الفصل الأول
وَهْم الثوابت أو «النزعة الماهية»
مدخل عام
ثمة خطأ نقع فيه جميعًا مِرارًا وتكرارًا، وسنظل نرتكبه حتى لو أدركنا أننا نفعل
ذلك.
ذلك أنه خطأٌ معرفيٌّ مفيدٌ يتبطَّن الإدراكَ في معظمه، وأنه خطأ ضروري لنا ضرورة
الماء
والهواء. ونحن إذا كُنَّا نعمد هنا إلى تسميته وتشريحه، فلكي نكتسب استبصارًا بحدود إدراكنا
البشري وبكيفية عمله. إنه خطأٌ محتومٌ لأنه مبيَّتٌ في صميم جهازنا الإدراكي نفسه.
يُطلَق على هذا الخطأ اسم «نزعة الماهية» أو «مذهب الماهية» أو «الماهُويَّة»
essentialism، وهو الرأي القائل بأن لكل صنف معين من
الكيانات (الكائنات)
entities مجموعة من الخواص لا بد لكل
فردٍ من أفراد هذا الصنف أن يمتلكها كيما يندرج تحت هذا الصنف (لكي يكون ذلك الصنفَ من
الأشياء). يُطلَق على هذه الخواص اسم «الخواص
الجوهرية أو الماهوية»
essential properties كمقابل ﻟﻠ «الخواص العَرَضية»
accidental properties التي قد يتصف بها الشيءُ
أو لا يتصف ولكنها غيرُ داخلةٍ في ماهيته ولا هو مُحَتَّمٌ عليه أن يتصف بها لكي يندرج
تحت
هذا الصنف الذي يندرج تحته.
١
إن جرثومة الماهوية قابعةٌ في بيولوجية الإدراك نفسه. ويبدو أن الكائن الإنساني محكومٌ
عليه بنزعة الماهية، ومُقدَّرٌ عليه أن يُقارِب الفهم الكامل للواقع دون أن يصل إليه
أبدًا.
ثمة استثناءات لهذا الوضع، كالرياضيات مثلًا، سنعرض لها وشيكًا. وعلى المفكر الحصيف أن
يَعي
جيدًا كلَّ هذا، وأن يعي هل هو بإزاء القاعدة (استحالة الوصول إلى الفهم الكامل للواقع)
أم
بإزاء الاستثناء. وإن غياب هذا الوعي لَمِن أهم الأسباب التي تجعل العقل المحض عُرضةً
لأن
يَجُرَّ استنتاجاتنا في اتجاهات عشوائية وخاطئة تمامًا.
تتعامل أدمغتُنا مع رموز
symbols. يتناول الدماغُ
تمثيلات الواقع ويستخدم هذه التناولات الافتراضية (الخائلية) لكي يقود سلوكَنا. وقد ضرب
باول بلوم لذلك المثال التالي: حين أشعر بالعطش فإنني آخذ كوبًا وأملؤه من الصنبور؛ ذلك
أنني أعرف لأي غرض جُعِلَت الأكوابُ والصنابير. يتطلب هذا تفكيرًا رمزيًّا، حيث «كوب»
و«صنبور» رمزان يمكن لدماغي تناولُهما، ويجيء كلٌّ منهما مرتبطًا بالمعلومات الخاصة بما
يُعرِّفه؛ فالكوب هو أداةٌ تجعل الشربَ أيسر، والصنبور هو جهازٌ لجلب الماء … إلخ. هذا
الوصف نظريٌّ بالتأكيد؛ غير أن هناك العديد من العلماء الثقات الذين يأخذون بهذا الرأي،
منهم جاري ماركوس في مقاله الهام «كيف يعمل الدماغ؟ استبصارات من البيولوجيا».
٢
ثمة طريقة لوصف فكرة الرموز تأتينا من المنطق/الرياضيات في شكل «فئات التكافؤ» equivalence classes. فئات التكافؤ هي
عناوين/بطاقات يمكن استخدامها كأوصافٍ اختزالية لمجموعةٍ معطاةٍ من الصفات (الكوب — مثلًا
—
هو كوبٌ إذا كان من الممكن استخدامه لتيسير الشرب بالطريقة الفلانية). فئات التكافؤ أدوات
معرفية قوية للغاية؛ لأنها تسمح باطِّراح كل التفاصيل التافهة وحصر الانتباه فيما هو
ذو
صلة. فئات التكافؤ إذن هي لَبِنَاتُ البناء لجميع النماذج. والنماذج models بمختلف ضروبها أمرٌ ضروريٌّ لللإدراك والتفكير والتواصل.
(١) مغالطة نزعة الماهية
المشكلة هي أن فئات التكافؤ جِد مسعِفة (ولا يمكن تفاديها؛ إذ إن كل ما يسع المرء
أن
يعمله هو أن يتناول رموزًا لا أن يتناول الأشياء الحقيقية)، بحيث إنها ما إن تُطبَّق
على شيء من الأشياء حتى يكون من السهل أن ننسى أن الرمز ليس هو الشيء الحقيقي
(الواقعي).
العقل يتعامل مع رموز وليس مع الأشياء؛ ومن ثَمَّ فإن الواقع — بمعنًى ما وإلى حدٍّ
ما — غير قابلٍ للمعرفة! نحن ننسى أن نتعامل مع «فئات تكافؤ»؛ ومن ثَمَّ نبيع الدقة في
مقابل السهولة … في مقابل التبسيطات المفيدة.
يستخدم العلماءُ فئات التكافؤ لكي يشيدوا نماذج مفيدة؛ غير أنهم عندئذٍ ينجرفون
بعيدًا، ويَشرَعون مثلًا في الظن بأن النمور تتسم ﺑ «نَمِرِيَّة» ما مطلقةٍ وموضوعية،
بينما «النمرية» لا وجود لها في الحقيقة، ولا تَعدو أن تكون النتاج المباشر للطريقة
التي تعمل بها أدمغتُنا.
والفلاسفة بِدَورِهم يقعون في نفس الخطأ، بل قد يفعلون ذلك متبعين أفلاطون بطريقةٍ
صريحة ومنظمة. إنما يتوجب علينا بدلًا من ذلك أن نكون — ونحن ننخرط في عملية فهم الواقع
— على دراية بأن «فهم الواقع» هو عملية البحث عن تبسيطاتٍ مفيدةٍ (ثم استغلالها فيما
بعد). فنحن بالتأكيد لسنا بصدد البحث عما هو أكثر واقعية من أشياء الواقع (كما يشير
أفلاطون).
إن الانخداع بمغالطة الماهوية يُفضي إلى كل ضروب الخطأ. وبعض هذه الأخطاء قد يفسر
لنا
أفظع ويلات التاريخ البشري.
(٢) الذهن المتقطع
يطلق ريتشارد دوكنز على نزعة الماهية «استبداد الذهن
المتقطع» tyranny of discontinuous
mind، ويردها إلى أفلاطون ورؤيته المعينة للأشياء التي هي رؤية
مهندس إغريقي؛ فالدائرة المرسومة على الرمل هي تقريبٌ للدائرة الأفلاطونية المثالية
المعلقة في مكانٍ تجريديٍّ ما. مثل هذا يجوز بالنسبة للأشكال الهندسية كالدوائر؛ غير
أن
الماهوية قد طُبِّقَت على الأشياء الحية. ولعل هذا هو ما أفضَى إلى التأخر الشديد في
اكتشاف التطور فلم تدركه البشرية إلا في القرن التاسع عشر. فإذا كنت تنظر إلى الأرانب
الحقيقية ذات اللحم والدم على أنها تقريباتٌ غير تامة لأرنبٍ أفلاطوني مثالي، فلن يخطر
لك أن الأرانب قد تكون تطورات من سلفٍ غير أرانب، وأنها قد تتطور إلى خَلَفٍ غير أرنب.
إذا كنت تفكر متَّبِعًا التعريف المعجمي للماهوية أن «ماهية» essence الأرنب «سابقة» على وجود الأرانب (أيًّا ما كان معنى «السبق»
هنا) فلن يكون لفكرة التطور أن تقفز طوعًا إلى ذهنك، وستقاومها إذا أوحَى بها أحدٌ
إليك.
سيختلف علماءُ الحفريات فيما بينهم أشد الاختلاف حول ما إذا كانت حفرية معينة هي
مثلًا: «أسترالوبيثيكوس»
Australopithecus أم
«هومو»
Homo؛ غير أن أي عالِم تطور يعرف أن ثمة
بالتأكيد أفرادًا كانوا بين الاثنين تمامًا. إنه لَمِن الحماقة الماهوية أن تُصِرَّ على
ضرورة حَشر حفريتك داخل أحد الأنواع أو الآخر. لم توجد قَط أمٌّ أسترالوبيثيكوس أنجبَت
طفلًا هومو؛ لأنه ما من طفل وُلِدَ إلا وينتمي إلى نفس النوع الذي تنتمي إليه أمُّه.
إن
المنظومة بأسرها — منظومة تسمية الأنواع بأسماء متقطعة غير متصلة — هي منظومة مكيَّفة
لشريحةٍ زمنية هي الحاضر، حيث تفرض المواءمة حذفَ أجدادٍ لنا من مجال درايتنا. إنه
ليكون من المستحيل تبنِّي التسمية المتقطعة لو أن كل جَدٍّ — بفعلِ معجزةٍ ما — ظل
قائمًا كحفريةٍ محتفَظٍ بها. وما «الفجواتُ» التي يُولَع أعداء التطور ولوعًا مضلَّلًا
بالدفع بها لإحراج التطوريين إلا نعمةٌ تصادفيةٌ للمصنِّفين الذين يريدون بحق أن يُعطوا
الأنواعَ أسماءً منفصلة منمازة.
٣ وإن الخلاف حول ما إذا كانت حفرية معينة هي حقًّا لأسترالوبيثيكوس أم لهومو
هي أشبه بالخلاف حول ما إذا كان جورج يجب أن يُسمَّى «طويلًا» أم لا. إن طوله خمسة
أقدام وعشر بوصات؛ أليس ينبئك هذا بما تحتاج إلى معرفته؟
وتشرئب الماهوية برأسها القبيح في المصطلح العِرقِي. إن معظم «الأفريقيين الأمريكيين»
عِرقٌ مُختلط. إلا أن رسوخ التوجه الذهني الماهوي يُلزِم كلَّ واحدٍ منا أن يؤشِّر في
النماذج الرسمية الأمريكية بعلامةٍ في أحد مربعات العِرق، فإمَّا هذا وإمَّا ذاك وإمَّا
ذلك … ولا مكان للبينيات. وثمة نقطة أخرى ولكنها أيضًا خبيثة: هي أن الشخص سوف يُدعَى
«أفريقيًّا أمريكيًّا» حتى لو كان واحدٌ فقط من جدوده الأعلين ينحدر من أصل أفريقي.
إنني أريد فحسب أن ألفِت الانتباه إلى تصميم مجتمعنا، تصميمًا ماهويًّا، على أن يُخضِع
كلَّ شخصٍ لفئةٍ منفصلةٍ أو أخرى. يبدو أننا غير مؤهلين ذهنيًّا للتعامل مع طيفٍ متصلٍ
من البينيات. يبدو أننا لا نزال موبوئين بماهوية أفلاطون.
ونفس الوباء قد طال المجادلات الأخلاقية حول الإجهاض والقتل الرحيم euthanasia؛ فعند أية نقطة يُعَد «ميتًا» ذلك المصاب بحادث أدى إلى
موت دماغه؟ وعند أية لحظة أثناء النمو يصبح الجنينُ «شخصًا»؟ إن الجنين لينمو تدريجيًّا
من زيجوتٍ وحيد الخلية إلى طفل حديث الولادة، وليس ثمة نقطة بعينها إذا بلغها يُعَد
«شخصًا». ينقسم العالمُ إلى أولئك الذين يَعُون هذه الحقيقة وأولئك الذين يتذمَّرون
منها. قد يقول قائل: «ولكن لا بد أن تكون ثمة لحظة ما يصبح الجنينُ عندها شخصًا.»
والجواب: كلا. لا وجود في الحقيقة لمثل هذه اللحظة، مثلما أنه لا وجود ليومٍ بعينه يصبح
فيه الشخص الكهلُ شيخًا. ولعل من الأفضل (وإن لم يكن مثاليًّا بعد) أن تقول: إن الجنين
يمر بمراحل كونه ربع إنسان، نصف إنسان، ثلاثة أرباع إنسان … يُجفِل الذهنُ الماهوي من
مثل هذه اللغة ويتهمني بكل ضروب الفظائع لإنكاري «ماهية» البشرية.
والتطور أيضًا تدريجيٌّ شأنه شأن نمو الجنين. فكل فرد من أسلافنا، رُجُعًا إلى الجِذر
العام الذي نشترك فيه مع الشمبانزي، وما وراءه، ينتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه
أبواه وأطفاله. وكذلك الشأن بالنسبة لأسلاف أحد الشمبانزي، رُجُعًا إلى نفس الحد الأعلى
المشترك. نحن نتصل بالشمبانزيات الحديثة بواسطة سلسلة على شكل
V من الأفراد الذين عاشوا يومًا ما وتنفسوا
وتكاثروا، كل وصلة في السلسلة هي عضو في نفس النوع الذي ينتمي له جيرانه في السلسلة،
مهما حاول المصنفون أن يقسِّموهم عند نقاطٍ مريحةٍ ويُقحِموا عليهم عناوينَ متقطعة. ولو
أن كل الأفراد البينية رُجُعًا إلى تفريعات اﻟ V من
الجد المشترك، لو أنه تصادف لهم البقاءُ، لاضطر الأخلاقيون إلى التخلي عن عادتهم
الماهوية في وضع «النوع» البشري على نُصبٍ مقدسٍ منفصلًا كليًّا عن جميع الأنواع
الأخرى. ولن يعود الإجهاض أكثر اغتيالًا من قتل شمبانزي، أو بنفس القياس، من قتل أي
حيوان. الحق أن الجنين البشري المبكر — وهو بدون جهاز عصبي ومجرد فيما يُفترَض من الألم
والخوف — لا يستحق حماية أخلاقية أكثر مما يستحقها خنزيرٌ بالغٌ من الواضح أنه مؤهل
جيدًا للمعاناة. إن دافعنا المُلِح تجاه تعريفات صلبة لكلمة «بشري» (في مطارحات الإجهاض
وحقوق الحيوان)، وكلمة «حي» (في مطارحات القتل الرحيم وقرارات إنهاء الحياة) ليس لها
معنًى في ضوء التطور وغيره من الظواهر التدريجية.
ونحن نعرف «خط» الفقر، فأنت إما فوقه وإما تحته؛ غير أن الفقر «متصَل» continuum فلِمَ لا تعبِّر عن مدى فقرك الفعلي
بالمعادِلات الدولارية؟
بوسعك بالتأكيد أن تذكر العديد من الأمثلة الأخرى على «إثم أفلاطون» the dead hand of
Plato؛ أعني
«الماهوية». إنها مشوشة علميًّا وخبيثة أخلاقيًّا ويتعين أن تُحال إلى التقاعد.
(٣) مفارقة الكومة sorites paradox
مفارقة الكومات هو الاسم الذي أُعطيَ لفئة من الحجج المفارقة (تُعرَف أيضًا ﺑ
«حجج شيئًا فشيئًا» little-by-little arguments)
التي تنشأ كنتيجة لعدم التحديد الذي يكتنف الحدود التي تنطبق عندها «المحمولات» predicates. مثال ذلك أن مفهوم الكومة يفتقر إلى
حدودٍ حادة. إن «ماصَدَقات» extensions المحمول «يكون
كومة» غير محددة؛ ومن ثَمَّ فليس ثمة حبة قمح واحدة يمكن أن تصنع الفارق بين ما هو كومة
وما ليس كومة. وما دامت حبة قمح واحدة لا تصنع كومة فيبدو كنتيجةٍ أن حبتين لا تصنعان
كومة، وأن ثلاث حبات بالتالي لا تصنع كومة … إلخ. يبدو في النهاية أنْ ليس ثمة قدر من
القمح يمكن أن يصنع كومة، ونحن بإزاء «مفارقة» إذ نصل من مقدمات ظاهرة الصدق — ومن خلال
استدلال صحيح بغير خلاف — إلى نتيجة ظاهرة الكذب.
تُسَمَّى هذه الظاهرة القابعة في القلب من المفارقة ﺑ «الغموض» vagueness. والغموض ليس وَقْفًا على «المحمولات»؛ فقد يوجد الغموض في
عناصر سياقية غير «المحمول»؛ فالأسماء والصفات والظروف … إلخ كلها عُرضة لمفارقة الكومة
بمعنًى أو بآخر.
وتأتي كلمة sorites من اللفظ اليوناني
soros ويعني «كومة». وكانت تشير في الأصل لا إلى
مفارقة، بل إلى لغز (أحجية) puzzle تُعْرَف ﺑ «أُحجية
الكومة»: هل لك أن تصف حبة قمح واحدة بأنها كومة؟ لا. تصف حبتين بأنهما كومة؟ لا … إن
عليك أن تعترف بوجود كومةٍ إن عاجِلًا أو آجِلًا؛ إذن أين تمد الخط؟
كانت هذه واحدة من سلسلة أحاجي تُنسَب إلى يوبوليديس الملطي المنطقي الميجاري (والبعض
يقتفي أصلها إلى زينون الإيلي). تتضمن الأحاجي أيضًا أحجية الكذاب: (رجل يقول إنه كاذب؛
هل ما يقوله صادق أم كاذب؟) وأحجية الأقرع: (هل تصف رجلًا ذا شعرة واحدة في رأسه بأنه
أقرع؟ نعم. فهل تصف رجلًا ذا شعرتين بالقَرَع؟ نعم … إذن عليك ألا تصف رجلًا لديه عشرة
آلاف شعرة في رأسه بأنه أقرع؛ إذن أين عساك تمد الخط؟
هذه الأحاجي القديمة يكثر وصفها الآن بأنها «مفارقات» paradoxes. ورغم أن هذه الأحاجي يمكن تقديمها بطريقة غير صورية
كسلسلةٍ من الأسئلة التي تُضفي عليها طبيعتها الملغزة قوةً ديالكتيكية، فإن بالإمكان
تقديمها كحجة صورية ذات بِنية منطقية.
الصورة التالية لحجة الكومة كانت شائعة:
حبة قمح واحدة لا تصنع كومة.
إذا كانت حبة قمح واحدة لا تصنع كومة؛ إذن حبتا قمح لا تصنعان كومة.
إذا كانت حبتا قمح لا تصنعان كومة؛ إذن ثلاثة حبات لا تصنع كومة.
…
إذا كانت ٩٫٩٩٩ حبة لا تصنع كومة؛ إذن ١٠٫٠٠٠ لا تصنع كومة/١٠٫٠٠٠ حبة قمح لا
تصنع كومة.
إن فرق حبة واحدة هو — فيما يبدو — من الضآلة بحيث لا يصنع أي فارق في تطبيق المحمول.
إنه فارقٌ هَمَلٌ لا يصنع فارقًا ظاهرًا لقيم الصدق الخاصة بالمقدمات والتوالي
المتعاقبة.
غير أن النتيجة ظاهرة الكذب. هكذا واجهت المفارقة الرواقيين مثلما واجهت المنطقي
الكلاسيكي الحديث. كما أن مثل هذه المفارقات ليست ألغازًا منعزلة، فمن الممكن التعبير
بهذه الطريقة عن مفارقات كومة لا حصر لها. بإمكان المرء على سبيل المثال أن يطرح أحجية
«الرجل الأقرع» بهذه الطريقة، فما دام رجلٌ ذو شعرة واحدة في رأسه هو رجلٌ أقرع، وإذا
كان رجل ذو شعرة واحدة أقرع؛ إذن رجل ذو شعرتين هو أقرع. ومرة ثانية إذا كان رجل ذو
شعرتين أقرع؛ إذن رجل ذو ثلاث هو أقرع … وهكذا؛ إذن رجل ذو عشرة آلاف شعرة في رأسه هو
أقرع؛ غير أننا نشعر بحق أن مثل هذا الرجل غزير الشعر؛ أي ليس أقرع. ويبدو حقًّا أن أي
محمول غامض يتيح مثل هذه المفارقة: مفارقة الكومة والمحمولات الغامضة موجودة في كل حدبٍ
صوبٍ.
ومثلما تمضي مفارقة الكومة والرجل الأقرع بالإضافة، فإن بالإمكان أيضًا أن تمضي
بالعكس، بالطرح. فإذا كان المرء مهيئًا لأن يسلِّم بأن عشرة آلاف حبة رمل تصنع كومة فإن
بإمكانه إذن أن يحاجَّ بأن حبة واحدة تصنع كومة؛ حيث إن إزالة أي حبة رمل واحدة لا يمكن
أن تصنع الفارق. وبالمثل إذا كان المرء مهيئًا لأن يسلم بأن رجلًا ذا عشرة آلاف شعرة
في
رأسه ليس أقرع، فلن يمكنه إذن أن يحاج بأنه ليس أقرع حتى لو كان ذا شعرة واحدة في رأسه؛
حيث إن إزالة شعرة واحدة من فروة رأسه المُشعرة أصلًا لا يمكن أن تصنع الفارق. هكذا كان
مُتبينًا حتى في العصر القديم أن حجج الكومة تأتي في أزواج، مستخدمة: «ليس كومة»
و«كومة»؛ «أقرع» و«مُشعِر»؛ «فقير» و«غني»؛ «قليل» و«كثير»؛ «صغير» و«كبير»؛ «قصير»
و«طويل» … وهكذا. فلكل حجة تمضي بالإضافة هناك حجة أخرى معكوسة تمضي بالطرح.
ومن عجبٍ أن المفارقة لم تنل — فيما يبدو — اهتمامًا لاحقًا يُذكَر حتى أواخر القرن
التاسع عشر، فنجد من المدرسة الهيجلية الجديدة فلاسفة ماركسيين مثل بليخانوف يذكر
المفارقة كدليل على فشل المنطق «المعتاد» وعلى أفضلية «منطق التناقض». هكذا حاول بعض
المُنَظِّرين الماركسيين تأسيس انتصار الديالكتيك. وفي نفس الوقت أخذ المنطق الصوري في
الفلسفة الأنجلو أمريكية مرة ثانية دورًا محوريًّا، وفي صورته الكلاسيكية برزت لفريجه
ورَسِل مشكلات في تناول ظاهرة «الغموض». وقد أقرَّا بأن ظاهرة الغموض ومفارقة الكومة
المرتبطة بها هما أشياء خارج مجال المنطق؛ ومن ثَمَّ لا يشكلان تحديًا له. ومنذ زوال
مذهبَي اللغة المثالية عند رسل وفريجه في النصف الثاني من القرن العشرين زاد الاهتمام
بأوهام اللغة العادية (وبخاصة مفارقة الكومة) زيادةً عظيمةً.
(٤) عودٌ إلى «الذهن المُتقطِّع»
متى تبدأ الحياةُ إذن ومتى تنتهي؟ للوهلة الأولى يبدو الأمرُ واضحًا؛ فنحن في ظروف
الحياة اليومية لا نجد مشكلة في تقرير ما إذا كان شخصٌ ما «ميتًا» أم «حيًّا»، ولكن
المشكلة هي أن «الحياة» (شأنها شأن جميع «فئات
التكافؤ» equivalence classes التي توجد لأنها تبسيطات نافعة غاية النفع) ليست «ماهية»؛
فحدودها غائمة ضبابية لا يمكن تحديدها بدقة. هَبْ أنني انتزعت من رأسي شعرةً؛ ثمة
احتمال بأن تكون هذه الشعرة محتفظة ببصيلتها، وهذه البصيلة مكونة من خلايا حية؛ ومن
ثَمَّ فإن بوسعنا أن نستنتج أن البصيلة حية. ولكن هل هي كذلك حقًّا؟ إن هذه الخلايا سوف
تموت بالتأكيد وهي خارج جسمي ولن تكون لها فرصة ﻟ «الحياة» بمعزِل.
ودمي أيضًا مليء بالخلايا الحية، ولكن مَنْ ذا الذي يعتبر قطرة من الدم شيئًا حيًّا؟
وماذا عن الخلايا المزروعة في صحفة بتري Petri dish
بالمختبر؟ هي بكل تأكيد حية، ولكن ما الفرق بالضبط بينها وبين قطرة الدم؟ لا فرق؛ فمن
قال: إنه من غير الممكن بالضرورة حفظ الخلايا البيضاء — في قطرة دم — حية في صحفة
بتري؟
إن الأمثلة السابقة تافهة وقد استعنتُ بها خصيصًا خشية أن تشوش أطروحتي متضمناتٌ
أخلاقية. الفكرة الأساسية هي أننا ما إن نشرع في النظر إلى المنطقة التي تبدأ فيها
الحياة وتنتهي حتى نُراعَ لعدم وجود خطوط فاصلة محددة؛ ومن ثَمَّ لا يمكننا عزل الحياة
وتعريفها بأي طريقة موضوعية. إن مفهوم «الحياة» يصبح بلا معنًى عندما تطلب تعريفًا
موضوعيًّا. ولا يتحلى بالمعنى إلا إذا تقبَّل المرء (أو بالأحرى أغفل) استحالة التعريف
الدقيق.
هكذا تجد المغالطة الماهوية أرضًا خصبة لتُبدي كل خَبثها. يُغفل معظمُ الناس استحالة
تعريف الحياة ويمضون في استخدام المفهوم حتى حيث يكون مريبًا حقًّا؛ أي عند بداية حدود
الحياة ونهايتها. يُفضي ذلك إلى أخطاء وفظائع وأباطيل، حيث باسم الحياة قد نطيل عذابَ
أجسامٍ شبه ميتة (بما يكافئ تمامًا في بعض الحالات «إنقاذ» قطرة دم باستنباتها في صحفة
بتري)، أو نقرر اعتباطيًّا أن زيجوتًا ما هو «شخص» مسبِغين على خلية فردة أهمية لا
تتناسب معها، متناسين في الأغلب ذلك الشخص التام التكوين الذي يحملها.
هذه الحالات الأخيرة — كما ترى — ليست موضوعات فلسفية تافهة تليق بالأرائك الوثيرة،
إنها موضوعات حقيقية تهمنا جميعًا، ولكن ما زال موقفنا العام تجاهها هو أننا نقاربها
بألفاظ ماهوية، حتى إذا بات واضحًا للجميع أن ذلك ليس خطأً تصوريًّا فحسب، بل خطرًا
أيضًا وخُسرانًا مبينًا.
إذا كنت غير مقتنع بعدُ فانظر إلى العِرق: نحن نشير إلى الناس على أنهم قوقازيون،
سود، سمر … إلخ، وبألف طريقة بناءً على مظهرهم الخارجي. ولكن الحقيقة العلمية هي أن من
غير الممكن وضع حدود واضحة للعِرقية؛ فنحن جميعًا «مخلَّطون» إلى حد ما. بل إننا لنقيم
سياساتنا على هذه التصنيفات التي لا أساس لها. قد يكون هناك ما يبرر هذه التصنيفات في
بعض الحالات، ولكن المشكلة هي أن معظمنا يكون سعيدًا بإغفال حقيقة أن التعريفات القائمة
على الإثنية هي من بين أبشع ما يمكن من التبسيطات، وينبغي أن تعامَل على أنها كذلك؛ غير
أن الكثير من الناس يكون سعيدًا إذ يعتقد أن الأعراق شيءٌ تحدده ماهية أو أخرى؛ الأمر
الذي يديم (ولا أقول يوَلِّد) العنصرية وجميع الفظائع التي تترتب عليها.
وتنطبق نفس المخاطر على أغلب الاعتبارات الأخلاقية؛ فنحن نحكم على الناس وعلى الأحداث
بناءً على فئات عريضة وغير محددة موضوعيًّا، ونتخذ من ثَمَّ قرارات وكأن هذه الفئات
فئاتٌ حقيقية. من شأن هذا أن يولِّد الكثير من الأخطاء المريعة والمؤذية، ونحن كالعادة
لا نلحظ ذلك. ما أريد أن أقوله هو أن مغالطة الماهوية ليست فقط عادة فكرية معتمة وغير
ذات صلة؛ إنها مصدر بعضٍ من أفدح الأخطاء التي تم ارتكابها على الإطلاق. إنها شائعة في
كل مكان، وتؤثر فينا جميعًا بمن فينا الأساتذة والعلماء والفلاسفة، بل الأسوأ هو أنها
شائعة بين رجال الدين والسياسيين والمواطنين.
(٥) الاستثناءات
كل ما قلناه آنفًا إنما هو حجة تصورية، هي ذاتها تتناول رموزًا، وهي تستحق الاستكشاف؛
لأنها — فيما نرجو — تبسيط مفيد؛ لذا فإن ثمة تنبؤًا واضحًا: أنها لا يمكن أن تكون
حقيقة مطلقة، ولا بد أن هناك استثناءات. أبرز هذه الاستثناءات الرياضيات. ولكن بصفة
عامة فإن الأفكار نفسها قد لا تكون عُرضة للأخطاء الماهوية، حين يكون موضوع تفكيري
مجبولًا من فئات التكافؤ مباشرةً، حينئذٍ يتناول الذهن موضوعَه مباشرةً ولا يتناول مجرد
رموز لموضوعه. ومن الجهة النظرية: إذا كنت أفكر حول فئات تكافؤ فإنني أفكر حول النوع
الوحيد من البناءات التي لها حقًّا ماهية. ينتج من ذلك أن المرء حين يفكر حول مفاهيم
فإن بوسعه (نظريًّا على الأقل) أن يؤسس حقائق مطلقة. وهذا يختلف جذريًّا عن «البحث عن
تبسيطات مفيدة». والمثال النموذجي هنا هو الرياضيات: فهي تتعامل حصرًا مع مفاهيم مجردة؛
ولذا يمكنها إيجاد الكثير من الحقائق المطلقة. إن ٢ + ٢ تساوي ٤ بلا استثناءات.
والأمر نفسه ينطبق على عملية تقييم نظريات مختلفة ومتنافسة أو منظومات من «التبسيطات
المفيدة». إن بوسعي بغير شك أن أستنتج أن فكرة استواء الأرض أقل دقةً من تقريب العالم
على أنه كروي. إن كلتا الفكرتين خطأ، ولكن الأخيرة أقل خطأً. والشيء نفسه ينطبق على
نظرية الخلق ونظرية التطور؛ فلا شك أن نظرية التطور تقريبٌ للعالَم أفضل من نظرية
الخلق. وبوسعي في كلتا الحالتين أن أدَّعي أن النتيجة موضوعية؛ لأنها تتعلق بمفاهيم هي
نفسها مكونة من فئات تكافؤ.
كذلك الحال بالنسبة للمصنوعات أو المنتجات — الكوب مثلًا — إنه من صنع الإنسان، ونتاج
تفكير تدفعه فئات التكافؤ. وهو مصنوع بشكل معين ومادة معينة؛ لأن مصممه كانت لديه
بالفعل فكرة عما ينبغي أن تكون عليه الأكواب. إن جانبًا على الأقل مما تكونه جميع
الأكواب هو نتاج تفكير ماهوي. لقد صُنِعَ الكوب بقصد مثول نسخة من الفئة التصورية
«كوب»؛ ومن ثَمَّ فإن بوسع المرء أن يقول بأن للكوب جانبًا ماهويًّا حقًّا.
هذا حق، ولكن فهم الأشياء الصنعية في حدود ماهياتها (المقصودة) على وجه الحصر يظل
منكِرًا (أو غير مكترث) لفيزيقيتها الخاصة. والنتيجة النهائية هي أننا بإزاء حافة غائمة
أخرى: إن للأشياء المُصمَّمة (إلى حد ما وإلى حد متفاوت) ماهية، وهي من ثَمَّ أقل
تعرُّضًا لمغالطة الماهوية؛ غير أنها تبقى بناءات فيزيقية، ولها بما هي كذلك بعض الصفات
أيضًا التي لا يمكن وصفها تمامًا في حدود ماهوية. وكلما ازداد الجانب التصوري للشيء
(مثال ذلك العَتاد الرخو software بل والكتب والرواية
أيضًا) كان أكثر قابلية للتحليل الماهوي.
وصفوة القول: إنه ينبغي على جميع الجهود الفكرية أن تكون على وعي جيد بالمغالطة
الماهوية، وأن تكيف مناهجها ودعاويها وفقًا لدرجة انطباق هذه المغالطة على مجالها
الخاص؛ ذلك أن إغفالنا لذلك قد يؤدي إلى أخطاء كارثية، وبعض هذه الأخطاء قد أفضى بالفعل
إلى أفظع مشاهد التاريخ البشري.
(٦) نزعة اللامعصومية fallibilism
يُهيبُ بنا التفكير العلمي أن نتخذ موقفًا إبستمولوجيًّا هو «اللاعصمة» أو
«اللامعصومية»
fallibilism (استحالة العِصمة من
الخطأ). يُنسب هذا المذهب أو هذه النزعة إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلس بيرس
C. Pierce (١٨٣٩–١٩١٤م)، وتعني أنْ ليس من الضروري
أن تكون الاعتقادات يقينية أو مبنية على اليقين؛ فإن لنا أن نقنع أحيانًا باعتقاداتنا
في الظروف التي نتشوَّف فيها إلى دليل جديد يدفعنا إلى مراجعة رأينا؛ غير أنه قد
يوافينا في أوانه. وفي الحق أن علينا — ما دام هذا هو حالنا دائمًا — أن نعتصم بهذه
الروح ونتذرع بهذا الموقف وإلا وقعنا في الارتيابية
skepticism. وبذلك يُعَد هذا الموقف بمثابة «منزلة بين منزلتين»،
ويُفرِغ له مكانًا وسطًا بين موقفين كلاهما مَعيب: الموقف الدوجماطيقي الوثوقي من جهة،
والموقف الارتيابي الشكي من جهة أخرى.
٤ وقد اتخذ كارل بوبر
k. Popper
(١٩٠٢–١٩٩٤م) هذا الموقف الحصيف، وذهب إلى أننا لا يمكننا على الإطلاق أن نبرهن على أن
نظريةً ما هي نظرية صادقة؛ ذلك أننا لا يمكننا على الإطلاق أن «نعرف»، بمعنى أن نؤسس
صدق نظرية ما بشكل نهائي لا يعود بعده أي احتمال بأن نكون مخطئين. إن من المتعذر أن
نكون على يقين تام بأننا قد عثرنا على الحقيقة. إن جميع نظرياتنا هي افتراضات حدسية
وتخمينات مفتوحة دومًا للاختبار. ولعل بإمكاننا إذَّاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من
بعض؛ لأنها صمدت للاختبارات أكثر من غيرها.
٥
قلنا إن التفكير العلمي يحملنا على أن نتخذ اللاعصمة موقفًا إبستمولوجيًّا، فنكون
متهيئين لاحتمال أن نبدل بنماذجنا الحالية نماذج أفضل وأقرب إلى الحقيقة. إن مشكلة
التصنيفات الماهوية للأشياء (الأنواع
الطبيعية natural kinds) أنها تميل بنا ميلًا مُتحيِّزًا إلى الاعتقاد بأننا اكتشفنا
رؤيةً نهائية لموضوع بحثنا، كما بِعين إله، وأننا قد عرفنا البنية الداخلية الثابتة
للفئة التصنيفية المعنية، وعرفنا أنها حق في جميع العوالم الممكنة.
ويهيب بنا التفكير العلمي فضلًا عن ذلك أن نتخذ موقفًا أنطولوجيًّا ضد التصنيفات
الماهوية، فلا نكتفي باجتناب التفكير عن العالم بلغة الماهية الثابتة (الأنواع
الطبيعية)، بل أن نَعي أن هذه الماهيات الثابتة لا وجود لها. لقد عَلَّمَنا البحث
العلمي في المائة والخمسين سنة الأخيرة أن العالَم لا ينتظم ببساطة في ماهيات ثابتة
(أنواع طبيعية)، وأن الأشياء ليس لها ماهيات حقيقية.
٦ وبناءً عليه يمكننا أن نخلص من ذلك إلى أن الماهوية هي شيء مستمد من
خصوصيات السيكولوجيا البشرية.
الماهيات لا تقبع في العالم، بل في الذهن البشري الذي يدرك العالم. وقد بينت جلمان
وكولي وجتفريد (١٩٩٤م) أن الأطفال تتبنى التحيزات الماهوية بخصوص العالَم البيولوجي منذ
بلوغهم الرابعة من العمر. أطفال الرابعة أرسطيون بالسليقة يفترضون أن الكائنات الحية
لديها ماهيات داخلية، وأن هذه الماهيات هي التي تجعل الكائنات ما هي وتجعلها تسلك مثلما
تسلك. ويبدو أن هذا التحيز ينشأ بمعزلٍ إلى حد ما عن التعليمات الوالدية. ويبدو أيضًا
أنه تحيزٌ مَكينٌ يبدأ مبكِّرًا جِدًّا، ويتعمم بسهولة كبيرة بحيث لا تُجدي إزاءه أي
أدلة مضادة.
٧
ويذهب إرنست ماير Earnst Mayr (١٩٨٨م) إلى أن
التحيزات الماهوية ذات أثر ضار؛ لأنها يمكن أن تُعيق التقدم العلمي. ويرى ماير من وجهة
نظره أن الافتراضات الماهوية عن الأنواع تجعل صعبًا على الناس أن تتقبل تفسير دارون
لأصل الأنواع. ومن المحتمل من زاوية فلسفة العلم أن العلماء من كافة فروع البحث يميلون
في البداية — شأن كل إنسان آخر — إلى التفكير في موضوعهم على نحو ماهوي؛ غير أنهم — إذ
يكتسبون الخبرة في مجالهم المختار — يشرعون في إدراك أن العالم أعقد مما يوحي به
النموذج الماهوي للحس المشترك. سَل أيَّ عالم فيزياء ما هو «العنصر» element؟ وسل أي عالم وراثة ما هو «الجين» gene؟ وسل أي عالم حيوان ما هو «النوع» species؟ فقد يقدمون لك جوابًا ماهويًّا؛ لأنه الجواب الأيسر في
الفهم. ولكنهم سيضيفون أيضًا أن ما قالوه لتوِّهم هو في الحقيقة تبسيطٌ وأن الواقع أعقد
من ذلك بكثير.
ويذهب بيتر زاتشار
Peter Zachar (٢٠٠١م) إلى أن
التحليل الفلسفي قد يُعيننا في فهم العلاقة بين التصنيفات العلمية والتصنيفات الشعبية،
أو بين المفاهيم العلمية ومفاهيم الحس المشترك. صحيح أن العلم في الرواية التقليدية
مضاد للحس المشترك (مثال ذلك أن المائدة الخشبية «الصلبة» وفقًا للحس المشترك هي وفقًا
لعالِم الفيزياء فضاءٌ فارغٌ تقريبًا! فهذا الشيء ليس صلبًا في الحقيقة وإنما «يبدو»
صلبًا فحسب). وصحيح أن بعض المفكرين في الفلسفة قد استخدم أمثلة من هذا القبيل ليعلن
أن
هناك تمييزًا صارمًا بين المفاهيم العلمية ومفاهيم الحس المشترك؛ غير أن التعارض المؤقت
بين مفاهيم علمية معينة ومفاهيم أخرى للحس المشترك لا تُثبت أن ثمة تعارضًا مستديمًا
بين العلم والحس المشترك؛ ذلك أن مفاهيم الحس المشترك يمكن أن تكون مرنة بعض الشيء، وأن
التفكير العلمي يميل إلى أن يندمج مع الوقت في الحس المشترك. مثال ذلك أنه لَيبدو اليوم
أن الاعتقاد باستواء العالم أو بدوران الشمس حول الأرض هو ضرب من الخَرَف، إلا أن هذا
الاعتقاد كان يومًا ما تصوُّرًا نموذجيًّا سائدًا من تصورات الحس المشترك.
٨
على الحس المشترك أن يَدمِج المفاهيم العلمية في جهازه التصوري ولا يُجفِلَ منها،
وأن
يتعلم شيئًا فشيئًا أن ينظر إلى الأشياء نظرةً مختلفةً. لقد بَيَّنَ بعضُ التطوريين —
مثل كوزميديس وتوبي
Cosmides and Tooby (١٩٩٤م) — أن
معمارنا المعرفي
cognitive architecture الطبيعي —
الذي قد يتضمن التحيز الماهوي — لم يتطور لكي يحل تلك الضروب من المشكلات التي تبزغ في
برامج البحث العلمي. إن من الأيسر علينا بكثير أن نتبنى النموذج التصنيفي التقليدي؛
لأنه طبيعي للغاية بالنسبة لنا. أمَّا النموذج اللاماهوي فهو مضاد للحدس. ورغم ذلك فإن
تمرسنا بالخبرة العلمية كثيرًا ما يتضمن دمج القضايا المضادة للحدس في نموذجنا العامل
في تخصصنا العلمي. وإن من الخير للتخصصات العلمية المختلفة أن يقوم أصحابُها بإعادة
تشكيل افتراضات الحس المشترك لديهم وتصور موضوعات بحثهم على نحوٍ لا ماهوي.
٩
(٧) نزعة الماهية عند الأطفال
الماهيات قائمةٌ في العقل لا في العالم، و«نزعة الماهية» تحيزٌ عقليٌّ دائمٌ وشاملٌ
يؤثر على عملية التصنيف لدى الإنسان تأثيرًا جسيمًا. إنها متجذرة في أجهزتنا التصورية،
تنشأ في سن صغيرة جِدًّا عبر سياقات ثقافية شديدة التنوع. وهي لا تُعلَّم على نحو
مباشر، ولا هي ترجع ببساطة إلى قراءة المُشعِرات الماثلة «هناك» في العالم. ورغم أنها
تحيُّز معرفي (إدراكي) في المقام الأوَّل إلا أنها تتدعم أيضًا وتتشكل باللغة.
يعتقد الناس أن فئات تصنيفية معينة categories هي
«أنواع طبيعية» natural kinds: إنها حقيقية (غير
مصطنعة من جانب البشر)، وإنها مكتشفة (لا مخترَعة)، وإنها متجذرة في الطبيعة. وحين
نقول: «يعتقد الناس …» فإنما نعني اعتقادات أو افتراضات حدسية لا دخل للوعي بها؛ فهي
ليست اعتقادات صريحة معلَنة واعية بذاتها؛ أي ليست اعتقادات عن الاعتقادات، وليست
إدراكًا للإدراك metacognition.
ويعتقد الناس أن ثمة خاصة غير منظورة — هي «الماهية» essence — تجعل الأشياء ما هي عليه. وأن الماهية تسبب التشابهات
الملاحَظة التي يشارك فيها أعضاء الفئة التصنيفية المعينة.
ويعتقد الناسُ أن ألفاظ الحياة اليومية تعكس بنية العالم الحقيقي؛ فألفاظٌ مثل: كلب،
شجرة، ذهب، فصام … ترسم في اعتقادهم الأنواع الطبيعية للعالَم على نحوٍ مباشر (ليست
جميع الألفاظ بالطبع تفعل ذلك، بل الألفاظ التي تشير إلى الأنواع الطبيعية، وكثير من
الألفاظ الخاصة بالفئات الاجتماعية).
(٨) ألوانٌ من الماهوية
تفرق سوزان جلمان
١٠ بين الماهوية كموقف فلسفي والماهوية كاعتقاد شعبي؛ فالأولى تتناول طبيعة
العالم الموضوعي ويعنيها ما إذا كانت الماهيات قائمة في العالَم أم لا (سؤال
ميتافيزيقي)؛ أمَّا الثانية فتتناول طبيعة تمثلات الناس للعالم وتجتنب إلى حد كبير
السؤالَ الميتافيزيقي، ويمكن أن تتمثل في المنظومات الاعتقادية الدارجة (الماهوية
السيكولوجية)، وفي اللغة (الماهوية الاسمية)، وفي الممارسات الثقافية (الماهوية
الثقافية).
وتفرق جلمان بين الماهية التصنيفية والماهية العِلِّية والماهية المثالية. أمَّا
الماهية التصنيفية sortal essence فهي مجموعة
الخصائص المميِّزة التي يشارك فيها جميع (وفقط) أعضاء الفئة. وهي الماهية كما حصرها
تمييز أرسطو بين الخواص الجوهرية (الماهوية) والخواص العَرَضية، حيث الخواص الجوهرية
تشكل الماهية؛ مثال ذلك: أن ماهية الجَدَّة هي خاصة كونها أم الأم (أو الأب) وليس كونها
تتخذ نظارة أو أن شعرها أشيب إلى غير ذلك من الخواص العَرَضية.
أمَّا الماهية العِلِّية causal essence فهي الجوهر
أو القوة أو الكيفية أو العملية أو العلاقة أو الكيان الذي يُسَبِّب الخواص المميِّزة
للفئة ويجعلها تظهر وتدوم ويمنح الشيء هويته. ولعل فقرة جون لوك الشهيرة في «مقال يتعلق
بالفهم الإنساني» خير تصوير للماهية العِلية. يقول جون لوك: «الماهية هي الوجود نفسه
بالنسبة لأي شيء من الأشياء، الذي به يكون الشيء ما هو. وهكذا فإن التكوين الحقيقي
الداخلي للأشياء، والمجهول رغم ذلك في عامة الأحوال، والذي تعتمد عليه صفاتها القابلة
للكشف، يمكن أن يُسَمَّى ماهيتها.»
تُستخدَم الماهية العِلية لتفسير الخواص الملاحَظة لأعضاء الفئة. وإذا كانت الماهية
التصنيفية يمكن أن تنطبق على أي كيان (الأقلام وسلال المهملات والنمور كلها فئات لها
خواص معينة قد تكون «ماهوية» أي حاسمة لتحديد عضوية الفئة)، فإن الماهية العلية لا
تنطبق إلا على الكيانات التي فيها خواص باطنة خفية تحدد الكيفيات الملاحظة. مثال ذلك:
أن ماهية الماء قد تكون شيئًا من قبيل
H2O والمسئول عن شتى الخواص
الملاحَظة للماء. أمَّا مجموعة الخواص (لا لون، لا طعم، لا رائحة) فهي ليست ماهية
عِلِّية للماء رغم أنها تَصدُق على كل ما ينتمي لفئة «الماء»؛ ذلك لأن هذه الخواص
الأخيرة تفتقد القوة العِلِّية.
وأما الماهية المثالية فليس لها مثولٌ حقيقيٌّ في العالم. مثال ذلك: أن ماهية
«الخيرية» هي كيفيةٌ ما مجردةٌ خالصةٌ تتحقق على نحو غير مكتمل في أمثلة الأشخاص الذين
يجترحون أفعالًا خيرة. لا واحد من هذه الأفعال الخيرة يجسد «الخير» تجسيدًا تامًّا، بل
يعكس كلٌّ منها جانبًا ما من الخير. وتمثل أسطورة كهف أفلاطون هذه الوجهة من الرأي.
وبذلك تقف الماهية المثالية في مقابل كل من الماهية التصنيفية والعِلِّية المتعلقتين
بكيانات العالم الحقيقي وصفاتها.
من التأويلات الماهوية ما هو محدد ويمكن أن نجده في مفاهيم متباينة مثل «الروح»
و«الدنا
DNA»؛ غير أن الماهوية قد تكون استقرابية
وضمنية: أي الاعتقاد بأن فئةً ما لديها صميمٌ أو لُبٌّ دون معرفة ماذا يكون ذلك الصميم
أو اللب. يُطلَق على مثل هذا اللب الذي تحل فيه الماهية دون أن نعرفه بالتحديد
«محل الماهية»
essence placeholder.
١١ مثال ذلك: أن الطفل قد يعتقد — حتى قبل أن يتعلم أي شيء عن الكروموزومات أو
الفيزيولوجيا البشرية — أن البنات لديها كيفية ما خفية داخلية تميزها عن الأولاد وتسبب
الفروق الكثيرة الملاحظة في المظهر والسلوك بين الأولاد والبنات. وإذا كان أولئك الذين
أوتوا العلم قد تستوي لديهم اعتقادات مفصَّلة تمامًا عن ماهيةٍ ما (مثل أن ماهية الذهب
هي أن له العدد الذري ٧٩)، فإن مثل هذه التصورات نادرة في تفكير الحياة اليومية، وما
نراه بعامة هو أن الناس تُضمر اعتقادًا حدسيًّا بأن ماهيةً ما موجودة حتى وإن عَزَّ
عليهم كشفُ تفاصيلها. من مترتبات ذلك أن الماهية لا يمكن أن تكون جزءًا من الصميم
السيمانتي (الدلالي) للفظة، ولا يمكن أن تحدد ماصدقات
extensions اللفظة؛ غير أن لها متضمنات لاعتقادات الناس من حيث عُمق
وثبات مفهوم من المفاهيم.
الماهوية الكلية والماهوية الجزئية: دأبَ الفلاسفة على أن يتناولوا «نزعة الماهية»
كما لو كانت مذهبًا كليًّا؛ أي كما لو أنها فلسفةٌ موحَّدةٌ تتبناها العلومُ جميعًا أو
ترفضها العلومُ جميعًا. اتخذ كارل بوبر — على سبيل المثال — رأيًا كليًّا في الماهوية؛
فهو يراها عائقًا كبيرًا للعقلانية العلمية
١٢ وكذلك فعل كواين، فتمنى — لأسباب سيمانتية (دلالية) وإبستمولوجية — لو
يَنفي الماهوية من الخطاب العلمي كله.
١٣ أمَّا بنتام
١٤ وكريبك
١٥ فقد أيَّدا مذاهب ماهوية، وذهبا إلى أن على كل علم أن يدرس الخواص الماهوية
للأنواع الطبيعية التي تشكله. وفي مقابل هذه النظرات الكلية ثمة من يرفض الماهوية في
مجالٍ بعينه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «اللاماهوية الجزئية أو
الموضعية»
local
anti-essentialism. من أمثلة ذلك: رفض ماير للماهوية في مجال البيولوجيا. يذهب ماير
١٦ إلى أن فرضية داروين عن التطور بالانتخاب الطبيعي لم تكن مجرد نظرية جديدة،
إنما هي نوع جديد من النظرية، نظرية أطاحت بالطرائق الماهوية في التفكير البيولوجي
واستبدلت بها ما أسماه ماير «التفكير السكاني
(المجتمعي)»
population thinking.
•••
لدراسة النزعة الماهوية لدى الأطفال أهمية كبرى لأسباب عديدة، أولها أنها شاملة بدرجة
لافتة؛ فهي شاملة عبر الزمن (تناولها المفكرون عبر ما لا يقل عن ألفَي عام)، وعبر
تعاليم فلسفية مختلفة فيما بينها اختلافًا جذريًّا (اعتنقها — على سبيل المثال — مفكران
متباينان تباين أفلاطون وجون لوك)، وربما عبر الثقافات. من المهم إذن أن نكشف سر هذه
المجموعة من الافتراضات الراسخة، وأن نفحص منشأها ومتضمناتها الحسنة والسيئة للفكر
البشري.
والسبب الثاني أنها تكشف لنا قدرات لدى الأطفال لم نكن نتوقعها في السابق. لقد كانت
الفكرة الواسعة الانتشار هي أن مفاهيم الأطفال محدودة داخل الصفات العيانية والحسية
والواضحة، فإذا بدراسة الماهوية في الأطفال تكشف أنهم يدمجون ضروبًا شتى من الملامح
الخفية داخل تصوراتهم تتضمن الأجزاء الداخلية والوظائف والعِلَل والتمييزات
الأنطولوجية. من شأن ذلك أن يُلهمنا تحوُّلًا في نظراتنا الخاصة بنمو المعرفة، فإذا
كانت البناءات غير الملاحظة قائمة منذ البداية، فلا يمكن إذن أن تكون الملامح السطحية
الملاحَظة هي الأكثر امتيازًا أو بساطةً أو أساسيةً. تلك هي «المتضمنات الحسنة»
للماهوية بالنسبة للتفكير البشري.
السبب الثالث أن الماهوية — فيما يبدو — تعزز «التنميط» stereotyping وتتبطنه. وتلك هي «المتضمنات السيئة» للماهوية في التفكير
البشري. لنَقُل صراحةً: إن التنميط يستعير الإطار اللغوي والتصوري للماهوية. فتُعامَل
الجماعات البشرية المختلفة على أنها منمازة (متمايزة) على نحوٍ خفيٍّ عميق، ويُفترَض
في
الفروق بين الجماعات الاجتماعية أنها محتومة وثابتة ومتأصلة جِبِلِّيًّا. وبقدر ما
يتقبل الناس هذه الطريقة في التفكير سيكون لهم أساس للتعامل مع الفروق الجماعية
الاجتماعية على أنها محورية لهوية فردٍ من الأفراد، ولجلب استنتاجات عن الفرد قائمة على
الجماعة التي ينتسب إليها الفرد، ولإلصاق دوافع وتفسيرات مختلفة بأولئك الذين ينتمون
لجماعات اجتماعية مغايرة لجماعتنا. إن الشخص الذي يمارس التنميط يعامل الجماعات
الاجتماعية على أنها «أنواع
طبيعية» natural kinds.
وسبب آخر من الأهمية بمكان، وهو أن لدراسة الماهوية متضمنات تعليمية واجتماعية؛ فقد
أشار بعض الباحثين إلى أن الافتراضات الماهوية تعيق محاولات تدريس نظرية التطور. وبصفة
أعم يمكننا أن نقول: إن الكثير من معرفتنا عن العالم إنما نتوصل إليه بواسطة
الاستدلالات وليس بالتدريس المباشر؛ ومن ثَمَّ فإن أي وصف مكتمل لعملية اكتساب المعرفة
ينبغي أن ينظر بعين الاعتبار إلى الشروط التي تعزز وتشجع التفكير الاستدلالي لدى
الأطفال. إن الافتراض الماهوي عن الفئات التصنيفية، واللغة الماهوية عن الفئات يؤثران
تأثيرًا بليغًا في استدلالات الأطفال.
ثمة مَن يفسر تفشِّي الماهوية بأنها ظاهرة عَرَضية تاريخيًّا؛ فهي نتاج الفكر الغربي
الحديث والتقاليد الثقافية والسياسية والتكنولوجيا؛ فنحن ماهويون في هذه الحقبة من
التاريخ؛ إذ صار بوسعنا أن نطَّلع على العلوم ونلم بكيانات غير منظورة مثل الدنا
والجزيئات؛ غير أن عَزو نزعة الماهية للعَرَض التاريخي لا يتسنى له أن يفسر لماذا
يُماهي الأطفال قبل سن المدرسة!
وثمة من يرى أن الماهوية نتيجة مُبيَّتة ومستأصلة في فعل التسمية؛ فنحن إذ نعطي أشياء
محددة نفس الاسم إنما نقرر ضمنًا وجود شيء تحتيٍّ ثابت تتشارك فيه هذه الأشياء؛
فالماهوية إذن نتيجة منطقية لاستخدام اللغة. ولكن إذا صح أن الماهوية هي نتاج استخدام
الأسماء، فلماذا نحن نُماهي في بعض المجالات أكثر مما نفعل في غيرها؛ لماذا تكون
الماهوية «محددة المجال» domain-specific؟
وعلى خلاف ذلك تذهب سوزان جلمان إلى أن الماهوية عادةٌ عمومية (عالمية) للعقل تشمل
الناس جميعًا؛ فالناس ماهويون بمعزل عن تفضُّل العلم وعن جمهورية أفلاطون، والناس
ماهويون بمعزل عن اللغة واستخدامها. وتقول جلمان: إن رأيها أقرب إلى موقف التكيف
التطوري الذي يقول بأن البشر قد طوروا نزوعًا ماهويًّا عموميًّا؛ لأنه ذو فائدة في
تفاعلاتهم مع العالم. يستمد هذا الموقف جاذبيته من قدرته على تفسير توارد الماهوية عبر
الثقافات وعبر الأحقاب وعبر أعمار النمو.
(٩) دور اللغة في نزعة الماهية
من الأسباب التي تبث في النفس شيئًا من نزعة الماهية أن ثمة كلمات معينة تعتمد
معانيها — فيما يبدو — على شيء ما غير الخواص السطحية المعروفة. ويحاج كريبك وبنتام بأن
معاني أسماء الأعلام «كريبك» وأسماء الأنواع الطبيعية «بنتام» لا تتأسس على قائمة من
الخواص المعروفة بل بالأحرى على خواص «أعمق»؛ ما يمكن أن نسمِّيه «خواص محملة بالنظرية» theory-laden properties متضمنةً تلك
الخواص التي قد لا تكون معروفةً بعد. مثال ذلك أن الاسم «علي شوقي» لا يُعرَّف بمجموعة
من العلامات من قبيل «يرتدي نظارة طبية، يعمل ضابطًا بالمطار، أقرب صديقين له يُسميان
رفعت ويوسف …» ذلك أن علي شوقي إذا كان قد تُوفي عند ولادته لما كان له أي وصف من هذه
الأوصاف؛ ومن ثَمَّ فهي لا يمكن أن تكون محددة لكونه علي شوقي. أمَّا الملمح الوحيد
الذي يبدو أنه متصل «بالضرورة» باسم «علي شوقي» فهو أنه وُلِدَ لأبوين معيَّنين. يقول
كريبك: إن أسماء الأعلام تشير ولكنها لا تصف. وأي وصف مرتبط باسم من الأسماء إنما
يساعدنا فحسب في اختيار المرجع referent (المشار
إليه)، ولكنه لا يُعرِّف المرجع.
وقد نقل كريبك وبنتام بخاصة هذا التحليل لأسماء الأعلام إلى ألفاظ النوع الطبيعي.
وهما يحاجان بأنه بالرغم من أن مجموعة من الملامح المعروفة قد تُستخدَم لتعريف أعضاء
فئة نوع طبيعي ما، فإن الملامح لا تعمل كمعايير ضرورية وكافية. مثال ذلك: أن الحيتان
لها شكل شبيه بالأسماك، وتعيش وتسبح في الماء كما تفعل الأسماك، ولكنها ليست أسماكًا.
وبالمثل يقدم بنتام مثالًا، فمعظمنا لا يمكنه التفرقة بين شجر الدردار وشجر الزان، ورغم
ذلك يقرر أن كلمتَي: «دردار» و«زان» مختلفتان في المعنى. يبدو أننا نفترض أن أشجار
الدردار وأشجار الزان نوعان مختلفان من الأشياء؛ أي نفترض أن الفروق قائمة هناك في
العالم بانتظار اكتشافنا لها، وأن بإمكان الخبراء أن يخبرونا أيها هذا وأيها ذاك (مشيرة
أن التمييز واقعي). بذلك يحاج بنتام بقوة ضرورة التقسيم الاجتماعي-اللغوي للعمل، الذي
وفقًا له لا يلزم الناطق العادي أن يعرف كيف يميز ما إذا كان شيءٌ ما هو «شجرة دردار»
مثلًا، ولكن الخبراء في المجتمع لديهم القدرة على هذا التمييز. وكما يؤثَر عن بنتام فإن
«المعاني ليست في الرأس». صحيح أن المعاني قد لا تكون في الرأس، لكن الأسس التصورية
لمثل هذه المنظومة تتضمن نوعًا من الماهوية «في الرأس».
تبين هذه المراجعة الموجزة أن اللغة تعمل وفقًا لافتراضات ماهوية معينة؛ غير أنها
تترك السؤال مفتوحًا عما إذا كانت اللغة بما هي كذلك تسهم في التفكير الماهوي؛ فقد يكون
الأمر غير ذلك ويكون التفكير الماهوي هو الذي يُسهم في كيف تُستخدَم الألفاظ.
ثمة نظريات في دور اللغة في الفكر؛ وهي نظريات شديدة التفاوت، بدءًا من تلك التي
تَدَّعي أن اللغة هي العدسة التي ننظم من خلالها الواقع، وأن اللغات المختلفة تُفضي
بأصحابها إلى تبيُّن رؤًى مختلفة للعالم worldviews
(فرضية سابير/وُرف)، وانتهاءً بتلك التي تدَّعي أن اللغة ليس لها أي تأثير جوهري في
الإدراك البشري (اللهم إلا بعض التأثيرات الشديدة الفرعية مثل تسجيل بعض مكونات الذاكرة
في صيغة لفظية). وبعد سنوات طويلة من رفض تأثير اللغة على الفكر عادت الدراسات الأحدث
لتُحيي الاهتمام بتأثير اللغة في الفكر وبخاصة من منظور نمائي، وتومئ إلى تأثيرات مهمة
للغة في هذا الشأن.
تتخذ سوزان جلمان موقفًا وَسَطًا بين هذين الطرفين، وتذهب إلى أن اللغة بحد ذاتها
لا
تحملنا على أن نُماهي، وإلى أن اللغات المختلفة لا تُماهي بدرجات مختلفة جذريًّا وإن
كانت بينها فروق طفيفة في ذلك؛ غير أن اللغة تحدد متى تُستخدَم الماهوية، وثمة صيغتان
لغويتان بصفة خاصة توحيان للأطفال بمنظورٍ ماهوي إلى الفئات، وهما: الأسماء العامة common nouns والتعبيرات الاسمية التعميمية generic noun phrases.