كان كارل ريموند بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤م) من أشد المناوئين لنزعة الماهية والرافضين لفكرة
وجود
«واقع نهائي» علينا أن نكتشفه ونفسر في ضوئه كل شيء آخر، في كتابه (المشترك) «النفس
ودماغها» يَعرِض بوبر لعالَم المُثُل الأفلاطونية فيقول: إن عالم المعقولات عند أفلاطون
رغم
شبهه بالعالم ٣ عند بوبر، فإنه شديد الاختلاف عنه من نواحٍ كثيرةٍ، فهو يتكوَّن مما أسماه
«الصور» forms، أو «الأفكار/المُثُل» ideas، أو «الماهيات» essences؛ أي الأشياء التي تشير إليها المفاهيم أو الأفكار العامة.
وأهم الماهيات في عالم الصور أو الأفكار المعقولة عند أفلاطون هي «الخير» و«الجَمال»
و«العدالة». وهو يتصور هذه الأفكار على أنها ثابتة، ولا زمنية أو «أزلية»، ومن مصدر إلهي.
وعلى خلاف ذلك فإن العالم ٣ عند بوبر هو صنيعة الإنسان من حيث مصدره (رغم استقلاله الجزئي).
وهو رأي كان كفيلًا أن يمثل صدمة لأفلاطون. يقول بوبر: «بينما أؤكد على وجود أشياء العالم
٣، فأنا لا أعتقد أن الماهيات لها وجود، بمعنى أنني لا أسبغ أي وضع على الموضوعات أو
المسميات الخاصة بمفاهيمنا أو أفكارنا. إن التأملات النظرية في الطبيعة الحقيقية أو التعريف
الحقيقي للخير أو للعدالة؛ تؤدي — في رأيي — إلى مماحكات لفظية وعلينا اجتنابها؛ فأنا
من
المناهضين لما أسميته «نزعة الماهية» essentialism … لقد
وصف أفلاطون عملية فهم الصور أو الأفكار على أنها نوع من الرؤية. إن عيننا العقلية (النوس،
العقل)، «عين الروح»، قد وُهِبَت حدسًا فكريًّا وبوسعها أن «ترى» الفكرة أو الماهية أو
الشيء الذي ينتمي إلى عالم المعقولات. وما إن نتمكن من أن نراه — أن نفهمه — فإننا نعرف
هذه
الماهية، نستطيع أن نراها «في ضوء الحقيقة». هذا الحدس الفكري متى يتم الوصول إليه فهو
معصوم من الخطأ.»
(١) نقد نظرية التعريف الأفلاطونية-الأرسطية
الخطر الأكبر على فلسفتنا — عدا الكسل والتشوش — هو السكولائية … التي تُعامل ما
هو غامض على أنه دقيقٌ مُحدَّد.
فرانك رامزي
في الفصل الأوَّل من الجزء الثاني من كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» يعرض بوبر
في
استطرادةٍ مهمة للمنهج الماهوي في التعريفات عند أرسطو. يقول بوبر: إن مشكلة التعريفات
و«معنى المصطلحات» غير ذي وَقْع مباشر على التاريخانية؛ غير أنه كان مصدرًا لا ينقطع
للخلط؛ ولذلك الضرب من الحشو اللفظي الذي اتحد بالتاريخانية في عقل هيجل؛ فأنتج ذلك
المرض الفكري السام الذي ألمَّ بزمننا نحن والذي أسميه «الفلسفية النبوئية» oracular philosophy، وهو أهم مصدر
للتأثير الفكري المدمر لأرسطو، لكل تلك التاريخانية اللفظية والفارغة التي لا تنتاب
العصور الوسطى فحسب بل تَرِين على فلسفتنا المعاصرة نفسها؛ فحتى فلسفةٌ في حداثة فلسفة
فتجنشتين لم تسلَم من هذا التأثير!
يذهب بوبر إلى أن بوسعنا أن نُجمِل تطور الفكر منذ أرسطو بأن نقول: إنه ما من مبحث
لا
يزال يستخدم المنهجَ الأرسطي في التعريف إلا ظل موثقًا في حالةٍ من الحشو اللفظي الفارغ
والسكولائية العقيمة، وإن مختلف العلوم لم تتمكن من إحراز أي تقدم إلا بقدر ما تمكنت
من
التخلص من هذه المنهج الماهوي. (وهذا هو السبب في أن كثيرًا من «علومنا الاجتماعية» ما
زالت تنتمي إلى العصور الوسطى).
سيتعين على عرض هذا المنهج أن يكون مُجرَّدًا بعض الشيء؛ ذلك أن المشكلة قد عانت
تشوُّشًا عظيمًا على يد أفلاطون، وعلى يد أرسطو بصفة خاصة؛ فقد أدى نفوذهما إلى تحيزات
بلغت من الرسوخ مبلغًا جعل تبديدها أمرًا ليس بالهيِّن. ورغم كل ذلك فإن تناول مصدر هذا
الخلط والحشو الكثير بالتحليل قد لا يخلو من الفائدة والتشويق.
يفرق أرسطو — مقتفيًا في ذلك أثر أفلاطون — بين المعرفة knowledge والرأي opinion؛ فالمعرفة
عنده سديدة لا تخطئ، وصادقة على نحوٍ نهائيٍّ مُطلَق، بينما الرأي لا يُعوَّل عليه، وقد
يكون كاذبًا أحيانًا. تتكوَّن المعرفة عند أرسطو من العبارات العلمية التي تم إثباتها
أو البرهنة عليها، أو «المبادئ» principles التي لا
يمكن إثباتها. وقد كان أرسطو على صواب بغير شك حين أصر على أن علينا ألا نحاول إثبات
كل
معرفتنا، فكل برهان يتعين أن ينطلق من مقدمات؛ ومن ثَمَّ فإن البرهان بحد ذاته — أي
الاستقاء من المقدمات — لا يمكن أن يحسم صدق أي نتيجة، بل يبين فحسب أن النتيجة لا بد
أن تَصدُق شريطة أن تكون المقدمات صادقة. فإذا كان علينا أن نطلب البرهنة على المقدمات
بدورها، فإن مسألة الصدق تكون قد تَرحلَت خطوةً إلى
الخلف — ليس إلا — إلى مجموعة جديدة من المقدمات.
وهكذا إلى غير نهاية. ولكي نتجنب هذا النكوص اللانهائي infinite regression (regress) فقد علَّمَنا أرسطو أن نفترض بالضرورة أن هناك
مقدمات صادقة لا تقبل الشك ولا تحتاج إلى أي برهان، وهو يسميها «المبادئ». إذا سلَّمنا
بالمناهج التي نشتق بها النتائج من هذه المبادئ فإن بوسعنا أن نقول — وفقًا لأرسطو: إن
المعرفة العلمية كلها متضمَّنة في المبادئ، وإننا حقيقون بتملُّكها لو كان بمُكنتنا فقط
أن نُحصِّل قائمةً موسوعيةً من المبادئ. ولكن كيف نُحصِّل هذه المبادئ؟ ذهب أرسطو —
شأنه شأن أفلاطون — إلى أننا نُحصِّل كل معرفةٍ بشكلٍ جوهريٍّ بإدراك ماهية
الأشياء.
يقول أرسطو: «ليس بوسعنا أن نعرف شيئًا ما إلا بمعرفة ماهيته»، و«أن نعرف الشيء هو
أن
نعرف ماهيته». و«المبدأ» principle وفقًا لأرسطو ليس
إلا عبارة تصف ماهية شيءٍ ما. ولكن هذه العبارة هي بالضبط ما يسميه «تعريفًا» definition. بذلك تكون كل «المقدمات الأساسية
للبراهين»؛ أي كل «المبادئ» هي «تعريفات» definitions.
كيف يبدو التعريف؟ قد يكون مثالًا لتعريف أن نقول: «الجرو هو كلبٌ صغير.» إن
الموضوع subject في هذه الجملة-التعريف (لفظة
«جرو») يُسَمَّى «الحد المعرَّف» the defined term،
أمَّا كلمتَا: «كلب صغير» فيُطلَق عليها «الصيغة المعرِّفة» the defining formula. وكقاعدة: تكون الصيغة المعرِّفة أطول من الحد
المعرَّف وأكثر تعقيدًا وبكثير جِدًّا في بعض الأحيان. ويَعتبر أرسطو الحد المعرَّف
اسمًا لماهية الشيء، والصيغة المعرِّفة وصفًا لهذه الماهية. وهو يؤكد أن الصيغة
المعرِّفة يجب أن تقدم وصفًا جامعًا للماهية، أو الخواص الماهوية للشيء المعني. هكذا
فإن عبارة مثل «الجرو له أربع أرجل» — رغم صدقها — ليست تعريفًا قويمًا، من حيث إنها
لا
تجمع (تستنفد) ما قد يُسمَّى ماهية كون الشيء جروًا، بل تَصدُق أيضًا على الحصان.
وبالمثل فإن العبارة: «الجرو بني اللون»، رغم أنها قد تَصدُق على الجراء، فإنها لا
تَصدُق على جميع الجراء، وهي من أجل ذلك تصف ما هو غير جوهري (غير ماهوي) وما هو مجرد
خاصة عَرَضية accidental property للحد
المعرَّف.
ولكننا لم نُجِب حتى الآن عن سؤال كيف يمكننا أن نحصل على التعريفات أو المبادئ
ونتيقن من أنها صحيحة. رغم أن أرسطو غير واضح تمامًا في هذه النقطة فليس ثمة شك في أنه
بعامة يقتفي أثر أفلاطون مرةً أخرى. فقط كان أفلاطون
يعلِّم أن بوسعنا فهم «المُثُل/الأفكار» ideas عن طريق
نوع معين من «الحدس الفكري» intellectual intuition؛
أي إننا نراها أو ننظر إليها ﺑ «عين العقل» mental eye
لدينا، وهي عملية يتصورها أفلاطون كشيء مماثل للرؤية، ولكن يعتمد كليًّا على الفكر
ويستبعد أي عنصر يعتمد على حواسنا. ورغم أن وجهة نظر أرسطو في هذا الشأن أقل جذريةً
وإلهامًا من وجهة نظر أفلاطون فإنها تُفضي إلى نفس الشيء؛ ذلك أن أرسطو وإن كان يعلِّم
أننا لا نصل إلى التعريف إلا بعد أن نكون قد قمنا بكل الملاحظات الممكنة؛ فهو يعترف بأن
الخبرة لا يمكن على الإطلاق أن تحدد تعريفًا تحديدًا تامًّا، ويفترض في النهاية أننا
نمتلك حدسًا فكريًّا، تلك الملكة العقلية أو الفكرية التي تُمكِّننا من أن ندرك ماهيات
الأشياء وأن نَعرِفها؛ ويفترض كذلك أننا إذا ما عرفنا ماهيةً ما حدسيًّا نكون بالضرورة
قادرين على وصفها؛ ومن ثَمَّ على تعريفها.
ونحن إذ نُجمِل هذا التحليل المختصر يمكننا — فيما أعتقد — أن نقدِّم وصفًا مقبولًا
للمثال الأرسطي للمعرفة التامة والكاملة إذا قلنا: إنه ذهب إلى أن الهدف النهائي
للمعرفة هو في جمع موسوعة تحتوي على تعريفات جميع الماهيات؛ أي تحتوي على أسمائها مع
صيغاتها التعريفية، وإنه اعتبر أن تقدم المعرفة عبارة عن تراكم تدريجي لهذه الموسوعة،
والتوسع فيها ومَلء الثغرات بها.
يتضح الآن دون أدنى شك أن جميع هذه الآراء الماهوية تقف على النقيض التام من مناهج
العلم الحديث. أوَّلًا: رغم أننا في مجال العلم نبذل قصارى جهدنا لكي نصل إلى الحقيقة،
فنحن على دراية بأننا لا يمكننا على الإطلاق أن نتيقن من أننا وضعنا يدنا عليها. لقد
سبق أن تعلَّمنا من الإحباطات الكثيرة في مجال العلم أننا ينبغي ألا نطمح إلى الحقيقة
المطلقة. ولقد تعلَّمَنا ألا نحزن إذا ما تقوَّضت نظرياتنا العلمية؛ لأن بوسعنا في
حالات كثيرة أن نحدد بثقة كبيرة أية نظرية من النظريتين هي الأفضل. بوسعنا إذن أن نعرف
أننا نحرز تقدُّمًا، وإن هذه المعرفة لهيَ العِوَض — لدى معظمنا — عن انقشاع وَهْم
الحقيقة المطلقة ووهْم اليقين. نحن بعبارة أخرى نعرف أن نظرياتنا العلمية ينبغي لها
دائمًا أن تظل فرضيات، ولكننا نعرف أيضًا أن بوسعنا في حالات كثيرة مهمة أن نبين ما إذا
كانت فرضيةٌ جديدةٌ تفوق فرضيةً قديمةً أم لا؛ ذلك لأنهما إذا كانتا مختلفتين فسوف
تؤديان إذن إلى تنبؤات مختلفة، والتي يمكن في الأغلب اختبارها تجريبيًّا؛ وعلى أساس هذه
التجربة الفاصلة يمكننا أحيانًا أن نُبيِّن أن النظرية الجديدة تؤدي إلى نتائج مُرْضِية
في حين تُقصِّر النظرية القديمة عن ذلك وتتقوَّض. بذلك يمكننا أن نقول: إننا في بحثنا
عن الحقيقة قد استبدلنا باليقين العلمي التقدم العلمي، إن هذه الوجهة من الرأي في
المنهج العلمي يعززها تطور العلم؛ فالعلم لا ينمو بتراكم موسوعي تدريجي للمعلومات كما
كان أرسطو يعتقد، بل بطريقة أكثر ثورية بكثير. إنه يتقدم بواسطة الأفكار الجريئة،
بواسطة تقديم نظريات جديدة وشديدة الغرابة (مثل نظرية أن الأرض ليست مسطحة، وأن المكان
ليس مُسطَّحًا)، وبواسطة الإطاحة بالنظريات القديمة.
ولكن هذه الرؤية للمنهج العلمي تعني أنْ ليس في العلم «معرفة» بالمعنى الذي فَهِمَ
به
أفلاطون وأرسطو هذه الكلمة؛ أي المعنى الذي يتضمن النهائية. ليس لدينا في العلم مبرِّر
كافٍ على الإطلاق للاعتقاد بأننا قد بَلَغنا الحقيقة، وإن ما اعتدنا أن نطلق عليه
«المعرفة العلمية» هو كقاعدة ليس معرفة بهذا المعنى، وإنما هو معلومات تتعلق بشتى
الفرضيات المتنافسة وكيف صمدت لشتى الاختبارات. إنه — باستخدام لغة أفلاطون وأرسطو —
معلومات تتعلق بآخِر «رأي» opinion علمي.
هذه الرؤية تعني — فضلًا عن ذلك — أننا في العلم ليس لدينا براهين (باستثناء
الرياضيات البحتة والمنطق بطبيعة الحال). أمَّا في العلوم الإمبيريقية — التي بمُكنتِها
وحدها أن تزودنا بمعلومات عن العالم الذي نعيش فيه — فالبراهين لا تحدث، إذا كُنَّا
نعني ﺑ «البرهان» proof حجةً تؤسس صدق نظريةٍ ما مرةً
وإلى الأبد. (أمَّا الذي قد يحدث فهو تفنيدات النظريات العلمية). ومن الجهة الأخرى فإن
الرياضيات البحتة والمنطق — اللذين يسمحان بالبراهين — لا يقدمان لنا معلومات عن
العالم، بل يطوران فحسب وسائل وصفه. بذلك يسعنا أن نقول (كما أشرتُ في موضع آخر): «بقدر
ما تشير الجمل العلمية إلى عالم التجربة يتعين عليها أن تكون قابلةً للدحض، وبقدر ما
تكون غير قابلة للدحض، فإنها لا تشير إلى عالم التجربة.» ولكن على الرغم من أن البرهان
لا يلعب أي دور في العلوم الإمبيريقية فما تزال الحجة تلعب دورًا، بل إن دورها مساوٍ
في
الأهمية على أقل تقدير للدور الذي تلعبه الملاحظة والتجربة.
كما أن دور التعريفات في العلمِ بخاصة مختلف تمامًا عما كان يقر في ذهن أرسطو. كان
أرسطو يعلِّم أننا في التعريف نشير أوَّلًا إلى الماهية بتسميتها ثم نصفها تمامًا كما
في جملةٍ عادية مثل: «هذا الجرو بني اللون.» نحن نشير أوَّلًا إلى شيء معين بقولنا:
«هذا الجرو»، ثم نصفه بأنه «بني اللون». وكان يعلِّم أننا بوصفنا هكذا للماهية التي
يشير إليها الحد المعرَّف فنحن نحدد أيضًا أو نفسر «معنى» الحد. يعني ذلك أن التعريف
قد
يجيب في وقت واحد عن سؤالين مرتبطين أشد الارتباط: السؤال الأوَّل هو «ما هو؟» مثلًا:
«ما هو الجرو؟» وهو يسأل: ما هي الماهية التي يشير إليها الحد المعرَّف؟ والسؤال الثاني
هو «ماذا تعني؟» مثلًا: «ماذا تعني لفظة «جرو»؟» وهو يطلب معنى حدٍّ ما (أي معنى الحد
الذي يشير إلى الماهية). وليس من الضروري في السياق الحالي أن نميز بين هذين السؤالين.
أمَّا المهم فهو أن نرى ما يتشارَكان فيه، وأودُّ بخاصةٍ أن ألفت الانتباه إلى حقيقة
أن
كلا السؤالين يطرحهما الحد الذي يقع في التعريف على الجانب الأيسر (الأيمن في اللغة
العربية)، وتجيب عنهما الصيغة المعرِّفة التي تقع على الجانب الأيمن (الأيسر في
العربية). هذه الحقيقة تميز وجهة النظر الماهوية التي يختلف عنها المنهجُ العلمي
للتعريف اختلافًا جذريًّا.
فبينما يمكننا القول بأن التأويل الماهوي يقرأ التعريف «اعتياديًّا»؛ أي من اليسار
إلى اليمين (العكس في العربية)، فإن بوسعنا القول بأن التعريف العلمي يجب أن يُقرَأ من
الخلف إلى الأمام، أو من اليمين إلى اليسار (العكس في العربية)؛ لأنه يبدأ بالصيغة
المعرِّفة ويطلب تسميةً قصيرةً لها. بذلك تكون النظرة العلمية للتعريف «الجرو هو كلب
صغير» أنه جواب عن السؤال: «ماذا سنسمي الكلب الصغير؟» وليس جواب السؤال: «ما هو
الجرو؟» (إن أسئلة من قبيل «ما هي الحياة؟» أو «ما هي الجاذبية؟» هي أسئلة لا تلعب أي
دور في العلم). هذه النظرة العلمية للتعريف التي تتسم بالمقاربة «من اليمين إلى اليسار»
(العكس في العربية) يمكن أن نطلق عليها تأويله «الاسمي» nominalist، كمقابل لتأويله الأرسطي أو «الماهوي» essentialist. في العلم ليس ثمة إلا تعريفات اسمية؛
أي إدخال رموز أو تسميات اختزالية من أجل اختصار قصةٍ طويلةٍ. من هذا يمكننا أن نرى
للتو أن التعريفات لا تلعب أي دور بالغ الأهمية في العلم؛ ذلك أن الرموز الاختزالية —
بطبيعة الحال — يمكن دائمًا أن يستبدَل بها التعبيرات الأطول، الصيغ المعرِّفة التي
ترمز إليها هذه الرموز. من شأن هذا أن يجعل لغتنا العلمية شديدة البطء في بعض الحالات،
وأن يهدر الوقت والورق؛ غير أننا لن نفقد أبدًا مثقال ذرة من المعلومات الوقائعية. إن
«المعرفة العلمية» scientific knowledge — بالمعنى
القويم لهذا المصطلح — تظل دون أدنى مساسٍ إذا ما استبعدنا جميع التعريفات. الشيء
الوحيد الذي يتأثر هو لغتنا التي ستفقد لا نقول الدقة بل الإيجاز فحسب (ليس يعني ذلك
أنه لا يمكن في العلم أن تكون ثمة حاجة عملية مُلِحَّة إلى إدخال تعريفات من أجل
الإيجاز). هذه النظرة للدور الذي تلعبه التعريفات تقف على النقيض التام من نظرة أرسطو؛
فالتعريفات الماهوية عند أرسطو هي المبادئ التي تُستمَد منها معرفتنا كلها؛ فهي بذلك
تتضمن كل معرفتنا، وهي تعمل على أن تستبدل بالصيغة الطويلة صيغةً أقصر. أمَّا التعريفات
العلمية أو الاسمية فهي على النقيض من ذلك لا تحتوي على أي معرفة كانت، ولا حتى أي
«رأي» opinion، وكل ما تعمله هو إدخال تسميات
مختزلة اعتسافية جديدة، إنها تختصر روايةً طويلةً.
لهذه التسميات أعظم النفع في الممارسة، ويكفينا لكي ندرك ذلك أن نتأمل المصاعب
الشديدة التي ستَعرِض إذا كان على عالمِ بكتريا كلما تحدث عن سلالة معينة من البكتريا
أن يكرر وصفها كله (بما فيه طرائق الصباغة إلخ التي تميزها عن عددٍ من الأنواع
الشبيهة). ولعلنا نفهم أيضًا — بتأمل مماثل لذلك: لماذا أُغفِل كثيرًا جِدًّا — حتى من
جانب العلماء — أن التعريفات العلمية يجب أن تُقرأ «من اليمين إلى اليسار» (العكس في
العربية) مثلما أوضحنا آنفًا؛ ذلك أن معظم الأشخاص عندما يدرسون علمًا ما — وليكن
البكتريولوجيا — للمرة الأولى يجب أن يحاولوا كشف معاني كل هذه المصطلحات الفنية التي
تصادفهم. وهم بهذه الطريقة — في حقيقة الأمر — يتعلمون التعريف «من اليسار إلى اليمين»،
كما لو كان تعريفًا ماهويًّا، مستعيضين عن رواية طويلة جِدًّا بأخرى قصيرة جِدًّا؛ غير
أن هذا مجرد عَرَضٍ سيكولوجي، وقد يمضي معلمٌ أو مؤلف كتاب دراسي حقًّا بطريقة مختلفة
تمامًا، بمعنى أنه قد لا يُدخِل أي مصطلح فني إلا بعد أن تَعرِض له الحاجة لهذا
المصطلح.
لقد حاولت حتى الآن أن أبين أن الاستخدام العلمي أو الاسمي للتعريفات مختلف تمامًا
عن
المنهج الماهوي لأرسطو في التعريفات. ولكن بالإمكان أيضًا تبيان أن النظرة الماهوية في
التعريفات هي ببساطة أمرٌ مغلوطٌ بحد ذاته. وسأكتفي — لكي لا أطيل هذا الاستطراد فوق
ما
ينبغي — بأن أنقد مذهبين فقط من المذاهب الماهوية، مذهبين لهما أهمية من حيث إن بعض
المدارس الحديثة الذائعة لا تزال قائمة عليهما. الأوَّل هو المذهب الخفي الخاص بالحدس
الفكري، والآخر هو المذهب الشديد الرواج القائل بأننا يجب أن «نُعرِّف مصطلحاتنا» إذا
شئنا الدقة.
ذهب أرسطو مع أفلاطون إلى أننا نمتلك مَلَكةً — هي الحدس الفكري — يمكننا بها أن
نُبصر الماهيات ونتحقق أي التعريفات هو الصحيح، وكثير من الماهويين المحدثين قد أعادوا
هذا المذهب، وذهب فلاسفةٌ آخرون — مقتفين أثر كانت — إلى أننا لا نملك أي شيء من هذا
القبيل. ورأيي أن بوسعنا أن نسلِّم طوعًا بأننا نملك شيئًا ما قد يوصف على أنه
«حدس فكري» intellectual intuition، أو بتعبير
أدق: أن لدينا خبرات فكرية معينة قد توصف كذلك. إن كل من «يفهم» فكرةً ما أو وجهة نظر
أو طريقة رياضية كالضرب مثلًا، بمعنى أنه قد «أحسَّ بها» قد يُقال: إنه يفهم هذا الشيء
حدسيًّا، وهناك خبرات لا حصر لها من هذا الصنف؛ غير أني من جهة أخرى أودُّ أن أؤكد أن
هذه الخبرات — على أهميتها لجهودنا العلمية — لا يمكن على الإطلاق أن تفيد في تأسيس صدق
أية فكرة أو نظرية مهما اشتد شعور المرء حدسيًّا بأنها صادقة بالضرورة أو أنها
«واضحة بذاتها» self-evident. مثل هذه الحدوس لا
يمكن أن تعمل حتى كحجة، رغم أنها قد تشجعنا على البحث عن حجج؛ فقد يكون هناك شخصٌ آخر
لديه حدس — ليس أقل قوةً — بأن نفس النظرية خاطئة. إن
طريقَ العلم مرصوفٌ بنظريات بائدة كانت تُعَد يومًا ما واضحةً بذاتها، لقد كان فرنسيس
بيكون — على سبيل المثال — يسخر من أولئك الذين أنكروا الحقيقة الواضحة بذاتها بأن
الشمس والنجوم تدور حول الأرض التي كانت تبدو ثابتةً على نحوٍ واضح. إن الحدس ليلعبُ
بغير شك دورًا عظيمًا في حياة العالم، مثلما يفعل بالضبط في حياة الشاعر. إنه يقوده إلى
اكتشافاته، ولكنه قد يقوده أيضًا إلى إخفاقاته. وهو يظل دائمًا شأنه الخاص كيفما كان،
فالعلم لا يسأله كيف حصل على أفكاره. العلم لا تهمُّه إلا الحجج التي يمكن أن يختبرها
كل شخص. وقد وصف الرياضي العظيم جاوس هذا الموقف وصفًا غايةً في الدقة عندما قال
متعجِّبًا: «لقد حصلتُ على نتيجتي، ولكني لا أعرف بعدُ كيف الحصول عليها!» كل هذا ينطبق
بالطبع على مذهب أرسطو في حدس ما يُسَمَّى بالماهيات، الذي انتقل بواسطة هيجل، وفي
زمننا نحن بواسطة إدموند هسرل وتلاميذه الكثيرين، وهو يشير إلى أن «الحدس الفكري
للماهيات» أو «الفينومينولوجيا الخالصة» — كما يسميه هسرل — هو منهج لا يخص العلم ولا
الفلسفة. «من الميسور حسم السؤال الذي كثر الجدل حوله: أهو ابتكارٌ جديدٌ كما يعتقد
أصحاب الفينومينولوجيا الخالصة أم هو ربما صيغة من الديكارتية أو الهيجلية؟ فالجواب أنه
صيغة من الأرسطية.»
والمذهب الثاني الذي أتناوله بالنقد هو أكثر ارتباطًا بالآراء الحديثة حتى من مذهب
الحدس الفكري، ويتصل بصفة خاصة بمشكلة النزعة
اللفظية verbalism. منذ أرسطو أصبح من المعروف على نطاق عريض أن المرء لا يمكن
أن يبرهن على جميع العبارات، وأن مثل هذه المحاولة مقدَّر عليها الإخفاق؛ لأنها لن
تُفضي إلا إلى نكوصٍ لا نهائي للبراهين. ولكن لا أرسطو ولا العديد من الكُتَّاب
المحدثين — فيما يبدو — يُدركون أن المحاولة المماثلة بتعريف معاني جميع حدودنا تُفضي
بنفس الطريقة إلى نكوصٍ لا نهائي للتعريفات. والفقرةُ التالية من كتاب كروسمان «أفلاطون
اليوم» خيرُ تعبير عن وجهة من الرأي مبيَّتة في اعتقاد الكثير من الفلاسفة المعاصرين
ذائعي الصيت (فتجنشتين على سبيل المثال): «… إذا لم نكن نعرف بدقة معاني الألفاظ التي
نستخدمها فلن يمكننا أن نناقش أي شيء على نحوٍ مفيد؛ فمعظم مجادلاتنا العبثية التي نضيع
فيها الوقت جميعًا تعود بالأكثر إلى حقيقة أن كلًّا منا لديه معانٍ غامضة خاصة به
للألفاظ التي يستخدمها ويفترض أن خصمه يستخدمها بنفس المعنى. فإذا ما بدأنا بتعريف
ألفاظنا لكان بإمكاننا أن نَخلُص إلى نقاشات أكثر فائدةً بكثير. مرة ثانية: بحسبنا أن
نقرأ الصحف اليومية لكي نلحظ أن الدعاية (النظير الحديث للخطابة) تعتمد اعتمادًا كبيرًا
من أجل نجاحها على خلط معاني الألفاظ. إنه لو أُجبِرَ السياسيون بالقانون على أن
يُعرِّفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه لَفقدوا الشطر الأكبر من جاذبيتهم الشعبية،
ولَصارت خُطَبُهم أقصر، ولَتبيَّن أن كثيرًا من خلافاتهم هي خلافات لفظية محضة.» هذه
الفقرة مميَّزة جِدًّا لواحدةٍ من التحيزات التي نعزوها لأرسطو، ومفادها أن اللغة يمكن
أن تُجعَل أكثر دقةً عن طريق استخدام التعريفات. فلننظر هل يمكن حقًّا إدراك هذه
الغاية.
يمكننا أوَّلًا أن نرى أن «السياسيين» (أو أي شخص آخر) إذا «أُجْبِروا بالقانون على
أن يُعَرِّفوا أي لفظ يريدون أن يستخدموه»، فلن تَقْصُر خطبُهم بل ستطول إلى غير حد؛
ذلك أن التعريف لا يمكن أن يؤسس معنى حدٍّ من الحدود أكثر مما يمكن للبرهان أو
الاستنباط أن يؤسس صدقَ عبارة؛ فكلاهما لا يملك إلا أن يزيح هذه المشكلة إلى الخَلْف.
٣ أمَّا الاستنباط فينقل مشكلة الصدق خلفًا إلى المقدمات، وأما التعريف فينقل
المشكلة خلفًا إلى الحدود المعرِّفة (أي الحدود التي تكوِّن الصيغة المعرِّفة)؛ غير أن
هذه (الحدود المعرِّفة) من المرجح لأسباب كثيرة ألا تكون أقل غموضًا وخلطًا من الحدود
التي بدأنا بها؛ وسيكون علينا على أية حال أن نمضي لكي نعرِّفها بدورها؛ الأمر الذي
يؤدي إلى حدودٍ جديدةٍ ينبغي تعريفها كذلك … وهكذا إلى غير نهاية. بوسع المرء أن يرى
أن
المطلب الخاص بضرورة تعريف جميع ألفاظنا هو مطلب لا يقل تمنُّعًا عن المطلب الخاص
بضرورة البرهان على جميع عباراتنا.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا النقد غيرَ منصف؛ فقد يُقال بأن ما يعنيه الناس إذا
التمسوا تعريفات هو التخلص من الالتباسات التي كثيرًا جِدًّا ما ترتبط بكلمات من قبيل
«الديمقراطية»، «الحرية»، «الواجب»، «الدين» … إلخ. وإن من الواضح أن من غير الممكن
تعريف جميع ألفاظنا، ولكن من الممكن تعريف بعض من هذه المصطلحات الأكثر خطورة وتركها
عند ذلك الحد، وأن الألفاظ التعريفية ينبغي قبولها فحسب؛ أي إن علينا أن نتوقف بعد خطوة
أو اثنتين كيما نتجنب النكوص اللانهائي؛ غير أن هذا الدفاع مغلوط: فصحيحٌ أن الألفاظ
المذكورة يُساء استخدامها كثيرًا، إلا أني أنكر أن محاولة تعريفها يمكن أن تُصلِح
الأحوال؛ إذ لا يمكنها إلا أن تجعل الأحوال أسوأ. إن من الواضح أن تعريف السياسيين
لمصطلحاتهم ولو مرة واحدة وترك الألفاظ المعرِّفة غيرَ معرَّفة لن يُمكِّنهم من تقصير
خطبهم؛ ذلك أن أي تعريف ماهوي — أي الذي يُعرِّف ألفاظنا (كمقابل للتعريف الاسمي الذي
يُدخِل مصطلحات فنية جديدة) — يعني استبدال قصة طويلة بقصة قصيرة كما رأينا. وفضلًا عن
ذلك فإن محاولة تعريف الحدود لن يؤتي إلا المزيد من الغموض والخلط؛ فما دمنا لا نستطيع
أن نطالب بتعريف جميع ألفاظنا المعرِّفة بدورها فإن بوسع السياسي أو الفيلسوف الحاذق
بسهولة أن يجيب مطلب التعريفات. فإذا سُئل مثلًا ماذا يعني ﺑ «الديمقراطية» فإن بوسعه
أن يقول: «حكم الإرادة العامة» أو «حكم روح الشعب». وحيث إنه الآن قد قدم تعريفًا،
ووَفَّى من ثَمَّ بأعلى معايير الدقة، فلن يجرؤ أحد على نقده مرة ثانية. وكيف يمكن
حقًّا أن يُنقَد ما دام مطلب تعريف ألفاظ «الحكم» أو «الشعب» أو «الإرادة» أو «الروح»
بدورها تضعنا على طريق نكوصٍ لا نهائي مؤكد، بحيث تجعل أي شخص يتردد في طرح ذلك؛ على
أنه إذا طُرِحَ هذا المطلب رغم كل هذا فبالإمكان إجابته بنفس السهولة. ومن جهة أخرى فإن
النزاع حول مدى صواب أو صدق التعريف لا يمكن أن يؤدي إلا إلى خلافٍ فارغ حول
ألفاظ.
هكذا تنهار وجهة الرأي الماهوية حتى إذا لم تحاول مع أرسطو تأسيس «مبادئ» معرفتنا
واكتفت بالمطلب الذي يبدو أكثر تواضُعا، وهو أن علينا «أن نعرِّف معنى حدودنا».
ولكن لا شك أن مطلب أن نتحدث بوضوح وبدون التباس هو مطلب شديد الأهمية وينبغي أن
يُجاب. فهل بوسع وجهة الرأي الاسمية أن تَفي به؟ وهل يمكن للاسمية أن تتلافى النكوصَ
اللانهائي؟
نعم يمكنها؛ فليس ثمة صعوبة لدى الموقف الاسمي تتعلق بالنكوص اللانهائي؛ فالعلم —
كما
قد رأينا — لا يستخدم التعريفات لكي يحدد معاني حدوده، بل لكي يُدخِل تسميات مختزلة
يسيرة الاستخدام لا أكثر. وهو لا يعتمد على التعريفات؛ فجميع التعريفات يمكن أن تُحذَف
من العلم دون فقدان للمعلومات التي ينقلها. ينتج من ذلك أنه في العلم «يجب أن تكون جميع
الحدود التي يحتاجها حقًّا حدودًا غير معرَّفة». كيف تؤمن العلومُ إذن بمعاني
مصطلحاتها؟ لقد اقتُرِحَت أجوبة شتى على هذا السؤال، ولكني لا أظن أن من بينها أي جواب
شافٍ؛ فالموقف — فيما يبدو — هو هذا: لقد أنبأتنا الفلسفة الأرسطية وما لَفَّ لَفَّها
لزمنٍ طويل كم هو مهم أن نحصل على معرفة دقيقة بمعنى حدودنا، بحيث صرنا جميعًا نميل إلى
تصديقها، ونحن ما زلنا متشبثين بهذه العقيدة برغم الحقيقة التي لا تقبل الشك بأن
الفلسفة — التي جعلت همها معنى المصطلحات طيلة عشرين قرنًا — ليست تعج باللفظية فحسب،
بل هي أيضًا غامضة على نحوٍ مريع، في حين أن علمًا مثل الفيزياء لا يكاد يكترث بالألفاظ
ومعانيها بل بالوقائع قد بلغ درجةً عظيمةً من الدقة. من المؤكد أن هذه الحقيقة ينبغي
أن
تلفتنا إلى أنه تحت النفوذ الأرسطي تمت المبالغة الشديدة في أهمية معاني الحدود؛ غير
أني أراها تشير إلى ما هو أكثر حتى من ذلك؛ فهذا التركيز على مشكلة المعنى لا يفشل فحسب
في تأسيس الدقة، بل إنه هو نفسُه المصدر الرئيسي للغموض والخلط.
نحن في العلم نحرص على أن تكون عباراتنا لا تعتمد مُطلَقًا على معنى ألفاظنا. وحتى
عندما تُعرَّف مصطلحاتنا فنحن لا نحاول على الإطلاق أن نستمد أي معلومات من التعريف،
أو
نؤسس عليه أية حجة؛ لذا لا تسبب مصطلحاتنا أدنى اضطراب، نحن لا نبهظها، ونحن لا نأخذ
«معناها» بجِدِّيةٍ شديدة. نحن على وعي دائمًا بأن مصطلحاتنا غامضة بعض الشيء (ما دمنا
قد تعلمنا ألا نستخدمها إلا في تطبيقات عملية)، ونحن نبلغ الدقة لا بإنقاص هامش الغموض
منها بل بالبقاء في صميمه، بصياغة جملنا بعناية بحيث لا يكون للظلال الممكنة لمعنى
مصطلحاتنا شأنٌ يُذكَر. هذا هو سبيلنا في تجنب الاصطراع حول ألفاظ.
من المؤكد أن الرأي القائل بأن دقة العلم ولغة العلم تعتمد على دقة مصطلحاته هو رأي
جِد مقبول ظاهريًّا، إلا أنه مجرد تحيز؛ فدقة أي لغة إنما تعتمد على حقيقة أنها تحرص
على ألا تُثقِل ألفاظها بمهمة أن تكون دقيقة. إن لفظًا مثل «كثيب (رملي)»، أو «ريح» هو
لفظ شديد الغموض بدون شك (فكم بوصةً يتعين أن يكون طول الكثيب حتى يُسمَّى كثيبًا؟
وبأية سرعة يتعين أن يتحرك الهواء كيما يُسمَّى «ريحًا»؟) ورغم ذلك فهذان اللفظان
يتحليان بدقة كافية تمامًا لكثير من أغراض عالِم الجيولوجيا، وإذا ما تطلَّب الأمرُ
درجةً أعلى من التمييز فإن بوسعه دائمًا أن يقول: «كثبان رملية طولها بين ٤–٢٠ قدمًا»
أو «ريح سرعتها بين ٢٠–٤٠ ميلًا في الساعة». وكذلك الحال في العلوم الأكثر دقة. في
القياسات الفيزيائية — على سبيل المثال — نحرص دائمًا أن نضع اعتبارًا للنطاق الذي قد
يحدث فيه خطأ، ولا تتمثل الدقة في محاولة إنقاص هذا النطاق إلى صفر، أو نتظاهر بعدم
وجود مثل هذا النطاق، بل في تمييزه الصريح.
وحتى حيثما أوقَعَ مصطلحٌ ما إزعاجًا، كمصطلح
simultaneity (تزامن) في الفيزياء على سبيل المثال؛
فإن ذلك لم يكن لأن معناه كان غير دقيق أو كان ملتبسًا، بل بسبب تحيز حدسي معين حَمَلنا
على أن نُثقِل المصطلح بقدر كبير من المعنى، أو بدقة زائدة في المعنى، وليس لأننا
أضفينا عليه قدرًا قليلًا من المعنى أو من دقة المعنى. إن ما وجده أينشتين في نقده
للتزامن هو أن الفيزيائيين في حديثهم عن الأحداث المتزامنة كانوا يضمرون افتراضًا
ضمنيًّا (افتراض إشارة لا متناهية السرعة) تبيَّن أنه مصطنع. لم يكن الخطأ أنهم لم
يَعنوا أي شيء أو أن معناهم كان ملتبسًا أو أن المصطلح لم يكن دقيقًا بما فيه الكفاية؛
بل ما وجده أينشتين هو أن التخلص من افتراض نظري كان خفيًّا حتى حينه بسبب وضوحه الذاتي
الحدسي — قد تكفَّل بإزالة صعوبة كانت قد برزت في العالم؛ ومن ثَمَّ فقد كان أينشتين
غير معني في الحقيقة بمسألة معنى المصطلح بل بصدق إحدى النظريات، وإنه لمن المستبعد
جِدًّا أنه كان سيُجدي كثيرًا لو أن المرأ كان قد بدأ بمعزل عن مشكلة فيزيائية محددة
في
تحسين مفهوم التزامن عن طريق تحليل «معناه الجوهري»، أو حتى بتحليل ما «يعنيه
الفيزيائيون حقًّا» عندما يتحدثون عن التزامن.
أعتقد أننا يمكن أن نتعلم من هذا المثال أننا يجب ألا نحاول أن نعبر جسورنا قبل أن
نصل إليها، وأعتقد أيضًا أن من المؤكد أن الانشغال بأسئلة تتعلق بمعنى المصطلحات (مثل
غموضها أو التباسها) لا يمكن تبريره باللجوء لمثال أينشتين. إنما يستند مثل هذا
الانشغال على الافتراض القائل بأن شيئًا كثيرًا يتوقف على معنى مصطلحاتنا وأننا نعمل
بواسطة هذا المعنى؛ ومن ثَمَّ فهو لا بد أن يؤدي إلى النزعة اللفظية والسكولائية. من
هذه الزاوية يمكننا أن ننتقد مذهبًا مثل مذهب فتجنشتين الذي يقول بأنه في حين أن العلم
يبحث في الوقائع فإن مهمة الفلسفة هي أن توضح معنى المصطلحات؛ وبذلك تُنقِّي لغتنا
وتتخلص من الأحاجي اللغوية. إن السمة المميزة لآراء هذه المدرسة أنها لا تُفضي إلى أية
سلسلة من الحجة يمكن أن تخضع للنقد العقلاني، وأنها من ثَمَّ لا تتوجه بتحليلاتها
الدقيقة إلا لدائرة حصرية صغيرة من المكرَّسين. يشير ذلك فيما يبدو إلى أن أي انشغال
بالمعنى ينزع إلى أن يؤدي إلى تلك النتيجة التي تَسِم المذهبَ الأرسطي بصفة خاصة:
النزعة السكولائية والتصوف.
لننظر الآن باختصار كيف نشأت هاتان النتيجتان المميزتان للأرسطية. لقد كان أرسطو يؤكد
أن البرهان والتعريف هما المنهجان الأساسيان لتحصيل المعرفة. بالنظر أوَّلًا إلى مذهب
البرهان، فلا سبيل إلى إنكار أنه قد أدى إلى محاولات لا حصرَ لها لإثبات أكثر مما يمكن
إثباتُه. وتعج الفلسفة القروسطية بهذه السكولائية، ويمكن أن نلاحظ الميلَ نفسَه في
القارة حتى زمن كانْت. لقد كان نقد كانْت لجميع محاولات إثبات وجود الله هو ما أدى إلى
رد الفعل الرومانسي عند فخته وشيلنج وهيجل. وتتمثل النزعة الجديدة في إغفال البراهين
ومعها كل نوع من الحجة العقلانية. ومع الرومانسيين فإن نوعًا جديدًا من الدوجماطيقية
يصبح صيحةً رائجةً في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية أيضًا. إنها تجابهنا بقولها الفصل
وعلينا أن نأخذها أو ندعها. يصف شوبنهاور هذه الفترة الرومانسية لفلسفة نبوئية، والتي
أطلق عليها «عصر الغش»، قائلًا: «إن سمة الأمانة — تلك الروح الخاصة بمشاركة القارئ في
الاضطلاع ببحثٍ ما، والتي تتخلل أعمال كل الفلاسفة السابقين — تختفي هنا كُليًّا. وإن
كل صفحة تشهد بأن هؤلاء المدعوِّين فلاسفةً لا يحاولون أن يعلِّموا القارئ بل أن
يَسحَروه.»
وثمة نتيجة مماثلة أنتجها مذهب أرسطو في التعريف. لقد أدى أوَّلًا إلى كم كبير من
المماحكة اللفظية؛ غير أن الفلاسفة بدءوا يشعرون فيما بعد بأن المرء لا يمكنه أن يحاجَّ
حول التعريفات. بهذه الطريقة فإن الماهوية لم تشجع النزعة اللفظية فحسب، بل أدت أيضًا
إلى خيبة أمل في الحجة؛ أي في العقل. السكولائية والصوفية واليأس من العقل، هذه هي
النتائج المحتَّمة لماهوية أفلاطون وأرسطو. وتصبح ثورة أفلاطون المعلَنة ضد الحرية —
مع
أرسطو — ثورة سرية ضد العقل.
وكما نعلم من أرسطو نفسه، فإن الماهوية ونظرية التعريف عندما دُفِعَ بهما لأول مرة
قد
وُوجِها بمعارضة قوية، وبخاصة من أنتستين الرفيق القديم لسقراط، الذي يبدو أن نقده كان
معقولًا للغاية، إلا أن هذه المعارضة قد انهزمت للأسف، وإن نتائج هذه الهزيمة لفادحة
بالنسبة للتطور الفكري للجنس البشري.