فرنسا وإيطاليا
من المعلوم أنه إذا عدت الدول التي لها في مصر شأن كبير فإن إنكلترا تعد في مقدمتها ثم تتلوها فرنسا؛ لأن فرنسا بلا ريب هي من أهم العوامل في مستقبل هذه البلاد، ونحن لا نعول فيما نكتبه على ما قيل وكتب عن سياسة تلك الدول في مصر، فإنها قرظت وانتقدت ومدحت وذمت في كتب كثيرة نشرت في أغلب لغات أوروبا، ويلوح لمطالع كل هذه الكتب أن كاتبيها أساءوا فهم سياسة فرنسا في مصر، أو فهموها ثم عكسوا معناها وصحفوها، وقد تتبين صحة ما نقول لمن يعرف حق المعرفة أن فرنسا في كل أعمالها السياسية في مصر لم تزغ مرة في العمر واحدة عن سياستها الأولى التي اختطت خطتها وسارت على دربها منذ ابتدأت علاقتها بمصر.
وبين الذين كتبوا عن مصر عدد عظيم من كبار الساسة الذين يجب احترامهم والإصغاء إلى ما يقولون والنظر في آرائهم بعين الاعتبار، ولكن عندما يكتب هؤلاء الكتاب عن فرنسا فإنهم للأسف يخطئون فيما يكتبون خطأ عظيمًا، ويظهر لنا أن الذي سبب وقوعهم في الخطأ هو نظرهم بعين الاحتقار لسياسة فرنسا كلها، وقد يدفعنا ما نراه فيما يكتبونه بأن نرميهم بالجهل بتاريخ فرنسا السياسي، وعدم نظرهم إلى هذه السياسة الفرنسوية كسلسلة منتظمة مستمرة، وليس من الحكمة أن هؤلاء الكتاب عندما يكتبون عن سياسة أية دولة أوروبية يبنون حكمهم على ما يبدو لهم من صغائر الأمور المتعلقة بهذه الدولة؛ لأن المتتبع لتاريخ سياسة الدول الخارجية يرى أنها تسير في طريق واحدة وتقصد غرضًا واحدًا، ومهما عمل كبار الساسة الذين يتولون أمرها لتغييرها وتحويرها فإنهم لا ينجحون لأنها لا تتأثر بأعمالهم؛ ولذلك نرى أن أكابر السياسيين ينتهزون الفرص ويستفيدون من الظروف ولكنهم لا يخلقون الفرص ولا يصنعون الظروف.
ولنشرح الآن مغزى ما نقول بعد أن نثبت صدقه لئلا يرمى قولنا بسهام الملام ونتهم بأننا ندعي صدق ما نكتب وهو خلو من الصدق، فنقول إننا لا نرى نفسنا في حاجة إلى شرح العلائق السياسية التي كانت بين إنكلترا وفرنسا بشأن المسألة المصرية، وكثيرًا ما ظلم كتاب الإنكليز فرنسا بتصويرهم إياها بصورة الحسود لإنكلترا والحاقد عليها لتقدمها ونجاحها لا سيما في مصر، ويتهم هؤلاء الكتاب فرنسا بأنها سنحت لها فرصة ثمينة في مصر فلم تنتهزها، فلما جاءت إنكلترا وانتهزتها واستفادت منها نقمت عليها فرنسا وحسدتها وحقدت عليها.
ويقول المرجفون من هؤلاء الكتاب إن فرنسا وإن لم تحتل مصر فإنها كامنة كمون الفهد الجريح لتنظر الفرصة المناسبة فتقفز من مرقدها وتنشب أظفارها بعدوها، ويقول المرجفون أمهلوا فرنسا ريثما تقع إنكلترا في ورطة وتلقي بنفسها في أزمة لا ترى لنفسها منها مخرجًا، عند ذلك تهب فرنسا للانتقام. هذا ما يقوله المرجفون، أما المتقولون من كتاب الإنكليز فيقولون إن فرنسا تظهر دائمًا استياءها وغضبها من إنكلترا في مصر، وتفرغ جهدها في البحث عن سيئة من سيئات إنكلترا فتقيم الدنيا وتقعدها بمماحكتها ومكابرتها.
ونحن نحمد الله على أنا لسنا في حاجة إلى إظهار كذب كل هذه الادعاءات التي لا أصل لها، فقد دلت الحوادث على كذبها وبرهنت الأيام على أنها سفسطة لا حقيقة وراءها. وكثيرًا ما وجدت إنكلترا نفسها في ضيق لا مفر منه وفي أزمة مالية لا مخرج لها منها، وما كانت فرنسا لتصنع إلا ما يساعد إنكلترا على الخروج مما وقعت فيه ولم تظهر يومًا أنها في صفوف أعداء إنكلترا الألداء كما يقول المرجفون الذين يتبعهم المتقولون، فما سبب كل هذه الأراجيف والأقاويل إذن؟ لأننا لا نعتقد بأن أمورًا كهذه تشاع وتذاع وتملأ الأفواه والأسماع ويعتقدها الصغير والكبير إلا إذا كان لها مكان من الحق ونصيب وافر من الصحة.
يقال جوابًا عن هذا السؤال إن سبب ذلك الظن السيئ هو أن آمال فرنسا الاستعمارية تشبه كثيرًا آمال إنكلترا، فكأن الدولتين فرسا رهان أو فتيان يستبقان، وقد شاع هذا الظن ولكنه يدل على جهل القائلين به بتاريخ فرنسا السياسي؛ بل بتاريخ سياسة أوروبا كلها.
فإن فرنسا لا تود أن تكون مزاحمة لإنكلترا في سياستها الخارجية لأن مركزها في قارة أوروبا لا يسمح لها بذلك، ولا يمكن القول بأن فرنسا صحَّتْ عزيمتها يومًا من الأيام على فتح مصر؛ لأن أول بديهيات السياسة الفرنسوية هي أن لا تكلف نفسها في فتح المستعمرات أكثر مما تتحمل من مال ورجال. وقد علمتها الحوادث أن شر افتتاح المستعمرات البعيدة أكثر من خيرها، وقد أبنا ذلك فيما تقدم عندما ذكرنا حملتي مصر والمكسيك.
وقد أسهبنا الكلام فيما مضى من هذا الكتاب عن الصعوبات والعقبات الداخلية التي تعترض الدول الأوروبية عندما تريد إحداها أن تتوسع في سياستها الخارجية، ونحن متحققون من أن فرنسا تحققت من سخافة تلك الأحلام الاستعمارية، ويظهر ذلك لمن يعرف تاريخ فرنسا بالتدقيق ويرى بعينه الفرص العديدة التي سنحت لها لتتوسع في الاستعمار، فلم تنتهزها وضحتها جميعًا لأجل سيادة السلام في داخليتها.
وغني عن البيان أن حياة الأمم كحياة الأفراد، والدليل على ذلك وجود وجه الشبه بين سياسة الأسرة وسياسة الأمة، فلو كانت الأسرة في شقاق داخلي فإن رب الدار لا يستطيع أن يتناول من الأعمال الخارجية ما يضمن لأسرته رزقًا وعيشة راضية، فما بال ذلك الرجل لو كانت داخليته في شقاق وهو في الخارج مهدد من أعدائه ومبغضيه، وما أصدق ذلك المثل على فرنسا لو نظرنا لحادثة أملاكها في قارة أمريكا الشمالية، وهي «دومينيون أوف كندا» التي سلمتها فرنسا لإنكلترا ثمنًا للحرب المشئومة، فإننا نتذكر أن فرنسا لم تعتن بهذه المستعمرة قبل أن تنازعها إنكلترا إياها ولا بعد ذلك، حتى إنها لم تعد مركبًا ولم ترسل جنديًّا بل ولم تحرك لسانًا أو ترفع يدًا لنجاة بطلها العظيم مونتكام الذي ذهب شهيدًا في وقعة «جبل إبراهام» بعد أن جاهد الجهاد الحسن، وكم بطل فرنسوي من رجال البحر ورجال البر مات كسير القلب جريح الفؤاد من إهمال دولته أمره وغضها النظر عن آماله وأمانيه. نعم لقد مات هؤلاء الأبطال كافة وفي نفوسهم أماني لم تتم وآمال لم تتحقق، فضاعت حياتهم هباءً وضحيت في سبيل الاختلافات الداخلية. ويحق لنا ألَّا ننسى في هذا المقام حادثة ١٧٨٣، وهي أوضح برهان على صدق ما نقول، وقد اخترنا هذه الحادثة لأن أغلب الكتاب لم يذكروها، ولأن المؤرخين الذين ذكروها أشاروا إليها إشارة خفية ولم يفصلوها.
وتفصيل الخبر هو أن أمير البحر «ببلي دي سوفرين» الأميرال الفرنسوي الشهير بقوة عقله وبراعته في فنون البحرية وضع يده على شاطئ الكارنتيك بعد أن لاقى ما لاقى من الأهوال الصعبة التي وضعها الإنكليز في طريقه ليعوقوه عن التقدم. وبعد أن أوشك أن يتنفس الصعداء بعد ذلك الفوز المبين بلغه رسول من فرنسا يحمل إليه خبرًا أسود من القار وأشأم من نعيق البوم، وهو أن يسلم للإنكليز شاطئ الكارنتيك وكل ما عداه مما افتتحه عنوة بناءً على اتفاقية عقدت بين دولته ودولة إنكلترا، فلم ير سوفرين أمامه إلا الطاعة العمياء، فأذعن وهو يكاد يموت حدقًا وغيظًا وبإقلاعه من المياه الهندية اختفت أثار الدولة الفرنسوية من تلك البقاع وذهبت أماني «دوبليه» هباءً في الهواء. على أن فرنسا لم تطلق الاستعمار مرة واحدة لأنها في حاجة إليه؛ ولذلك نراها إذا عثرت بأرض طيبة لا تبعد عنها كثيرًا وتستطيع أن تستمد منها رزقًا بشرط أن تضيف هذه الأرض إلى فرنسا في وقت ضعفها قوة، فإن فرنسا تفرغ كل وسعها وتعمل جهد طاقتها لتضم هذه البلاد إليها، وعلى هذا كان احتلال جزيرة كورسيكا من أهم الأمور لفرنسا؛ لأنه من المستحيل عليها أن تترك جزيرة ككورسيكا المتمكنة كل التمكن من شواطئها الجنوبية؛ ولأن هذه الجزيرة إذا وقعت في يد الإنكليز فإنهم لا محالة يخلقون منها جبل طارق آخر ويحصرون مواني فرنسا في أقرب فرصة، فلما قر رأي الفرنسويين على أخذ هذه الجزيرة تقدموا إلى أهل جنوه وابتاعوها منهم على أنهم تعبوا تعبًا شديدًا في كسر شوكة أهل الجزيرة.
و«الجزائر» هي أهم مستعمرة فرنسوية بعد كورسيكا، فإنها لا تبعد عن ثغر طولون إلا بضع ساعات وقد كلفت فرنسا ما كلفتها من مال ورجال، ولكنها كانت تستحق ما أنفق من المال وما أزهق من النفوس في سبيلها؛ لأنها زيادة عن قربها من فرنسا فإنها بلا شك مورد رزق ومركز حربي لا مثيل له، وعلاوة على ذلك فإن فرنسا تستطيع أن تحشد من جنود الجزائريين في وقت الحرب ما شاءت الأعداء، نقول إننا ذكرنا فيما مضى بإسهاب وشرح طويل المسائل الداخلية والمشاكل الأهلية التي تعوق الدول الأوروبية عن الاندفاع في تيار الاستعمار، وقلنا هناك إن عدم وجود هذه العقبات وتلك الصعوبات في سبيل إنكلترا هو الذي سهل عليها سياسة الاستعمار وجعل نجاح سياستها الخارجية أمرًا محققًا، وقد أفضنا البحث في هذا الموضوع وأطلنا الكلام في أن دول أوروبا لا تستطيع أن تسابق إنكلترا في سياستها الاستعمارية لأنهن لو حاولن ذلك قضين على حياتهن السياسية، وما أسهبنا الكلام في تلك المسألة إلا دفعًا للوهم السائد من أن هذه الدول كلها تنظر إلى إنكلترا بعين الحسود الحاقد لأنها لم تنل سعيها ولم تبلغ شأوها، ولقد يندهش القارئ عندما تذكر له أن الدول الأوروبية الصغرى هي التي تسعى لمسابقة إنكلترا أو سياستها الاستعمارية؛ لأن هؤلاء الدول يؤسسن من المستعمرات ما يقرب مما أسست مالكة البحار، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن ألمانيا — وهي تلك الدولة الضخمة ذات الأساطيل والجيوش — ليست قادرة على كبح جماح مستعمراتها الصغيرة في أفريقيا عندما تكون البورتغال — وهي هذه المملكة الحقيرة التي لا يسمع اسمها في العام مرة — قادرة على سياسة مستعمراتها الأفريقية الواسعة بدون أن يشعر بها أحد.
نعم! إن ألمانيا بما لها من العظمة والسلطة لا تستطيع أن ترد قبائل «الهروروس» إلى حظيرة طاعتها، مع أن هولاندا على ما هي عليه من حقارة الشأن وصغر القدر قابضة بيد من حديد على مستعمرات «آشين» على ما عليه أهل تلك المستعمرات من العصيان الدائم، وما ذلك إلا لأن هولاندا مطمئنة في داخليتها.
فكأن حياد هولاندا هو سبب نجاحها، وقد جعلها ذلك الحياد جزيرة سياسية، كما جعل البحر إنكلترا جزيرة جغرافية، ولو أن ثروة هولاندا ليست عظيمة ولكن كل منابعها في يدها وتحت تصرفها، فهي تستطيع أن تحصر كل قواها في مكان الضعف من جسمها، ولكن ألمانيا على ضخامتها وقوتها لا تستطيع أن تجهز أسطولًا كبيرًا لأعمالها الحربية وراء البحار، ولا تستطيع أن تبعث إلى «الهروروس» بجيش عرمرم يعيدهم إلى فناء الولاء ويعلمهم درسًا في الأدب.
ومثل هولاندا كمثل البورتغال، فإن حياد إسبانيا قد ضمن للبورتغال السلامة في بلادها فهي أبدًا آمنة مطمئنة فلا من يقلقها من الداخل ولا من يزعجها من الخارج؛ ولذا فهي تستطيع أن تحصر قواها لتحقق أمانيها الاستعمارية.
وعندما نضم هذه الحقائق إلى بعضها يتضح لنا بأجلى بيان أن دولة كفرنسا مهددة من كل حد من حدودها ومحاطة بأعداء أشداء من كل جهاتها، وفي داخليتها ما في جسم العليل من السقام من قبل الكنيسة الكاثوليكية والأحزاب السياسية المختلفة، لا تستطيع أن تعرض نفسها لكل تلك الأخطار لأجل مستعمرة بعيدة مهما كانت تلك المستعمرة غنية عظيمة.
ولو تيسر لفرنسا أن تعثر بمستعمرات لا تكلفها كثيرًا ولا تسبب لها انزعاجًا فإنها بلا ريب تضع يدها عليها وتحرص عليها ما دام الشرطان السابقان متوفرين، ولو شئنا على ذلك برهانا فإننا لا نجد أقرب لنا من أن ننظر في مستعمراتها الحاضرة، فإن «تونكين» التي يبلغ عدد سكانها أكثر من سبعة ملايين من النفوس ليس فيها إلا عدد صغير جدًّا من الفرنسويين المستعمرين فلو نهض الأهالي للعصيان فإنهم لا محالة ينالون ما يرغبون، وليست التونكين فقط هي التي تحكمها فرنسا بلا نفقة أو قلق، فإن أملاكها في أواسط أفريقا كثيرة الشبه بتونكين؛ لأن أهل هذه البلاد لو مالوا يومًا إلى شق عصا الطاعة فبضع مئين من جنود الفرنسويين يكبحون جماحهم في يوم وليلة.
إذا تقرر ذلك فنحن نطلب من القارئ عندما نتكلم عن سياسة فرنسا أن يصرف عن ذهنه الظن الفاسد الشائع، وهو أن كل حركات فرنسا وسكناتها ليست إلا لتسابق إنكلترا في سياسة الاستعمار، وفوق كل ذلك فيليق بمصر أن تصرف ظنها بأن فرنسا تدافع عن حقوق مصر والمصريين بشدة وقوة.
ولو أن الإنكليز احتلوا مصر ظلمًا رغم أنف المصريين فإن المصريين يخطئون لو انتظروا من فرنسا خلاصًا أو نجاة؛ لأن فرنسا لا إرادة لها ولا قدرة لديها لأخذ مصر لنفسها، فهل جنت جنونًا بحب مصر حتى تنفق ما تنفق من ثروتها لتحرير مصر والمصريين؟ ولو أن المصريين رأوا بريق آمالهم في فرنسا فلقد خدعوا أنفسهم إن لم يكن هذا البريق الذي رأوه قد غرهم، وإن كانت شمس فرنسا قد أشرقت على مصر برهة، فلتعلم مصر أن تلك الشمس قد أغربت وغابت إلى الأبد.
على أن مصر لا يحق لها أن تيأس لأنها لو كانت آمالها ترمي إلى الاستقلال، فإن ميدان هذه الآمال لا يزال واسعًا كما كان من قبل، وكل ما أردنا تقريره هو أن تلك الآمال لو كانت قد وضعت في فرنسا فقد ضاعت. لقد مضى الزمن الذي كانت الأمم تعمل فيه لأجل الأفكار الخيالية. اليوم يوم المنافع الذاتية والمطامع الشخصية، إن هذا الزمن هو زمن الأنانية والأثره، وقد ولى وانقضى عهد الغيرية، ولو قدر لمصر أن تصير في المستقبل دولة حرة مستقلة فإنها لا تنال ذلك إلا إذا رأت كل دول أوروبا في منحها تلك الحرية وهذا الاستغلال نفعًا لذاتها.
ولنعد ثانية إلى فرنسا وسياستها في مصر، فنقول إن الناظر إلى سياسة فرنسا بمنظار الحكمة والتبصر يرى أنها بريئة من كل التهم التي تنسبها لها الصحف التي تردد صدى صوت الأحزاب؛ لأن نظرة واحدة في سياستها الخارجية تقنع الإنسان بأن سياسة فرنسا الاستعمارية لم تشمل مصر، وأن مجال الاستعمار لا يزال واسعًا في وجه فرنسا في البلاد المجاورة لها؛ ولذلك لا يخطر ببال عاقل أن فرنسا تترك البلاد القريبة وتمد يدها إلى بلاد بعيدة مثل مصر مع علمها بما يكلفها وضع يدها على هذه البلاد.
إن حكومة جلالة الملك تعلن أن ليس لها إرب في تغيير الحال السياسية في مصر، وتصرح الحكومة الفرنسوية أنها لا تعوق أعمال إنكلترا في هذه البلاد بطلب تحديد أجل للاحتلال البريطاني أو بما شاكل ذلك، وأنها ترضى بمشروع الدكريتو الخديوي الملحق بالاتفاقية المذكورة المحتوي على الضمانات الضرورية لحماية مصالح أصحاب الديون المصرية على شرط أنه ينفذ ولا يتم فيه أقل تحوير بدون رضى الحكومات التي وقعت على معاهدة لندن سنة ١٨٨٥.
فيظهر من ذلك أن سياسة فرنسا الخارجية قد عادت إلى الانكماش كأن ساستها علموا أنها لا تستطيع أن تمارس مهنة الاستعمار بالبراعة والدقة اللتين تمارس بريطانيا بهما ذلك الفن، ومن عادة الفرنسويين أنهم إذا عملوا لتحقيق أحلام استعمارية ووجدوا معارضة ومقاومة فهم يفضلون أن ينسحبوا على أن يستمروا على مقاومة المعارضين لهم.
ومما يعوق فرنسا عن التوسع في الاستعمار هو كونها غير مضطرة كغيرها من الدول الأوروبية لإيجاد المستعمرات الواسعة لأبنائها الذين تضيق عنهم بلادهم؛ لأن عدد سكانها لا يزيد سنة فسنة كما يزيد عدد سكان سواها من الممالك الغربية، فلا تقوم فرنسا بحروب خارجية إلا إذا كانت هذه الحروب للحصول على بلاد واسعة تضيف إلى اسم فرنسا شهرة وصيتًا، فإذا هي خابت وفشلت في حروبها الخارجية فلا تغتم ولا تحزن كما تغتم وتحزن الدول الأخرى التي لا تسع بلادها أبناءها، ويحدث من ذلك فيها من الفقر والفاقة والشقاء ما لا تحمد عاقبته، وكثيرًا ما يكون فشل فرنسا في حروبها الخارجية سببًا لنفع عظيم تجنيه في داخليتها؛ لأنها تتمكن من إصلاح أمورها وتستطيع أن تضيف إلى قوتها قوة.
وعندما ننظر إلى هذه المسائل من هذه الجهة يمكننا أن نعلم ظلم وجهل الذين صبوا على رأس «الموسيو دي فرسيتيه» وغيره من وزراء فرنسا أمطار الذم والتأنيب والسب؛ لأن الحقيقة تنجلي لنا تمام الانجلاء، ويظهر لنا هؤلاء الوزراء بمظهر الرجال العقلاء الذين فهموا مركز دولتهم فهمًا حقيقيًّا، وعلموا مقدرتها حق العلم ووقفوا على مطالبها وحاجاتها، ووجدوا في نفوسهم شجاعة أدبية استطاعوا بها أن يقودوا أمتهم، ناظرين إلى الحقائق الثابتة والظروف السياسية التي تؤدي إلى النجاح المطلوب رغم أنف الأعداء الحاقدين الكاذبين، على أن هؤلاء الوزراء لو رأوا أن في السياسة الاستعمارية لبلادهم خيرًا لما تأخروا عنها لحظة واحدة، ولكنهم علموا أنهم إن اتخذوا سياسة الاستعمار، فإن هذه السياسة تفشل في أقرب زمن.
ولا ننسى أن «المسيو ديلكاسيه» وزير خارجية فرنسا سابقًا هو الذي قال بأن تاريخ المملكة كتاريخ الحيوان الحي وكما أن للجسم الآلي حدود طبيعية لا يتعداها كذلك للدولة حدود طبيعية لا تتعداها وطرق تنمو بها حتى تبلغ أكثر ما يمكنها بلوغه من النمو والقوة. ولذلك كل من يحاول أن يدفع بالمملكة في غير طريقها الطبيعي، فهو في الحقيقة يرمي بها في هوة الضعف ويقذف بها في بحر من المصائب؛ فلذا كان واجب السياسي الحاذق الأمين أن يعرف الطريق التي رسمتها الطبيعة لمملكته ليقودها فيها فتستطيع أن تنمو وتتقوى، ونحن نعتقد أن كل سياسي فرنسا في العهد الأخير ساروا على هذه السياسة وعملوا بها على قدر طاقتهم.
ومثل هذه السياسة هو الذي ألجأ فرنسا في ١٨٩٠ إلى التنازل عن حقوقها في سلطنة زنجبار؛ لأن ساستها عرفوا أنهم باحتلالهم جزءًا من زنجبار يكونون أبدًا في احتكاك مع إنكلترا وكثيرًا ما يكون هذا الاحتكاك الاستعماري مضرًّا غير نافع لأن نتائجه لا توازي أتعاب فرنسا ونفقتها؛ ولذلك تقهقرت فرنسا برشاقة وبراعة وانتظام. وليس تقهقرها عن مصر إلا صورة ثانية من تقهقرها في زنجبار.
وعندما نتكلم عن علاقة إيطاليا بالمسألة المصرية، فيجب علينا أن نخفف الوطأ لرقة الأرض التي نسير عليها ونحافة الموضوع الذي نبحث فيه.
وأول ما نقول في هذا الموضوع هو أن سياسة إيطاليا في مصر في أثناء السنين الأخيرة قد تغيرت تغييرًا شديدًا، ولا يخفى أن هذا التغيير قد سبب إزعاج الخواطر وجرح إحساسات كثيرين، ومن حسن الحظ أن تغيير تلك العلائق لم يكن مسببًا عن مشاكل سياسية؛ ولذلك لم يتعد حدود الكلام المزخرف اللطيف، ولقد اعتاد السياسيون على أن يعبروا عن أشد المعاني بأرق الألفاظ، فهم إذا أرادوا أن يهددوا دولة بالحرب قالوا: «إننا لا نعتبر عملكم الأخير عملًا وديًّا.» فلا يخفى حينئذ بناءً على ما ذكرناه أن الألفاظ اللطيفة كثيرًا ما تؤدي أشد معاني البغض والكراهية والعداء، ويجب علينا هنا أن نعيد على القارئ رأينا وهو أن السياسة الدولية تختلف كثيرًا عن سياسة الأفراد وقد قال: «سبينوزا» إن الدول عندما تتعامل تكون دائمًا في الحالة الطبيعية، ولم تكذب الأيام والظروف «سبينوزا» فيما قال من يومه إلى يومنا هذا.
وقبل أن ندخل على موضوع بحثنا يجب أن نشير إشارة أخرى وهي أن السياسة التي تتخذها إنكلترا ليست سياسة مكر وغدر وخداع، ولكن ما أكثر ما كتب ضد إنكلترا وسياستها وما أكثر أدلة أعدائها الحاسدين. إنهم يقولون إن إنكلترا غررت بإيطاليا وأغوتها حتى أسقطتها في المصائب التي حدثت لها في أفريقيا لتنال إنكلترا بذلك آمالها وتحصل على الفوائد التي كانت تتمنى الحصول عليها، ولكن ما أقسى هذا القول وما أشده! على أننا لا ننكر أن لهذا القول مكانًا من الصحة لأننا نعلم كما يعلم غيرنا أن إنكلترا استعملت إيطاليا آلة في حل عقدة المسألة الكبرى في أواسط أفريقيا، ولكن إنكلترا في عملها هذا لم تتعد حدود السياسة المعروفة بين الدول.
فلو قلنا إن ساسة الإنكليز شجعوا إيطاليا فذهبت ضحية غوايتهم ولقيت في أفريقيا ما لقيت من خذلان وفشل فنحن لا نلقي الذنب على كاهل إنكلترا لأنه ليس المسئول عن مصائب إيطاليا إلا إيطاليا نفسها، فكان ينبغي لها أن تزن تشجيع إنكلترا بميزان التعقل، وأن تنظر إلى النصيحة نظر الحكيم فلا تعمل بها قبل أن يقبلها عقلها. فإن لم يقبلها العقل ضربت عنها صفحًا، وكان يجب على إيطاليا أن تعلم أن النصيحة إن عادت بالشرِّ فلا يصيب هذا الشرُّ إلا نفسها.
ويليق بنا في هذا المقام أن نلقي نظرة على تاريخ السياسة الدولية في السنين الأخيرة حوالي منابع النيل؛ لأننا بدون أن نعرف هذا التاريخ حق المعرفة لا نقدر على أن نعرف حقيقة منافع إيطاليا في مصر وعلاقتها بالمركز السياسي الحاضر وبالمسألة المصرية.
على أنا لا نريد أن نذكر الحوادث التاريخية التي ألجأت إنكلترا لتجريد الحملات الحربية التي كان غرضها سحق قوة المهدي في السودان واحتلال أعالي النيل، ولا نريد أن نذكر تاريخ الحملات التي كُتب لها أن تفشل وأن لا تترك إلا أسماء قوادها أمثال «غوردون» و«هيكس باشا» وغيرهما، إنما نرغب أن نذكر القارئ بالزمن الذي كانت إنكلترا فيه تجمع قواها الحربية بعد أن عقدت النية على ضربة المهدية ضربة قاضية وإخلاء أم درمان والخرطوم من الدراويش بعد إهلاكهم؛ لأن إنكلترا رأت في ذلك الحين أنها لو نجحت في أعمالها الحربية ونالت بغيتها من السودان فإنها تقف أمام عقبات كثيرة قبل أن تتمكن من أن تضع يدها على أعالي النيل وقبل أن تتغلب على أهل هذه البلاد، وكانت أعظم هذه العقبات عقبتان لم تر إنكلترا للتغلب عليهما طريقًا؛ أولاهما: أن الحبشة كانت في الجهة الشرقية تأخذ في القوة شيئًا فشيئًا بسرعة أدهشت إنكلترا وجعلتها تشعر بخطر هذه الدولة المستقلة الغنية، وثانية العقبتين أن فرنسا كانت مستولية على أراضي بحر الغزال، فكأنها كانت تسابق إنكلترا إلى امتلاك أراضي السودان وأوشكت أن تفوز عليها، فماذا صنعت إنكلترا لتخرج من هاتين الورطتين؟ وما هي التدابير التي دبرتها للتغلب على تلك العقبتين؟
إن إيطاليا كانت واضعة يدها على مخرج مهم على البحر الأحمر، وذلك المخرج على شواطئ «أريترية»، فكانت إيطاليا تحب دائمًا أن يكون مخرجها في مأمن وأن تكون أملاكها على البحر الأحمر ناجحة غنية، ولم تر أمامها إلا طريقًا واحدًا لتنال بغيتها وهي أن تقهر ما وراء أملاكها من البلاد الخصبة، ولا يمكن أن يتم هذا العمل إلا ضد إدارة الحبشة، ولم يكن ينقص الإيطاليين إلا التشجيع فأعطتهم إياه إنكلترا بكمية وافرة، وحببت لهم عملهم وحسنته في أعينهم؛ لأنه كان من آمال إنكلترا أن الحبشة تشتغل قليلًا بشيء غير مسألة النيل، فكانت الحرب بين الحبشة وإيطاليا خير كفيل لإنكلترا باشتغالها عن أعمال الجنود البريطانية في أعالي النيل وأواسط أفريقية، وكان قصد إنكلترا أنها توجه أنظار النجاشي إلى البحر الأحمر لأنها علمت أنه إذا انتبه إلى هذه الجهة فهي تنجو من شره في أمرين؛ الأمر الأول: أنها تأمن مساعدته وإغاثته للمهدي، والأمر الثاني: أنها تأمن معاندته لها في أعالي النيل، وكان ما كان من أمر الحرب وهزمت إيطاليا شر هزيمة، فساءت تلك الهزيمة إنكلترا لأنها قلبت تدابيرها، ولا نظن أن إنكلترا كانت تعلم بنتيجة الحرب ولا نؤيد القائلين بهذا الظن، ولكن إنكلترا استفادت شيئًا كثيرًا من المعاهدة التي عقدت بين إيطاليا والحبشة …
وهكذا أزالت إنكلترا العقبة الأولى من طريقها وبقيت أمامها العقبة الثانية وهي أصعب جوازًا وأشد خطرًا من الأولى، وهذه العقبة هي وجود فرنسا على ضفاف بحر الغزال، وحالما كانت وزارة إنكلترا الخارجية في غم وتنكيد خطرت ببالها مكيدة بسيطة حلت تلك العقدة وأزالت هذه العقبة من وجه الأسد البريطاني.
وتفصيل تلك المكيدة أن إنكلترا طلبت من بلجيكا وهي صاحبة ولاية الكونجو الحرة أن تضيف أراضي بحر الغزال إلى أملاكها. قبلت بلجيكا هذه الدعوة وقبلت تلك الهدية ولكن فرنسا تنبهت لذلك وضغطت ضغطًا سياسيًّا شديدًا على بلجيكا اضطرها إلى التنازل عن حقوقها وما تم بعد ذلك معروف مشهور، فإن إنكلترا جردت حملة أم درمان الشهيرة وتغلبت على دولة المهدي وبعد ذلك كله بلغت «فاشوده» حملة فرنسوية نصف حربية، هي حملة «مارشان» الذي جاء يقود مائتي رجل ضد «كتشنر» الذي كان يقود خمسة وعشرين ألف رجل، وهكذا اضطر «مرشان» إلى تنكيس أعلام فرنسا، وقد سببت تلك الهزيمة المعنوية في فرنسا حركة كبيرة وحدة بلغت حدًّا عظيمًا، ولكن رأت فرنسا بعد ذلك أنه خير لها أن تتنازل عن حقوقها من أن تدخل مع إنكلترا في حرب بشأن مستعمرة في أواسط أفريقيا.
فلو حسبت فرنسا حساب المستقبل لاتقت شر تلك الخسارة بأن وطدت قدمها في أعالي النيل قبل سقوط «أم درمان» في الفرصة التي سنحت لها بين سنتي ١٨٩٤ و١٨٩٦.
على أن «هزيمة عدوة» الشهيرة التي كانت في الحقيقة صورة ثانية من واقعة «كودين فوركس»، والتي سلم فيها أغلب الجيش الإيطالي للأحباش، أهبطت مساعي إنكلترا في تحويل الحبشة عن النيل، ولكن الحملة الإيطالية جاءت بما كانت ترجوه إنكلترا وزيادة، فكانت نتيجتها أن النجاشي اضطر لتعيين حدود مملكته، فكأن يوم «عدوة» كان يوم موت النفوذ الإيطالي في أفريقيا؛ ولذلك ظهر أثره بسرعة شديدة في سياسة إيطاليا نحو مصر.
فإن إيطاليا بعد «عدوة» يئست من تأسيس إمبراطورية عظيمة في شرق أفريقيا؛ ولذلك أصبح بقاء الحال الحاضرة في مصر على ما هي عليه وتغييرها عند إيطاليا سيان؛ لأنها لا ترجو من مصر فائدة سياسية، وسيرى القارئ في فصل آت أنه لو كانت إيطاليا لا تزال مهتمة بأفريقيا فإن هذا الاهتمام ليس إلا لتحصل في هذه القارة على مخرج يخرج إليه أبناؤها الذين ضاقت عليهم بلادهم، ومن الصعب جدًّا أن تحصل إيطاليا على غرضها بدون أن تعاكس سياسة إنكلترا في أفريقيا.
وقد ابتدأت إيطاليا تحس بكثرة سكانها وقلة موارد الرزق في بلادها كما ابتدأت ألمانيا تحس بذلك، ولا يخفى أن مساحة إيطاليا تزيد بقليل عن نصف مساحة فرنسا، ولكن أهل إيطاليا إن لم يزيدوا على أهل فرنسا فإنهم يعادلونهم عدًّا، فإيطاليا لا يمكنها أن تحيا بدون استعمار وأبناؤها في احتياج شديد إلى المهاجرة، ولكن إيطاليا في خوف شديد من أن أبناءها ينزحون إلى أمريكا؛ لأن من ينزح إلى هذه البلاد يفقد وطنيته ولا يستردها مرة ثانية، ولو كان في قدرة إيطاليا أن تتملك أرضًا في جنوب أمريكا ما تأخرت، ولكن تعليم «مونرو» القائل بأن: «أمريكا للأمريكيين» يقف في وجه إيطاليا وقوف السد في وجه النهر المندفع.
ولسنا في حاجة إلى ذكر كراهية إيطاليا لبريطانيا التي سببها ظن الإيطاليين بأن إنكلترا غررت بهم في حرب الحبشة، ولكننا في حاجة إلى تقرير حقيقة واضحة وهي أنه إذا حدث أن بعض الدول اتفقن ضد إنكلترا فإن إيطاليا تنضم إليهن ولا تناصر إنكلترا أبدًا.
أجل إن إيطاليا يهمها كثيرًا أن تلحق إنكلترا المذلة والصغار، ولو حان حين إنكلترا فإن إيطاليا لا تتأخر طرفة عين عن الاشتراك مع الدول في اقتسام الغنيمة البريطانية. على أن إيطاليا غير محمية من كل جهاتها، فهي ليست في مأمن من هجوم أي دولة من جهة البحر، فلا ينتظر من إيطاليا أنها تكون راضية عن توطيد أقدام إنكلترا في مصر من هذه الجهة، ولو رأت إيطاليا أن مركز احتلال مصر لا يفيد إنكلترا فإنها كما ذكرنا آنفًا لا تهتم بمصر أقل اهتمام؛ لأن إيطاليا لا تريد إلا أن توصل الأذى إلى عدوتها، ولكن منذ سنين قليلة (أي قبل عدوه) لم تكن الحال كما هي الآن، فإن إيطاليا وإنكلترا كانتا على أتم ما يكون من الوفاق في المسألة المصرية، ولكن هذا الوفاق لم يكن إلا لأن منافعهما كانت في ذلك الحين متحدة متفقة، وكانت إيطاليا تريد أن تشد أزر إنكلترا في أعال النيل لأنها كانت تأمل أن تفوز في الحبشة فتتحدان في العمل في أواسط أفريقيا بما تهويان، ومن هنا يظهر سبب مناصرة إيطاليا لإنكلترا عندما طلبت هذه من صندوق الدين المصري نصف مليون جنيه لأجل حملة «دنقلة». وفي هذه الحادثة ضمت إيطاليا صوتها إلى صوتي النمسا وإنكلترا ففازت إنكلترا بذلك رغم أنف عدوتها فرنسا وحليفتها روسيا على أن إيطاليا لا تعود إلى مثل هذا الولاء بغير تعويض يقدمه لها الأسد البريطاني.