!» وبدا الاضطراب قليلًا على المساعد، فهذه أول مرة يستجوب فيها متهمًا.
وتناول من يدي المحضر، وجعل يقرؤه كلمة كلمة، ويعيد قراءة هذه «القسائم» التي لم تزد على الخمس. وفرغت أنا من أمر نصيبي البالغ أضعاف ما عنده، وهو ما زال منهمكًا في إعداد ملخصات وافية، وملخصات للملخصات، وأسئلة مُعدة إعدادًا كأنها قنابل ستُلقى في صدر سارق «كوز الذرة». فكتمت ضحكي. أنا أيضًا في مستهل حياتي القضائية كنت أفعل فعله، ولقد قسا عليَّ القدر أشد مما قسا على هذا الشاب، فنكبني بقضية تزوير معقدة كانت هي أول عهدي بالتحقيق. ولست أنسى اضطرابي وقتئذٍ وقد مَثل أمامي المتهم المزور بطول باعه وذلاقة لسانه واعتياده المثول أمام القضاة؛ فذهبت الأسئلة المجهزة من رأسي ولم أدرِ ما أقول، وانتظر الرجل واقفًا في هدوء أن أفتح فمي أو يفتح الله عليَّ بسؤال، وتصبب مني شبه عرق وأنا أرى المتهم أحسن مني حالًا وأربط جأشًا وأقوى امتلاكًا لأمره، وخُيل إليَّ أنه يسخر مني في دخيلة نفسه. وكان كاتب التحقيق رجلًا قديمًا ذا مران طويل، صادف في حياته، ولا شك، عشرات من المساعدين الجدد أمثالي. عرف ما بي؛ فأسرع يعاونني ويلقِّنني ما ينبغي أن أبدأ به من أسئلة، وأنا أتقبل منه المعاونة بأنفة وكبرياء دون أن أظهر حاجتي إلى تدخله. وأمثال هذا السكرتير الهرم من ذوي الحق المغموط والفضل المجهول مثيرون، وقد سمعت أحدهم يقول لي مشيرًا إلى بعض كبار رجال القضاء: «علمناهم الشغل ومشوا وارتفعوا وبقوا قضاة ومستشارين، والواحد منا واقف في مطرحه لا يكبر ولا يصغر، زي جحش السبخ.» تذكرت كل هذا وأنا أنظر إلى وجه مساعدي، ورأيت أن أتعهد خطاه الأولى بنفسي، فطلبت إليه أن ينحي جانبًا هذه الملخصات، وأن يضغط بأصبعه على الجرس ففعل، وظهر الحاجب بالباب؛ فأمرته بإحضار المتهم الأول، فدخل فلاح كهل قد برز من صدره شعر أزرق أشيب كأنه شعر ضبعة مسن، وقلت للمساعد أن يوجه ما يحضره من أسئلة ولا يخاف، وأنا أعينه إذا توقف، فاحمر وجه الشاب وتردد، ثم تجلد ونظر إلى المتهم وسأله: أنت سرقت كوز الذرة؟
فأجاب الشيخ لفوره من جوف مقروح: من جوعي!
فنظر المساعد إليَّ وقال في لهجة الانتصار: اعترف المتهم بالسرقة.
فقال الرجل في بساطة: ومَن قال إني ناكر؟! أنا صحيح من جوعي نزلت في غيط من الغيطان، وسحبت لي كوزًا.
ووقف القلم في يد المساعد، ولم يعرف ماذا يسأل بعد ذلك، والتفت إليَّ يستنجدني، فنظرت إلى الرجل سائلًا: سين، يا رجل لماذا لا تشتغل؟
– جيم، يا حضرة البك هات لي الشغل وعيب عليَّ إن كنت أتأخر، لكن الفقير منا يومًا يلقى، وعشرة ما يلقى غير الجوع.
– أنت في نظر القانون متهم بالسرقة.
– القانون يا جناب البك على عيننا وراسنا، لكن برده القانون عنده نظر ويعرف إني لحم ودم ومطلوب لي أكل.
– لك ضامن يضمنك؟
– أنا واحد على باب الله.
– تدفع كفالة؟
– كنت أكلت بها.
– إذا دفعت يا رجل خمسين قرشًا، ضمان مالي، يُفرج عنك فورًا.
– خمسين قرش! وحياة رأسك أنا ما وقعت عيني على صنف النقدية من مدة شهرين. التعريفة نسيت شكله، ما اعرف إن كان لحد الساعة «مخروم» من وسطه ولَّا سدوه.
فنظرت إلى مساعدي، وأمليت عليه نص القرار: «يُحبس المتهم احتياطيًّا أربعة أيام، ويُجدد له ويُعمل له فيش وتشبيه.» اسحبه يا عسكري!
فقبَّل الرجل كفه وجهًا وظهرًا حامدًا ربه: وما له الحبس حلو. نلقى فيه على الأقل لقمة مضمونة. السلام عليكم!
وخرج الرجل يدب وقد وُضع في معصمَيه القيد. واطمأن مساعدي واستراح باله بذهاب متهمه. وطلبت القضية التالية، فظهر العسكري ومعه آخر وفتحا باب مكتبي على مصراعيه، وجذب داخل الحجرة أكثر من ثلاثين رجلًا وامرأة وولدًا قد شُدُّوا في حبال الليف؛ إذ لم يجدوا في المركز لكل هذا العدد قيودًا حديدية. فما تمالكت أن صحت لمنظرهم: الله أكبر! مواشي طالعة سوق السبت؟ حِل الحبال يا عسكري!
فقال الحارس وهو يحل بأسنانه عقدة حبل: فتشنا يا سعادة البك بيوتهم، وجدنا فيها الممنوعات. وباقي غيرهم من أهل الناحية تحت التفتيش والقبض بمعرفة حضرة الملاحظ وأورطة الهجانة!
فأدرتُ بصري في هؤلاء الآدميين، واستعدْت في مخيلتي ما قرأته الساعة عن تهمتهم في الأوراق التي أمامي وقلت: ممنوعات!
فاستدرك الحارس: الملبوسات يا فندم.
نعم. إن ما قرأت الساعة هو أن سيارة كبيرة كانت تحمل أكياسًا ضخمة، مملوءة بمختلف الملابس القطنية والصوفية من معاطف وسُتَر وسراويل، وكذلك أنواع من الأحذية الجلدية لحساب متجر في القاهرة من المتاجر الشهيرة، وكانت تجتاز ليلًا بكل هذا جسر الترعة المحاذية لدائرة الناحية، فسقط منها في الماء كيس كبير مفعم بألوان الملابس، ولبث الكيس في أعماق الترعة حتى انخفض منسوبها، وانحسر الماء عن البضاعة؛ فهُرعت تلك البلدة العارية إلى الكنز الذي لا يشابه كل الكنوز.
وتسابقت الأيدي إلى الكيس الراقد في الطين تجذب من بطنه ما تصل إليه، فإن كان سروالًا من الصوف لُبس في الحال فوق الجلباب الأزرق، وإن كان معطفًا من الجوخ دخل فيه الرجل ﺑ «حرامه»، وإن كان حذاءً لامعًا وُضع في الأقدام بغير جوارب. ومضت البلدة تجري في الطرقات فرحةً مهللة: «الكساوي في البحر، الكساوي في البحر …» إلى أن رآهم رجال الحفظ، واستكثروا عليهم النعمة، وعدُّوها بالنسبة لهم «ممنوعات»، واستغربوا أمرها، واستكشفوا سرها.
ورأيت أول الأمر أن أسألهم جملة، علَّني أظفر منهم باعتراف ييسر عليَّ مهمتي؛ فألقيت عليهم نظرة شاملة: سرقتم الملابس؟
فأجابني من بينهم صوت عميق رزين: أبدًا والله ما سرقنا ولا نعرف السرقة، البحر رمى علينا الكيس، وكل واحد منا طال نصيبه.
فقلت للرجل من فوري: نصيبه! هو الكيس مِلك البحر ولَّا له أصحاب خواجات؟
فأجاب الرجل في صوته العميق الهادئ: راح من بالنا أن له أصحابًا يا حضرة البك. ربنا يعلِّي مراتبك ارأف بحال الفلاحين المساكين!
– المسألة مسألة قانون، والقانون صريح: «إن كل من وجد شيئًا مملوكًا للغير، وحفظه بنية امتلاكه؛ يعامله معاملة السارق.» فهمتم؟
– فهمنا يا حضرة البك، لكن … بقى … الكساوي كانت قدام نظرنا ورماها البحر علينا. والواحد منا من غير مؤاخذة عريان.
– إنت يا رجل فاكر الدنيا فوضى، ولَّا فيه قانون وحكومة!
ويظهر أن الرجل لم يستطع صبرًا فقال: بقى هي الحكومة لا منها ولا كفاية شرها؟! لا كستنا ولا تركتنا ننكسي!
– أنا مضطر إلى أن أحبسكم.
– يا جناب البك، أنتم فتشتم دورنا وسحبتم الكساوي منا، والعيال الفرحانة عادت تبكي، ورجعنا لأصلنا لا لنا ولا علينا. يبقى الحبس له لزوم؟!
– أُفرج عنكم بضمان مالي.
– مالي؟! الفلاحين عرايا يا حضرة النايب!
– تفضلوا من غير مطرود! دماغي وجعني. والمناقشة مع أمثالكم ضياع وقت. القانون صريح، وأنا مقيَّد بنصوص أشد من الحبال الموضوعة في أيديكم. المسألة عندي قبل كل شيء مسألة قانون. «يُحبس المتهمون كلهم احتياطيًّا أربعة أيام، ويُجدد لهم، ويُعمل لهم فيش وتشبيه.» اسحبهم يا عسكري!
فخرجوا جميعًا في صف طويل وفي ذيلهم رجل يقول هامسًا: يحبسونا لأن ربنا كسانا!
وهدأ المكان. ولكن رائحة كريهة انتشرت في الحجرة، فناديت الحاجب وأمرته بفتح النوافذ، ففعل وهو يلعن بصوت خافت هذا الجاموس الأبيض الذي لا ينبغي إدخاله حجرات الحكومة. وحانت مني التفاتة إلى مساعدي فوجدته مطرقًا مفكرًا. فداخلني حب استطلاع أن أعرف ما بنفسه الآن، أتُراه قد تأثر لشيء؟! أترى دقة الحس ورقة الشعور — التي جاء بها كما جئنا كلنا في مبدأ عملنا الحكومي بالريف — ما زالت حية، أم إنها في طريق الموت؟! ولكن طرقة عصا شديدة ضربت الباب عرفت فيها ضربة المأمور. ودخل صاحبنا يلهث ويصيح: البنت ريم …
– ما لها؟!
قلتها رغمًا عني في لهفة، فاستراح المأمور على كرسي وأنا أنتظر الكلام من فمه بصبر نافد، غير أنه نظر إلى الحاجب بالباب: اسقني وحياة عينيك!
وأخرج منديله الحرير الصناعي من كمه، ومسح وجهه ورأسه، وأنا على أحر من الجمر. وأخيرًا التفت إليَّ وقال: اختفت!
فنظرت إليه مليًّا: تتكلم جد!
– هربت مع الشيخ كلب!
– الشيخ عصفور؟!
– نهاره أسود!
– والعمل؟
– أمرت فرقة الهجانة تقوم في الحال تقتفي الأثر في جميع الطرق الزراعية.
وجلسنا في صمت، وقد شرد فكر كل منا.