١٩ أكتوبر
رأيت أن الطريق الوحيد بعد ذلك أن أبحث عن ذلك الخاطب الذي كان قد تقدم للبنت ريم. ولكن كيف نستدل عليه ونحن لا نعرف حتى اسمه؟! فلنطلب إذَن إلى المركز أن يأتي إلينا بأحد الجيران، لعله يعرف الخاطب. وليكن الجار امرأة؛ فإن المرأة بطبعها فضولية ثرثارة. فما من جارة لا تعرف أسماء الخاطبين والمخطوبات في الحارة، ولكن هل أستطيع الآن أن أكلف المركز بإحضار شاهد أو بالبحث عن مجرم؟ إن السياسة وحدها هي كل شيء اليوم في المركز، ولن أجد خفيرًا يلقي بالًا إلى أوامري الساعة. فلنتصل نحن، مباشرة، بالقرية ونطلب إلى النقطة أن ترسل إلينا المرأة المطلوبة. وأمرت في الحال حاجبي، فتقدم إلى آلة التليفون وأمسك بالبوق، وجعل يصيح أكثر من ربع ساعة: يا نقطة! يا نقطة! ردي عليَّ يا نقطة! البك الوكيل جنبي يا نقطة!
ولكن النقطة غضت طرفها الناعس عنا، ولم تكلف نفسها عناء الرد علينا، واشتد غيظ الحاجب، وجعلت يده تحرك جرس التليفون بقوة كادت تخلعه. وهو من تليفونات المركز التي لا توصل الكلام بين المتكلم والمخاطب، حتى ينقطع نفَس الاثنين من كثرة الصياح، وحتى ينقطع حبل الحديث مائة مرة ومرة تشتبك خلالها حبال أحاديث أخرى من بلاد أخرى ومن مصالح مختلفة. فبينما يدور الكلام حول إرسال متهم، إذا صوت يجيب في مسألة متعلقة بتفتيش الري، وبالفتحات ونوبات الترع، وإذا آخر يتكلم في أنفار القُرعة، ويطلب طلبات في لهجة الأمر والنهي. على أننا اليوم لا نلقى ردًّا على الإطلاق، ويد الجرس في يد الحاجب لا يقف لها دوران، كأنه يدير طاحونة بن. ولا ينفك يصيح تارة مهددًا، وتارة متوسلًا: أنا في عرضك يا نقطة! كلمة واحدة يا نقطة! إخص عليك يا نقطة! ردِّي عليَّ يا …
فما تمالكتُ أن صِحت فيه: شيء لطيف! أنا قلت لك اطلب النقطة، مش غازل النقطة!
– يظهر يا سعادة البك أن النقطة خالية من حضرة الملاحظ والبلوكامين والكل كليلة.
– النقطة خالية!
– أيام الانتخابات يا سعادة البك.
– والعمل؟
– نتصل بدار العمدة ونطلب النفر والحُرمة.
– اتصل.
واستطعنا آخر الأمر أن نظفر بحضور الحرمة الجارة مع «مخصوص»، وكان ميعاد غذائي قد حان، وكان قد أجهدني العمل المعتاد بالمكتب، أعني تحقيق التزويرات، وقضايا الربا الفاحش، والتلبس الوارد من المركز من «إيراد» اليوم، وأكثره الآن محاضر «تشرد» ضد الأهالي غير الموالين للحكومة القائمة. وما أسهل هذا السلاح وما أقواه في يد رجال الإدارة، فإن كل نجل كريم من أنجال الأعيان يمكن اتهامه بأنه لا يحترف صناعة، ويمكن بذلك القبض عليه وحبسه أربعة أيام بإذن النيابة، لحين التحري عنه وطلب صحيفة سوابقه من مصر. وأين وكيل النيابة الذي يعارض المركز اليوم في إصدار أوامر الحبس؟ وقمت للغداء بعد أن أصدرت من هذه ما شاء الله والمركز. وعدت بعد الظهر لسؤال المرأة، فتكلمت كلامًا كثيرًا لم أخرج منه إلا أن الفتى الخاطب يُدعى «حسين»، وهو ليس من أهالي البلدة، بل من بلدة مجاورة.
– اسمه حسين إيه يا ولية؟ فيه ألف حسين في البلد، لقبه إيه؟
– ما اعرفش نقبه يا سيدي. البنت قالت اسمه «حسين»، وأنا ما لي بقى أسأل عن أصله وفصله. أنا حرمة غلبانة في حالي، بعيد عنك ما أكره عليَّ إلا كتر الكلام. أنا طول عمري يا سيدي في الحارة ما أحشر نفسي في كلام ولا في سؤال. وأنا مالي، قالوا يا داخل بين البصلة وقشرتها …
– اسكتي قلبتِ دماغي في الفارغ، داهية تقلب دماغ اللي طلبك. يعني لو عرضنا عليكِ الولد تعرفيه؟
– أعرفه يا سيدي. يا ندامة! وأنا بقى خلاص اتعميت، أنا كنت اسم الله على مقامك …
– كفاية! إنتِ واحدة، ولله الحمد، لا تحبي كتر الكلام ولا …
– كتر الكلام … أبدًا وحياة شرفك! أنا بعيد عنك من يوم …
– بس!
وناديت الحاجب، وأمرته بإخراج المرأة وإجلاسها في الدهليز بجواره تنتظر حتى تُطلب. وكلفته بمخابرة البلدة التي فيها الفتى ليحضروا الفتيان الذين يُسمون فيها اسم «حسين» ممَّن تنطبق أحوالهم وأوصافهم على ما لدينا من المعلومات. وجلست أنتظر ساعة وأنا أفكر في قيمة هذا العرض «القانوني». إني لا أثق كثيرًا بفراسة هؤلاء النسوة. وما زلت أذكر قضية قتل أتينا فيها بزوجة القتيل، وعرضنا عليها المتهم بين أشخاص آخرين جئنا بهم عفوًا من قاعة الجلسة المدنية المنعقدة في صباح اليوم، وكان من بين هؤلاء شخص منكود الطالع، أتى يحمل مستندات شركته في جاموسة ويسمع الحكم على خصمه بالطلبات. فإذا هو يجد نفسه قد زُجَّ بين الأنفار الذين أُخذوا من قاعة الجلسة ليقفوا في صف طويل في قاعة النيابة، وقد أخرج عليهم وكيل النيابة امرأة شمطاء، أمرها أن تبرز القاتل من بينهم. فتفرست المرأة الوجوه وهي تدق صدرها وتدعو بالويل على قاتل زوجها، ودنت من القاتل الحقيقي ومرت عليه مر الكرام، ووصلت إلى ذلك المسكين صاحب المستندات الذي ليس له في الثور ولا في الطحين، فلكمته في صدره لكمة كادت ترديه، و«رقعت» بالصوت: غريمي!
فارتجَّ على الرجل وقد فوجئ، ثم تمالك وقال: يا ستي أنا أعرفك؟
فلم تسمع إليه المرأة ومضت تولول: غريمي! دمي! غريمي …
والتفت إليَّ الرجل كالمستجير: يا سيدي البك، أنهضني. أنا عمري لا شفتها ولا قابلتها.
فقام وكيل النيابة، وهو أنا، ولا فخر، بأسئلته «التجارية» المحفوظة عن ظهر قلب، المعتبرة من «روتين» العمل، التي إذا لم تُسأل أحصتها الرياسة علينا هفوة، وإن لم يكن هناك محل لتوجيهها. أسئلة سخيفة لا تعني شيئًا في ذاتها، ولكن القضاء يعتبرها محرجة مضيقة على خناق المجرم: بينك وبينها ضغائن؟
– أبدًا يا سيدي ولا أعرفها.
فتمهلت قليلًا لكي ألقي ذلك السؤال الذي يلقيه كل وكيل نيابة وكل قاضٍ في ثقة واطمئنان كأنما يلقي يده على الدليل المبين: إذَن ما سبب ادعائها عليك؟
– أنا عارف؟! مصيبة على الصبح وارتمت عليَّ.
– احجزه يا عسكري!
– يحجزني؟ أنا يا سيدنا البك لي قضية مدنية تحت. اعمل معروف خليني أروح لشغلي.
وأُلقي الرجل في الحبس الاحتياطي، ونوديت قضيته المدنية، فلم يحضرها بالضرورة، فشطبت دعواه، وجلس الرجل القرفصاء على الأسفلت ومستنداته في يده يفكر فيما آل إليه حاله بلا مبرر ولا جريرة.
تذكرت ذلك وقلت لنفسي: «كلَّا لا ينبغي أن نبالغ في قيمة «العرض القانوني»، إن هؤلاء الفلاحين بأعينهم التي أكلها الصديد منذ الطفولة، ومداركهم التي تركت هملًا على مدى حكم ولاة من جميع الأجناس، لا يمكن أن يُركن إليها في حكم أو تمييز.» وهل هناك أعجب من «عرض قانوني» آخر قمت به في قضية تزوير. وكان المتهم «أفنديًا»، وقد وضعته بين أشخاص مطربشين، وجئت بالمجني عليه الفلاح وأمرته بإخراج «غريمه» من بين هؤلاء، فتفرس في الوجوه لحظة، ثم ترك الصف بأكمله ووقف تجاهي أنا وكيل النيابة المحقق، وأطال النظر في وجهي وقد بدت في عينيه علامات الشك الذي سيتبعه اليقين أنه وقع أخيرًا على المجرم الحقيقي، وكان حاضرًا عندي وقتئذٍ أحد كبار مفتشي النيابات زائرًا، وقد أراد أن يشهد عملية العرض، فهالني أن يطيل الرجل شكه فيَّ أنا، فيبدو للمفتش رأي لا أرضاه، فانتهرت الفلاح وأمرته أن ينظر في الصف الذي أمامه ويخرج منهم المتهم، فكان اللعين يمر بالصف مرًّا سريعًا، ويعود، فيلقي بصره عليَّ ويفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي فحص المشتبِه المستريب. ولن أنسى اضطرابي يومئذٍ. وقلت في نفسي: «الله يكون في عون المعروضين!» ولم أجد عند ذاك مندوحة من أن أنهي عملية العرض في الحال قائلًا في سرعة: «لم يستعرف المجني عليه على أحد.» وآمُر الحاضرين بالانصراف، فخرج الرجل وهو ما زال يختلس إليَّ النظر. كلا إن تلك الإجراءات التي تُتبع في أعمالنا القضائية طبقًا للقوانين الحديثة ينبغي أن يُراعى في تطبيقها عقلية هؤلاء الناس، ومدى إدراكهم وقدرتهم الذهنية. أو فلتُرفع تلك المدارك إلى مستوى تلك القوانين!
وحضر المطلوبون، وأوقفناهم في صف طويل، وأدخلنا المرأة، فتقدمت وهي تقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولم أترك لها مجالًا للثرثرة. فقد انتهرتها: كلمة ورد غطاها يا ولية. مَن في الحاضرين الخاطب؟
فدنت من أقرب الفتيان إليها، ونظرت إليه بعينها «العمشاء» نظرة «العرضحالجي الأضبش» إلى «عريضة» يرفعها في يده حتى تمس أنفه، وقالت له في صوت خافت تريد ألا يصل إلى مسامعي: إنت «يا ادلعدي» مش اسمك حسين؟
فأدركت في الحال مبلغ علم المرأة بما انتُدبت لأجله، وقلت لها في شدة: كل الجدعان اللي قدامك يا ولية اسمهم حسين.
– قطيعة!
لفظتها المرأة في صوت الواقع في حيرة من أمره، ثم اتجهت إلى التالي وسألته: إنت منين يا جدع أنت؟
فأجابها الرجل في صوت هادئ: من امبابة يا ستي!
فقالت على الفور في لهجة الجد: دي بلد الحمير يا جدعان. دا كان مرة «ادلعدي» جوزي اشترى منها حمار …
فلم أتمالك أن صحت: اخرجي يا «قرشانة» يا «وحشة» يا قليلة الحيا. ضيعت وقتنا نهار بحاله. إخص على دي شهود!
قلتها من غيظي، وأنا ليس من عادتي «القباحة»، ولكن هذه المرأة التي أفهمتني أنها رأت الخاطب بعينها وتعرفه إذا حضر أمامها قد اتضح الساعة أنها لا تعرف إلا اسمه، وحتى هذا الاسم الأبتر «حسين» ما أدرانا إذا كان هو اسمه الحقيقي، أو أنها كلمة ألقتها على عواهنها هذه المرأة «الهجاصة». وسألت الحاضرين عن الخاطب، فلم أجد بينهم مَن يفهم غرضي أو من يعرف شيئًا عن الموضوع. فصرفتهم. ولم أخلُ إلى نفسي وأفكر فيما ينبغي عمله بعد ذلك، حتى فتح الباب ودخل عليَّ مساعدي آتيًا من البندر، حيث كان يترافع في قضايا الجنايات التي أحلتها عليه، وقد رأيت وجهه نضرًا مشرقًا، وابتدرني قائلًا: البنادر هي النعيم، يا خسارة، رجعنا بسرعة إلى جحيم الريف!
– أخذت أحكام براءة؟
– أنا نزلت في أحسن بانسيون، وصرفت ضعف بدل السفرية.
– رد على سؤالي. القضايا عملت فيها إيه؟!
وترك «زبونه» والتفت إلى هيئة المحكمة: اشهدوا يا ناس على قلة الشرف، أنا برضه أستحق الشنق اللي ما قبضت مقدم. هو يخرب البيوت إلا الشكك؟!
وضحكت قليلًا أنا ومساعدي. وقد أبديت له ملاحظتي على هذه التجارة أو الصناعة المعروفة في الريف، وهي الاستئجار على القتل. إن الفلاح المصري يلجأ كثيرًا إلى محترف يقتل له، كما كان بعض ملوكنا الأقدمين يلجئون إلى الجنود المرتزقة. أهو نقص خلقي في الفلاح يُضاف إلى أمراضه الجسمانية والفكرية والاجتماعية الكثيرة، أم إنها قلة مقدرة وضعف ثقة بالنفس منشؤها اشتغاله بأعمال العبيد من قديم في الأرض والزراعة وترك الفروسية والجندية للمغيرين، وأقربهم بنا عهدًا الأعراب والأتراك؟ إن الملاحظ على أشهر محترفي القتل في الأرياف أنهم من دم أجنبي. أم أن الفلاح يحب السلام ويأنف أن يزاول سفك الدماء بيده التي تبذر البذر ويخرج منها الخير؟ لست أدري. إن الأمر يحتاج إلى درس خاص. ويكفينا نحن المتصلين بهذه المسائل أن لا نمر عليها بغير ملاحظة. وقد أفهمت مساعدي أن مهنتنا سخية بمادة البحث والملاحظة، وأنه طول حياته بها لا ينبغي أن يسير مغمض العينين، فهي خير مهنة تكوِّن الرجل تكوينًا صحيحًا. فوكيل النيابة إنْ هو إلا حاكم صغير في مملكة صغيرة، إذا فهم كل شيء في هذه المملكة، ولاحظ كل شيء، ودرس الناس وطباعهم وغرائزهم؛ فقد استطاع بعد ذلك أن يعرف تلك المملكة الكبيرة التي هي دولته، بل استطاع أن يفهم ذلك العالم الأوسع الذي هو «الإنسانية». ولكن كم من رجال النيابة أو القضاء يستطيع أن يلاحظ؟ إن قوة الملاحظة هي أيضًا هبة عظيمة لا يملكها كل الناس. وقد وعى مساعدي هذا الكلام، وهو على قسط وافر من الذكاء. فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وأخبرني أنه لاحظ أمرًا استوقف تفكيره في جلسة الجنايات؛ ذلك أن المستشارين ينطقون بادئ بدء بالحكم، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى كتابة الأسباب. والمنطق الذي يتصوره هو أن يكون الأمر على العكس. ملاحظة قيِّمة. ولقد أخبرني فعلًا أحد المستشارين من أهل الصراحة أنه بعد أن نطق ذات مرة بالحكم في جناية خطيرة ورجع ليلًا إلى مكتبه وورقه وملفات القضية ليكتب الحيثيات، وقع نظره على أقوال وعبارات في محضر جلسة اليوم، وفي المحاضر السابقة، وفي تحقيق النيابة استخلص منها تفكيره الهادئ الرزين في ذلك الليل الساجي ما لو عرفه قبل النطق بالحكم لكان حكمه قد تعدَّل وتبدَّل. ولكن ما العمل الآن وقد تم النطق بالحكم وما من سبيل إلى تغييره بأي حال؟ لا يستطيع أن يصنع شيئًا؛ فجعل همه تلك الليلة أن يستخرج من الأوراق جميع الأسباب التي يبررها النطق بالحكم. وكم من الحيثيات الطويلة تُكتب تبريرًا وتدعيمًا لحكم سريع مضى النطق به، لا تفسيرًا لعدالة، ولا تمحيصًا لحقيقة.