الدول العظام والمسألة المصرية
ذكرنا فيما مضى من هذا الكتاب الحوادث السياسية التي سببت احتلال إنكلترا لمصر في عام ١٨٨٢، وشرحنا أسباب هذا الاحتلال وقد بررناه عندما احتاج إلى التبرير.
وثاني مسألة نرغب البحث فيها هي طبيعة هذا الاحتلال، وقد قلنا إنه حتى الآن قد استفادت منه مصر رغمًا عن كل ما قيل ضده، ولكننا إذا أردنا أن نضع أساسًا نستطيع أن نبني عليه بناء حصينًا يصور لنا الحال السياسية الحاضرة، ونشرح فيه ما يكنه المستقبل من الأحوال السياسية، يجب علينا أن نوسع دائرة البحث؛ ولذلك فنحن لا نستطيع أن نقصر بحثنا على النفوذ الإنكليزي في القطر المصري مهما كان هذا النفوذ عظيمًا؛ لأن مثل مصر كمثل الشبكة المختلفة الألوان، فإنها بلا جدال ملك لجميع الناس والممالك لأنها بصفة كونها مركزًا للجزء الشرقي من الكرة الأرضية فهي بضرورة الحال محطة يتقابل فيها الشعوب، كما كانت في الزمن الغابر مرمى أبصار الفاتحين ومحط رحال الملوك والسلاطين.
وإذا كانت مصر ملكًا للجميع بوضعها الجغرافي، فهي ملك للجميع أيضًا من الجهة المالية بالنظر للأموال العظيمة الأوروبية التي أودعت فيها لإنجاحها، فإن كل دولة كبيرة أوروبية وضعت في مصر مبالغ كبيرة فكانت النتيجة أن كل دولة لها في مصر أغراض ذاتية، ورغبة شديدة في أن ترى مصر سائرة في طريق النجاح.
فإذا شئنا إذن أن نتكهن بمستقبل هذه البلاد ونرى بعين عقلنا الطريق التي تسير فيها في المستقبل فلا ينبغي لنا أن نهمل علاقات هذه الدول كلها بمصر؛ بل يجب علينا أن نتعمق في البحث لنعرف بالضبط ما هي هذه العلاقة الدولية؟ وما أهميتها لمصر؟
فإذا بحثنا في ذلك نستطيع حينئذ أن نجد طريقًا تؤدي إلى ضمان منافع الدول في مصر وحمايتها، وتؤدي أيضًا إلى سعادة وادي النيل وهنائه الدائم.
ولا ينكر علينا أحد أن المسائل التي تهيج ممالك أوروبا وتقلقها قليلة جدًّا ولكنها من الأهمية بمكان عظيم وقد تفوق المسألة المصرية كل المسائل الأوروبية؛ لأن مصر مبنية على مال جمعته لها أغلب دول أوروبا، وفيها مستعمرات أجنبية كثيرة، وكثير من المحاكم المختلفة المشارب. كل هذا جعل المسألة المصرية أصعب حلًّا وأعقد إشكالًا، وقد يكون حلها مستحيلًا، ولكننا إذا أخذنا كل حبل من حبال الشبكة وحللنا كل عامل من العوامل العاملة في مصر فإنا نصل إلى حل مرضٍ.
قد ابتدأنا بالنظر في أعمال بريطانيا في مصر في الماضي وسنقيس الآن المنافع الصغيرة التي تستفيدها الدول في مصر، ثم نجتهد أخيرًا في تقدير العاملين القويين المهمين وهما العامل البريطاني والعامل الوطني. وأول مسألة نشرحها هي علاقة تركيا بمصر وتأثيرها، فإن التأثير التركي في مصر هو بدون شك في الدرجة الثانية بعد التأثير البريطاني؛ لأننا إذا نظرنا في الإحصاءات التجارية فإننا نندهش من كثرة الأرقام التابعة لاسم تركيا.
ونحن لا نحتاج هنا إلى البحث في أنواع التجارة، إنما نقصر النظر على كثرتها وعظم أثمانها، فإن الوارد من تجارة تركيا إلى مصر في كل عام لا يقل كثيرًا عن نصف الواردات من بريطانيا العظمى، وفي عام ١٩٠٣ قدرت الواردات إلى مصر من إنكلترا بأقل من ٦ ملايين من الجنيهات، وكانت الواردات من تركيا في السنة نفسها تقدر نحو ٢٤٠٠٠٠٠ج مع أن مصر لا تأخذ من أي دولة أخرى بضائع بمبلغ أكبر من مليون ونصف المليون، وقد يندهش الذي يعلم أن الصادرات من مصر إلى تركيا أقل من ذلك بكثير جدًّا.
وهذه العلاقة التجارية هي بلا ريب من أهم العلاقات، ولكن لا يجب علينا أن نقدرها أكثر من قدرها؛ لأن التركي ليس بخلقته ميالًا للتجارة، وليس في أمياله الطبيعية ميل غريزي للحياة التجارية، والدليل على ذلك أن أغلب التجارة التي ذكرناها ليست إلا تركية بالاسم فقط؛ لأن أغلبها في أيدي تجار الأجانب المشتغلين في بلاد الدولة العلية.
ومعظم هذه التجارة يجيء من مدن آسيا الصغرى وبلادها، ولا يخفى أن هذه البلاد مسكونة باليونانيين والإيطاليين واليهود وغيرهم من سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فيظهر من ذلك أن التركي ليست له يد قوية في أهم علاقة بين مصر وتركيا، فليس إذن من الضروري أن تعنينا المسألة التجارية، وينبغي لنا أن ننظر إلى علاقة مصر بتركيا من الجهة السياسية، ومع ذلك فلن نغمض عينينا عن العلاقة الاجتماعية، فنقول: إن التركي لا يزال مجهولًا عند الغربي، والكتب التي يقول عنها أصحابها إنها تكشف القناع عن حياة الترك الداخلية، وتظهر في كل آن ويكون غرضها أن تفهم للغربي آراء التركي وطرق أعماله، لم ينجح مؤلفوها إلا نجاحًا صغيرًا جدًّا، وقليل جدًّا من الغربيين اختلطوا بالأتراك.
على أن كتب الأتراك ذاتها تدل على أنهم ليسوا على علم من الحياة والعادات والأخلاق الغربية يسهل لهم الوصف والمقارنة بينهم وبين غيرهم من الأمم، فكانت النتيجة أنهم عجزوا عن نقل صورة الحياة التركية إلينا تمامًا، وقصروا كتبهم على موضوعات بعيدة وغير مفيدة، فكانت كل تلك الأشياء سببًا في إثبات الحكم السابق من أوروبا على الأتراك، وأوروبا غير مستطيعة أن تضع حدًّا بين حياة التركي السياسية وحياته الاجتماعية، والغربيون القليلون الذين اختلطوا بالأتراك وعاشوا معهم وعرفوا جمال أخلاقهم وحسن طباعهم ووجدوا أنهم أقرب الشرقيين إلى المدنية الحقيقية عجزوا عن أن يقلعوا جذور البغض والاحتقار التي لا تزال في قلوب الغربيين على العموم.
أما في مصر فلا يزال التركي عاملًا اجتماعيًّا مهمًّا يلتف حوله عدد عظيم من الأصحاب، وعدد أصحابه اليوم أكثر من عددهم أيام كان التركي نافذ القوة في القطر المصري.
ويجب أيضًا أن لا ننسى أن مصر بلاد إسلامية، فهي مربوطة برابطة قوية جدًّا للسلطان بصفة كونه خليفة وأميرًا للمؤمنين، ولأنه لا تزال في يده قوة تعيين القاضي الشرعي، وناهيك بما لهذه الوظيفة السامية من الأهمية السياسية!
وفوق كل هذا فليس الجناب العالي معينًا حاكمًا لمصر من السلطان فقط؛ بل إن نظام الحكومة ذاته مأخوذ عن جلالة السلطان تقريبًا، هذا ولا يظهر للناظر أن العلاقات الحاضرة بين تركيا ومصر تحمل معها بذور البقاء، فإنها إن لم تقطع اليوم فستقطع غدًا، ولكن من الغريب أن هذه العلاقات استمرت على حالتها الحاضرة زمنًا طويلًا في الماضي وليس من المستحيل أن تستمر زمنًا أطول في المستقبل، هذا ما لا رأي لنا فيه، ولا تكشفه إلا الأيام الآتية.
على أنا لا نرى في باقي ممالك العالم ودوله سلطة تشبه السلطة التي لتركيا على مصر، ونحن لا نستطيع أن نفهم لماذا تستمر مصر على نزح ثروتها وإعطائها لتركيا مع أن هذه لا ترد الجميل بمثله؟! فهل الدول الكبرى تأمر مصر بتلك الطاعة العمياء؟ إننا لا نرجح مثل ذلك، فإننا لو ألقينا نظرة صغيرة على المسألة الشرقية لرأينا أن الدول ترغب وتحب من صميم فؤادها أن تقطع أسباب ثروة الدولة العلية.
فلنفرض إذن أن تلك العلاقة المختلة بين الدولة العلية ومصر ستنقضي من تلقاء نفسها، فماذا يتم بعد ذلك؟ إنا لا نرى أمامنا إلا أحد أمرين؛ وهما: إما أن مصر تعود إلى خضوع تام للدولة العلية وتعود إلى المركز السياسي الذي كانت فيه قبيل عام ١٨١١، أي أنها تصير ولاية عثمانية، وإما أن تلك العبودية الخيالية تنقضي مرة واحد وتصير مصر حرة من كل الحقوق والمطالب التركية.
ونحن نرى أن الأمر لا يتحمل الجدل لاستحالته؛ لأنه من الواضح أن تركيا لا تستطيع أن تضع يدها على مصر مرة ثانية بالقوة الحربية؛ فلذلك لا تستطيع تركيا أن تعود إلى المطالبة بحقوقها في وادي النيل. على أن مركز مصر الجغرافي يجعلها في معزل عن بلاد الدولة العلية وفي مأمن من الجنود العثمانية، وغني عن البيان أن تركيا منذ ثلاثين سنة لم تتحرك حركة عدائية، ويظهر أن الحكومة العثمانية عالمة ومتيقنة من أن مركز مصر ينجيها من هجوم جنودها؛ لأن تركيا بلا أسطول لا تستطيع أن تتسلط أو تسود على البحر الأبيض أو البحر الأحمر، ومصر لا يسهل الوصول إليها إلا بطريق أحد هذين البحرين لأنها محمية جنوبًا بحصون السودان الإنكليزية وغربًا بالصحراء الكبرى.
ويبقى الآن لدينا سؤال واحد وهو هل بقاء تلك السلطة الخيالية التي تعترف بها مصر للدولة العالية يرضي الدول العظمى؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى نظرة عامة إلى حال مسألة الشرق الأدنى في الحال الحاضرة.
ويجب علينا أن نُذكر القارئ بأن مفتاح السياسة الأوروبية هو أن كل دولة تنظر إلى النفع الذاتي الذي يصيبها، ونحن نرى أن مقاصد أغلب دول أوروبا نحو الدولة العلية واضحة بيِّنة.
على أن المسألة لا تحتاج في حلها إلى تعب شديد وأسرار السياسة الأوروبية مباحة للعالم كله، ومثلها كمثل الكتاب المفتوح يستطيع قراءته كل إنسان. إن أوروبا تنظر إلى الدولة العلية بعين الشامت وتسمي حكومتها بالحكومة المريضة، وكثيرًا ما تعبت حكومات أوروبا في تطبيب تلك الحكومة وإعادتها إلى الصحة، ولكنها يئست وكثيرات منها تتمنى لتلك الدولة قضاءً عاجلًا، ولسنا في مقام يسمح لنا باستحسان أو استهجان هذا العمل، لكن يظهر لنا بكل جلاء ووضوح أن أوروبا قررت بأن التركي لا بد أن يذهب ويختفي، وكلنا يذكر العمليات الجراحية التي بترت بها أعضاء جسم الدولة العلية في أوروبا؛ وهذه الأعضاء هي: «الصرب، ورومانيا، وبلغاريا»، ويظهر أن الدول تعد أسلحتها لقطع أعضاء أخرى، ويرى العارفون أن مقدونيا لن تستمر في يد الحكومة العثمانية طويلًا.
على أن طرد الأتراك من أوروبا سهل جدًّا، لكن إذا طرد التركي من أوروبا فإنه يلجأ إلى أملاكه الواسعة في آسيا، ويظهر أن العمليات الجراحية التي عملتها الدول الأوروبية في جسم الدولة العلية بأوروبا لفصل أعضائها لم تسد مطامع هذه الدول ولم تقنعها؛ فلذلك اتجهت أنظارها نحو أملاك تركيا في آسيا، لكن يظهر لنا أن هذه الدول ستختلف كعادتها فيما بينها لأن كل دولة تود من صميم فؤادها أن تستولي على الغنيمة التركية بأسرها؛ وحيث إن هذا مستحيل، فأنت ترى الدول في حيرة لا يعرفن كيف يقتسمن تلك الغنيمة الباردة؛ لأن كل واحدة تتطلع إلى المزيد وتظن أنها بإطالة آلام هذه الفريسة تتحقق آمالها ويجيء الوقت الذي تستطيع فيه أن تنال من أملاك الدولة العلية ما تتمنى.
بيد أن هذه الدول لو استطاع بعضها أن يتحد ويطرد إحداها عن تلك الغنيمة ليستأثر الباقي بها لما تأخرت عن ذلك الاتحاد طرفة عين، ومن المعلوم أن مصر لو خرجت من هذه القسمة لسهل حل المسألة وصار أبسط مما لو بقيت.
ولا يخفى أن فتح آسيا الصغرى يستلزم جيشًا جرارًا وأعمالًا حربية كبرى وفتح مصر يستلزم أسطولًا؛ وحيث إن إنكلترا لا تستطيع تجريد جيش كبير خارج بلادها، فهي لا تنظر إلى آسيا الصغرى إنما تنظر لمصر؛ لقدرتها على تجهيز أكبر أسطول في أقرب زمن؛ ولذلك سيكون نصيب بريطانيا أنها تحرم من أي جزء من أجزاء الدولة العلية سوى مصر. والفرنسويون ينظرون إلى سوريا شزرًا حيث ساد نفوذهم سيادة عظيمة وقوى هذا النفوذ حقهم في حماية المسيحيين الكاثوليك في الأراضي المقدسة.
أما ألمانيا فقد صار لها نفوذ عظيم في وادي الدجلة والفرات لقيامها بتأسيس سكة حديد بغداد، وروسيا أيضًا تدعي بأنها صارت صاحبة الحق الأول في نصف بلاد فارس وما والاها من بلاد الدولة العلية، ولا تبقى لتركيا إلا جزيرة العرب وهي البقية الباقية التي لم تعبث بها أيدي الأغراض الأجنبية ولم تدخلها سموم السياسة الأوروبية.
أما النمسا فستكتفي بوضع يدها على ولاية سالونيكا وشاطئ البحر الإيجيني الذي مدت إليه يدها منذ زمن حتى وصلت إلى نوفي بازار.
نقول: وربما يُكذب المستقبل كل تلك التكهنات، وربما تكون دول أوروبا قد تنبأت بما لن يتم وقسمت فريسة لم تسقط بعد، فإن تقسيم تركيا ربما يتم في المستقبل القريب وربما لا يتم إلا بعد قرون طويلة.
ويظهر أنه من صالح دول أوروبا كافة أن تحل المسألة المصرية عن قريب لتسهيل حل المسائل الأخر التي يعرض لهن حلها في المستقبل، وكما أن تقسيم تركية أوروبا يتم باستقلال الولايات البلقانية التي كانت تابعة للدولة العلية، كذلك يتم تقسيم أملاك الدولة العلية في آسيا بفصل مصر عن تركيا فصلًا تامًّا ورفع نير تركيا عن وادي النيل نهائيًّا، وإذا كانت الحال تسير على المنوال الذي نراه الآن، فإن سلطة تركيا على مصر ستنتهي عن قريب وتذهب كل آثار النفوذ التركي من هذه البلاد.
وسيهم ما قدمناه الآن عن تركيا القراء كثيرًا عندما نتكلم عن السياسة التي تتخذها النمسا والمجر عند اتساع الخرق في المسألة المصرية، فإن التقريرات التجارية تدلنا على أن العلاقات التجارية بين مصر والنمسا شديدة جدًّا، وتدل أيضًا على أن هذه التجارة تتسع سنة فسنة، وعدا ذلك فإن في مصر من النمسويين الذين اختاروا وادي النيل وفضلوه عن بلادهم عدد عظيم جدًّا ربما يفوق عدد المستعمرين الألمانيين عددًا، ولندع الآن كل ما ذكرناه عن العلائق التجارية والودية بين النمسا والبلاد المصرية، ولننظر إلى المسألة من وجهة أخرى فنقول إنه من المعلوم أن سياسة النمسا الخارجية كانت ولا تزال إلى الآن ميالة إلى مسألة إنكلترا ومصادقتها، ولم تجد إنكلترا مندوحة من رد الجميل بمثله ومصافاة النمسا، وقد كان الفضل في هذه الصداقة وذلك الاتحاد الودي لمكاتب التيمس وغيره من مكاتبي الصحف الإنكليزية الكبرى في فينا عاصمة النمسا، وقد استمرت هذه العلاقات الودية منذ عام ١٨٤٠ وظهر منها أنها أحسن سياسة تتخذها الحكومة النمسوية نحو الدولة البريطانية، ولا يسمح لنا المقام بتفصيل أسباب هذه الصداقة غير الرسمية، ولكننا سننظر في نتائجها إذا استمرت؛ لأن اتحاد النمسا وإنكلترا يسهل كثيرًا حل المسألة المصرية، وغني عن البيان أن النمسا لن تنال من إنكلترا ربحًا ماديًّا جزاء صداقتها لا سيما في مصر، فما هي الأعمال إذن التي تتحد فيها إنكلترا والنمسا في حل مسألة تركيا؛ لأننا لو عرفنا ذلك سهلت علينا معرفة ما يتم في المسألة المصرية؛ لأننا قررنا أهمية العلاقة المتينة الكائنة بين المسألتين التركية والمصرية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعرف تمام المعرفة آمال النمسا في الغنيمة التركية، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر يعلم أنه منذ هزمت النمسا في سنة ١٨٦٦ ماتت آمالها في امتداد قوتها فيما وراء نهر «الراين» من الأراضي الألمانية.
ثم قطعت آمال النمسا في إيطاليا بعد تحريرها وانضمام أجزائها المختلفة لتكون مملكة مستقلة، فالنمسا لا تقدر أن تنظر إلى شيء من أراضي إيطاليا بعين شوساء، فلما بان للنمسا أن آمالها خابت في شواطئ البحر الأدرياطيقي الغربية نظرت إلى الشواطئ الشرقية لتحققها من أن سلطتها لا يمكن امتدادها إلا في شبه جزيرة البلقان، فإن هناك ميدانا واسعًا لنفوذها وتجارتها معًا.
وقد صادقت الدول على هذه السياسة النمسوية في المؤتمر الدولي الذي عقد سنة ١٨٧٨، ووافقت على كل مشروعات النمسا بشأن الدولة العلية وصرحت لها بوضع يدها على ولايتي البوسنة والهرسك.
أما آمال الروسيا في البلقان فهي آمال وهمية خيالية لا يعتد بها ولا يحسب لها حساب، وسنرى فيما يأتي من هذا الكتاب عندما نفرد فصلًا للكلام على سياسة روسيا أن مطامعها في البلقان سوف تتلاشي شيئًا فشيئًا، وسيجيء عليها زمن لا تكون فيه شيئًا مذكورًا. ولكن سياسة النمسا وآمالها واضحة بيِّنة ويقويها على السعي وراء تحقيق تلك الأماني أنها مدفوعة بعامل سياسي وعامل استعماري، ومن القواعد المعروفة في السياسة أنه إذا سادت تجارة أي دولة في أي مملكة ضعيفة فإن السلطة السياسية تتبع السلطة التجارية عاجلًا أو آجلًا.
ومن المعلوم أن النمسا صاحبة النفوذ القوي حالًا في البلقان، ولا يقاوم ذلك النفوذ مقاوم، على أن رومانيا، وهي إحدى ولايات البلقان المستقلة، تميل إلى النمسا ميلًا شديدًا وتنظر إلى أعمالها في البلقان بعين الرضى والسرور.
ولا يفوتنا أن إنكلترا ربما تعاند النمسا في سياستها وتقلب لها ظهر المجن، ونحن لا نفرض هذا الفرض لتحققنا من أن إنكلترا تخون صديقها أو تغدر به أو تنقض عهده فتنتهز فرصة لإيذاء النمسا! كلا، ولكننا فرضنا هذا الفرض لنكون على بينة من كل شيء من المقدمات التي تدل على النتائج؛ ولذلك فنحن نقول إنه ربما ترى إنكلترا أنه من فائدتها الخاصة أن تغدر بالنمسا وتناوئها العداء وتناصبها الشر.
ومن المعلوم أن الباب العالي لن يقبل بأن يسلم آخر ما يملك في أوروبا بدون أن يحرك ساكنًا، فإذا حدث أن الدولة العلية لم تستطع أن تعمل شيئًا فإنها تفرط في كل عزيز لديها لتحدث نزاعًا وشقاقًا في جيوش عدوها المحارب — وهذه هي السياسة التي اتخذتها في أيام الحرب الروسية التركية — فإن الباب العالي اشترى في ذلك الحين حياد إنكلترا بالتنازل لها عن جزيرة قبرص.
ومن يدري بأن الباب العالي لا يُعِد أكلة يضعها في فم إنكلترا فتتداخل تداخلًا سياسيًّا أو حربيًّا لتعوق النمسا عن الاستيلاء على ولاية سالونيكا؟
هل من المستحيل أن تتنازل تركيا لإنكلترا عن حقوق سيادتها في مصر؟
من هنا يظهر أنه من فائدة النمسا أن تجتهد في حل المسألة المصرية حلًّا أوليًّا لخوفها من أن تقف هذه المسألة في طريق سياستها المستقبلة.
لقد جرت العادة منذ عهد طويل جدًّا بالاعتقاد بأن روسيا هي الدولة السائدة في الشرق الأدنى، والعادة طبيعة ثانية، فإنه رغمًا عن الأدلة الواضحة التي تدل على أن روسيا ليست هي الدولة السائدة (ولو فرضنا أن روسيا هي السائدة، فإن تلك السيادة قد بدأت شمسها بالأفول من زمن بعيد)، فإن الناس لا يزالون معتقدين بالأفكار القديمة فإذا حدث أي حادث مقلق في جنوب أوروبا الشرقي فلا يقولون إلا أن روسيا هي التي سببت ذلك القلق وهي التي أحدثت هذا النزاع.
على أن المتنبه للحوادث السياسية التي تجري في الشرق الأقصى يرى بكل وضوح أن آمال روسيا متجهة نحو غرض واحد ومهما كلفها هذا الغرض من الذهب والنفوس فإنها أبدًا تسعى إليه، ولا يخفى أن هذا الغرض هو رغبتها في الحصول على ثغر بين فلاديفوستك وبورآ رثور.
ونحن لا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الحرب الحاضرة بين روسيا واليابان، ولكن مهما تكن نتيجة تلك الحرب فإن روسيا دائمًا ستكون مشتغلة بتلك النتيجة عن القسطنطينية.
ولنفرض أن روسيا تفوز على اليابان مع ما في هذا الفرض من الاستحالة في الظروف الحاضرة فإن روسيا لن تنال ظفرًا يسحق عدوتها ويجعلها تنام مطمئنة زمنًا طويلًا؛ لأنه لو حدث أن روسيا طردت اليابانيين من سيبريا ومنشوريا، فإن إمبراطورية اليابان تبقى أبدًا عدوًّا قويًّا يهدد روسيا في الشرق الأقصى مستعدًا لأن ينتهز فرصة اشتغالها بمشاغل السياسة الأوروبية ليشعل نار حرب ثانية وينزل بشواطئ منشوريا مرة ثانية لينتقم للهزيمة الأولى.
ولنفرض ثانيًا أن اليابان حازت نصرًا باهرًا وأرغمت روسيا على التقهقر عن شواطئ المحيط الهادي، فإنَّا لا نحسب أن هذه الهزيمة تضطر روسيا لأن تترك سياستها القديمة التي عمل لأجلها كبار رجالها قرونًا طويلة، فإن روسيا لا يمكن لبالها أن يهدأ حتى تكون حدود أملاكها الشرقية بحرًا وهذا هو غرض السياسة الروسية الذي اشتغلت به وسعت لأجله من عهد «إيفان الهائل» في القرن السادس عشر؛ لأن في تلك الأمنية التي تسعى للحصول عليها حياتها وبقاءها دولة قوية بين دول أوروبا وممالكها.
إن الهزيمة لا تضر الروس بل تنفعهم لأنهم يعودون فيقوون أنفسهم ويتقون شر هزيمة ثانية، ويتقدمون بكل سكون وهدوء إلى الغاية المقصودة، ولو فني رجال الروس ومالهم فإنهم لا يرضون من الغنيمة بالقفول، ومن يراجع تاريخ روسيا يعلم أنها صنعت كل ما في وسعها لتتقدم على الشواطئ التي لا تجد فيها مقاومة شديدة، ولكنها فشلت مرارًا في محاولتها الحصول على القسطنطينية، فإنها بعد أن تفوز على الأتراك بعد حرب عنيفة تنفق فيها أموالها وتقتل فيها رجالها كانت أوروبا تقف في وجهها متحدة فتعود روسيا إلى الوراء لأنها لا تقدر أن تقاوم بمفردها قارة متحدة لأن باقي دول أوروبا كلها كانت تعمل جهد طاقتها على منع روسيا عن القسطنطينية وكيف لروسيا أن تقاوم هذه الدول كافة؟!
وهناك أسباب أخرى تعوق روسيا عن القسطنطينية؛ منها أن روسيا تنتظر بفروغ صبر نصيبها في الغنيمة التركية عند تقسيمها، وهي تسعى إلى تلك الغاية ببطء وتمهل وترو؛ ولذلك فهي لا تنوي الحصول على القسطنطينية لأنها بحصولها على القوقاز الذي قوى نفوذها في بلاد فارس استطاعت القرب من «ما بين النهرين»، وهناك تطلب روسيا نصيبها لأنها لو تقدمت نحو الغرب قليلًا فإنها تمس نصيب حليفتها فرنسا وهو سوريا، ولا ينتظر من روسيا أن تعادي فرنسا إلا بعد قرون طويلة؛ لأن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تستطيع أن تفرج كربة روسيا وقت احتياجها للمال، فإن روسيا وإن كانت تجد النفوس التي تزهقها والدم الذي تريقه في سبيل مطامعها، فإنها لا تجد الذهب الذي يسهل لها أعمالها؛ ولذلك فهي تكتفي من فرنسا بآسيا الصغرى، ولكن دول أوروبا لا تسمح لروسيا بأعمال سياسية إلا في جزيرة البلقان على أن روسيا قد فطنت إلى حيلة الدول الأوروبية؛ ولذلك فهي لن تحاول أبدًا أن تمد يدها إلى ولايات البلقان وما والاها إلى القسطنطينية لأنها علمت أنها مهما أحرزت من نصر وفوز فإن أوروبا تضطرها دائمًا إلى التقهقر.
فلذلك نستطيع أن نتنبأ ونحن متحققين بأن روسيا ستقصر أطماعها على «ما بين النهرين» وعند ذلك تتساوى روسيا مع النمسا في الرغبة في حل المسألة المصرية حلًّا أوليًّا لإخراجها من قسمة الغنيمة؛ لئلا تعرقل مساعيها السياسية وتقف عقبة كئودًا في سبيل أعمالها الاستعمارية.
وهنا نطلب من القارئ أن يلتفت إلى مسألة واحدة وهي أنه من القواعد المدونة في السياسة الدولية أن كل دولة تخفي مطامعها ولا تظهر رغبة شديدة في الحصول على ما تطلب. ويظهر أن مثل هذه القاعدة لا يقبلها القارئ مجردة عن البرهان لغرابتها، فنقول: إن السياسة إن لم تكن محمية بقوة السلاح فإنها لا تفلح، وبعبارة أخرى: لا تستطيع أي دولة أن تدخل ميدان السياسة الدولية إلا إذا كانت تستطيع أن تعزز أغراضها ومطالبها بقوة السيف والمدفع. فلما تكون الدول كلها على هذا الاستعداد وتعلم كل دولة أن الحرب مع الدولة الأخرى يجلب على كلتيهما الدمار والخراب يمتنعن كافة عن الحروب.
ولتتخذ مثلًا رأيناه بأعيننا منذ عهد قريب، ولننظر قليلًا إلى أغراض ألمانيا في السنين السابقة لحرب السبعين، فإن غرضها الوحيد كان إذلال فرنسا بفصلها عن كل الدول، ثم إذا نظرنا في مركز ألمانيا الجغرافي نرى أن أهم شيء كان عندها في ذلك الحين هو أن تكون آمنة هجوم عدو من خلفها؛ ولذلك اجتهدت في الحصول على حياد روسيا.
ولو أن روسيا في ذلك الحين أظهرت ميلًا إلى مساعدة فرنسا فإن آمال ألمانيا وتدابيرها كانت كلها تذهب أدراج الرياح؛ لأن روسيا إذا اشتركت مع فرنسا في محاربة ألمانيا لكانت تلك الحرب هي الضربة القاضية على ألمانيا، ومما يدل على أن ألمانيا كانت تخشي جانب روسيا من عهد طويل قبل حرب السبعين — أي عندما كانت سياسة ألمانيا الاستعمارية لم تزل في حيز الخيال — هو أن ألمانيا اهتمت اهتمامًا شديدًا بمسألة البحر الأسود مع عدم أهمية ذلك البحر لها مطلقًا، وقد كان اهتمامها حقيقة بشأن روسيا فكانت تتساءل هل يفتح البحر الأسود للبواخر والمدرعات الروسية أم يقفل في وجهها؟ على أن ألمانيا لا تلام على هذا الاهتمام لأن قفل باب البحر الأسود في وجه روسيا كان مما صادقت عليه الدول في معاهدة باريس (١٨٥٦)، ويجدر بكل دولة أن تسعى في تنفيذ منطوق هذه المعاهدة ولكن ألمانيا أظهرت اهتمامًا فوق العادة. وكانت روسيا تجتهد في كل آن في جسِّ نبض سياسة ألمانيا لترى هلا تزال ألمانيا والدول مُصِرَّة على حرمان روسيا من المرور بالبحر الأسود وغل أيديها في الشرق الأدنى، ولكن ألمانيا فاقت روسيا في المكر، فإنها لم تصرح بما يكنه قلبها قبل الأوان؛ وأخبرت روسيا رسميًّا بأنها لا تهتم كثيرًا بمسألة البحر الأسود ففرحت روسيا بذلك وجاملت ألمانيا بأن أعلنت حيادها في حرب السبعين، ونستطيع أن نأتي للقارئ بأمثلة كثيرة من هذا القبيل، وعند ذلك يقف القارئ على سبب اهتمام الدول الكبرى بمسألة الدردنيل اهتمامًا كبيرًا مع العلم بأن هذه المسألة لا تمسهم ولا تمس سياستهم مباشرة.
ونحن نلتمس من القارئ عذرًا لاستطرادنا في هذا الموضوع، إنما قصدنا بالإطالة فيه أن نريه وجهًا من وجوه السياسة الدولية، ونظهر له أنه ليست العادة في السياسة أن تنظر الدولة إلى ما يمسها مباشرة؛ بل كثيرًا ما تحسب للمستقبل ألف حساب وتعمل أعمالًا يظنها الجاهلون خطأ وهي عين الصواب.
أما وقد شرحنا فيما تقدم سياسة روسيا حيال المسألة المصرية، وأظهرنا أنها لم تستفد بالسياسة الحاضرة في وادي النيل، فما بقي علينا إلا أن نتكلم عما إذا كانت روسيا راضية عن الحالة السياسية في مصر، وهل تستفيد في المستقبل من المسألة المصرية إذا بقيت هذه المسألة على ما هي عليه من التعقيد؟ فنقول لا، فقد عرفنا فيما تقدم كل آمال روسيا السياسية؛ لأن روسيا ترمي إلى أخذ «ما بين النهرين» من الغنيمة التركية ولو اجتمعت قوى الأرض قاطبة لا تعوقها عن أخذ «ما بين النهرين»، ولا نظن أن بريطانيا تحرك لسانها أو ترفع يدها بكلمة أو حركة عدائية ضد روسيا في سياستها الاستعمارية؛ فلذلك تكون روسيا في مأمن من شر إنكلترا فإذا تقرر ذلك علمنا أنها ليست محتاجة إلى رضاء إنكلترا عن سياستها وليست محتاجة إلى مؤزراتها في أخذ «ما بين النهرين»؛ ولذلك فهي لا تخجل من بريطانيا ولا تحسب لها حسابًا ولا ترضى أن تجاملها بسكوتها عن المسألة المصرية. ولنتكلم الآن عن علاقة ألمانيا بالمسألة المصرية، فنقول: إن الزمن الذي كانت فيه ألمانيا لا تعد شيئًا مذكورًا قد مضى وانقضى، فإنها في هذا العهد قد تقدمت تقدمًا باهرًا، فإذا عدت الدول العظمى فإن ألمانيا تكون بلا جدال في مقدمة هذه الدول، ولا ينكر ما نقول من يرى أعمالها التجارية التي تدل على همة الألمان ونشاطهم، وقد عرفت الدول الآن أن ألمانيا تسعى لأن تكون من أكبر دول العالم قوة ونفوذًا وثروة، ونحن لا نحتاج إلى الدلالة على نفوذ هذه الدولة في الشرق إلا إلى بعض الجداول التي تحوي الإحصائيات التجارية فنقتنع بعد ذلك بأن تجارة هذه الدولة بلغت مبلغًا لم تكن لتحلم به.
وإذا بدأنا بإحصائيات قنال السويس وعددنا السفن والبواخر التي تمر منه نرى لأول وهلة أن السفن البريطانية والتجارة البريطانية كانت في أول أمر هذا القنال تشغل أربعة أخماسه.
ورغمًا عن ازدياد التجارة البريطانية واتساعها عامًا فعامًا بالنسبة لنفسها، فإنها في كل سنة تنقص نقصًا فاحشًا بالنسبة لمجموع متاجر الدول الأخرى، فقد كان معدل التجارة البريطانية التي تمر بقنال السويس بالنسبة لمتاجر الدول يساوي ٧٧ في المائة، ولكن في سنة ١٩٠٠ انحط هذا المعدل إلى ٥٧ في المائة، وإذا نظرنا نظرًا مدققًا نجد أن هذا السقوط السريع في التجارة الإنكليزية مسبب عن مزاحمة التجارة الألمانية لها. هذا وعدد السفن الألمانية التي تمر بالقنال الآن لا يفوقه إلا عدد السفن البريطانية.
وهذا يدل على أن ألمانيا تطالب بحق عظيم وهو اشتراكها في كل المسائل التي تؤثر في التجارة في بلاد المشرق، ولكن ألمانيا لا تحسب المسائل التجارية شيئًا في جانب منافعها السياسية على شواطئ البحر الأبيض الشرقية (ليفانت).
وأهمية ألمانيا هي في شيء واحد وهو أن شعبها شعب حي ينمو بسرعة شديدة ويحتاج عاجلًا أو آجلًا إلى مكان فسيح يملؤه بقوته وعمله، فإذا أردنا أن نبحث في سياسة ألمانيا الخارجية ينبغي لنا أن نضرب صفحًا عن كل المسائل التي لا تتعلق بألمانيا مباشرة؛ لأن ساسة هذه الدولة يقفون في وجهنا قائلين: «إننا لا نعمل إلا لصالح ألمانيا، ولا يبعثنا على العمل إلا ما يهم بلادنا وينفع أبناءها.» على أن الغرض الوحيد الذي جمعت ألمانيا قواها لتحصل عليه قد أصبح معلومًا لدى كل الناس، فإن ألمانيا من زمن بعيد تسعى لجعل آسيا الصغرى ولاية ألمانية، كما جعلت فرنسا في الزمن الماضي مصر ولاية فرنسوية.
ومن أقوى الأدلة على ذلك كون ألمانيا تنفق عن جود وعن كرم على مشروعات السكك الحديدية هناك، وهي تسعى جهدها في توطيد أقدام علمائها الباحثين في تاريخ أسيا الصغرى القديم، وحسبنا على ذلك دليلًا ما كتبه علماء الأركيولوجيا الألمان عن أسيا الصغرى وهذه البعثات تعيش في البلاد وتخالط أهلها وتدرس أخلاقهم وتعرف أحوالهم.
ويرى القارئ الملم بتاريخ الاستعمار أن ألمانيا مقتفية في استعمار أسيا الصغرى آثار فرنسا في استعمار مصر، ولكن فرنسا ضربت صفحًا عن فتح مصر بعد أن خذل نابوليون في سنتي ١٧٩٨-١٧٩٩، فظهر من ذلك عدم موافقة هذه السياسة الاستعمارية التي اتخذتها، ولكن ألمانيا لا ترمي إلى غرض خدمة الإنسانية ونشر المدنية في أسيا الصغرى كما كانت آمال فرنسا في مصر؛ بل هي ترمي إلى توطيد أقدامها على شواطئ البحر الأبيض الشرقية حتى إذا نالت آمالها سعت في نشر نفوذها إلى الخليج الفارسي، فإذا تيسر ذلك كله لألمانيا بطرق سلمية فإنها تحمد حظها وتشكر طالعها؛ لأنها لا تنوي أن تغرر بنفسها في حرب شعواء ربما تجر كل دول أوروبا إلى ميدانها وربما تعود عليها بالخراب والدمار، ولكن حصول ألمانيا على أمانيها بطرق سلمية يستلزم أمرًا واحدًا وهو رضى كل الدول المعاكسة لها، وجوابًا عن هذا السؤال نقول: إن لألمانيا وسيلتين تنال بهما آمالها السياسية، وسنبحث في الوسيلة الأولى نظريًّا مع علمنا وتحققنا بأنها لا توصل ألمانيا إلى أغراضها، ولكن أقلام كبار الساسة قد اشتبكت في البحث في هذا الموضوع وبحت أصوات الخطباء من كثرة الجدل بشأنه فلا يليق بنا أن نهمله. وهذا الموضوع هو ما يعرف عند الساسة بالاتحاد الألماني، فإن فريقًا من السياسيين النظريين يقولون بقرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، فإذا تم هذا الانحلال تضم ألمانيا إلى نفسها الشعب النمسوي الذي يتكلم اللغة الألمانية وغيره ممن يرغبون في الانضمام إليها.
ونحن نرى أن هذا الأمر لا يتم لصعوبة حدوثه ولكثرة العقبات التي تقف في طريق إتمامه، وأول دليل على صدق ما نقول هو أننا لا نرى أمامنا دليلًا واضحًا على قرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، ولو فرضنا أن هذا الانحلال يحدث فنحن لا نرى سببًا يستلزم سرور ألمانيا عند حدوثه، فإن مشروع ضم النمسا إلى ألمانيا يضر بها أكثر مما ينفعها وقد صرح بذلك بسمارك نفسه ومن جاء بعده من أكابر ساسة الألمان، فإن ألمانيا تجد صعوبة شديدة في حكم رعاياها الكاثوليك، فهي إذا ضمت النمسا إليها تكون قد ضمت اثنى عشر مليونًا من الكاثوليك، ويستلزم هذا العدد الكبير أن يُنتخب منهم لمجلس الريشتاج عدد وافر وهذا ما لا ترضاه ألمانيا؛ لأنه لا يوافق سياستها أن تكون الأغلبية في مجلس الريشتاج للكاثوليك دون البروتستانت، وعدا ذلك فإن ألمانيا تجد أمامها عقبة أخرى وهي حل مسألة المجر؛ لأن هؤلاء لا يمكن أن ينضموا إلى الاتحاد الألماني بطرق سلمية ولو أرغموا بالقوة الجبرية على الانضمام إلى ألمانيا.
على أنهم يكونون عاملًا مضرًّا بألمانيا في داخل بلادها فتقف ألمانيا إذن بين عاملين مضرين يهددانها دائمًا بخطر عظيم وهما البولونيون والمجريون، ولو فرضنا أن ألمانيا تتغلب على تلك العقبات كلها وتتمكن أخيرًا من ضم النمسويين والمجريين بلا مقاومة إلى بلادها، فإن دول أوروبا لا تسمح لها بمثل هذا الاتحاد لأنه تنتج عنه في وسط أوروبا إمبراطورية عظيمة جدًّا تفوق كل دولة، وتستطيع أن تكون هي الإمبراطورية الوحيدة النافذة الكلمة، المسموعة الأمر في أوروبا كلها، وهذا يؤدي إلى إذلال باقي الدول وعجزها عن مقاومة تلك الإمبراطورية الألمانية العظيمة، على أن باقي الدول تخشى خطرًا آخر إذا تم هذا الاتحاد وهو أن ألمانيا تأخذ مكان النمسا في استعمار البلقان وبعد أن تضع يدها على تركية أوروبا تمد يدها إلى سالونيك، فإذا صارت في سالونيك صار وضع يدها على آسيا الصغرى أسهل من السهل.
على أننا أثبتنا استحالة تحقيق هذا الحلم؛ ولذلك نضرب عنه صفحًا في كلامنا عن السياسة العملية لأن كل ما ذكرناه ليس إلا نوعًا من السياسة اسمه السياسة النظرية وهي سياسة القول وليست سياسة العمل، ولم نكن نقصد أن نشير إلى هذا الاتحاد الألماني وسياسته لو لم يكن ساسة أوروبا قد كتبوا المجلدات الضخمة ليثبتوا إمكان وقوع هذا الأمر وتحقيق ذلك الحلم، وهنا نكتفي بذكر كتاب «شرا دام» الذي كتب في هذا الموضوع.
ولذلك يجب علينا أن نشتغل أولًا بمساعي ألمانيا لوضع يدها على آسيا الصغرى بالوسائل السياسية؛ لأن نظارة ألمانيا الخارجية لم تدبر عملًا ولم ترسم خطة إلا معتمدة على إتمام هذا المشروع، فإذا نظرنا إلى سياسة ألمانيا الخارجية من هذه الجهة نستطيع حينئذ أن نقدر اهتمام ألمانيا بالمسألة المصرية حق قدره.
إن مصر لا تهم ألمانيا مباشرة وهذا يقلل كثيرًا من اشتغال ألمانيا بمستقبل هذه البلاد ما دام نصيبها في الدين المصري مضمونًا، ولا نرى أن ازدياد تجارة ألمانيا ونمو عدد سفنها التي تمر بقنال السويس يغير سياسة ألمانيا بشأن مصر؛ لأنه في زمان السلم لا توجد دولة تعوق حرية المرور في قنال السويس، فإن الدول كلها تساعد جهد طاقتها لتسهيل المرور بهذا القنال وفي وقت الحرب، فالدولة القوية تمنع الدولة الضعيفة وتنقلب كل المعاهدات والمحالفات والاتفاقيات ويصير الحق للقوة، فسيرى القارئ أن ألمانيا على كلتى الحالتين آمنة مطمئنة. فيظهر مما قدمنا أن المسألة المصرية لألمانيا ليست إلا مسألة ثانوية في سياستها الخارجية ولا نغالي إذا قلنا إنه من صالح ألمانيا أن يبقى المركز السياسي في مصر كما هو؛ لأن ألمانيا ترمي إلى وضع يدها على آسيا الصغرى بالشكل الذي وضعت إنكلترا به يدها على مصر، وتمتاز ألمانيا على إنكلترا بأنها تريد أن تجعل مركزها في آسيا الصغرى مركزًا دائمًا؛ فلذلك لا نرجح أن ألمانيا تحاول أن تقاوم إنكلترا في مصر لأنها ترغب أن تكون بريطانيا سابقة لها في احتلال مثل احتلالها، وتود أن يستمر احتلال مصر احتجاجًا حيًّا في وجه من يلوم ألمانيا على احتلالها لآسيا الصغرى، ولا يخفى علينا أيضًا أن بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي تخشى ألمانيا بأسها.
ولا ننكر أن الصحف كثيرًا ما تشيع بقرب شبوب نار الحرب بين ألمانيا وروسيا وكثيرًا ما يطير البرق خبر توتر العلائق بين برلين وبطرسبرج، ولكن كل هذه الإشاعات وتلك الأخبار ليست إلا من مختلفات الصحف التي تجتهد دائمًا في استلفات أنظار قرائها بمثل تلك الأخبار. وقد ذكرنا فيما مضى آمال روسيا الاستعمارية معززين قولنا بالأدلة الواضحة ونحن متحققون من أن تلك الآمال هي التي تجعل ألمانيا في مأمن من وقوع حرب بينها وبين روسيا، ونقول هنا إن روسيا قد عقدت آمالها على «ما بين النهرين» وألمانيا على «آسيا الصغرى»، فليس في سياسة الدولتين ما يوجب تزاحم مصالحهما المختلفة.
هذا — ولا ريب في أن تحسن العلائق بين تينك الدولتين هو الوسيلة الأولى لنجاحهما في سياستهما وقد لوحظ في الأيام الأخيرة — فإنه كلما نشأ خلاف بين الدولتين كانتا تسعيان جهد طاقتيهما في إطفاء ناره؛ لأن الروس والألمان مضطرون لأن تكون دولتاهما يدًا واحدة لأسباب شتى، منها أن كلتا الدولتين تتألمان من البولونيين الذين يهددون سلامهما، فكل واحدة منهما تسعى في إخماد أنفاس أهل بولاندا لتستريح هي وجارتها، ومنها أن سياسة كل دولة منهما قد اتخذت طريقًا مخالفًا للطريق التي اتخذتها سياسة الدولة الأخرى، فمن المستحيل إذن أن تصطدم السياستان فتحدثان شقاقًا بين الدولتين وقد ساد السلام وتم حسن التفاهم بين الدولتين منذ ١٧٦٢ ولم يزل سائدًا إلى الآن، وهذا من الغرابة بمكان؛ لأن تاريخ السياسة لا يحفظ ذكر دولتين ساد بينهما السلام قرنا ونصف قرن تقريبًا بدون أن يحدث ما يكدر صفوه أو يخدش وجهه.
فيرى القارئ من هذا أن ألمانيا لا تخشى معاكسة روسيا ولم تبق إلا بريطانيا العظمى التي تخاف ألمانيا مقاومتها لها في آسيا الصغرى؛ فلذلك تود ألمانيا أن تكون إنكلترا مغلولة الأيدي في مصر لأن في بقائها في وادي النيل حجة عظيمة عليها إذا وقفت في وجه ألمانيا وأقلقت راحتها في أسيا الصغرى، لكن لا يفوتنا أن سياسة ألمانيا لا تزال مقلقلة وكل ما يعرف عنها هو رغبتها في استعمار بلاد واسعة يلجأ إليها أبناؤها الذين تضيق عليهم بلادهم، ولكن لا يمكننا أن نتحقق من معرفة هذا الميدان الذي تنوي ألمانيا استعماره؛ سيما بعد حوادث الصيف الماضي التي قلبت سياسة الشرق رأسًا على عقب حتى أصبح إبداء رأي سليم من الخطل عن مستقبل السياسة الشرقية من أصعب الأمور، ومن راقب السياسة الدولية يذكر أنه رأى تغيرًا مهمًّا في سياسة ألمانيا الخارجية؛ لأن قليلًا من غير الألمان يعرفون التقدم السريع والنجاح الباهر اللذين حازتهما ألمانيا في مراكش في خلال العشر سنوات الماضية.
فإن ألمانيا سلكت في المغرب الأقصى مسلك السكون والتؤدة مع المثابرة والصبر، وهذه هي الصفات التي تمتاز بها ألمانيا والألمان، فإنهم لا يصرخون ويصخبون ولا يملئون العالم جعجعة كغيرهم، ولكنهم يتخذون أبدًا سياسة الكتمان والتأني التي تؤدي دائمًا بهم إلى النجاح والفوز. وكل ما يعمله الألمان لينبهوا العالم ويفتحوا عيونه لمنافعهم هو تأليف الكتب الضخمة التي يشرحون فيها سياستهم ومنافعهم ومصالحهم، والذي يطالع بعض هذه الكتب يرى لأول وهلة أن ألمانيا تسعى لأن تكون دولة بحرية كبيرة، فإن كتاب الألمان ينشرون في كل عام عددًا عظيمًا من الكتب المتعلقة بالبحرية الألمانية والأساطيل والحصون والثغور وما شاكل ذلك، وغير هذه الكتب يشرح آمال ألمانيا في مستقبل بحريتها. هذا ولا يليق بنا أن ننسى القدر العظيم من الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وحاضرها ومستقبلها، وقد يستغرب كلامنا هذا من لا يعرف أن عدد القراء في ألمانيا عظيم جدًّا، وأن الشبيبة الألمانية ظمآنة لأخبار الاستعمار والمستعمرات، فيحتاج المؤلفون إلى تأليف كتب كثيرة تتناول كل موضوع استعماري وتسهب فيه إسهابًا مشبعًا، فلم تدرس شبيبة ألمانيا موضوعًا أكثر من موضوع مراكش، فإنها تناولت كل صغيرة وكبيرة مما يتعلق بأمر هذه البلاد وفحصتها فحصًا دقيقًا. دع ما كتب بأقلام المستنفضين والجغرافيين الذين طافوها من أقصاها إلى أقصاها ورسموا خرائطها، وما كتبه رجال الحرب عن مركزها الحربي وعن الخطر المحدق بها من جهة فرنسا.
نقول وقد قرأنا إن الميزانية التجارية للمغرب الأقصى في عام ١٩٠٢ بلغت ٧٢٠٠٠٠٠٠ مارك؛ أي نحو ٤٠٠٠٠٠٠ج. ولألمانيا من هذه الميزانية أغلبها.
وفي سنة ١٩٠٢ أيضًا أرسلت ألمانيا ٢٩٢ سفينة محمولها ٢٥٢٢١١ طنًّا، وأرسلت فرنسا ٣١١ سفينة محمولها ٢٠٢٧٧٨ طنًّا. وفي مراكش ٦١ محلًّا تجاريًّا أوروبيًّا منها ٢٣ ألمانيًّا و١٦ إنكليزيًّا و١٠ إسبانية و٧ فرنسوية، وفي ١١ أكتوبر ١٩٠٢ تأسست شركة ألمانية باسم «الشركة المراكشية» أو «ماروكابيش جسلشافت»، وتعضد هذه الشركة جريدة ألمانية اسمها «نوردافريكا»، ويقصر العد دون الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وتجارتها وسياستها. ونحن نترك القارئ يستنتج مما تقدم ما يريد.