نزعة الماهية في البيولوجيا
ذهب أفلاطون إلى أن «الواقع» الذي نحسب أننا نراه لا يعدو أن يكون ظلالًا تلقيها على جدار كهفنا نيرانُ مخيمٍ خارجي (كان أفلاطون — شأنه شأن غيره من المفكرين الإغريق الكلاسيكيين — مهندسًا في حقيقة الأمر)، فكل مثلث مرسوم في الرمل إنْ هو إلا ظل غير دقيق للماهية الحقيقية للمثل؛ ذلك أن خطوط المثلث الماهوي هي خطوط إقليدية لها طول وليس لها عرض، تُعرَّف بأنها خطوطٌ لا متناهية الضيق لا تلتقي أبدًا إذا كانت متوازية، ومجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين لا يزيد نقيرًا عن ذلك ولا يقل. وهذا شيءٌ لا ينطبق بحالٍ على مثلث مرسوم في الرمل، فمثلث الرمل عند أفلاطون هو مجرد ظلٍّ قَلِقٍ للمثلث الماهوي المثالي.
وقد ابتُليَت البيولوجيا — كما يقول إرنست ماير — بصيغتها الخاصة من «الماهوية». تُعامِل الماهوية البيولوجية الجِمالَ والأرانب والسلاحف كما لو كانت مثلثات أو معيَّنات أو قطوعًا مكافِئة: فالأرانب التي نراها هي ظلالٌ شاحبةٌ للفكرة التامة للأرنب؛ الأرنب الأفلاطوني الماهوي المثالي، المُعلَّق حيث هو في فضاء تصوري إلى جانب جميع الصور الهندسية التامة. إن الأرانب ذات اللحم والدم قد تتباين، ولكن تبايناتها هي دائمًا نشوزٌ عن الماهية المثالية للأرنب.
إذا كان ثمة «أرنبٌ قياسيٌّ»؛ فإن هذا اللقب لا يعني إلا مركز توزعٍ جَرَسي الشكل لأرانب حقيقية متنوعة تقفز وتعدو. وهذا التوزع يتبدل مع الوقت، ومع تتالي الأجيال قد تأتي بالتدريج نقطةٌ غير محددة بوضوح، عندها سيكون معيار ما نسميه أرانب قد ابتعد كثيرًا بحيث يستحق اسمًا آخر.
لا عجب إذن — في رأي ماير — أن تنتظر البشرية داروينها حتى أواسط القرن التاسع عشر. ولكي نجسد كم هي مضادة نظريته للماهوية فلننظر ما يلي: من وجهة نظر التفكير المجتمعي/السكاني التطوري، فإن كل حيوان موصول بكل حيوان آخر؛ الأرنب مثلًا بالنمر، بسلسلة من الحيوانات الوسطى حيث كل حيوان يشبه تاليَه بحيث يمكن لكل وصلة معاشرة جارتها في السلسلة وإنتاج ذرية خصبة، هذا انتهاكٌ للتابو الماهوي ما بعده انتهاك. وهذا واقع وليس تجربة فكرية غامضة خيالية؛ فمن وجهة نظر تطورية ثمة حقًّا سلسلة من الحيوانات الوسطى تصل الأرنب بالنمر كلُّ حيوان منها عاش وتَنَفَّس، وكل حيوان منها كان حقيقًا أن يندرج تمامًا في نفس النوع الذي ينتمي إليه جاراه على جانبَي المتصل الانزلاقي الطويل. فكل حيوان في السلسلة هو حقًّا ابن جاره الذي على جانبه ووالد جاره الذي على الجانب الآخر. ورغم ذلك فالسلسلة كلها تشكل جسرًا متصلًا من الأرنب إلى النمر (رغم أنه لم يوجد قط، كما سوف نرى، «أرنب-نمر»). وهناك جسور شبيهة من الأرنب إلى الحصان، ومن النمر إلى سرطان البحر، ومن كل حيوان (أو نبات) إلى كل حيوان آخر. لعلك ساءلتَ نفسك: لماذا تترتب هذه النتيجة المروِّعة بالضرورة من رؤية العالم التطورية؟ ولكن لأفصح عنها على كل حال سأطلق عليها تجربة دبوس الشعر: (البنسة) الفكرية. خذ أرنبةً — أيَّ أرنبة (لنلتزم جزافيًّا بالإناث على سبيل التيسير: وهو لا يؤثر على الحجة أدنى تأثير) — وضع أمَّها تالية لها، والآن ضع جدتها تاليةً لأمها، وهكذا رُجعًا في الزمن، رُجعًا خلال ملايين الأعوام، في خط يبدو لا نهاية له من إناث الأرانب، كل منها محصورة بين ابنتها وأمها. ونحن الآن نسير على خط من الأرانب رُجعًا في الزمن متفحصين إياها بدقةٍ كقائدٍ يتفقد الجند. سنلاحظ في النهاية — ونحن نخطو على هذا الخط — أن الأرانب القديمة التي نمر بها مختلفة اختلافًا طفيفًا عن الأرانب الحديثة التي اعتدنا عليها. على أن معدل التغير سيكون من البطء بحيث لن نلحظ الاتجاه من جيل إلى جيل، تمامًا مثلما لا يمكننا أن نرى حركة عقرب الساعات في ساعات يدنا، وتمامًا مثلما لا يمكننا أن نرى طفلًا وهو يكبر (لا يمكننا إلا لاحقًا أن نراه وقد أصبح مراهقًا، ثم فيما بعدُ راشدًا).
نحن لا نعرف بالضبط ماذا يشبه هذا المخلوق، ولكن يترتب من وجهة النظر التطورية أنه لا بد أن يوجد. وكان — شأن جميع الحيوانات — عُضوًا في نفس النوع الذي تنتمي له بناته وأمه. نحن الآن نستمر في طريقنا؛ غير أننا قد اجتزنا منعطف الدبوس ونمضي الآن قُدُمًا في الزمن متجهين صوب النمور (من بين أخلاف الدبوس العديدين والمتنوعين؛ ذلك أننا سوف نقابل تشعبات في الخط باستمرار، حيث نختار بثباتٍ ذلك التشعب الذي سيُفضي في النهاية إلى النمور) وكل حيوان شبيه بالزَّبَابة على طول المسار المتجه أمامًا هو الآن متبوع بابنته. وبالتدريج وبمراحل غير مدرَكة سوف تتغير الحيوانات الشبيهة بالزَّبَابة عبر حيوانات وسطى قد لا تشبه كثيرًا أي حيوان حديث، ولكن يشبه كل منها الآخر بشدة، حتى نصل في النهاية — دون أن نلحظ أي تغير مفاجئ من أي نوع — إلى النمر.
- أوَّلًا: أننا قد تصادف أن اخترنا الطريق من الأرنب إلى النمر، ولكن كان من الممكن أن نختار الطريق من الشَّيْهَم إلى الدولفين، أو من الكنغر إلى الزراف، أو من الإنسان إلى أسماك الحَدوق. زبدة القول: أن بين أي حيوانين ثمة بالضرورة طريق بنسي؛ لسبب بسيط هو أن كل نوع يشارك كل نوع آخرٍ في سَلَفٍ ما: كل ما علينا فعله هو أن نمضي القهقرى من النوع إلى السلَف المشترك ثم ننثني خلال ثنية الدبوس ونمضي قُدُمًا إلى النوع الآخر.
- ثانيًا: لاحظ أننا لا نتحدث إلا عن تحديد سلسلة حيوانات تصل حيوانًا حديثًا بحيوان آخر حديث. نحن بالتأكيد لا نُطوِّر أرنبًا إلى نمر، بل أفترض أن بوسعك القول بأننا «ندهور» رُجُعًا إلى منحنى الدبوس ثم «نطوِّر» قُدُمًا إلى النمر من هناك. علينا للأسف أن نعيد مرارًا وتكرارًا أن الأنواع الحديثة لا تتطور إلى أنواع حديثة، بل تتشارك السلفَ فحسب؛ فهي أبناء عم. هذا هو جواب الشكوى الشائعة على نحو مزعج: «إذا كان البشر متطورين من الشمبانزي فكيف يتأتى أن تكون ثمة شمبانزيات بين ظهرانينا؟»
- ثالثًا: في طريقنا القادم من حيوان منعطف الدبوس نحن نختار اعتسافيًّا الطريق المؤدي إلى النمر. هذا طريق حقيقي في تاريخ التطور، ولكن مرة ثانية نحن نختار أن نغفل نقاط تفرُّع كثيرة حيث كان بوسعنا أن نتبع التطور إلى نقاط وصول أخرى لا حصر لها؛ ذلك أن حيوان المنعطَف هو السلَف الأكبر لا للأرانب والنمور فحسب بل لقسمٍ كبير من الثدييات الحديثة.
- رابعًا: رغم أن الفروق بين نهايتَي الدبوس (الأرنب والنمر مثلًا) جذرية وهائلة، فكل خطوة في السلسلة التي تصل بينهما ضئيلة شديدة الضآلة. فكل فرد على طول السلسة مشابه لجارَيه على الجانبين تشابه الأمهات وبناتها، وشبهه بجارَيه في السلسلة أكبر من شبهه بالأعضاء النموذجيين من المجتمع المحيط به.