١٦ أكتوبر
لم نستطع أن نعرف شيئًا من الشيخ عصفور، ولم نستطع كذلك أن نقبض عليه، فهو لم يرتكب أمرًا يقع تحت نصوص القانون؛ فأطلقناه، وخطر ببالنا أن نرفع في أثره أحد المخبرين؛ عسى أن نستكشف مخبأ الفتاة، ولكن أين هو المخبر السري الذي يخفَى على الشيخ عصفور؟ إنه يعرف كل رجال الحفظ معرفة أكيدة، وهو الذي قام معهم في الوقائع مئات المرات، وسهر معهم وأكل وشرب وغنَّى وأنشد، ودلهم على مخابئ الأسلحة، واقتفى معهم آثار المجرمين. إنه يكاد يُحسب من أسرة «البوليس». تركناه ينصرف في سلام. وقد اكتفى المأمور الحانق بأن شيعه إلى الباب بصفعة على قفاه شفى بها غليله، وانصرف بعد ذلك كلٌّ منا إلى شأنه: المأمور إلى ناديه، وأنا إلى منزلي حيث خلعت ملابسي، وخلوت إلى نفسي، وأخرجت كراسة يومياتي ألقي فيها هذا الكلام الذي لا أجد مَن أفضي به إليه في هذا الريف. إن القلم لنعمة لأمثالنا ممَّن كُتبت عليهم الوحدة، ولكن القلم كالجواد ينطلق أحيانًا من تلقاء نفسه كالطائر المرح، وأحيانًا يحرن ويثب على قدميه ويأبى أن يتقدَّم كأن في طريقه أفعى رافعة الرأس، وهو الساعة يهتز في يدي ويرفض ولا يطيعني كأن شيئًا يخيفه أو يقصيه عن مروج الأحلام، فنظرت إلى خزانة ملابسي الخشبية فإذا فأر أسود على رأسها واقفًا يقرض الخشب بأسنانه، فجعلت أنظر إليه علَّه يذهب، فلم يذهب، ومضت ساعة وهو مكانه وأنا في مكاني، كلانا له عمل من غير شك، وهو، فيما يبدو لي، لا يحفل بوجودي، ولكني أنا أحفل بوجوده؛ فزيارته في هذه الساعة شغلتني عن نفسي، وأخذت ألاحظه وهو يمسح رأسه وفمه بيديه الصغيرتين. وجلت أفكر في هذا المخلوق الذي لا يفكر فيَّ، وهنا كل الفرق بيني وبينه. وتركت هذا النجار الصغير ذا المنشار الدقيق، وحملت كتابي إلى سريري، وسدلت «الناموسية» عليَّ، وأحكمت ربط أطرافها حتى آمن فضول هذا الزائر إذا حدثته نفسه بمداعبة قدمي العارية. ولم أجد فائدة من «المصايد»؛ فإنها تكلفني عناء إعدادها وترقب نتيجتها. وليس أشق على النفس ولا أدعى إلى إضاعة الوقت من انتظار النتيجة، إذا كانت الفريسة حاضرة تحاورنا وتداورنا ولا تقع حتى تقع معها نفوسنا. وفوق ذلك فلكم قنصنا من الفيران، ومع ذلك لم تنقطع زيارتها، فلنتركها إذَن تجيء وتروح، ولنحمِّلها هذا الجميل، ولنحرص نحن على أنفسنا وحوائجنا. وأنا — ولله الحمد — ليس لي حوائج يُخشى عليها، غير هذا الأثاث الرخيص من الخشب الأبيض قد حطمته كثرة التنقلات من بلد إلى بلد. فماذا يضيره أن تعبث به أسنان صغيرة؟ ونمت في تلك الليلة بعد العشاء بقليل؛ فإن في اليوم التالي جلسة القاضي السريع، وقد كلفت مساعدي بحضورها على أن أحضرها معه إلى جواره كي أمرِّنه على نظام الجلسات، وما يتبع فيها من إجراءات. وجاء الصباح وذهبت إلى المحكمة، فوجدت مساعدي في غرفة المداولة متأبطًا مظروفًا به وسامه وهو في انتظار القاضي. ولم يلبث القاضي أن جاء في القطار القادم من القاهرة، وخلفه شعبان الحاجب. وهما يشتدان في الخطى، والقاضي يخرج من جيبه نقودًا يناولها للحاجب ويقول له: اللحم يكون فلاحي من قشرة بيت اللوح! واصحَ للبيض يا شعبان أفندي، والزبدة والجبنة على عهدتك. أوضع الحاجة في السلال «كويس»، وانتظرني بها على المحطة في قطر ١١ كالمعتاد، اطلع أنت السوق والأفندي المحضر يقوم بذلك العمل!
وانصرف الحاجب سريعًا، ودخل علينا القاضي وسلم في عَجَلة قائلًا: أظن ندخل الجلسة.
وصفق بيديه: يا أفندي يا محضر! حضر الجلسة … الجلسة.
وألقى بمعطفه التيل الأبيض السفري على كرسي، وأخرج وسامه الأحمر من محفظته ولبسه في الحال، وأقبل الفراش بالقهوة فشربها القاضي وهو واقف في جرعتين، وهجم على قاعة الجلسة ونحن في أعقابه، وصاح المحضر: محكمة!
ونظر القاضي في «الرول»، وقال: قضايا المخالفات. محمد عبد الرحيم الدنف، لم ينقِّ دودة القطن … غيابي خمسين قرش. تهامي السيد عنيبة، لم يقدم ابنه للتطعيم … غيابي خمسين … محمود محمد قنديل، أحرز بندقية بدون رخصة … غيابي خمسين والمصادرة. غيابي خمسين … غيابي خمسين …
وانطلق القاضي في الأحكام كالسهم لا يوقفه شيء، والمحضر ينادي مرة واحدة حتى يلاحق القاضي؛ فمَن لم يسمع النداء عُدَّ غائبًا، وحُكم عليه غيابيًّا. ومَن سمع بالمصادفة فحضر يجري ابتدره القاضي: أنت يا رجل تركت غنمك ترعى في زراعة جارك؟
– أصل الحكاية يا سعادة البك …
– ما عندناش وقت لسماع حكايات … حضوري خمسين. غيره. عبد الرحمن إبراهيم أبو أحمد … إلخ إلخ.
وانتهت المخالفات في مثل لمح البصر، وجاء دور قضايا الجنح، وفيها سماع شهود ومرافعة محامين، وهي تحتاج إلى شيء من الأناة. فأخرج القاضي ساعته ووضعها أمامه، وصاح في المحضر: بسرعة القضية الأولى.
فنادى المحضر: سالم عبد المجيد شقرف!
فنظر القاضي في الرول وعرف التهمة، والتفت إلى المتهم وهو لم يجتز بعدُ عتبة باب الجلسة، وصاح فيه: ضربت الحرمة؟ كلمة واحدة … قل من عندك!
– يا سعادة البك، فيه راجل يضرب حُرمَة؟!
– ممنوع الفلسفة. كلمة ورد غطاها. ضربت؟ نعم أو لا؟
– لأ.
فصاح القاضي في المحضر: نادِ الشاكية.
فحضرت الحرمة المضروبة تتعثر في «ملَسها» الأسود الطويل، فلم ينتظر القاضي حتى تدخل الجلسة، وصرخ فيها: ضربك؟
– أصل يا سيدي القاضي ربنا يخليك …
– مفيش أصل. ضرب ولَّا لأ؟ هي كلمة لا غير.
– ضرب.
– كفاية. (واستغنت المحكمة عن بقية الشهود). كلامك يا متهم.
فتنحنح المتهم وجعل يدافع عن نفسه، والقاضي مشغول عن سماعه بكتابة الحيثيات ومنطوق الحكم على الرول بالرصاص إلى أن فرغ، فرفع رأسه ونطق بالحكم دون أن ينظر إلى المتهم أو ينتظر بقية دفاعه: شهر مع الشغل.
– يا سعادة القاضي أنا عندي شهادة. لا ضربت ولا بطحت. الحكم ظلم. ظلم يا ناس.
– اخرس! اسحبه يا عسكري!
فسحبه العسكري بعيدًا. ونوديت القضية التالية. فحضر رجل هرم مقوَّس الظهر أبيض اللحية، يدب على عصًا، فابتدره القاضي: بددت القمح المحجوز عليه؟
– القمح قمحي يا سعادة القاضي، وأكلته أنا والعيال.
– معترف. حضوري، حبس شهر مع الشغل.
– شهر! يا مسلمين! القمح قمحي. زراعتي … مالي.
فسحبه العسكري وهو ينظر بعينين زائغتين إلى الحاضرين كأنما هو لا يصدق أن الحكم الذي سمع حقيقي. إن أذنه، لا شك، قد خانته، وإن اليقين عند الناس الحاضرين. فهو لم يسرق قمح أحد، لقد جاءه المحضر حقيقة؛ فحجز قمحه وعيَّنه حارسًا عليه حتى يسدد مال الحكومة، ولكن الجوع اشتد به وبعياله فأكل قمحه، فمن ذا الذي يعده سارقًا ويعاقبه عقاب السارق؟ إن هذا الشيخ لا يمكن أن يفهم هذا القانون الذي يسميه لصًّا؛ لأنه أكل زراعته وثمرة غرسه. إن هذه الجرائم التي اخترعها القانون اختراعًا ليحمي بها مال الحكومة أو مال الدائنين ليست في نظر الفلاح جرائم طبيعية يحسها بغريزته الساذجة. إنه يعرف أن الضرب جريمة، والقتل جريمة، والسرقة جريمة؛ لأن في ذلك اعتداءً ظاهرًا على الغير، وأن الرذيلة الخلقية فيها بديهية جلية، ولكن التبديد … كيف يفهم أركانه وحدوده؟ إنما هو جريمة قانونية يظل يتحمل وزرها دون أن يؤمن بوجودها، وأسلم الشيخ أمره لخالقه. وتسلمه الحراس وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله.» ونوديت القضية التالية، ولم يكد المحضر يلفظ اسم المتهم حتى كان القاضي قد وزن «الدوسيه» في يده فوجده ثقيلًا والشهود كثيرين، ونظر إلى ساعته، ثم نظر إلى منصة المحامي، فلم يجد مع هذا المتهم محاميًا، فعلمت أنه يريد أن يؤجل القضية ولم يخب ظني، فقد التفت إلى النيابة قائلًا: النيابة طالبة التأجيل؟
فنظر مساعدي إليَّ مرتبكًا، فأسرعت قائلًا: بالعكس؛ النيابة تعارض في التأجيل.
فأخفى القاضي امتعاضه وقال في شبه همس: ننظرها والسلام. هات الشهود.
غير أن القاضي ذكر أن هذه القضية إنما هي قضية «معارضة» في حكم غيابي سبق فيها. وينبغي أن تقدم المعارضة في خلال ثلاثة أيام. فقرأ في الحال التواريخ، وصاح من فوره في المتهم متنفسًا الصعداء: القضية مرفوضة شكلًا يا حضرة المتهم؛ لأن المعارضة تقدمت بعد الميعاد.
فلم يفهم الفلاح ذو «العري» هذا الكلام. وقال: والعمل إيه يا حضرة القاضي؟
– العمل أن الحكم السابق بحبسك يُنفذ عليك. احجزه يا عسكري.
– الحبس بالزور يا حضرة القاضي؟ أنا مظلوم. لا قاضي سمع كلامي، ولا حاكم طلب سؤالي لحد الساعة!
– اخرس! معارضتك يا رجل بعد الميعاد!
– وما له؟
– القانون يا رجل محدد ثلاثة أيام.
– أنا يا سيدي القاضي غلبان. لا أعرف أقرأ ولا أكتب. ومَن يفهمني القانون ويقريني المواعيد؟
– يظهر أني طوِّلت بالي عليك أكثر من اللازم. أنت يا بهيم مفروض فيك العلم بالقانون. احجزه يا عسكري!
ووضع الرجل بين المحجوزين وهو يلتفت يمنة ويسرة إلى من حواليه؛ ليرى أهو وحده الذي لم يفهم!
وجعلت أتأمل لحظةً سحنة هذا المخلوق الذي يفترضون فيه العلم بقانون «نابليون»!
وانتهت الجلسة آخر الأمر. ووثب القاضي ناهضًا وعاد إلى حجرة المداولة، وخلع وسامه على عجل؛ فإن قطار العودة لم يبق على قيامه غير سبع دقائق. ولكن القاضي تعوَّد الركوب في آخر لحظة، فهو في إسراعه لم يفقد ثباته الداخلي ولا اطمئنانه، وتناول معطفه الأبيض ووضعه على ذراعه وسلَّم علينا، وانصرف إلى المحطة في شبه ركض. وإذا كاتب النيابة يدخل مسرعًا ببعض الملفات وخلفه العسكري يسحب مسجونًا والكاتب يصيح: القاضي مشى؟ عندنا معارضة في أمر حبس معروضة على حضرة القاضي.
فقلت له في الحال: الحق القاضي على المحطة قبل ما يركب.
فصاح الكاتب في العسكري: هات المسجون يا شاويش واطلع على المحطة.
وهرول الجميع؛ الكاتب والجاويش والمسجون في ذيل حارسه مربوطًا في السلسلة كأنه كلب. وجروا كلهم خلف القاضي الراكض. هذا منظر مألوف لأهل البلد في يوم هذه الجلسة؛ فإن المعارضات المتأخرة والتجديد لأوامر الحبس تُنظر وتُمضى في «بوفيه» المحطة قبل قيام القطار بدقيقتين. ويتحرك القطار وقدَم القاضي ما زالت على الرصيف والأخرى في العربة الأخيرة وهو يقول: رفض المعارضة واستمرار حبس المتهم.
فيدوِّن الكاتب منطوق هذا الحكم فوق «رخامة» مائدة البوفيه بينما يتسلم القاضي من شعبان الراكض خلف القطار المتحرك «سلالي» البيض والزبد واللحم، والحاجب يصيح بأعلى صوته: اللحم يا بك من بيت اللوح وبيت الكلاوي!
وصعدت بعد الجلسة إلى مكتبي أنا ومساعدي وقد بدا الوجوم على وجه المساعد؛ فقد كان يحسب أن النيابة ستقوم في كل قضية تشرح وجهة نظرها في الاتهام. ولقد كان أعد لذلك مرافعات طويلة مكتوبة بخط واضح جميل على «أفراخ فلوسكاب» مسطرة، فإذا هو يخرج بها من الجلسة مطوية كما دخل بها وإذا الأحكام قد انطلقت انطلاق القطار في بساطة وسرعة، والعدالة قد جرت مجراها في طرفة عين كأنها جواد السباق من دون حاجة إلى هذا التحليل والشرح والاستشهاد والاستدلال الذي سهر لياليه ليحشو به هذه الأوراق.
وخلوت أخيرًا في مكتبي. ودخل عليَّ رئيس القلم الجنائي ببريد النيابة، وفتح مظاريفه أمامي كالمعتاد في كل صباح، وما كدنا نفض غلافًا أو غلافين حتى سمعنا ضجيجًا خارج الحجرة، وصوتًا مدوِّيًا عرفت فيه صوت الشيخ عصفور، فبعثت مَن يسأله عن خبره، فقيل لي: «إن المركز أرسله اليوم مقبوضًا عليه بعد أن حرر له محضر تشرد.» فأدركت أن المأمور ما زال يعتقد أن هذا الشيخ هو الذي خطف البنت، وأن حقده عليه ما زال متأججًا، وأنه لجأ إلى وسائل الإدارة ليوقع به. إن فكرة اتهام الشيخ عصفور بالتشرد فكرة نيرة لا يمكن أن تخطر إلا بذهن المأمور المغيظ. والحقيقة أن هذا الشيخ متشرد لا أكثر ولا أقل. وهو من هذه الناحية يصلح فريسة لنصوص القانون التي بين أيدينا. ولكن العجيب أن يسكت عنه المركز كل تلك الأعوام التي مضت، ولا يفطن إلى أمر صناعته إلا الساعة. إن هذه الوسيلة لم تعجبني كثيرًا ولم ترضِ ضميري القضائي؛ فإن نصوص القانون لا ينبغي أن تكون أسلحة في أيدينا نضرب بها على مَن نريد ضربه في الوقت الذي نختاره. إن القبض على الشيخ عصفور اليوم هو من غير شك مسألة انتقامية. إن المأمور وقد رأى الرجل يفلت من تهمة خطف الفتاة دبر وفكر في طريق آخر لا يستطيع منه الإفلات. هذا أسلوب الإدارة الذي لا يحسن أن يسلكه رجال القضاء، وعزمت في نفسي أن أفرج عن الرجل، ولكني أرجأت النظر في أمره حتى أفرغ من «توريد البوستة» التي أمامي، فلقد قدم لي عبد الصبور أفندي مظروفًا أصفر ضخمًا علمت أن فيه «قضايا جنايات» مرسلة إلينا من الرياسة لدرسها، والمرافعة فيها أمام محكمة الجنايات المنعقدة في هذا الشهر في عاصمة المديرية التي نعمل في دائرتها. فألقيت نظرة على هذه القضايا فوجدتها تحوي مئات الصفحات. وهل لي رأس يتسع الآن لكل هذا؟ لا شيء ينفرني من عمل النيابة غير المرافعة في قضايا الجنايات؛ فإن من العسير على ذاكرتي الضعيفة أن تحيط بكل تلك التفاصيل التي تتكون منها الجريمة؛ كي تبسطها بعد ذلك في نظام وترتيب وهدوء أمام مستشارين ثلاثة عابسين، ومحامين متربصين، وجمهور يشاهد ويحكم لا على لب الموضوع، بل على مدى إتقان الحركات والإشارات، ورنين الصوت في القاعة، ومهارة الإلقاء والضرب باليد فوق المنصة. إني بطبعي لا أصلح إلا لملاحظة الناس خفية يتحركون فوق مسرح الحياة، لا أن يشاهدني الناس ممثلًا بارعًا قد سُلطت على وجهه الأضواء، إن هذه المواقف تعمي بصري، وتُذهب لبي، وتطيِّر ما في ذاكرتي، وتفقدني ذلك الهدوء النفسي الذي أرى به أعماق الأشياء؛ لذلك ما ترددت، وأمرت بإحالة هذه القضايا على المساعد، فهو ما زال في تلك السن التي يُبهر فيها الإنسان ويُعجب بهذه المواقف والمظاهر؛ وقد يكون له من حسن الاستعداد لهذا العمل ما يجب عليَّ أن أوجهه إليه. وإني فوق ذلك أتيح له فرصة الإقامة أيامًا في عاصمة المديرية، حيث يجد في ملاهيها ومشاربها ما يرفه عنه، ويلطف من أثر الوحدة والضيق في هذا الريف الصامت. وأعجبتني هذه الحجج، ورأيتها كافية لإقناعي بوجوب إزاحة هذه القضايا الثقيلة عن كاهلي. وناولني رئيس القلم الجنائي بعد ذلك مظروفًا آخر صغيرًا قرأت عليه بالحبر الأحمر كلمة «سرِّي» فقلت في نفسي: «تلك ملحوظة من النائب العام.» فأسرعت بفضه، فإذا هو بلاغ من مجهول أُرسل إلى النائب العمومي رأسًا في القاهرة، فأحاله عليَّ لإجراء اللازم فيه، فنَشرته في يدي وقرأته بإمعان، ولم آتِ على آخر حتى كان قد استولى عليَّ العجب، وأطرقت لحظة أفكر، ثم أعدت النظر فيه، وتمهَّلت في قراءة سطوره هذه:
«سعادة النائب العمومي بمصر، دام …
نعرفكم بأن الحرمة زوجة قمر الدولة علوان المضروب الموجود ﺑ «الاسبتالية الميري» كانت ماتت من سنتين مخنوقة، وتسَتَّر عليها حلاق الصحة من أجل الرشوة، وأجرى دفنها بدون علم الحكومة. واسألوا زوجها علوان وأختها البنت ريم عن الذي خنقها. وأسباب الجريمة معلومة ولا تخفى على فطنتكم إذا كلفتم خاطركم بالتحقيق بنفسكم، وإنكم تكشفون أسرارًا خطيرة وتضربون على أيدي الأشرار، و«توضعون» العدل في مجراه. والعدل أساس الملك. وقد قال الله عز وجل في كتابه العزيز: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ صدق الله العظيم.