المركز الكاذب
نكون مخطئين إذا قلنا بأن «المراكز الكاذبة» في السياسة تضر ولا تنفع لأن الحقيقة هي أن السياسة لا تعيش إلا بهذه المراكز ونحن نعلم أن العالم الأخلاقي لا يرضى بمثل هذه القاعدة السياسية؛ ولذلك فنحن ننصح القارئ هنا بمثل ما نصحناه به في أوائل هذا الكتاب وهو أن لا يحاول أن يسير بالسياسة في الطريق التي يسير عليها الناس في حياتهم الخاصة؛ لأنه يتعب ويفشل ولا يصل إلى نتيجة ترضيه، فإننا مثلًا في الحياة الخاصة نقول بأن كل من يتظاهر بما ليس فيه أو يشغل مركزًا كاذبًا يكون دائمًا عرضة للخيبة والسقوط فيجب على الفرد أن يفر من تينك الصفتين وإذا رماه سوء طاله طالعه في مركز كاذب أو اضطر إلى الادعاء بما ليس فيه فينبغي له أن يضحي كل نفيس وغالٍ ليخلص من إحدى الورطتين.
ولكن الأمر ليس كذلك في السياسة، فإن الدول كثيرًا ما تضطر للدخول في «مركز كاذب»؛ لأن البساطة والبلاهة في السياسة لا تجدي نفعًا. فلنترك العالم الأخلاقي يصرخ بأعلى صوته لأننا لا نستطيع أن نطيع أوامره أو نسمع نصحه؛ لأننا مضطرون إلى أن نقول ما نسميه في الحياة الخاصة «كذبًا وبهتانًا»، ونسميه في السياسة «تساهلًا وتسامحًا»، وكل من له أدنى إلمام بتاريخ الأمم يعلم أن كل أعمالها السياسة كانت مملوءة كذبًا وبهتانًا وكلامًا فارغًا ومراكز كاذبة؛ لأن هذه الأشياء كلها ربما كانت الطرق الوحيدة لحل العقد التي لا يجسر على قطعها السيف، وكثيرًا ما حلت مسائل معضلة بالمراكز الكاذبة والأباطيل والأضاليل ولولا تلك المراكز الكاذبة وتلك الأباطيل لكسرت النصال على النصال بدون أن تصل الدولة إلى غايتها. ولسنا في حاجة إلى أن نتعب القارئ بأن نأتي له بعدة شواهد من التاريخ إنما نسأله أن يلقي نظرة واحدة على الوزارة الإنكليزية، فإنها هي في الحقيقة التي تحكم بريطانيا العظمى، ولكن أوسع الناس علمًا في تاريخ الحكومات ونظاماتها وأبرعهم قدرة على البحث في الدفاتر والأوراق والقوانين لا يستطيع أن يجد كلمة واحدة مكتوبة تشير إلى الاعتراف بالوزارة الإنكليزية كحاكمة للإمبراطورية البريطانية أو بوظيفة رئيس الوزارة.
على أننا نعلم بلا ريب أن الوزارة هي الحاكمة المطلقة، ولكن شرائع البلاد لا تعترف بها بكلمة واحدة.
وبهذه «الطريقة الخيالية» نفسها استطاعت إنكلترا أن تجعل حكومتها دستورية ونصبت لها ملكًا مطلقًا في يده كل شيء، ولكن هذا الملك يعلم حق العلم أنه لا يقدر أن يستعمل تلك القوة المطلقة، وفي قدرتنا أن نأتي للقارئ بألف مثال لا تؤيد تلك القاعدة «فقط» وتجيز استعمال المراكز الكاذبة في السياسة بل تجعلها واجبة وضرورية أيضًا.
وبناءً على ذلك يحق لنا أن نترجل عن «جواد الأخلاق الفاضلة»، وأن نكف عن لوم الدول التي اضطرت لاستعمال المراكز الكاذبة ورب مضطر كان غير ملوم.
وكل ما نود أن نعلم الآن هو هل بقاء إنكلترا في مركزها الكاذب بمصر يفيدها وينفعها؟
نعم إن المنافع التي تنتفع بها إنكلترا من مصر كثيرة لا يمكن عدها ولا يعرف حدها. ولكن هل الاحتلال هو الذي يساعدها على الاستفادة من مصر ويكثر منافعها وهل إذا تخلت عن مصر تقل تلك المنافع وتتلاشى؟
ولأجل أن نلم بأطراف الموضوع وأن نعرف كل ما يتعلق به يجب علينا أن ننظر إلى المسألة أولًا بمنظار المتطرفين من المستعمرين، وأن نرى أدلتهم وبراهينهم التي يقولونها ليقنعوا بها على لزوم استمرار الاحتلال البريطاني في مصر، ثم ننظر إلى المسألة بمنظار الذي يقول بإخلاء مصر وتركها لأهلها. وبعد أن نقف على آراء كل من الفريقين وننقد قول كل منهما على حدة يستطيع القارئ بكل سهولة أن يستخرج النتيجة التي يراها لنفسه.
ولا ننكر أن «الاستعماري المتطرف» متمكن من دليل يظهر له في أول الأمر أنه قوي جدًّا، فإنه يقول: «أنت تعلم أن مصر واقعة على الطريق إلى الشرق فإذا احتلتها دولة معادية لإنكلترا فإن الهند تضيع في طرفة عين وأنت تعلم أيضًا أن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على طريق الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، فيجب علينا أن نحتفظ بها ما استطعنا، وهذا هو السبب الذي يحتم علينا البقاء في مصر.» انتهى كلام الاستعماري المتطرف، نقول إن هذا القول عادل في ذاته ولكن من ينظر فيه بدقة ونقد يراه بغير العين التي يراه بها قائله، وأول ما ينقد هذا القول هو أن مصر ليست في الحقيقة على الطريق إلى الهند؛ لأن الطريق إلى الهند تمر بقنال السويس، فقنال السويس هو رأس عقد الإمبراطورية، ولكن من الغريب أننا لم نسمع بأن أشد المستعمرين تطرفًا اقترح على إنكلترا أن تستولي على قنال السويس الذي تكفلت الدول بحياده.
ولا يمكن لأي متطرف من المستعمرين أن يقول بأن احتلال مصر ضروري لإنكلترا لأنه يضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، فيجب على إنكلترا أن تعرف أنه إذا كانت مصر في يدها أو في يد غيرها فإن البحر الأحمر يكون دائمًا مفتوحًا لسفنها التجارية وأساطيلها الحربية ما دامت صاحبة النفوذ الأعلى في البحار، فإذا دارت الدائرة على قوة بريطانيا البحرية فإن امتلاك مصر وجزيرة العرب أيضًا لا يمكنها من أن تقتحم البحر الأحمر.
ومما يدل على ضعف حجة المستعمرين المتطرفين قولهم إن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على الطريق إلى الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، نقول: فيجب حينئذ على بريطانيا أن تفتح شمال أفريقيا كله فتحتاج إلى معاكسة ألمانيا في مراكش ومحاربة فرنسا في تونس والجزائر ثم تعود فتحتل كل جزائر البحر الأبيض كل هذا لتضمن الطريق إلى الهند، ولكن حزب الاستعمار الحقيقي في إنكلترا أظهر أنه لا يميل إلى مثل هذه المغالاة في الخوف والتطرف في القلق؛ لأنه يعلم أن السيادة في البحر الأبيض المتوسط لا تتم بالاستيلاء على جزيرة أو باحتلال شاطئ إنما تتم ببقاء أسطول قوي لا يمكن أن يكسر، وكل من له إلمام بالتاريخ القديم والحديث يعلم أن سيادة البحر الأبيض المتوسط لم تعقد للدولة التي كانت تملك أغلب شواطئه وجزره، فإن الدولة العربية الكريمة رغمًا عن امتلاكها الشواطئ الشرقية والجنوبية والغربية ورغمًا عن قوتها الحربية في صقلية وكريت لم تستطع أن توقف حركة التجارة في البحر الأبيض المتوسط أو تعاكس القائمين بأمرها. كل هذا لأن العرب لم يكونوا يملكون قوة بحرية عظيمة، وأي دليل على ضعف العرب في البحر الأبيض مع كونهم كانوا يملكون أغلب شواطئه أقوى من أن الإفرنج الذين قاموا بالحروب الصليبية كانوا يروحون ويغدون وهم يشقون عباب البحر الأبيض آمنين سالمين، مع علم العرب بأنهم ذاهبون إلى محاربة المسلمين، على أننا لا نحتاج إلى الاستشهاد بالتاريخ القديم إذا كان التاريخ الجديد يكفينا مؤنة ذلك، فإن أكبر دليل في التاريخ الحديث هو حملة نابوليون بونابرت على مصر، فإنه رغمًا عن امتلاك نابوليون لما كان للعرب بدون السيادة على البحر نال منه أعداؤه الإنكليز فوق ما كانوا يؤملون وظهر لنابوليون أنه لا يصل إلى غايته في البحر إلا إذا كانت له أساطيل قوية، وظهر أيضًا أنه ما دامت سيادة البحر الأبيض في يد أي دولة فاحتلال مصر بدون رضاها محال ولا يخفى أن لا فائدة في احتلال مصر لمن يريد أن يكون صاحب النفوذ الأول في مياه البحر الأبيض.
على أن إنكلترا في القرن الثامن عشر كانت أقوى دولة في البحر الأبيض مع أنها لم تكن تملك غير جبل طارق ولم تتم لها تلك القوة إلا بواسطة أسطولها القوي، وقد يرد علينا بأن الاستيلاء على القواعد البحرية الكثيرة في الزمن الحاضر قد أصبح ضروريًّا؛ لأن الأساطيل كلها تحتاج إلى التصليح والفحم بعكس الحال في الزمن الغابر فإن الهواء كان كل ما تحتاج إليه السفن، فنقول إن إنكلترا بلا ريب تكتفي بجبل طارق ومالطة وقبرص، وقد برهنت بتنازلها عن جزر كورفو بأنها تكتفي بجبل طارق ومالطة فقط.
وفي ختام هذا الكلام الذي حاولنا به أن ننقد كلام المستعمر المتطرف نقول إنه ما دامت إنكلترا هي صاحبة النفوذ في البحر الأبيض فطريقها إلى الهند مفتوحة في وجهها على الدوام، أما إذا كان المستقبل يخفي في طياته مصيبة دهماء للبحرية الإنكليزية، فإن البقاء في مصر يكون على بريطانيا من المستحيل ولو تيسر لما عوض عليها خسارتها.
وربما يقول بعضهم إن منافع إنكلترا التجارية في مصر تضطرها لوضع يدها على مصر، نقول: الحقيقة هي أن إنكلترا لا تطلب إلا حرية التجارة المصرية، وهذه الحرية يمكن الحصول عليها بدون ذلك الاحتلال الإلزامي، ولا نظن أن إخلاء إنكلترا لمصر يسبب زيادة المزاحمين للتجارة الإنكليزية في وادي النيل، فإن إنكلترا لم تفز بالسيادة التجارية إلا لأنها حازت السيادة البحرية منذ زمان، والواقف على الحقيقة يعلم أن إنكلترا لم تحز مركزها التجاري في مصر إلا لبراعة تجارها في إرسال البضائع ووسقها، لا لأنها هي الدولة المختارة. وستستمر مصر على شراء كل ما تحتاج إليه من الأسواق الإنكليزية زمنًا طويلًا لا خوفًا من إنكلترا أو رهبة من نفوذها؛ بل لأنها لا تجد في غير الأسواق الإنكليزية ما يوافقها ولا تجد أثمانًا معتدلة مثل أثمان البضاعة الإنكليزية، ومن هنا يظهر أن السياسة لا تؤثر في التجارة أدنى تأثير.
على أن المطالب بإخلاء مصر يقف حائرًا ويسأل نفسه قائلًا لماذا تتمسك إنكلترا بمصر هذا التمسك؟! على أنه لا يسأل هذا السؤال إلا لأنه لا يرى أن إنكلترا تحصل على منافع عظيمة من احتلال مصر. بيد أن احتلال مصر يساعد إنكلترا على استخدام بضع مئين من الإنكليز في الحكومة المصرية، ولكن لا نظن لحظة واحدة أن سياسة إمبراطورية كبرى كالإمبراطورية البريطانية تدور على مثل هذا المحور الصغير الحقير، فما سبب هذا التمسك إذن بعد أن برهنا أن الجلاء لا يؤثر في إنكلترا تأثيرًا حربيًّا أو تجاريًّا؟ مع العلم بأنه لا توجد في أوروبا دولة تمد يدها إلى ما تتنازل عنه بريطانيا، فإن فرنسا قد صرحت على رءوس الأشهاد بأن منافعها في جهة غير هذه الجهة، وقد بحثنا بحثًا طويلًا خرجنا منه بأن فرنسا لا تنوي أن تمد يدها إلى مصر، وأنها لو كانت تضمر لمصر شرًّا لا تستطيع أن تنفذ ذلك الشر إلا إذا دارت الدائرة على البحرية الإنكليزية فتخرب عن آخرها، وقد ذكرنا أيضًا أن ألمانيا لا يخشى منها وعززنا قولنا بالأدلة والبراهين، وبرهنا أن الدول الصغرى الأخرى لا يخشى منها أبدًا فلماذا تبقى إنكلترا في مصر؟
هل ذلك لأن إنكلترا لا تزال تسعى لتحقيق حلم «سيسيل رودس» الذي تمتد بعد تحقيقه السلطة البريطانية من القاهرة إلى الكاب؟
إنا لا ننكر على إنكلترا التمسك بذلك الأمل لأن مثل هذه الرغبة طبيعية ولا يمكن لأحد أن يطلب منها التخلي عن تلك الفكرة، ولكن كما قلنا فيما تقدم إنه توجد طرق شتى للحصول على غاية واحدة، فليس من الضروري أن تمر السكة الحديدية من الكاب إلى القاهرة بمستعمرات مطيعة كلها رغم أنفها للتاج البريطاني، فإن الحكومة الإنكليزية عرفت من زمن بعيد قاعدة بسيطة وهي أنه لا ينبغي أن تكون المستعمرات البريطانية بأسرها على شاكلة واحدة، ونحن نرى بين مستعمراتها مستعمرات محالفة لها مثل كندا وأستراليا، وهذه المستعمرات لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الوداد ومستعمرات يطلق عليها اسم الولايات؛ مثل الهند ومستعمرات محمية مثل قبرص وما شاكلها. وغير تلك المستعمرات توجد في الهند ولايات وطنية لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الصداقة، ولكن تلك الولايات هي وإنكلترا على بساط المساواة وتسمى «محالفات الإمبراطورية»، فلماذا لا تكون مصر على شاكلة تلك الممالك المحالفة مع أننا نعترف بأن مصر لم تصل إلى هذه الدرجة التي يمكنها بها أن تكون محالفة للإمبراطورية العظمى إلا بعد وصاية إنكلترا عليها، فهل تنكر إنكلترا على مصر قدرتها على القيام بهذه الوظيفة مع أنها هي التي ربتها وهذبتها وسهلت عليها الوصول إلى هذه الدرجة؟
نعم إن مصر إذا كانت حرة وأمامها إنكلترا تنظر إليها نظر الحارس المحب فإنها تكون أنفع لإنكلترا منها الآن وأصدق ودًّا وأكثر إخلاصًا وخضوعًا إذا كان الخضوع مطلوبًا … وسنأتي فيما يأتي من هذا الكتاب على شرح المركز الذي تشغله مصر بعد تحريرها.
عندما نتكلم عن إخلاء مصر فإننا لا نقصد تركها مرة واحدة. وقد أثبتنا فيما تقدم أنه لا توجد دولة أوروبية تجسر على أن تضع يدها على مصر خوفًا من إنكلترا لا خوفًا من مصر، فإذا حدث في المستقبل ما يضر بإنكلترا فإن الضرر يعود بلا ريب على مصر. ويمكننا في كليمات قليلة أن نبرهن للملأ أن مصر إذا كانت حرة لا يمكنها أن تتخذ سياسة عدائية نحو إنكلترا، فإنها إن حاولت ذلك فلا يكون جزاؤها إلا التنكيل الشديد، وعندما تسحب بريطانيا حاميتها (التي نقصت الآن حتى أصبحت لا تعد في الحقيقة قوة حربية) من مصر، فإن مصر ترجع دائمًا إلى إنكلترا وتكون في المسائل الخارجية تحت سيطرتها ونفوذها؛ لأنها محدودة من جهتين ببحرين ومحدودة من الغرب بالصحراء وأما من الجنوب فليست محدودة بحد طبيعي كالبحر والصحراء؛ لأن ما وراء حدودها يقع في السودان. فمصر محاطة بقوة إنكلترا من كل جهة على أننا إذا طالبنا إنكلترا بإخلاء مصر فإنه لا يخطر على بالنا أن نسألها أن تتنحى عن السودان، فإننا نترك مسألة السودان جانبًا كما يتركها أي وزير عاقل هذا لأن مركز إنكلترا في السودان غير مركزها في مصر، فإن السودان في الحقيقة ملك بريطانيا بأقدس الحقوق وهو حق الفتح بالسيف والمدفع، فليس السودان إلا قطعة من بريطانيا، ونحن لا نقصد بقولنا هذا أن ننسى بأن هناك شركة اسمية بين إنكلترا ومصر في السودان، ولكن هذه الشركة ليست إلا صورة رسمية وليس وراءها شيء …
وغني عن البيان أن مخابرات قليلة مع الحكومة المصرية تخرج معاهدة جديدة وبها ينتهي كل شيء، ولا نظن أن المستقبل يخفي وراءه صعوبة في طريق هذا العمل، فقد اعترف سياسيًّا منذ زمن بعيد بأن إنكلترا هي المالكة الوحيدة للسودان، ولم يتم الاعتراف الرسمي لأن إنكلترا كانت تهاب فرنسا، ولا يزال كلنا يذكر المخابرات التي دارت بين اللورد سالسبوري والحكومة الفرنسوية، بشأن حدود أملاك إنكلترا وفرنسا في أواسط أفريقيا وتعيين دائرة نفوذ كل من الدولتين، ولا يزال كلنا يذكر الأراضي الواسعة التي تنازل عنها سالسبوري لفرنسا ومنها «واداي»، وبذلك تمكنت إنكلترا من تعيين حدود السودان بالضبط، فلو لم يكن السودان ملك إنكلترا المطلق لما اكتفت فرنسا بأن تتخابر مع مندوب إنكليزي في شراء حدود السودان؛ بل كانت تطلب من ينوب عن مصر أيضًا لينوب عنها في هذه المخابرات، ولكن فرنسا لم تحرك لسانها بكلمة في هذا الشأن وهذا يدل على أنها تعترف بملكية إنكلترا للسودان.
وحيث إن المصريين اشتركوا في فتح السودان فينبغي لنا أن ننظر إلى حقيقة هذا الاشتراك فنقول إن كسر شوكة المهدي وإخماد أنفاس نهضته كانا من أهم الأمور لمصر؛ وذلك لأن حدودها الجنوبية كانت أبدًا في خطر شديد من هجوم المهدي وجنوده ودخوله مصر، أضف إلى ذلك أن الطرق التجارية في أواسط أفريقيا كانت مقفلة في وجه مصر، وهكذا حرمت من مورد رزق شرعي لها.
فلما جاءت إنكلترا رأت أن كبح جماح المهدي ضروري لأمرين الأول مراعاة لمصلحة التجارة المصرية التي تستفيد هي منها كثيرًا، والثاني لأغراض أخرى كانت ترمي إليها فإن قوة المهدي ونفوذه أتعبا إنكلترا على حدود أملاكها في غرب أفريقيا وكانا سببًا في تعطيل أعمالها هناك لأن دعوة المهدي كانت انتشرت حتى «بنين» و«كوماسي» فنتج عن ذلك أن تجارة أواسط أفريقيا وقعت بين نارين، وكانت إن فاتها الخطر لا يفوتها التعطيل، وهكذا لم تجرد حملة السودان إلا بناءً على رغبة إنكلترا رغمًا عن معاندة فرنسا وحليفتها روسيا، وقد ذكرنا فيما مضى الطريقة التي حصلت بها إنكلترا على موافقة إيطاليا ونالت بها ٥٠٠٠٠٠ج من صندوق الدين المصري، على أننا لم نذكر الفائدة التي حصلت عليها إنكلترا بموافقة إيطاليا لها، فإن إنكلترا بعد أن حازت رضاء إيطاليا قامت فرنسا وروسيا ورفعتا دعوى في المحاكم المصرية ليعرقلوا مساعي إنكلترا، فاضطرت إنكلترا حينئذ لأن تعتمد على ماليتها هذا وليس من المهم إذا كان الجيش الذي حارب في السودان مصريًّا أو إنكليزيًّا فإن الجنود المصريين أكثر جنود الأرض استعدادًا لهذا العمل، وقد برهنوا على ذلك بالأعمال الجليلة التي قاموا بها في السودان والتي كانت في الحقيقة الخطوة المهمة في سبيل فتحه، ولكن الحقيقة هي أن الفكرة كانت إنكليزية والمال الذي أنفق على الحملة كان إنكليزيًّا والقواد والضباط كانوا من الإنكليز، فلسنا بعد هذا كله محتاجين إلى القول بأن السودان هو ملك حلال للإنكليز. ولنتقدم الآن للبحث في أهمية السودان بصفة كونه مستعمرة إنكليزية فنقول: إذا كانت مصر هي أحسن قاعدة حربية لأجل فتح السودان فليعلم القارئ أنه منذ فتوحه قد أصبح الوصول إليه من الجنوب سهلًا وهذه السهولة تزداد يومًا فيومًا.
وفي مستقبل الأيام سيستغني القادم إلى السودان عن المرور بطريق مصر لعدم الاحتياج إليه فإذا كانت في الخرطوم حامية إنكليزية فلن يخشى عليها من مصر؛ لأن مصر لا تستطيع أن تقطع عنها الذخيرة ما دام طريق الجنوب مفتوحًا في وجه القادم بذخيرة أو نجدة لحامية الخرطوم، ولكن لا يخفى أن مصر لا تكون أبدًا في مأمن ما دامت إنكلترا أمامها في البحر الأبيض بأساطيلها وخلفها في السودان بجنودها. هذا بقطع النظر عن المنافع المتحدة بين إنكلترا ومصر التي تجعل السلام ضروريًّا في وادي النيل، وبقطع النظر عن أن المصريين لا يستطيعون أن يعادوا إنكلترا خوفًا من أنها تحصرهم من كل الجهات.
ولا ينكر علينا أحد أهمية السودان لمصر، فإن السودان ومصر توءمان لا ينفصلان، وحسبنا على ذلك دليلًا أن الفراعنة لم يدخروا وسعًا في فتح هذه البلاد وإخضاعها، ولا نشك في أن الأسباب التي دعت هؤلاء الملوك الأقدمين إلى فتح السودان هي نفسها التي دعت المصريين المحدثين إلى كسر شوكة المهدي وكبح جماحه؛ هذا لأن حياة مصر معلقة بخيط دقيق جدًّا وهذا الخليط هو نهر النيل، والقوة التي يكون إقليم أعالي النيل في يدها تكون مصر لا محالة رهينة أمرها وليس على من يريد أن يغير تاريخ مصر إلا أن يغير مجرى النيل.
وقد وصلنا بعد هذا البحث إلى نتيجتين؛ أولاهما: أن إخلاء مصر لا يضر بالتجارة البريطانية، وثانيتهما: أنه لا يضر بالسياسة الإنكليزية لا من مصر مباشرة ولا من أي دولة أوروبية، فلا يوجد حينئذ سبب معقول يمنع إنكلترا عن ترك مصر كما تركت غيرها واستفادت من هذا الترك، ولا نظن أن السياسة البريطانية تدور على محور القوة أو أنها اتخذت شعارًا «هنا نحن وهنا نحن نقيم».
وقد بحثنا في سياسة بريطانيا الاستعمارية بحثًا عامًا، وسنبحث فيها الآن بحثًا خاصًّا لنرى هل حدث في تاريخ إنكلترا أنها وجدت نفسها في مثل مركزها في مصر، وسنرى هل اتخذت إنكلترا في مثل هذه الحال حلًّا مثل الحل الذي نشير به عليها، فنقول: إذا نظرنا في خريطة ملونة من خرائط الهند نرى جزءًا كبيرًا من الولايات الهندية مكتوبًا عليه «مستقل تحت حكم أمراء وطنيين»، وهذه الولايات المستقلة هي في الحقيقة في مركز يشبه مصر بعد تحريرها تمام الشبه، فإن هذه الولايات محاطة من كل جهاتها بولايات تحت الحكم البريطاني ولكن بريطانيا رأت من الحكمة وحسن السياسة أن لا تستولي على تلك الولايات، ولم تقبل ثمنًا لإعفاء هذه الولايات من الاحتلال أو الامتلاك إلا حسن السلوك فإن حسن سلوك هذه الولايات هو الذي استطعن به أن يحفظن استقلالهن.
على أن إنكلترا تستفيد من إخلاء مصر فائدة عظمى وهي خلاصها من مركز كاذب كثيرًا ما وقف في طريق معاملاتها السياسية، وإنا لا نشك في أن إنكلترا اضطرت مرارًا للإذعان لأعدائها خوفًا من تهديدهن لها بمركزها الكاذب، وإننا لا نريد بهذا التلميح أن نلوث الاتفاق الودي بين إنكلترا وفرنسا أو نرميه بما يعد عارًا، ولكننا لا نتمالك أنفسنا من السؤال الآتي، وهو: ما هي الفائدة العظمى التي عادت على إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟
رُبَّ مجيبٍ يقول إن إنكلترا تنوي أن تحتل مصر احتلالًا نهائيًّا جبريًّا فحصلت على هذه المعاهدة؛ لأنها لا تود أن يحرك عملها هذا غيظ فرنسا فتسعى هذه في وضع العقبات في طريق إنكلترا، على أننا قلنا وعززنا قولنا بالبرهان إنه لو تم لإنكلترا احتلال مصر بدون معارضة أو معاكسة من فرنسا فإن هذا الاحتلال لا ينفع إنكلترا أبدًا؛ لأن محالفة باريس التي عقدت في ٨ أبريل سنة ١٩٠٤ تحرم علينا الظن بأن ساسة إنكلترا ينوون شيئًا من هذا القبيل، فإن مواد هذه الاتفاقية توضح هذه النقطة خاصة توضيحًا لا يحتاج إلى تفسير، وفي هذه المعاهدة تصرح إنكلترا بأنها لا تنوي أن تغير المركز السياسي الحاضر في مصر. فنسأل ثانيًا: ما هي الفوائد التي استفادتها إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟ إن فرنسا استفادت فائدة كبرى بتصريحها بعدم تداخلها في المسائل المصرية في المستقبل وقد بالغ كتاب الإنكليز في تقديرهم أهمية المنافع الإنكليزية في مراكش، وقد رأى القارئ فيما تقدم أن ألمانيا هي الأولى بين الدول صاحبة المنافع والحقوق التجارية في البلاد المراكشية، ولا ننكر أن إنكلترا كانت لها منافع تجارية في مراكش أهم من منافع فرنسا، ولم يكن أحد يعرف الحد الذي تصل إليه هذه المنافع؛ لأن بلاد المغرب الأقصى لا تزال عذراء ولا يعرف أحد منابع ثروتها الحقيقية.
ونحن لا نعارض في رضاء إنكلترا بتضحية نصيبها في خيرات مراكش بانسحابها منها، وتصريحها لفرنسا بوضع يدها عليها كما وضعت يدها على الجزائر، إذا كانت إنكلترا ترى لنفسها نفعًا في التساهل مع فرنسا في هذه المسألة؛ لأن الكرم في السياسة لا وجود له، فإن السياسة كلها في كلمتين «خذ وهات»، وإذا حدث أنك أعطيت أكثر مما أخذت فالويل لك، فيظهر من هذا أن إنكلترا بانسحابها من مراكش حيث كانت تعمل لمنافعها التجارية بجد واجتهاد قد أعطت لفرنسا شيئًا عظيمًا وأخذت منها ورقة رسمية، وإذا أخلت إنكلترا مصر فإنها توفر على نفسها مثل ذلك الضعف الذي ألجأها لعقد المحالفة الفرنسوية الإنكليزية، ونحن لا نود أن نتكلم هنا عن المضار التي تعود على إنكلترا في السياسة الدولية من إشغالها المركز الكاذب، ولكننا سنتكلم عن المضار التي تعود عليها في مصر ذاتها، فنقول: من الواضح أن المستخدمين الإنكليز في مصر يملكون قوة عظيمة، ولكن من المحقق أيضًا أن هذه القوة لا أساس لها، ومن الواضح أن تحققهم من ثبات مراكزهم يجعلهم على الدوام عرضة للضعف الأدبي الذي يلجئهم للانتقام من أي إنسان يبغضونه بحق أو بغير حق، وقد ثبت كثيرًا أن بعض هؤلاء المستخدمين الإنكليز عجزوا عن تبرير أعمالهم عندما سئلوا أمام سلطة عليا.
وحدث كثيرًا أن بعض المستخدمين الإنكليز أوعز لهم بالاستعفاء وبعضهم رفض طلبه لوظيفة في الحكومة المصرية رغمًا عما كانوا مزودين به من الوصايا العظيمة، وما أرغم هؤلاء على الاستعفاء، وما رفض طلب هؤلاء الطالبين؛ إلا للابتعاد عن المشاكل والمشاغب، وقد قلنا إن كل شيء في مصر سائر على محور السكون والهدوء، وما ذلك إلا لذكاء اللورد كرومر وحسن سياسته وبعد نظره، ولكن المركز الذي يعتمد على الذكاء والفطنة وحسن السياسة لا يعد مركزًا ثابتًا إنما هو مركز كما ذكرنا كاذب، فإن كل عاقل يفضل أن يتم كل شيء في المسائل السياسية باللين واللطف أحيانًا، ولكن تحدث أمور تجعل التصريح والتأكيد والشدة ضرورية، فإذا حدثت مثل هذه الأمور في مصر واضطرت القابضين على زمام السياسة من الإنكليز إلى التصريح والتأكيد فإنها تختفي بسرعة غريبة، ويقول الذين كانت لهم علاقات خاصة بالحكومة المصرية إن هذه الظروف الحرجة التي تدل على سياسة خرقاء تحدث كل يوم.
ولا يخفى أن من يشغلون الوظائف في الحكومة المصرية من الإنكليز ما عدا من يشغل وظيفة المستشار المالي ليس لهم حق رسمي في مصالح الحكومة المصرية، ولا توجد وظيفة واحدة يجب فيها وجود إنكليزي، ومع هذا فإن الإنكليز سائدون تمام السيادة في مصالح الحكومة الكبرى، لماذا؟ إننا لا ندري وهم أيضًا لا يدرون …
لماذا كل هذا الحذر وكل ذلك الخوف من التصريح بالحقيقة التي لا تزال مكتومة؟ وكل هذا التردد في إيضاح حقيقة المركز السياسي؟ إن ذلك لا يليق بحكومة إمبراطورية عظيمة كإمبراطورية بريطانيا. لماذا كل هذه المواربة والمماحكة التي لا تعود في الآخر إلا بالكراهية والبغض والنفور وترمي أصحابها بما يفرون منه؟
وليت مضار ذلك المركز الكاذب تقف عند حد المقلقات الوقتية، ولكن للأسف نحن نرى أنه يعود بعواقب وخيمة مؤلمة دائمة، فإن هذا المركز كان سببًا في اشتهار سياسة إنكلترا في مصر بالتردد الممقوت ووضعها في موضع كانت غير محتاجة إليه؛ نعم! إن ذلك المركز السياسي أسدل على إنكلترا شبكة من الريب والشك مع أنها بريئة طاهرة الذيل.
ونحن نشير بهذا الكلام إلى الرواية المحزنة التي مثلت على ملعب الخرطوم وذهب بطلها العظيم الجنرال غوردون شهيد سياسة خرقاء وعزة نفس شماء، ولقد أشار أعداء إنكلترا كثيرًا إلى حادثة غوردون وكيف أن أهل وطنه هجروه مع علمهم بحرج مركزه، ولا غرو، فقد وجد الأعداء من ذلك الحادث المؤلم ما فتح أفواههم وحرك ألسنتهم بقولهم: «ليس هذا الحادث إلا نتيجة خيانة لا غفران لها»، وقد تطرفوا فقالوا: «إن إنكلترا غررت بغوردون وصنعت ما صنعت لتجد لها عذرًا إذا أرادت فتح السودان.»
على أننا لا نتردد لحظة واحدة في تكذيب هذه الإشاعة التي ليس لها من الحقيقة مكان، لأن نجل مقام الحكومة الإنكليزية والمستر غلادستون عن مثل هذه الجريمة السوداء — هذا إذا صدقنا بأن غلادستون وحكومته قدروا على تدبير مثلها — ولكننا لا نستطيع أن نمدح سياسة أدت إلى مثل هذه النتيجة.
على أن مذكرات غوردون تلمح تلميحًا بسيطًا إلى حل هذه العويصة، فإننا نرى في مذكراته صورة الرسائل التي بعث بها يطلب المعونة وكأن الحكومة الإنكليزية وضعت أناملها في أذانها لئلا تسمع صراخ هذا البطل الشهيد، وما كان أسهل على الحكومة الإنكليزية أن تبعث بألفي رجل ينجدون غوردون من أسره ويخرجونه من غمرته؟
على أننا نعلم أن الحكومة الإنكليزية أضاعت ذلك الوقت الثمين في الجدل الباطل والنزاع الفارغ فيمن يبعث النجدة، ومن يتحمل نفقاتها التافهة فكأن الحكومة الإنكليزية كانت مغلولة الأيدي غير قادرة على العمل، وما ذلك إلا لأن مركزها كان في وادي النيل كاذبًا، فيظهر من ذلك أن المركز الكاذب الذي يجلب على حكومة عظيمة كل تلك المصائب جدير بالترك والهجر مهما ضحت الحكومة في سبيل تركه من المنافع والفوائد!
وبعد أن فحصنا السياسة الاستعمارية البريطانية في قارات العالم كله رأينا أن بقاء إنكلترا في مصر على الدوام لا يفيدها فوائد حقيقية؛ لأنه ليس من الضروريات لأجل نجاح سياستها الاستعمارية، وقد رأى القارئ أن إخلاء مصر لا يعود على إنكلترا بأدنى ضرر فإن مصر مع كونها حرة تبقى في دائرة النفوذ البريطاني الذي يحيط بها من البحر والبر، ونظن أن هذه الإحاطة تضمن لإنكلترا حسن سلوك مصر، ورُبَّ قائلٍ يقول سلمنا جدلًا بأن الجلاء يعود على بريطانيا ومصر بفوائد شتى، وإن الاحتلال النهائي ربما يسبب صعوبات شتى وربما ينتهي بحرب شعواء تضر إنكلترا ولا تنفعها، ولكن ما هي مضار المركز الحالي؟ فجوابًا عن هذا السؤال نقول: لقد ذكرنا بالتلميح والتصريح أنواع الضعف السياسي الذي سببه احتلال مصر لإنكلترا من أنها كثيرًا ما تذعن لأعدائها خوفًا من تغييرها وتهديدها بمركزها الكاذب، وذكرنا المراكز الحرجة التي تقع إنكلترا فيها لعدم توضيح السلطة البريطانية الحقيقة في وادي النيل، وسنتكلم الآن على مضار شتى تتحملها إنكلترا من احتلال مصر وتكفي هذه المضار التي نذكرها ونذكر نتائجها لأن نخرج منه بنتيجة واحدة، وهي أن إخلاء بريطانيا لمصر في نظر الإنكليز أنفسهم ليس عملًا طائشًا وليس مضرًا كما يتقول المتقولون المرجفون، فنقول: من الأضرار العظيمة التي تئن منها مصر في الزمن الحاضر الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، على أننا لا نود أن نقصر بحثنا على القضايا المنطقية والأبحاث الخيالية بل نريد أن نفحص الحقائق الثابتة التي لا يمكن إنكارها أو تغييرها، وبذلك يمكننا أن نظهر للملإ المضار المادية والأدبية التي تعود على إنكلترا ومصر من هذه الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، ولا يخفى أن البلاد التي لا يمكن الحصول فيها على الحكم في القضايا وتنفيذ أوامر العدالة بسرعة تكون دائمًا عرضة للخراب والدمار لأن أهلها يفقدون الثقة في بعضهم البعض وتقل الأمانة من بينهم، وكل تلك المصائب تعود على التجارة بالتعطيل والضرر البليغ. على أن الغريب الذي ينزل بمصر أيامًا معدودة ثم يرحل عنها لا يستطيع أن يقف على العقبات الكثيرة التي تعوق العدالة عن أن تجري مجراها والطرق العديدة التي تزهق الحق فداءً للباطل، ولكن الذي يعيش في البلاد ويعاشر أهلها ويقف على كل شيء فيها يمكنه بكل سهولة أن يتحقق صدق ما نقول.
أجل إنه يكاد يكون من المستحيل في هذه البلاد أن تقتص العدالة من الجناة المذنبين، ومن نكد الدنيا على مصر أنها بلاد لا يخفى الجناة فيها أنفسهم ولا يتبرأون من جرائمهم، كأنهم يفتخرون بها.
ولا نقول إن العدالة مفقودة في مصر لقلة المحاكم وندرة دور القضاء، كلا، فإن المحاكم كثرت كثرة عظيمة حتى يوشك أن يضل طالب العدالة عن مكانها ولا يدري أين يلتمسها.
غير أن مصر لا تزال خارجة عن حدود الأمم الراقية، ونقصد بذلك أنها لا تزال محرومة من أقدس حق أي أن أمر العدالة في بلادها ليس في يدها، فإن القنصليات في مصر ليست قنصليات فقط بل هي أيضًا محاكم مستقلة تحاكم كل منها أمامها من يذنب من أبناء الدولة التابعة هي لها، وعدا ذلك فإنه توجد في مصر محاكم مختلطة نصبت للفصل في القضايا بين الوطنيين والأجانب وبين الأجانب المختلفي الجنسية والوطنيين، وغني عن البيان أن هذه المحاكم لا تزال سببًا للمتاعب والمشاكل، هذا ولسنا في حاجة إلى ذكر الارتباك الذي ينشأ عن اختلاف تلك المحاكم وكثرة أنواعها وطرق رفع الاستئناف من بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المتقاضون في كل بلد، وهذا جزء من كل من الاضطراب السائد على نظام القضاء المصري مع العلم بأن القضاء هو أهم شيء في الحكومة لأنه يتناول أعمال الحياة والمعيشة القومية في كل وقت؛ بل هو النظام الوحيد الذي يجب أن يكون نظامه أبسط نظام وترتيبه أسهل ترتيب ليعرفه البعيد والقريب.
ويرى القارئ في هذا الكتاب من أوله إلى آخره أننا ابتعدنا جهد طاقتنا عن مواطن الملام وأماكن الاتهام لننفي عن ذهن المطالع الظن بسوء قصدنا، وأن نصرف فكره عن الحسبان بأننا نسر ونطرب عندما نظهر للملأ أن فساد نظام القضاء المصري ليس إلا من نتائج الحكم البريطاني، فإن مثل هذه التهمة وإن كانت قد وجهت إلى السياسة البريطانية مرارًا فإنها في الواقع ونفس الأمر خالية من الصدق.
وكما اجتهد الإنكليز في إصلاح المالية وترتيبها ونظامها ترتيبًا ونظامًا حق لمصر معهما أن تفاخر بها أية دولة أوروبية كذلك اجتهدوا في إصلاح القضاء وسعوا جهد طاقتهم في تمهيد سبل الوصول إلى العدالة، ولكن صادفتهم في طريقهم صعوبات شتى أكبر من أن يتغلبوا عليها وعقبات أعظم من أن تجاز، فكانت النتيجة أن الفوضى والفساد والظلم لا تزال في المكان الذي ينبغي أن يكون نموذج النظام والترتيب والعدل، وأي إنسان ينكر علينا ذلك؟ بل من يقدر أن يشير إلى خطوة واحدة سارها القضاء المصري في طريق التقدم. ويحق لنا أن نأسف أسفين؛ أسفًا على ما ذكرنا، وأسفًا جديدًا لا على أن الجرائم لا تزال تنخر عظام العدل والأمن فقط بل على أنها في ازدياد سنة فسنة وشهرًا فشهرًا.
نقول — ولا يخفى على اللبيب — إن كل الطوائف الأجنبية التي أتت لتسكن مصر لم تأت حبًّا بطيب هوائها وصفاء سمائها؛ بل أتت كلها لتجمع أعظم ثروة في أقصر وقت، فتراهم يبررون الوسائل ما دامت تلك الوسائل تؤدي إلى كسب المال، فإن رغبتهم الوحيدة هي أن يكوموا المال تكويمًا ويربوا ثروة طائلة بسرعة فائقة، ولا يخفى أن الثروة الطائلة لا تربى في زمن قصير إلا على «كيس الغير»، فينتهز هؤلاء الخونة فرصة ارتباك القاضي واضطراب القضاء ويسلبون وينهبون كما يرغبون ويفرون بلا عقاب؛ لأن أعمالهم الشيطانية تغيب عن فكر القضاء المصري، ولو حدث أن يد العدالة مدت نحو أحد هؤلاء فإنه يجد لنفسه مهربًا بين زوايا القوانين المتناقضة المتباينة وأركان الإدارة المختلة المعتلة.
وليس في مصر غير قوة واحدة يهابها هؤلاء الخونة ويحترمونها وهي إنكلترا، ولكن كثيرًا ما يقف «المركز الكاذب» في وجه إنكلترا فيعوقها عن العمل السريع، وقد يعلم هؤلاء الشريرون أن إنكلترا لا تملك الحق الذي يخول لها إيصال الأذى إليهم فيستفيدون من هذه الحقيقة فوائد كبرى، وهكذا سنة بعد سنة تستمر تلك الحال غير المرضية على ما هي عليه والمحاكم القنصلية تعمل كما تريد فتعدل وتظلم لا علمًا ولا جهلًا، وفي المحاكم المختلطة تقوم قيامة القوانين فيتحارب القانون الفرنسوي مع القانون الإنكليزي والقانون الإنكليزي مع الشريعة الإسلامية، فتقنن قوانين جديدة لتحل عقدة الارتباك، فتجيء تلك القوانين الجديدة ضغثًا على إبالة، هذا ولا يعلم نتيجة ذلك الارتباك المستمر والاضطراب الدائم إلا الله.
وهناك وسيلة واحدة لإصلاح الحال وهذه الوسيلة هي إلغاء المحاكم القنصلية وإقامة قانون واحد يطيعه الكل ويذعن له الجميع، ولكن هذا العمل فيه صعوبات كثيرة ورغمًا عن هذا، فأين اليد القوية التي تجسر على القيام بهذا العمل؟ على أنه ليس من السهل إيجاد قانون كامل يوافق مطالب هذا الشعب المختلط.
ولقد رأينا فيما مضى أن تنظيم المالية المصرية لم يسبب أتعابًا وصعوبات كثيرة؛ لأن أغلب أوراق الديون المصرية كانت في أيدي الإنكليز والفرنسويين، وبهذا تحول الأمر إلى مسألة فرنسوية إنكليزية، ولكن مسألة القضاء تختلف كثيرًا عن المسألة المالية فإن حقوق القضاء التي في يد كل دولة أجنبية يرجع أصلها إلى ما يسمى بالامتيازات، وهذه الامتيازات هي عبارة عن معاهدات معقودة بين كل دولة أجنبية وبين الدولة العلية التي لا تزال تعتبر صاحبة السيادة الحقيقية على مصر.
نقول وللأسف إن هذه المعاهدات لا تحتوي تفويضًا تامًّا ممنوحًا من قبل السلطان للدول في بعض الأعمال القضائية فقط؛ بل إنها أيضًا مملوءة بجمل معقدة ومعاني ملتبسة ومحشوة بالألغاز السياسية التي تعجز الجن عن حلها، ومكتظة بالتلميحات والإشارات، ولكن على هذه المعاهدات يتوقف حلُّ مسائل الشرق الأدنى، فإذا حاولت إنكلترا أن تمس تلك المعاهدات هبت الدول المختلفة في وجهها كما يهب النحل من خليته في وجه من يجني الشهد. وما أغنى إنكلترا عن تلك اللذعات إذا كانت لا تحتاج إلى الشهد؟ ولكن بدون إلغاء هذه الامتيازات لا يمكن حل عويصة القضاء المصري، ولو فرضنا أن هذه الامتيازات ألغيت ففي يد من توضع قوة القانون والقضاء؟ مع العلم بأن إنكلترا إذا طالبت بهذا الحق فإنها لا تلقي إلا مقاومة وإباءً، ويرى القارئ مما تقدم أن المسألة القضائية أكثر تعقيدًا من المسألة المالية، ولا يمكننا أن نفكر بأنها تحل بعقد مؤتمر دولي يجتمع فيه مندوبو الدول ويقررون بشأن القضاء المصري ما يريدون، فيسعى هذا المؤتمر لتوحيد القانون بأن يضع قانونًا رسميًّا يطابق أغراض الجميع وينفذ على رعايا الجميع، ولكن عقد مثل هذا المؤتمر بعيد الحصول جدًّا لأنه لو اجتمع لاختلف أعضاؤه اختلافات شتى؛ لأن لكل طائفة دينًا ولغة ومبادئ تخالف دين ولغة ومبادئ غيرها، ولا يغالي من يقول إن مثل هذا المؤتمر لا يوشك أن يجتمع حتى يفترق، على أننا لا نرى لهذه المسألة إلا حلًّا واحدًا فقط، وهذا الحل هو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها في يدها، يجب عليها أن تسأل الدول أن يسمحن لها بالدخول في صفوفهن وأن يعددنها منهن لتستطيع أن تنفذ عدالتها بيدها. أليس من العجيب أن تبقى مصر كل هذا الزمن محرومة من الحقوق التي منحت لجمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور، وكلتاهما حكومتان حقيرتان سادت فيهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟!
هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوروبية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا إذن يحرمون من التمتع بالحقوق المتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟ عندما كنا نبحث في المسائل المهمة التي نريد بعد البحث فيها الوصول إلى حكم على مستقبل مصر أغفلنا رأينا في مسألة من أهم المسائل التي يجب حلها قبل تغيير المركز السياسي في مصر، وقد نظرنا إلى المسائل المصرية التي بحثنا فيها بنظر السياسي إلى السياسة الأوروبية، وقد رأى القارئ كيف أن الدول جمعاء لا يهمها حل المسألة المصرية لأنهن رأين أن حلها لا يؤثر في مستقبلهن الحاضر مباشرة، على أننا لم نذكر شيئًا واحدًا عن المصريين الوطنيين أنفسهم، ونرجو أن لا يظن أحد أننا أغفلنا ذكرهم لعدم اهتمامنا بمستقبلهم.
ورغمًا عن تلك الأعمال التي غيرت السياسة الدولية في مصر بسرعة فإن نظام المالية والإدارة السائد ليس إلا أثار نظام طال عليه القدم.
إنه من المضحك المبكي أن يرى الإنسان خزائن مصر مملوءة بالذهب والبلاد محرومة من أن تمد يدها إليه لتستعمله فيما يضيف إلى ثروتها وأرباحها، وكل سنة تزيدنا علمًا بأنه من الظلم بقاء ذلك الضغط على الحرية المالية في مصر، فإننا إذا فهمنا سبب ذلك الضغط في الزمن الغابر زمن إملاق الحكومة المصرية وإفلاسها، فإننا لا نفهمه في الأيام الحاضرة التي أصبح سداد الديون المصرية فيها مضمونًا. إنا لا نعارض في بقاء النظام الذي بمقتضاه يدفع بعض الدخل إلى صندوق الدين مباشرة؛ وحيث إن ما يدفع بهذه الطريقة يكفي لتغطية أرباح الدين ويكفي لدفع المال الذي تراه الدول كافيًا لاستهلاك الدين؛ فيجب أن تمنح الدول الحكومة المصرية حق التصرف فيما بقي كما تشاء، ويجب إلغاء قانون «المصروفات المصرح بها والمصروفات غير المصرح بها»، وأرى أن مصر في حاجة ماسة جدًّا إلى هذا الإصلاح، فإنها بلاه لا تستطيع أن تستفيد من إصلاح ماليتها التي لم تصلح إلا بعد مشاق شديدة. ا.ﻫ. (كلام ملنر).
على أن امتيازات صندوق الدين التي كانت تخول له حق الحصول على قدر معلوم بالنيابة عن أصحاب الديون قد أصبحت عظيمة جدًّا، فقام أعضاؤه يطالبون الحكومة المصرية بحق سيطرتهم في تنفيذ كل الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمالية المصرية بالنيابة عن الدول الأوروبية، وأضف إلى ذلك أن قبولهم ورضاءهم قبل استعمال أي مبلغ من المال من أهم الأمور. ومن الغريب أن كل الأموال المقررة تدفع لهم مباشرة بدون أن تمر بنظارة المالية، وعلاوة على ذلك فإن وصولات مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية التي تديرها لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء فرنسوي وإنكليزي ومصري تدفع كلها بعد خصم المصروفات إلى صندوق الدين. على أن الحكومة الفرنسوية لم تعارض في الإصلاح الذي طلبناه، وقد أظهرت أنها مستعدة للاتفاق معنا فيما يصلح هذا النظام الفاسد ويجعله موافقًا للوقت الحاضر. ا.ﻫ. (كلام لنسدون).
ونحن لا نرى بيانًا أبلغ من هذا البيان للوظيفة التي ادعاها صندوق الدين منذ سنين قليلة، ولا يخفى أيضًا أن صندوق الدين أصر على العمل بمقتضى تلك الوظيفة المدعاة، ومن الصعب علينا أن نحلل الدور الذي لعبته إنكلترا لتضع صندوق الدين في ذلك المركز القلق المرتبك إلا إذا ذكرنا القارئ بما قلناه عن السياسة الدولية الأوروبية، فإنه من الواضح أن إنكلترا لم تكن تستطيع أن تأخذ في يدها زمام الأعمال في صندوق الدين بدون أن تهيج سخط فرنسا وتحرك مرجل غضبها وتشعل نار عدائها، وغني عن البيان أن إنكلترا كانت تسعى أبدًا في الابتعاد عن الحرب مع فرنسا بشأن مصر، فلم تر إنكلترا طريقة لإبعاد المراقبة الدولية عن صندوق الدين ووضع يدها عليه وجعل المسألة المصرية بينها وبين فرنسا ومصر أو بالاختصار بينها وبين مصر إلا طريقة مساعدة المصريين على تسديد ديونهم بأسرع ما يمكن، وما كان أبسط هذه الطريقة وأسهلها، ولكن إنكلترا رأت أن سداد الديون المصرية بسرعة يحرمها من حق البقاء في مصر، سيما وقد علمت أن فرنسا تنوي أن تحل محلها في وادي النيل، فنتج من هذا أن إنكلترا لم تر منفعتها الحقيقية في إنماء ثروة مصر بسرعة شديدة، ويذكر القارئ قول المركيز لنسدون إن المالية المصرية كانت مقيدة مرتبكة من تشديد صندوق الدين ومن تداخله في كل مسألة مالية تتعلق بمصر، على أن إنكلترا وجدت طريقة أخرى للضغط على التقدم المالي الذي حازته مصر، وذلك أنها أيدت الدولة العلية في مسألة الجزية. وهكذا قضى على مصر أن تفقد في كل سنة ٧٥٠٠٠٠ج بلا سبب واضح. ونحن لا نعتقد أن إنكلترا اضطرت مصر لدفع هذا المبلغ الطائل مراعاة لاحترام السيادة التركية التي أصبحت أرق من إيمان الكافر. ولم تحتفظ بدفع هذه الجزية إلا لأنها كانت فيما مضى تتعلق بمنافع الدول الأوروبية في مصر، وقد كانت الدول جمعاء تود أن تبقى في وادي النيل، وقد رأينا أنه لم يسبب الاختلاف فيما بينها إلا ما حدث أخيرًا من التغيير في السياسة الدولية. على أن رغبة إنكلترا كانت أن تتفق مع فرنسا وتعملا لإضعاف التأثير الدولي في وادي النيل حتى تتغير المسألة المصرية ولا تصير مسألة دولية. وعلى هذه السياسة سارت إنكلترا في مسائل القضاء فنجحت في تحديد وظيفة المحاكم المختلطة، ومن سنة ١٨٨٤ إلى ١٨٨٩ أسست إنكلترا المحاكم الأهلية التي تبلغ الآن ستًّا وأربعين محكمة ولهذه المحاكم حق الفصل في المسائل المدنية التي لا تزيد على مائة جنيه، ولها الحق في نظر قضايا المخالفات والجنح التي يعاقب فيها بالغرامة المالية وحق الفصل في الجنايات التي يعاقب عليها بالسجن حتى ثلاث سنوات.
لقد ظهر منذ حين أنه من الضروري إدخال تغييرات كثيرة على الترتيبات الدولية التي عملت في مصر لأجل ضمانة الديون الأجنبية على أن الدول إذا قبلت الأمر الخديوي الذي قبلته الحكومة الفرنسوية فإن مصر تكون من الآن فصاعدًا حرة في إدارة ماليتها ما دام دفع المبالغ المقررة لصندوق الدين منتظمًا مضمونًا، وسيستمر صندوق الدين كما هو ولكن وظيفته ستعين وستحدد له مبالغ خاصة تدفع لخزينته بالنيابة عن أصحاب الديون المصرية، وعندما ينفذ الأمر الخديوي ستغل أيدي صندوق الدين عن العمل والتداخل في إدارة البلاد بعد أن غيرت أنواع الدخل التي كانت تدفع لتسديد الدين واستبدلت رسوم الدخوليات ووصولات السكة الحديد بضرائب الأطيان، ومن فوائد هذا التغير أن أموال المداينين قد أصبحت مضمونة ضمانة قوية لأن سدادها الآن أصبح موقوفًا على أثبت وأغنى مورد مالي في البلاد. ومن جهة أخرى فإن الحكومة المصرية لن تلاقي صعوبات في إدارة الدخوليات والسكك الحديدية لأنها ستلغي اللجنة المختلطة التي كانت تراقب مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية، وسيسلم القدر البالغ ٥٥٠٠٠٠٠ج الذي كان مكومًا في خزائن صندوق الدين بدون فائدة، وهو نتيجة الاقتصاد الذي تم بعد تغيير (١٨٩٠) وستستعمله الحكومة فيما يعود على البلاد وأهلها بالخير العميم.
وإن كنا لا نزال محافظين على رأينا في أن الحكومة المصرية لها الحق في تسديد دينها في أي وقت بعد عام ١٩٠٥، فإن الحكومة الفرنسوية لا تزال مصرة على مساعدة أصحاب الدين المصري في مسائل متعلقة بتاريخ الدين القديم. وبناءً على مطالب هؤلاء المداينين حدث الاتفاق على أن تغيير الدين المضمون والدين الممتاز يؤجل إلى سنة ١٩١٠، ويؤجل تبديل الدين الموحد إلى سنة ١٩١٢، وهذا التأجيل يفيد أصحاب الديون فوائد عظمى فلعلهم لا يصخبون عندما يحل الميعاد وتبدل تلك الديون.
وقد ألغى الأمر الخديوي شروطًا كثيرة من القانون القديم التي دلت التجارب على أنها غير ضرورية وغير مناسبة للزمن الحاضر؛ وأهم هذه الشروط التي ألغيت رضاء صندوق الدين، فمن الآن فصاعدًا لن يكون رضاؤه ضروريًّا عندما تريد الحكومة المصرية عقد قرض جديد لأجل مصروفات نافعة أو غير ذلك، وألغي أيضًا النظام الذي صُدق عليه في معاهدة لندن ومؤاده وضع حدٍّ للمصروفات الإدارية في الحكومة المصرية وقد ذكر اللورد كرومر مرارًا المصاعب والارتباكات التي تنشأ عن هذا النظام في بلاد لا تزال «تحت تجربة» التقدم ولا تزال مطالب إدارتها كثيرة.
إن جنابكم تلاحظون أن الأمر الخديوي الذي يتضمن كل هذه التغييرات لا يخرج من حيز القول إلى حيز الفعل إلا بعد مصادقة النمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا على أن المبالغ المدينة بها مصر لهذه الممالك صغيرة جدًّا؛ لأن أغلب الدين هو في الحقيقة لبريطانيا العظمى وفرنسا ما عدا جزءًا صغيرًا منه في مصر ذاتها، فنرجوا أن لا تعارض تلك الدول في الإصلاح الذي رأته الحكومتان الإنكليزية والفرنسوية أضمن لحقوق المداينين، وأخذتا على كاهليهما تعضيده وتأييده. وإذا حدث في المستقبل ما يوقف سعينا ويعوق سيرنا فإننا نستند على مساعدة فرنسا التي تخولها لنا الاتفاقية التي عقدت بيننا. ومن الضروري أن أقول كلمات قليلة بشأن حقوق الحكومة المصرية المعرضة في داخل البلاد إلى التداخل الأجنبي. فإن هذا التداخل ليس إلا نتيجة النظام المسمى بالامتيازات وهو يشمل المحاكم القنصلية والمختلطة، والمحاكم المختلطة سائرة على حسب قوانين ونظامات موضوعة لا يمكن تغييرها أو تحويرها بدون رضى الدول الأوروبية جمعاء وغيرها من الدول الأجنبية. ويرى اللورد كرومر أن الحين لم يحن بعد لمحاولة أي تغيير جوهري في هذه الجهة؛ فلذلك لم تطلب حكومة جلالة الملك في الحال الحاضرة أي تغيير في المحاكم المذكورة، على أنه عندما يأتي الزمن الذي تستعد فيه مصر لنظام قضائي يشبه النظامات القضائية المتبعة في باقي الممالك المتمدنة فإننا نعتمد على مساعدة فرنسا في الأخذ بناصرنا في عمل التغييرات الضرورية. ا.ﻫ.
لقد رأينا إذن ما ترمي إليه مواد الاتفاقية الجديدة، فإن صندوق الدين الذي كان في الحقيقة يحكم مصر قد حرم من كل حقوقه وامتيازاته؛ لأنه ظهر أن شعبًا عدده اثنى عشر مليونًا لا يليق به أن يكون في أيدي جماعة من المرابين. نعم، لقد اكتشف الإنكليز سر الخدمة العظيمة التي كان هؤلاء المرابون قائمين بها نحو مصر، وهي أن يقتصدوا لها مالًا تستطيع به أن تخرج من غمرتها التي وقعت فيها، فجاءت إنكلترا بالحجج والبراهين لتعوق عمل صندوق الدين، فتقول: «الآن قد تغير كل شيء وصارت مصر مملكة ناجحة بواسطة الإصلاحات والتغييرات التي تمت في ماليتها؛ وحيث إنه مضت سنون عديدة وفوائد الدين تدفع بانتظام؛ وحيث إن أصحاب الديون لا يمكنهم أن يدعوا بأن ديونهم غير مضمونة وأن مركز مصر المالي مقلقل فإنكلترا لا ترى لهم حقًّا في إدارة شئون مصر، وقد جاء الأمر الخديوي بضمانات قوية لدفع الأرباح بانتظام وصار صندوق الدين من الآن كأي مصلحة من مصالح الحكومة، ولا نظن أن دولة من الدول تعارض في تنفيذ الأمر الخديوي بعد أن صادقت عليه ألمانيا وبتنفيذ هذا الأمر تخرج مصر من تحت نير صندوق الدين.» وفي اتفاقية ٨ أبريل سنة ١٩٠٤ تنازلت فرنسا عن كل حقوقها في مصر وهي الدولة الوحيدة التي كانت تخشى إنكلترا معارضتها وتهاب مسابقتها في وادي النيل، وسيبقى النائب عن فرنسا في صندوق الدين جالسًا على كرسي الرئاسة ليراقب صندوق الدين، ولكنه غير مأذون بأن يقول كلمة واحدة تضر بمصلحة إنكلترا في مصر.
ومن كلامنا المتقدم عن تلك الاتفاقية ترى أن المسألة المصرية قد تغيرت منذ ٨ أبريل سنة ١٩٠٤ تغييرًا كبيرًا يشبه التغيير الذي طرأ عليها يوم احتلال إنكلترا لها في سنة ١٨٨٢، فإن فرنسا تنازلت عن حقوقها في سنة ١٨٨٢ تنازلًا حقيقيًّا ولكنها بهذه الاتفاقية تنازلت تنازلًا رسميًّا، ولكن لهذا التغيير معاني شتى فإذا وفقنا إلى فهم المعنى الحقيقي لهذا التغيير فإننا نكون في الحقيقة قد وفقنا إلى معرفة مستقبل مصر والمصريين. أما «المستعمر المتطرف» فإنه لا يرى لهذا التغيير إلا معنى واحدًا واضحًا، ومن سوء حظه أن هذا المعنى يعميه عن كل المعاني الأُخر فيهملها. إنه المسكين لا يرى إلا تنازل فرنسا عن حقوقها لأنه يظن أنه لم يعق إنكلترا عن وضع يدها على مصر تمامًا إلا خوفها من معاداة فرنسا، وحيث إن هذه المعاداة قد زالت فلن تعود إنكلترا إلى التكتم والتستر في سياستها وسوف ينهض الأسد البريطاني من ربضته ويهزأ بباقي الدول الصغرى ويضع يده القوية على فريسته التي كان ينتظرها من زمن، نقول — وبقطع النظر عن أن إنكلترا تبرأت من مثل هذه النية السيئة وبقطع النظر عما أبنَّاه من أن امتلاك مصر يضر بإنكلترا ولا ينفعها — فإننا نقول إن هذا المستعمر المتطرف نسي المصريين الوطنيين أو تجاهل وجودهم.