١٧ أكتوبر
فكرت مليًّا في أمر ذلك الخطاب، مَن تُرى يكون مرسله المجهول؟ الأسلوب ينم عن أن صاحبه أزهري فسد. هذه الآية القرآنية وهذا التوزيع لا يصدر إلا عن الصنف الذي يستغل علمه القليل وجهل الناس المطبق في الريف، فيعيش على تحرير البلاغات المأجورة، وبذر الشقاق بين الأُسر والأفراد. ولكن في هذا الخطاب على أي حال وقائع تستدعي التحقيق. ولو صح ما جاء فيه من أن زوجة قمر الدولة قُتلت خنقًا؛ لخرجنا من الأمر بجناية تمخَّضت عن جناية! لا يهمنا الآن البحث عن صاحب الخطاب بقدر ما يهمنا التأكيد من صحة الاتهام. لا بد من فتح المقبرة واستخراج جثة زوجة المصاب وعرضها على الطبيب الشرعي. وقد اتجه تفكيري كله هذا الاتجاه؛ فلم أشغل ذهني بما ورد عن ريم في هذا البلاغ، وما يمكن أن يلحقها من شر؛ ذلك أن كل شيء مترتب على نتيجة فحص الجثة. وكنت قد بادرت فأخطرت الطبيب الشرعي ببرقية، وقمت بما يلزم من إجراءات لفتح المقبرة، فعينت عليها الحراس يسهرون الليل بجوارها؛ حتى لا يعبث بها عابث. وأرسلت في طلب «اللحَّاد»، وكنت قد اتصلت تليفونيًّا بالمركز عقب قراءتي ذلك الخطاب لأخطر المأمور، فقيل لي إن المأمور ركب ومضى إلى اجتماع خطير معقود في المديرية برياسة المدير. وحضر إليَّ للفور المعاون يقول: سعادتك اطلعت طبعًا على جرائد المساء؟
– أبدًا!
– في البلد أزمة وزارية.
فأدركت في الحال سر اجتماع المديرية، وعلمت أن رجال الإدارة منذ الساعة لن يكون لهم عقل ولا فكر في غير تنسُّم هوى الوزارة الجديدة، حتى يعدُّوا أنفسهم للميل معها كما مالوا مع غيرها. وهذا الميل يبدو أكثر ما يبدو في التجهم السريع للعُمَد والأعيان الموالين للوزارة الآفلة، والابتسام الوديع لأنصار الوزارة المقبلة. ولم أبدِ أيَّة ملاحظة للمعاون، فأنا رجل قضاء لا ينبغي لي الكلام في السياسة، ومهما تغيَّرت الوزارات والأحزاب، فإن القانون هو القانون. والتفت إليه أخيرًا وقلت في هدوء: أظن حضرتك تقوم معنا بدل المأمور.
– الظروف الحالية تمنعني من ترك المركز. لكن ملاحظ النقطة موجود هنا في خدمة سعادتك.
فتركته ينصرف إلى مركزه، وأمرت بإعداد السيارة، وجلست أنتظر الطبيب الشرعي وقد أجاب على برقيتنا بإشارة تليفونية أنه حاضر اليوم. ودخل عليَّ عبد المقصود أفندي وأشار بيده إلى «النتيجة» المعلقة بالحائط، وذكَّرني بضرورة تفتيش سجن المركز، فالنيابة عليها أن تقوم بهذا التفتيش فجأة مرتين في كل شهر على الأقل. فلم ألتفت إليه، وأمرته أن يذكِّرني فيما بعد؛ فمشى خطوتين ثم عاد وغمز بعينيه: فيه إشاعة أن الوزارة الجديدة تألفت وناوية تُجري انتخابات جديدة.
– وما له؟
– غرضي يعني … قبل سجن المركز ما يزدحم.
فلم أنبس بكلمة، وتشاغلت بتقليب أوراق القضية التي نقوم من أجلها، ورأى رئيس القلم الجنائي أني لن أجيب فانصرف مترددًا متباطئًا. وأدركت من هيئته أنه لم يأتِ من تلقاء نفسه؛ فناديته فرجع، فقلت له في ابتسامة التخابث: كاتب ضبط المركز كلمك في التليفون؟
فأجاب للفور: طبعًا ودفاتر السجن مسدَّدة جاهزة، ومحضر التفتيش مكتوب. وكل شيء تمام، ولا باقي غير إمضاء سعادتك، والحكاية كلها قيمة ربع ساعة ونكون انتهينا من مأمورية تفتيش السجن.
فنظرت إليه شزرًا: شيء جميل! تفتيش فجائي مضبوط يا عبد المقصود أفندي؟
فارتبك الرجل قليلًا ثم قال: أنا غرضي راحة سعادتك من جهة، وعدم إحراج المركز في الظروف الحاضرة من جهة أخرى.
– طيب، طيب.
وأسرعت فأقفلت باب الموضوع؛ فقد سمعت نقرًا على باب حجرتي، وأبصرت من خلفه الطبيب الشرعي بحقيبته الصغيرة يستأذن في الدخول، فنهضت في الحال، واتجهت إليه، وأدخلته مرحبًا، وطلبت له فنجانًا من القهوة، ثم تجاذبنا الحديث في الأحوال العامة. فأخبرني باختصار ما سبق أن علِمته من عبد المقصود أفندي من أن الوزارة الجديدة قد تسلمت فعلًا مقاليد الأمر، وأنها تعد العدة لانتخابات جديدة. ولم نعلق على هذه الأخبار بشيء؛ فكلانا يجهل ميول الآخر. كلانا يخشى أن يظهر رأيه الدفين. وبدأنا لوقتنا الكلام في العمل وفي القضية التي بين أيدينا، وأخبرت الطبيب بظروفها في عبارات سريعة، واستقر الرأي على المبادرة بالانتقال إلى المقبرة، فقمنا إلى السيارة وانطلقنا ولم نقف حتى بلغنا مكانًا قصيًّا في المزارع قد تجمعت فيه تحت ظل نخلتين أو ثلاث بضعُ مقابر من الطين والآجر قد علتها «شواهد» طويلة سمراء كأنها رءوس العفاريت فنزلنا. وهُرع لاستقبالنا الحراس. هبوا فجأة من مراقدهم لمرآنا وخرجوا علينا، بعضهم يهبط من أعالي «مرتبة» قد وضعت فوق المقبرة كما يوضع الهودج فوق الناقة؛ وبعضهم يثب من على حصير فُرش بين يدَي هذه المقبرة كأنهم قردة تثب من حجر أمها، وسألت عن حضرة ملاحظ النقطة، فأشاروا إلى الطريق الزراعي، فرأيت فتًى في ملابسه العسكرية يقبل متبخترًا على حصانه الأشهب. ولم تمضِ لحظة حتى بدأنا العمل، فأمرنا اللحَّاد بفتح المقبرة فأعمل في الحال فأسه ومِعوَله في البناء الذي يخفي المدخل. وسألني الطبيب الشرعي عمَّا إذا كنا استدعينا أحدًا من أهل المتوفاة يستطيع أن يتعرف على الجثة وكفنها؛ فأجبته إنا لا نعرف للمتوفاة غير أخت قد هربت واختفت. فاقترح إيفاد الملاحظ إلى القرية يحضر لنا امرأة من الجيران ممَّن حضروا غسلها أو دفنها. فقام الملاحظ للفور لما انتُدب له، وأمعن اللحَّاد في الدق والهدم حتى جرح صدر المقبرة جرحًا بالغًا، وقام عنها وهو يقول: الباب من غير مؤاخذة من ورا …
وتناول أدواته وذهب إلى الناحية الأخرى، وجعل يوسعها ضربًا وطرقًا، فصاح به الطبيب الشرعي: هي دي يا راجل انت مقبرة توت عنخ آمون؟ تغلط في المدخل وانت لحَّاد الناحية؟!
– أصل يا حضرة الدكتور مضى عليها زمن مقفلة.
وضرب ضربتين انفتح تحتهما المدخل، وزحف الرجل على يديه وقدميه إلى داخل المقبرة، وخرج يجذب شيئًا ملفوفًا في «قماش» لا لون له من القدَم تكاد أطرافه تتفتت في أصابعه، ووضعه تحت أنظارنا وهو يقول: شوفوا هي دي «بلا قافية» الحرمة؟
فكشف الطبيب الشرعي عن تلك العظام النخرة، ونظر فيها ثم قال للحَّاد: ارجع بها يا حمار. دي جثة رجل.
– راجل؟!
واختفى اللحَّاد بالجثة في قلب المقبرة، وعاد، فظهر بجثة أخرى ما كاد يفحصها الطبيب حتى وجدها هي كذلك جثة رجل. وهكذا ظل يعرض علينا الجثث التي وقعت عليها يده؛ فإذا كلها لرجال. فصاح اللحَّاد مغيظًا: أمال النسوان راحت فين يا رجالة؟
فقال له الطبيب في هدوء: حضرتك بالاختصار غلطت في المقبرة.
ثم نظر إلى المقبرة التي بجوارها وقال: افتح دي.
فذهب اللحَّاد بأدواته حيث أشار إليه الطبيب، بينما أنزل الحراس «متاعهم» من فوق المقبرة الأولى وهم يتهامسون!
– بقى كنا راكبين غلط!
وفتحت المقبرة الثانية. وما كاد اللحَّاد يزحف إليها ويختفي فيها حتى ظهر الملاحظ عائدًا، وخلفه امرأة تخفي وجهها بطرف طرحتها السوداء وترفع عقيرتها مُوَلوِلة: ياللي كنتِ منورة الحارة!
فسد الملاحظ فمها في الحال منتهرًا.
– اخرسي يا ولية.
واقترب الطبيب الشرعي من المرأة وحادثها، فعلم منها أنها كانت جارة للمتوفاة، وأنها حضرت جهازها.
– اسمعي يا ستي. الميِّتة كفنوها قدامك؟
فتنهدت المرأة وقالت: قدامي يا سيدي، وبقيت بعيد عنك ألطم وارقع بالصوت.
– المهم عندنا مش اللطم، كفنوها في كام «درج»؟
– في عين العدو تلات «أدراج»؛ درج مرمر، ودرج كزمير، ودرج حرير أخضر.
وخرج اللحاد وقتئذٍ يجذب من داخل المقبرة جثة فحص الطبيب كفنها وقد ذهب لونه بفعل الزمن؛ إلا بقية اخضرار خفيف في أطراف ينم عن حقيقة لونه الغابر، فأمر من الفور بحمل الجثة ووضعها على «لوحين» من الخشب نُصبا سريعًا على هيئة مشرحة تحت ظلال شجرة من السنط، وطلب إبعاد الحاضرين فرفع الملاحظ عصاه الخيزران الرفيعة في يده، وفرق الناس صائحًا: بعيد … بعيد.
وكشف الطبيب الكفن في احتياط. وما كاد الهيكل العظمي المسجى يظهر للعيان حتى سمعت خلفي همسًا وهمهمة، فاستدرت، فأبصرت سائق السيارة مختفيًا خلف جذع الشجرة شاحب الوجه بارز العينين يشاهد هذا المنظر، ولا يملك نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون!
ولمحه الطبيب فانتهره وأمره بالابتعاد. وصِحت أنا كذلك في السائق صيحة انصرف بعدها إلى سيارته وقبع فيها، غير أني تأملت قليلًا أمر السائق، ما الذي روَّعه؟ أهو منظر العظام في ذاتها، أم فكرة الموت الممثلة فيها، أم المصير الآدمي وقد رآه أمامه رأي العين؟ ولماذا لم يعد منظر الجثث أو العظام يؤثر في مثلي وفي مثل الطبيب، وحتى في مثل اللحَّاد أو الحراس هذا التأثير؟ يُخيل إليَّ أن هذه الجثث والعظام قد فقدت لدينا ما فيها من رموز؛ فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجر. إنها أشياء تتداولها أيدينا في عملنا اليومي. لقد انفصل عنها ذلك «الرمز» الذي هو كل قوتها. نعم. وماذا يبقى من كل تلك الأشياء العظيمة المقدسة التي لها في حياتنا البشرية كل الخطر لو نزعنا عنها ذلك «الرمز»؟ أيبقى منها أمام أبصارنا اللاهية غير المكترثة غير جسم مادي؛ حجر أو عظم لا يساوي شيئًا ولا يعني شيئًا؟ ما مصير البشرية وما قيمتها لو ذهب عنها «الرمز»؟ «الرمز» هو ذاته كائن لا وجود له. هو لا شيء، وهو مع ذلك كل شيء في حياتنا الآدمية. هذا «اللاشيء» الذي نشيد عليه حياتنا هو كل ما نملك من سمو نختال به ونمتاز على غيرنا من المخلوقات. هنا كل الفرق بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا.
وقطع الطبيب سلسلة تفكيري بمقص طبي في يده ذات القفاز الجلدي الشفاف يفحص به العظام قائلًا: امرأة من غير شك.
ومضى في عمله وهو يقول: الأضلاع سليمة، والجمجمة؛ الطاسة سليمة، والعظم اللامي ...
وهنا نظرت إليه في انتباه، فالعظم اللامي في العنق هو الدليل الناطق على حدوث جريمة، فإن كسره معناه أن الخنق قد وقع، وإن كل ما يهمنا في الحقيقة من استخراج الجثة والكشف عنها هو فحص العظم اللامي والتحقق من سلامته. ولم يمهلني الطبيب حتى أسأله، وصاح وهو يريني هذا العظم بين أصابعه: مكسور.
هذه الكلمة كانت كافية لتحديد موقفي من الأمر. إن ما جاء في البلاغ المجهول المصدر حقيقي إذَن. وماذا أنتظر بعد ذلك؟ وصِحت في الطبيب: انتهينا.
وعزمت على العودة مسرعًا للبدء في تدبير ما ينبغي للوصول إلى معرفة سر هذه القضية الجديدة، فهي، من دون ريب، مفتاح الأولى. وفرغ الطبيب الشرعي من أمر الجثة، وأعادها اللحَّاد أمامنا إلى مقرها، وسد عليها كما كانت. وأنا صامت في مكاني أفكر فيمَن يكون الخانق لهذه المرأة. أهو زوجها المصاب؟ وما الذي حمله على ذلك؟ وأختها ريم ما شأنها في الأمر؟ أتُراها تعلم بهذه الجريمة؟ وأين ريم الآن؟ إن وجودها اليوم في التحقيق ذو أهمية كبرى، ولكن كيف نعثر عليها؟ إن الشيخ عصفور يعلم مقرها، أو على الأقل يستطيع أن يعاوننا في البحث عنها. إذَن فلنجعل الشيخ عصفور مبدأً لخط السير الجديد، فلأقنعه أنا إذَن بوسائلي بعيدًا عن طرق الإدارة العنيفة. إن مثله قد يؤخذ بالحيلة والهدوء. تُرى لو أفهمته مثلًا أن في إمكاني أن أزوجها منه! وأعجبتني الفكرة وعزمت على تنفيذها، وركبنا السيارة عائدين، ومررنا في طريقنا بالقرية؛ فإذا أصوات حزن وولولة نساء ترتفع من «دوار» العمدة فقلت وأنا أوقف السائق بإشارة: العمدة مات؟
وأطللت من نافذة السيارة؛ فإذا أنا أمام منظر لم أفهمه أول الأمر. ورأيت شيخ الخفر ووكيله وبعض الخفراء يحملون شيئًا في أيديهم، ومن حولهم جموع الرجال والنساء والصبيان يهللون ويكبرون، والنساء يزغردن كما يفعلن في الأفراح، وفي أيديهن الدفوف يضربن عليها. وتأملت جيدًا ما يحملونه، وتأمَّل معي الطبيب الشرعي دهشًا، فرأينا آلة تليفون حكومية من طراز تليفونات المراكز؛ فصاح الطبيب في عجب: التليفون له زفة كأنها زفة عروسة!
ومر بقربنا خفير نظامي، فأشرت إليه، فاقترب وسألته عن الخبر، فأجابني أنه قد صدر اليوم أمر برفت العمدة الحالي، وتعيين آخر مكانه من الأسرة المنافسة في القرية. ففهمنا كل شيء، ومال عليَّ الطبيب يقول ضاحكًا: يظهر أن تليفون الحكومة عند العمدة في مقام الصولجان.
هذا صحيح فيما أرى. إنه مظهر السلطة والحكم وأداة الاتصال بالحكومة. وإن خلعه من دار العمدة «المخلوع» إنما هو «رمز» زوال السلطة، وإن هذا العويل المرتفع من «دوار» العمدة القديم، وهذا البكاء الذي يشيع به التليفون الخارج من بيته لدليل على فداحة المصيبة، وهذه المصيبة ككل مصيبة لها وجهها الآخر الباسم يطل على ناحية أخرى، وإن دار العمدة الجديد الذي يستقبل التليفون الداخل عليه بالزغاريد والدفوف لدليل أيضًا على مبلغ السعادة والهناء. هنا «الرمز» كذلك في شكل «تليفون» من الصلب والخشب قد لعب دورًا مهمًّا على مسرح هذه القرية الوادعة.
وانطلقت بنا السيارة والطبيب صامت في بعض الطريق. وأخيرًا التفت إليَّ وقال: يظهر أن العمدة الجديد من محاسيب الوزارة الجديدة.
فقلت له: إن هذه القرية، ككل قرية اليوم في مصر؛ بها عائلتان قويتان أو أكثر تتنافس في العُمُدية، وكلٌّ منها ينتمي إلى حزب من الأحزاب التي تتنازع الحكم، ولماذا تريد أن يكون الحال في القرية غيره في الدولة؟ وهل القرية إلا مصغر الدولة؟