١٥ أكتوبر
لم يمكث المأمور عندي طويلًا، فقد ذهب سريعًا وانقطعت عني أخباره، وطلبته كثيرًا بالتليفون في المركز، فلم يدرِ أحد أين مقره. كل ما عرفوه عنه أنه خرج في «البوكس فورد» مع المعاون ولم يعد، وانتظرته طول نهاري لأعرف منه …؟ ولكن النهار انقضى، وغربت الشمس، وعيل صبري؛ فمشيت بنفسي إلى المركز فلم أفز بطائل، وقال لي قائل: «لعله عرج على النادي، فهذا ميعاد جلوسه فيه.» فما ترددت، وتوجهت إلى النادي، فاستقبلني أعضاؤه دهشين أول الأمر، ثم هُرعوا يقدمون إليَّ الكرسي «السليم» الوحيد في تلك الحجرة زيادةً في الاحتفال بي. فسألت عن المأمور؛ فقالوا إنهم لم يروه، وإنهم يعجبون لغيابه عن النادي حتى هذه الساعة. فلما علموا مني أنه خرج من الصباح مع المعاون في «البوكس» ولم يعد، صاحوا جميعًا من فم واحد: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وصاح صوت من بينهم: ضعنا وضاعت فلوسنا والعوض على الله!
ولم أفطن إلى مرادهم في مبدأ أمري، ولكن التفاتة حانت مني إلى المائدة والورق المطروح عليها في انتظار اللاعبين. ففهمت للفور وتذكرت ما قيل لي من أن المأمور لم يعرف الخسارة قط في هذا النادي، وأنه اعتاد في أوائل كل شهر أن يربح كل مرتبات الموظفين، ثم يظل طول الشهر يقرضهم ما يحتاجون إليه للأكل والمعاش؛ حتى لا يموتوا جوعًا إلى أن يقبضوا، فيلاعبهم من جديد، ويأخذ مرتباتهم الجديدة، ويقرضهم ما يعيشون به طول الشهر، وهكذا دواليك. وقد اعتادوا هذه الحياة ورضوا بها، وهم يعزون أنفسهم بقولهم: «سواء أكانت النقود في جيبنا أم في جيب حضرة المأمور؛ فالنتيجة واحدة.» شيء واحد يقلقهم، ويخيفهم أشد الخوف، هو خروج المأمور بأموال البلدة ﻟ «ملاعبة» مركز آخر. فالمأمور يضجر أحيانًا من ملاعبة هؤلاء المفلسين وقد تجردوا، فينتخب تارة نفرًا من خيرة اللاعبين، وينتقلون لمنازلة المركز المجاور كما تنتقل فرق كرة القدم؛ وتارة يخف المأمور بمفرده أو مع المعاون إلى أقرب بلدة يلعب «دورين» ويرجع، وتارة يستقبلون في ناديهم «منتخبًا» قادمًا من بلاد أخرى. هنا في مثل هذه المقارعات الحامية الوطيس بين بلدة وبلدة يتعرض للخطر جيبُ المأمور، أعني مرتبات المركز!
على أني لم ألبث أن أدخلت الاطمئنان على قلوبهم بقولي لهم: «إن المأمور قد ذهب في غالب الظن لعمل يتعلق بقضية تشغل بالنا.» فهدءوا وجلسوا لحظة ساكنين أدبًا واحتشامًا، ثم أخذوا يتحدثون ويثرثرون قليلًا أثناء شرب القهوة، إلى أن قال أحدهم في نبرة الترحيب: ربنا عوضنا خير بتشريف البك النايب؛ لأن حضرة القاضي انقطع عن النادي من زمن … بسبب سوء التفاهم!
فنظرت إلى المتكلم وقد بدا في عيني المتسائلة ما دعاه إلى الاسترسال.
– أي نعم، سوء التفاهم بينه وبين البك المأمور. وأمعن في الثرثرة فقال: المسألة أصلها خلاف السيدات مع بعض. الست حرم القاضي واقعة مع الست حرم المأمور.
فأطرقت صامتًا، وظن الحاضرون أن بي رغبة إلى الإصغاء، فانطلق أحدهم يقول: آخر أخبار أنهم طلعوا لبعض فوق الأسطح، ونزلوا في بعض «ردح» من النوع «النضيف». امرأة المأمور إغاظةً في صاحبتها راحت لبست سترة زوجها الرسمية ﺑ «التاج والضبورة»، وغطت رأسها من غير مؤاخذة بالطرحة أم «ترتر»، وقالت لها بالصوت العالي: «إنتم حواليكم إلا قلة القيمة؟! لا يمشي وراكم إلا حاجب «ربابكيا» نُص عُمْر مكسَّر صابغ شعره. لكن المركز كله بالخفر والعسكر تحت أمرنا، يضرب لنا سلام.» قامت امرأة القاضي نزلت ولبست لها الوسام الأحمر عهدة الحكومة فوق الفستان البمبي المسخسخ وطلعت تقول لها: «قطع لسانك وليَّة سفيهة! إنتم صحيح ما لكم إمارة إلا على غفيرين مغفلين، لكن من في البلد كلها يقدر يحبس ويشنق ويقول «حَكَمَت المحكمة» غيرنا؟»
لقد أحسست شيئًا من الحرج في استماعي إلى هذا الكلام، فما إن فرغت من شرب القهوة حتى وضعت الفنجان على المائدة في هدوء، ونهضت في الحال مسلِّمًا مودِّعًا وانصرفت.
سرت في الطريق إلى منزلي أفكر. ولقد تمهَّلت في خطاي؛ إذ لم أجد في نفسي رغبة إلى الاحتباس بين جدران أربعة مع أكداس من الشكاوى المتأخرة أضع أنفي في تراب ملفاتها. وإنَّ رأسي بعدُ لمشغول بغياب المأمور؛ أتراه قد وجدها؟ أين ذهب بها إذَن؟ والشيخ عصفور ماذا جرى له؟ العجيب في الأمر أن يستطيع هذا العصفور أن يختطف هذه الزنبقة ونحن عنه غافلون! الحقيقة أننا لم نفطن إليه، لقد استطاع أن يختطفها من يد المأمور في خفة ومهارة. نعم، من يد حضرة المأمور لا من يدي أنا. ولكن الأعجب من هذا أن تطيعه الفتاة وتذهب معه راضية؛ فهو من غير شك لم يُكرهها ولم يحملها قوة واقتدارًا، ما سر هذا التأثير وهذا النفوذ العجيب وهو لا يكاد يعرفها، ولم يكن بينهما لقاء طويل؟! أتُراه قد أغراها بالهرب؟ ولكن ما الذي يدعوها إلى الهرب؟ أهي مجرمة؟ أهذا الجمال الرائع يجرم، أم نحن المجرمون إذ نظن السوء بالجمال؟ إن من العسير على نفسي أن أتصور الجمال غير مقترن بالفضيلة. الجمال الحق والفضيلة الحقة شيء واحد. ولكن المصاب قمر الدولة عندما سُئل عن الضارب، فاهَ بكلمة واحدة ما زال جرسها الباهت يرن في أذني: «ريم!» ولكن ما بال الفتاة صرخت وذهلت إذ علمت بالجناية أول مرة؟ أهو تصنُّع وتمثيل؟ لقد خلعت آهتُها قلبي خلعًا في تلك الليلة. وما أشك في أن المأمور، وهو على الأقل ذو خبرة بالقرويات، قد تأثر مثلما تأثرت. فإن كان مكر مثل هذه البنية الرقيقة يجوز على أمثالنا؛ فأحرى بنا أن نوضَع في مرابط البقر لا أن توضع أمامنا نفوس الناس نستطلع مجاهلها ونستكشف أسرارها. وألهتني هذه الخواطر، وحملتني قدماي من دون قصد إلى المستشفى، ومررتُ ببابه الكبير، ووضعتُ عيني اللاهية على ذلك المنظر المعتاد من الأهالي والنساء والصبيان الجالسين القرفصاء؛ فلم أحفل بهم، ولكني لم أكد أغادر هذا الجمع حتى وقفت دهشًا. فلقد لمحت تحت الجدار على بُعد قصبة من الناس الشيخ عصفور جالسًا إلى الأرض وهو مطرق ينكت التراب بطرف عوده، وبجواره الفتاة وقد أسندت رأسها إلى الحائط تعبًا وإعياءً أو كآبة وحزنًا. فهمت كل شيء. إنها جاءت المستشفى تسأل عن حال المريض، وإنها اتخذت من الشيخ الأخضر دليلًا وصاحبًا ومعينًا، وكان ينبغي لذكائنا أن يتجه في بحثه إلى هذه الجهة القريبة. ولكن ما العمل الآن؟ إني بمفردي، ولا سلطة لي بغير رجال الحفظ ألقي إليهم الأوامر. لا بد إذَن من الذهاب من فوري إلى دار المركز لأبعث أحد العساكر يأتي بهما. وأسرعت في السير قبل أن يعلما برؤيتي لهما فيهربا خوفًا مني. وابتعدت عن المكان وأنا أقول في نفسي: لا شك أن الشيخ عصفور يعلم الآن كل أسرار القضية، أو أنه على الأقل قد اطلع على سر الفتاة، وغاص بعينيه البراقتين في بحار نفسها العميقة المظلمة. ولكن هل يفضي هذا الشيخ إلينا بشيء؟ إنه هو نفسه سر مغلق، ولست أدري أهو حقًّا أبله أم خلف هذا الوجه الساذج …؟ وكنت قد بلغت المركز. ورأيت ببابه «البوكس فورد»، فعلمت أن المأمور قد عاد، فأسرعت واقتحمت عليه حجرته، فألفيته على «الكنبة» وقد خلع الطربوش، وأمسك القُلة الفخار يجرع منها والعرق يتصبب من جبينه، فلم يكد يراني حتى صاح: المسألة وحياتك فيها شغل سحر! لا بد أن الشيخ الكلب سحر البنت. تصور أننا من الصبح لغاية ساعة تاريخه ما تركنا من دايرة المركز غيط ذرة ولا زراعة قصب ولا ساقية ولا طاحونة ولا كفر ولا دوار ولا ترعة ولا أرض ولا سما ولا طريق زراعي ولا جهنم حمرا إلا قلبناها وفتشناها شبر شبر. لو كانوا انقلبوا طير على الشجر أو سمك في البحر كنا وجدناهم، لكن المصيبة أنهم …
فما تمالكت أن قاطعته: المصيبة أنهم على بُعد خطوة من هنا يا حضرة المأمور!
فوضع المأمور «القلة» على الأرض ونظر إليَّ فاغرًا فاه: إيه؟
فقلت في شيء من الحدة: طير إيه وسمك إيه! الرجل والبنت قدام باب المستشفى من ساعتها.
– المستشفى الأميري؟
– قم يا شيخ قل لواحد عسكري يروح يناديهم من هناك، بلاش أمور …
ولم أتم بقية عبارتي؛ فقد نهض المأمور فرحًا قبل أن يسمع مني، وصاح بصوت جلجل في صحن المركز: يا شاويش عبد النبي!
فجاء من ناحية الإسطبلات رجل عملاق في قميص وسراويل بيضاء، ورفع يده بالسلام وقال: أفندم سعادة البك؟
– قم حالًا مع نفرين للمستشفى الأميري ومعكم قيد حديد.
فتردد الرجل وقال مقاطعًا: «أودة التبن» مفتوحة يا سعادة البك، والأنفار جارين العليق والفرش للخيل …
فصاح فيه المأمور: «يا حصان نفذ الأوامر إن شا الله عن الخيل ما باتوا في ليلتهم. قلت لك قم في الحال.»
– حاضر يا فندم!
وتركت المأمور يفهِّم مرءوسه ما يتبع. وانصرفت إلى مكتبي بعد أن أوصيت المأمور أن يلحق بي مع المقبوض عليها؛ فأنا لا أحب مطلقًا التحقيق في دار المركز، وهي ليست داري، فربُّ المركز هو المأمور، ولا أرضى لنفسي أن أكون في كنفه أثناء عملي؛ خصوصًا في هذه القضية وأمام هذه البنية. وذهبت على عَجَل وأرسلت من يستدعي كاتب التحقيق. ولم يمضِ قليل حتى كنت في حجرتي جالسًا إلى مكتبي أطيل النظر إلى الباب نافد الصبر منتظرًا قدوم الفتاة كأنه موعد لقاء.
وسمعت نقرًا على باب الحجرة. ودخل المأمور يسألني للفور عن المطلوبين، فأجبت أني لم أرَ أحدًا بعد. فجلس وهو يقول إنه أرسل مَن يأتي بهما. وجعل ينظر هو أيضًا إلى الباب ويفتل شاربيه. وجاء كاتبي بأوراقه ونشرها أمامي. واستعد كلٌّ منا. وإذا بجلبة ترتفع في الردهة وصوت أقدام ثقيلة وصلصلة حديد، وطرق الباب علينا، ثم فتح وألقي بيننا الشيخ عصفور وحده مكبَّل اليدين، وخلفه الباشجويش يحمل له عوده الطويل؛ فوقع في نفسي قلق، وشعرت بوقع مثله في نفس المأمور، فقد ابتدر الباشجويش صائحًا: والبنت؟!
– وجدنا الرجل وحده فقبضنا عليه يا فندم.
– وحده؟!
قالها المأمور كما قلتها أنا في نفس الوقت، وقد اختلط في نفسينا الأسف بالعجب والغضب. وخرج المأمور عن طوره فنهض وصرخ في وجه الشيخ عصفور قائلًا: البنت؟!
فلم يبدِ الرجل حراكًا. وأجاب في هدوء رصين: بنت مين؟!
فنظر إليه المأمور نظرةً شزراء وقال: «أنت يا رجل شارب حشيش؟! شغل الحشيش أنا أفهمه، طيب!» وأراد أن يلكمه بقبضته القوية فمنعته من ذلك، وأمرت الشيخ أن يدنو مني، فدنا، فسألته في رفق: ريم كانت معك؟!
فأجابني الرجل من غير تردد: أبدًا.
فأدركت أن عين الرجل البراقة قد لمحتني عند مروري بباب المستشفى، وفهم بذكائه ما سيكون فأخفى الفتاة في الحال، أو أن الأمر غير ذلك، وأن عيني هي التي خانتني؛ فلم تكن ريم إلى جانبه، وأن خيالي السابح في جو هذه الفتاة قد ألقى صورتها وأثوابها على امرأة أخرى من الفلاحات المنتظرات بالباب. كل هذا جائز، ولكن أين ذهبت ريم؟ ولماذا أتهم بصري ولا أتهم هذا الشيخ المخاتل؟ ومَن هو أولًا هذا الرجل؟
وصِحت فيه من فوري قائلًا: تعال يا رجل أنت!
– محسوبك.
– مَن أنت؟
فنظر إليَّ الرجل نظرة مَن لم يفهم السؤال؛ فألقيت عليه العبارة من جديد في شدة وقوة، فقال: أنا .. أنا عصفور، ألقط الحب فوق التراب، وأعبد الرب تحت التراب!»
– تكلم جد يا رجل. اسمك؟
– عصفور.
وأشار إلى يديه وفيهما القيود، وصاح: أطلقوني! مَن حب النبي يطلقني!
فأمرت العسكر بفك القيد من يديه، وسألته في صرامة: صنعتك؟
فتردد الشيخ قليلًا وسكت لحظة، ثم لفظ آهة من أعماق قلبه، ورجع برأسه إلى الوراء، وجمدت عيناه كأنهما تنظران إلى شيء لا وجود له في عالم الحس والحقيقة، ورفع عقيرته بالغناء:
فقاطعه المأمور صائحًا: مفهوم، مفهوم! واللي غرقت في الريَّاح من سنتين كانت البياض ولَّا البلطية؟!
فلم يجبه الشيخ ولم يلتفت إليه، ومضى يغني:
وتنهد في العبارة الأخيرة، واتخذ صوته فيها نبرة عجيبة ذات معنى ارتجفت له قليلًا، ونظرت من طرف خفي إلى المأمور؛ فرأيته قد اختلجت عيناه، ولكنه تجلد وتحامل، وقال للرجل: ومَن هم المراكبية؟!
فأطرق الرجل وصمت صمتًا عميقًا. ولست أدري أهو أيضًا خيال مني ما اعتراني من شعور بأن هذا الشيخ قد فهم، وأنه قد أدرك ما بنا منذ اللحظة الأولى.