الفصل الرابع
فتجنشتين ونزعة الماهوية
ذهب فتجنشتين في مراحله المتأخرة إلى ضرورة أن يعود الفلاسفة إلى اللغة العادية وأن
يتخلوا عن أية محاولةٍ لإقامة لغةٍ مثالية؛ ذلك لأن المشكلات الفلسفية تنشأ في نظره من
سوء
استخدام الفلاسفة للغة العادية أو تجاهلها، واستخدام الألفاظ بمعانٍ بعيدة كل البعد عن
الاستخدام المألوف. إنهم عنده مرضى مصابون بداء القلق والحيرة والوهم بسبب استخدامهم
لغةً
فنيةً اصطلاحيةً تُلصق بالألفاظ معانيَ غريبة من خلق عقولهم ولا أساس لها في الاستخدام
العادي، مما أوقعهم في مآزق فكرية. ورأى فتجنشتين أن مهمة الفيلسوف الجديدة هي نوع من
«العلاج الفلسفي» لهؤلاء المرضى الذين تسيطر على أذهانهم نماذجُ لغوية معينة، وأن علاجهم
هو
في عودتهم إلى اللغة العادية وصياغة المشكلات الفلسفية في إطارها، بحيث نَحِل المشكلة
حلًّا
أفضل أو يتبين لنا أنها مشكلة وهمية لا وجود لها إلا في عقول الفلاسفة.
١
ينقسم التاريخ الفكري للودفيج فتجنشتين
L. Wittgenstein
(١٨٨٩–١٩٥١م) بصفة عامة إلى مرحلتين: مرحلة «دراسة
٢ منطقية فلسفية»
tractatus
logico-philosophicus وهو الكتاب الوحيد الذي في حياته، ومرحلة متأخرة هي
مرحلة «بحوث فلسفية»
philosophical investigation وهو
عبارة عن مذكرات محاضراته ومجموعة أبحاثه التي نُشِرَت عام ١٩٥٣م (بعد وفاته).
في المرحلة الأولى — مرحلة «الدراسة»
tractatus — كان
فتجنشتين يطمح إلى إمكان تحليل جميع القضايا إلى مكونات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدًا
من
التجزيء؛ ولذلك سُمِّيَت نظريته «الذرية
المنطقية»
logical atomism، «وهي تشترك في الكثير مع نظريات أسبق منها عن المكونات
النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون
rationalists.
وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضع لغة كاملة تعبِّر عن كل شيء بأقصى درجة من الدقة.
أمَّا في المرحلة المتأخرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مثل هذه اللغة، فمن المستحيل
أن
نقضي على الخلط قضاءً مُبرَمًا.»
٣
يمكن تلخيص الفكرة الأساسية لنظرية فتجنشتين المتأخرة في أن «معنى أية كلمة هو طريقة
استخدامها». وهو يستخدم تشبيه «الألعاب
اللغوية»
language games لكي يُبَيِّن فكرة أن المعنى هو طريقة الاستخدام. إن الاستخدام
الفعلي لجزء معين من اللغة هو أشبه بلعبة كالشطرنج مثلًا. ولهذه اللعبة قواعد معينة ينبغي
على كل من يمارسونها أن يراعوها. كما أن هناك قيودًا معينة على الحركات المسموح بها.
إننا
حين نتعلم كيف نلعب عددًا من الألعاب اللغوية المتنوعة نكتسب معنى الكلمات عن طريق
استخدامها ومن خلاله … وبتعبير آخر: «إننا نتعلم النحو
grammar أو المنطق الخاص بكلمةٍ معينة.» «وهكذا فإن إثارة المشكلات
الميتافيزيقية ينجم عندئذٍ عن نقص في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات؛ ذلك لأننا بمجرد
أن
نفهم القواعد فهمًا صحيحًا لا تظل لدينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة بعد أن يكون «العلاج
اللغوي» قد شفانا من هذه الرغبة.»
٤ إن اللغة العادية تكفي، وإنما تنشأ المشكلات الفلسفية عن سوء الاستخدام.
إن معظم المشكلات الفلسفية التي حيرت الفلاسفة التقليديين هي وليدة نَزْغٍ أو وسواس
يتلبس
بالفلاسفة إذ يُحوِّلون التعبيرات المستخدَمة في اللغة بطريقةٍ معينة إلى مجالات أخرى
لا
تنطبق فيها على الإطلاق، ويُسيئون فهم بعض ضروب التماثل اللفظي، وينخدعون بالتركيب الظاهري
لبعض العبارات أو الكلمات؛ الأمر الذي يُوَلِّد المفارقات اللفظية العجيبة والمتناقضات
اللغوية الصارخة التي طالما غَصَّت بها مؤلفات الفلاسفة الميتافيزيقيين. لقد دأبوا على
القذف باللغة بعيدًا عن تروس الحياة، فلا عجب في أن
نراهم يستخدمون اللغة استخدامًا هجينًا غير مألوف. وليس من علاج لهذه الظاهرة الشاذة
إلا
بإخضاع الفلاسفة أنفسهم لضربٍ من العلاج النفسي حتى نُظهِرهم على منشأ تلك الأوهام
الميتافيزيقية التي طالما وقعوا تحت سطوتها؛ وبذلك نُعينهم على الاهتداء إلى المعاني
الحقيقية لما يفوهون به من كلمات. إن مهمة الفلسفة عند فتجنشتين سلبية صرفة، ما دامت
كل
وظيفتها لا تكاد تتعدى إزالة العوائق التي تقف حجر عثرة أمامنا في سبيل فهم معاني اللغة
العادية.
٥
(١) من الماهية إلى «التشابه العائلي»
الكلماتُ أدوات. ومعنى الكلمة لا يتمثل في «موضوع» يُفترَض أن الكلمة تقوم مقامَه.
وواقع الحال في الممارسة اللغوية الحقيقية أننا حين نتحدث عن معنى أية كلمة فإننا نتحدث
عندئذٍ عن الطريقة التي تُستخدَم بها تلك الكلمة، وحين نقول عن أي شخص: إنه قد تَعَلَّم
أو فَهِم معنى أية كلمة فإننا نعني بذلك أن هذا الشخص قد تعلَّم أو أصبح يفهم كيف
يستخدم تلك الكلمة، وأصبح بالتالي عُضوًا في جماعة لغوية معينة. للغة إذن طابع اجتماعي
يجعل منها أكثر من مجرد وسيلة لتصوير الوقائع.
٦ للغة استعمالات كثيرة غير مجرد الوصف أو التصوير، منها الأمر والتحذير
والتوبيخ والتحضيض والتعبير عن المشاعر … إلخ.
المعنى هو الاستخدام، لا تسأل عن المعنى ولكن اسأل عن الاستخدام. ومعنى اللفظة ليس
غير طريقة (أو طرق) استخدامنا لها في حياتنا اليومية. فبينما يؤكد الفلاسفة أن الفكر
الواضح منوط بالتعبير مما يستوجب أن يكون لكل كلمة معنًى محدد، فإن فتجنشتين يَبْدَهنا
بغير ذلك؛ فليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنًى محدد دقيق، وإنما للكلمة الواحدة
كما هي مستخدمة بالفعل في الحياة اليومية معانٍ لا
حصر لها تتحدد بحسب السياقات والمواقف والظروف المختلفة التي تُستخدَم فيها الكلمة؛
فالكلمة مطاطة تتسع وتضيق وفقًا للظروف والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات
المختلفة للكلمة الواحدة عنصر مشترك محدد، وإنما توجد بينها تشابهات متداخلة متشابكة
كالتي نراها بين أفراد العائلة الواحدة.
٧
و«التشابه العائلي»
family resemblance هو الظاهرة
التي بيَّنها فتجنشتين في كتاباته المتأخرة، ومُفادُها أن الأشياء التي يشير إليها حد
من الحدود قد ترتبط معًا لا بخاصةٍ مشتركة واحدةٍ بل بشبكة من التشابهات، كشأن الأشخاص
الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لعائلة معينة. و«مفهوم التشابه العائلي»
٨ يعني كل مفهوم يضم مجموعةً من الأشياء أو الموضوعات وينطبق عليها لا بفضل
سمة فريدة عامة بل لوجود تشابهات بينها عديدة ومتداخلة جزئيًّا بعضها مع بعض.
للغة إذن استعمالات عديدة. وقد يكون من العبث أن نحاول البحث عن عنصر مشترك بين هذه
الاستعمالات المختلفة، وكأن ثمة «ماهية»
essence شاملة
للمعنى تكمن من وراء تلك الاستعمالات. ولعلنا نكون أقرب إلى جادة الحق لو أننا حاولنا
أن نشبِّه فهم الإنسان للاستعمالات المختلفة للألفاظ بفهمه للقواعد التي لا بد من
مراعاتها في كل لعبة من الألعاب. فاللغة هي أشبه ما تكون باللعبة من حيث إنه لا بد من
التزام بعض القواعد في كل منها. وكما أن الاختلاط لا بد أن يشيع بين اللاعبين لو أن كل
لاعب سمح لنفسه بابتداع قواعد جديدة للعبة أثناء استمراره في اللعب، فكذلك يشيع
الاختلاط لو عمد الناطق باللغة إلى مخالفة القواعد المرعية، ولا سبيل إلى بلوغ الوضوح
المطلوب حول معنى أية كلمة إلا بالرجوع إلى طرق استعمالها.
٩
وحسبنا أن نمعن النظر في الوظائف المتنوعة التي تضطلع بها اللغة لكي نتحقق من سذاجة
تلك النظرة المنطقية التي طالما اصطنعها الفلاسفة في تحليلهم لبناء اللغة، أو في تصورهم
للغةٍ مثاليةٍ يكون فيها رمز واضح محدد لكل موضوع بسيط أو لكل خاصية بسيطة … ليست اللغة
مجرد عملية لصق بطاقات على بعض الموضوعات، ولا هي مجرد «حساب منطقي». وليس أدل على
مرونة اللغة (من وجهة النظر الصورية أو الشكلية) من أنها تقبل التعبير عن العديد من
الاستعمالات الجديدة، فضلًا عن أنها قد تنهض بتحمل مهام جديدة غير تلك التي دأبت على
النهوض بها.
١٠
وليس ثمة سبيل لفهم طبيعة اللغة أفضل من النظر إلى الطريقة العملية التي تُستخدَم
بها
اللغة في صميم حياتنا الاعتيادية، على نحو ما ينظر المرءُ إلى أي جهازٍ آلي أثناء تحركه
أو دورانه، فيفهمه أو يدرك طريقة استخدامه.
١١
يقول فتجنشتين: «أن نفهم لغةً ما هو أن نفهم شكلًا من أشكال الحياة.» ويبدو أن هذا
القول يحمل في تضاعيفه دعوةً تُلزِم أولئك الذين يرغبون في دراسة اللغة أن يفعلوا بإزاء
عشائرهم الخاصة شيئًا شديد الشبه بما يفعله الإثنوغرافيون/الأنثروبولوجيون بإزاء
العشائر التي يدرسونها، يتضمن ذلك على أقل تقدير تَرَسُّمَ معنًى إجمالي لجملة
الممارسات اللغوية وغير اللغوية التي تؤلف شكلًا من أشكال الحياة.
١٢
(٢) التشابهات العائلية: عن نص فتجنشتين حَرفيًّا PI
65–67
(65) هنا نواجه السؤال الكبير الذي يكمن خلف كل هذه
الاعتبارات؛ إذ قد يعترض أحدٌ عليَّ بقوله: «لقد سلكت الطريق السهل! فأنت تتكلم عن جميع
أنواع ألعاب اللغة، لكنك لم تذكر ماهية اللعبة اللغوية؛ ومن ثَمَّ ماهية اللغة: ولا ما
هو مشترك بين كل هذه المناشط أو الفعاليات على نحو يجعل منها لغة أو أجزاء من اللغة،
وبذلك تكون قد استبعدت من بحثك ذلك الجزء الذي سبَّب لك صداعًا، وهو ذلك الجزء الخاص
بالصورة العامة للقضايا وللغة.» وهذا حق … فبدلًا من التوصل إلى شيء يكون مشتركًا بين
كل ما نسميه لغة، أقول بأنه لا يوجد شيء واحد مشترك بين تلك الظواهر اللغوية يكون من
شأنه أن يجعلنا نستخدم لفظًا واحدًا بالنسبة لها جميعًا، وإنما هي مترابطة الواحدة منها
بالأخرى بطرق عديدة مختلفة، وإنه بسبب علاقة الترابط هذه أو العلاقات، فإننا نسميها
جميعًا باسم «اللغة». وسوف أحاول الآن أن أفسر هذا القول.
(66) لنأخذ مثلًا العمليات أو الأفعال التي نسميها ﺑ
«الألعاب»؛ وأعني بذلك الألعاب ذات الرقعة، وألعاب الورق، وألعاب الكرة، والألعاب
الأوليمبية، وغير ذلك. ما الذي يكون مشتركًا بينها جميعًا؟ لا تقل: «لا بد من وجود شيء
مشترك وإلا ما أسميناها جميعًا بأنها «ألعاب».» بل انظر وشاهد ما إذا كان هناك أي شيء
مشترك بينها جميعًا؛ لأنك إذا نظرت إليها فلن تشاهد شيئًا مشتركًا بينها جميعًا، وإنما
ستشاهد تماثلات وعلاقات بل سلسلة كاملة منها.
أكرر: لا تفكر، لكن انظر وشاهد!
انظر مثلًا إلى الألعاب ذات الرقعة بعلاقاتها العديدة المترابطة. ثم انتقل إلى ألعاب
الورق؛ هنا تجد تناظرات كثيرة بينها وبين المجموعة الأولى، إلا أنك تجد صفات مشتركة
عديدة بينها اختفت، بينما تظهر صفات أخرى غيرها. وحينما ننتقل بعد ذلك إلى ألعاب الكرة؛
نجد أن كثيرًا مما هو مشترك يظل باقيًا، في حين يزول الكثير أيضًا.
هل هي جميعها تتصف بأنها «مسلية»؟ قارن لعبة الشطرنج بلعبة السلم والثعبان. أم هل
هناك دائمًا مكسب وخسارة، أو تنافس بين اللاعبين؟ فكر في الصبر (أثناء ممارسة هذه
الألعاب). في ألعاب الكرة مكسب وخسارة، لكن حينما يرمي طفلٌ بكرته إلى الحائط ثم يمسك
بها مرة ثانية نجد أن هذه السمة تزول. انظر إلى الدور الذي تلعبه المهارة ويلعبه الحظ،
والفرق بين المهارة في الشطرنج والمهارة في التنس. فكر الآن في الألعاب الدائرية؛
١٣ هنا عنصر التسلية موجود، لكن كم من الصفات الأخرى قد اختفت! ويمكننا أن
نستمر على هذا النحو في ذكر مجموعات كثيرة أخرى من الألعاب، ويمكننا أن نتبين كيف تنشأ
التشابهات أو التماثلات، وكيف تزول وتختفي.
ونتيجة هذا التأمل هي أننا نرى شبكة مركبة من التماثلات تتداخل وتتقاطع؛ وهي أحيانًا
تماثلات شاملة، وأحيانًا أخرى تماثلات تفصيلية.
(67) أعتقد أنني لا أكاد أجد تعبيرًا يحدد هذه
التماثلات أفضل من القول بأنها «تشابهات عائلية»؛ لأن أوجه التشابه العديدة بين أفراد
العائلة الواحدة، مثل: البنية والملامح ولون العينين وطريقة المشي والمزاج … إلخ تتداخل
وتتقاطع بنفس الطريقة.
أنا أقول: إن «الألعاب تكوِّن عائلة» بهذا المعنى السابق، وكذلك فإن أنواع العدد
تكوِّن عائلة بنفس الطريقة. لماذا تُسمِّي شيئًا بأنه «عدد»؟ حسنًا، ربما لأنه يرتبط
بعلاقة مباشرة مع أشياء أخرى سُمِّيَت حتى الآن باسم العدد. بهذه الطريقة يمكن القول
بأننا نربطه بعلاقة غير مباشرة مع غيره من الأشياء التي نسميها بالاسم نفسه …»
١٤
(٣) هل «التشابه العائلي» رفضٌ صريحٌ للماهوية؟
تذهب القراءة السائدة لحديث فتجنشتين عن «التشابه العائلي» (بحوث فلسفية ٦٥–٦٧) إلى
أن فتجنشتين رافض صريح لنزعة الماهية، وأن المفهوم التشابه العائلي عنده يتضمن «دعوى
أنطولوجية»، مفادها أنه لا وجود لخاصةٍ مشتركةٍ ماهويةٍ للألعاب، وليس ثمة تعريف ماهوي
تحليلي يحصر السمة المشتركة للألعاب أو يقبض على «ماهية» الألعاب.
والحقيقة أن نص فتجنشتين في «بحوث فلسفية» لا يفيد ذلك، بل يفيد أن الألفاظ لا يلزمها
أن يكون لها تعريفات ماهوية (تحصر الخواص المشتركة) لكي تعمل كألفاظ؛ فمفهوم التشابه
العائلي لا يرمي إلى رفض الماهوية، بل إلى جعل هذا المذهب الماهوي غير ذي صلة، وإلى
تبديد وطأته الفلسفية؛ فالأفضل أن نقرأ هذه الشذرات من فتجنشتين في ضوء هدفه من منهجه
الفلسفي كما نص عليه مثلًا في الشذرة ١٣٣ من «بحوث فلسفية»، وهو أن «المشكلات الفلسفية
(المتصلة بالماهوية في هذا الصدد) يجب أن تختفي تمامًا.»
١٥
إذا كان التفسير السائد للتشابه العائلي يتضمن «دعوى أنطولوجية» (عدم وجود خاصة
مشتركة ماهوية)، فإن القراءة الصحيحة للشذور الثلاث يتضمن «دعوى إبستمولوجية» تتحدث عما
يتعين على الناطقين أن يعرفوه لكي يستخدموا كلمةً ما استخدامًا صحيحًا، ويُراد بها أن
تكون «وصفًا» ذا صلة فلسفية (علاجية) دالة. ولكي نتحقق من دقتها فإن علينا أن ننزل إلى
أرض الواقع وننظر إلى استعمال الكلمات ونتفحص ما يفعله الناطقون عندما يستخدمونها. إن
الدور المنوط ﺑ «استعمال» اللفظة لَهُو دور أساسي في المنهج الفلسفي عند فتجنشتين المتأخر.
١٦
يعني ذلك أن فتجنشتين لم يقل بصريح العبارة: إن الماهيات لا وجود لها؛ فالشذور الثلاث
لم تصرح بما إذا كانت التعريفات الماهوية موجودة أو غير موجودة. إنما تقرر فحسب أن
معرفة التعريفات ليست إلزامية أو إجبارية من أجل الاستخدام الصحيح.
وبتعبير آخر: لم يكن الغرض الذي يصوِّب إليه فتجنشتين سهام نقده في فقرات التشابه
العائلي (٦٥–٦٧) هو الدعوى الماهوية الصريحة، «ثمة ماهيات للألعاب (محصورة في التعريف
الماهوي)»، بل كان الغرض المستهدف هو رأيٌ من قبيل «الناطقون بحاجة إلى معرفة
تعريف/ماهية لكي يستخدموا اللفظ على نحوٍ صحيح»؛ فالوصف الواقعي لعملية استعمال اللغة
يكشف أن الناطقين لا يعرفون أي تعريف/ماهية للألعاب عندما يستخدمون لفظة «لعبة»
استخدامًا صحيحًا، إذن معرفة مثل هذا التعريف الماهوي ليست ضرورية للاستعمال الصحيح لأي
لفظة. والتأثير الذي ترمي إليه هذه القراءة المراجِعة لفتجنشتين هو تناول اللب الماهوي
لا بالرفض بل بالإذابة إن صح التعبير؛ فالقوة التأسيسية المفترَضة للماهوية ينبغي أن
تُحيَّد ما دامت التعريفات الماهوية لا دَخْلَ لها ولا دور في استخدامنا لمفهوم من
مفاهيم اللغة الطبيعية، وباستعارة التعبير الأثير لفتجنشتين فإنها «أشبه بتروس قُطِعت
صِلَتُها بالآلية».
وفي ضوء هذه القراءة فإن الأثر المنشود للمنهج الفلسفي عند فتجنشتين ليس أثرًا
مبالَغًا فيه؛ فلقد بَدا لنا الآن كيف ولماذا ينبغي للمشكلات الفلسفية المرتبطة
بالماهوية (التعريفية) أن «تختفي تمامًا» (بحوث فلسفية، ١٣٣). وهذا مثال من الأمثلة
التي تقوِّض ما تدَّعيه الميتافيزيقا التقليدية من أنها تقدم لنا نتائج «تأسيسية»
foundational وكشوفًا عن طبيعة الواقع نفسه؛ فنحن
عندما نتبين أن استعمالنا للغة مستقل عما يمكن لمثل هذا المشروع الميتافيزيقي أن يكتشفه
(إن كان يكتشف شيئًا على الإطلاق)؛ تتبدَّد أمام أعيننا أية صلة يريدها الميتافيزيقي
لبحثه في طبيعة الأشياء. يذهب فتجنشتين إلى أن ادعاء الفلاسفة بتقديم أسس تصورية (بمعنى
تزويدنا بتبريرات أسسية لاستخدامنا المفاهيم) هو — ببساطة — مجرد وهم، فالفلسفة الأصيلة
تترك كل شيء كما هو، بينما تَجهد الفلسفة الزائفة من أجل الأسس. وإذا وقر الاعتقاد
بالعثور على هذه الأسس فإن النتيجة المباشرة المترتبة على ذلك هي أن تَلِجَّ الفلسفة
(الزائفة) في اقتراح إصلاحات لغوية، مُعيقةً بذلك الاستعمالَ الفعلي لمفاهيم اللغة الطبيعية.
١٧